عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 1 ربيع الأول 1440هـ/9-11-2018م, 05:57 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا أيّها الّذين آمنوا لا يسخر قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكنّ خيرًا منهنّ ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظّالمون (11) }
ينهى تعالى عن السّخرية بالنّاس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصّحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "الكبر بطر الحقّ وغمص النّاس" ويروى: "وغمط النّاس" والمراد من ذلك: احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرامٌ، فإنّه قد يكون المحتقر أعظم قدرًا عند اللّه وأحبّ إليه من السّاخر منه المحتقر له؛ ولهذا قال: {يا أيّها الّذين آمنوا لا يسخر قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكنّ خيرًا منهنّ}، فنصّ على نهي الرّجال وعطف بنهي النّساء.
وقوله: {ولا تلمزوا أنفسكم} أي: لا تلمزوا النّاس. والهمّاز اللّماز من الرّجال مذمومٌ ملعونٌ، كما قال [تعالى]: {ويلٌ لكلّ همزةٍ لمزةٍ} [الهمزة: 1]، فالهمز بالفعل واللّمز بالقول، كما قال: {همّازٍ مشّاءٍ بنميمٍ} [القلم: 11] أي: يحتقر النّاس ويهمزهم طاعنًا عليهم، ويمشي بينهم بالنّميمة وهي: اللّمز بالمقال؛ ولهذا قال هاهنا: {ولا تلمزوا أنفسكم}، كما قال: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النّساء: 29] أي: لا يقتل بعضكم بعضًا.
قال ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وسعيد بن جبيرٍ، وقتادة، ومقاتل بن حيّان: {ولا تلمزوا أنفسكم} أي: لا يطعن بعضكم على بعضٍ.
وقوله: {ولا تنابزوا بالألقاب} أي: لا تتداعوا بالألقاب، وهي الّتي يسوء الشّخص سماعها.
قال الإمام أحمد: حدّثنا إسماعيل، حدّثنا داود بن أبي هندٍ، عن الشّعبيّ قال: حدّثني أبو جبيرة بن الضّحّاك قال: فينا نزلت في بني سلمة: {ولا تنابزوا بالألقاب} قال: قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة وليس فينا رجلٌ إلّا وله اسمان أو ثلاثةٌ، فكان إذا دعى أحدٌ منهم باسمٍ من تلك الأسماء قالوا: يا رسول اللّه، إنّه يغضب من هذا. فنزلت: {ولا تنابزوا بالألقاب}
ورواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن داود، به.
وقوله: {بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} أي: بئس الصّفة والاسم الفسوق وهو: التّنابز بالألقاب، كما كان أهل الجاهليّة يتناعتون، بعدما دخلتم في الإسلام وعقلتموه، {ومن لم يتب} أي: من هذا {فأولئك هم الظّالمون}). [تفسير ابن كثير: 7/ 376-377]

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا أيّها الّذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظّنّ إنّ بعض الظّنّ إثمٌ ولا تجسّسوا ولا يغتب بعضكم بعضًا أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه واتّقوا اللّه إنّ اللّه توّابٌ رحيمٌ (12) }
يقول تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن كثيرٍ من الظّنّ، وهو التّهمة والتّخوّن للأهل والأقارب والنّاس في غير محلّه؛ لأنّ بعض ذلك يكون إثمًا محضًا، فليجتنب كثيرٌ منه احتياطًا، وروّينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، أنّه قال: ولا تظننّ بكلمةٍ خرجت من أخيك المسلم إلّا خيرًا، وأنت تجد لها في الخير محملًا.
وقال أبو عبد اللّه بن ماجه: حدّثنا أبو القاسم بن أبي ضمرة نصر بن محمّد بن سليمان الحمصي، حدّثنا أبي، حدّثنا عبد اللّه بن أبي قيسٍ النّضري، حدّثنا عبد اللّه بن عمر قال: رأيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يطوف بالكعبة ويقول: "ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك. والّذي نفس محمّدٍ بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند اللّه حرمةً منك، ماله ودمه، وأن يظنّ به إلّا خيرٌ. تفرّد به ابن ماجه من هذا الوجه.
وقال مالكٌ، عن أبي الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إيّاكم والظّنّ فإنّ الظّنّ أكذب الحديث، ولا تجسّسوا ولا تحسّسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد اللّه إخوانًا".
رواه البخاريّ عن عبد اللّه بن يوسف، ومسلمٌ عن يحيى بن يحيى، وأبو داود عن العتبيّ [ثلاثتهم]، عن مالكٍ، به.
وقال سفيان بن عيينة، عن الزّهريّ، عن أنسٍ [رضي اللّه عنه] قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد اللّه إخوانًا، ولا يحلّ للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيّامٍ".
رواه مسلمٌ والتّرمذيّ -وصحّحه-من حديث سفيان بن عيينة، به.
وقال الطّبرانيّ: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه القرمطي العدويّ، حدّثنا بكر بن عبد الوهّاب المدنيّ، حدّثنا إسماعيل بن قيسٍ الأنصاريّ، حدّثني عبد الرّحمن بن محمّدٍ بن أبي الرّجال، عن أبيه، عن جدّه حارثة بن النّعمان قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: "ثلاث لازمات لأمّتي: الطّيرة، والحسد وسوء الظّنّ". فقال رجلٌ: ما يذهبهنّ يا رسول اللّه ممّن هنّ فيه؟ قال: "إذا حسدت فاستغفر اللّه، وإذا ظننت فلا تحقّق، وإذا تطيّرت فأمض ". وقال أبو داود: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيدٍ قال: أتي ابن مسعودٍ، رضي اللّه عنه، برجلٍ، فقيل له: هذا فلانٌ تقطر لحيته خمرًا. فقال عبد اللّه: إنّا قد نهينا عن التّجسّس، ولكن إن يظهر لنا شيءٌ نأخذ به.
سمّاه ابن أبي حاتمٍ في روايته الوليد بن عقبة بن أبي معيطٍ.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا هاشمٌ، حدّثنا ليث، عن إبراهيم بن نشيط الخولاني، عن كعب بن علقمة، عن أبي الهيثم، عن دخين كاتب عقبة قال: قلت لعقبة: إنّ لنا جيرانًا يشربون الخمر، وأنا داعٍ لهم الشّرط فيأخذونهم. قال: لا تفعل، ولكن عظهم وتهدّدهم. قال: ففعل فلم ينتهوا. قال: فجاءه دخين فقال: إنّي قد نهيتهم فلم ينتهوا، وإنّي داعٍ لهم الشّرط فيأخذونهم. قال: لا تفعل، ولكن عظهم وتهدّدهم. قال: ففعل فلم ينتهوا. قال: فجاءه دخينٌ فقال: إنّي قد نهيتهم فلم ينتهوا، وإنّي داعٍ لهم الشّرط فتأخذهم. فقال له عقبة: ويحك لا تفعل، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "من ستر عورة مؤمنٍ فكأنّما استحيا موءودةً من قبرها".
ورواه أبو داود والنّسائيّ من حديث اللّيث بن سعدٍ، به نحوه.
وقال سفيان الثّوريّ، عن ثورٍ، عن راشد بن سعدٍ، عن معاوية قال: سمعت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "إنّك إن اتّبعت عورات النّاس أفسدتهم" أو: "كدت أن تفسدهم". فقال أبو الدّرداء: كلمةٌ سمعها معاوية من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، نفعه اللّه بها. رواه أبو داود منفردًا به من حديث الثّوريّ، به.
وقال أبو داود أيضًا: حدّثنا سعيد بن عمرٍو الحضرميّ، حدّثنا إسماعيل بن عيّاشٍ، حدّثنا ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن جبير بن نفير، وكثير بن مرّة، وعمرو بن الأسود، والمقدام بن معد يكرب، وأبي أمامة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنّ الأمير إذا ابتغى الرّيبة في الناس، أفسدهم".
[وقوله]: {ولا تجسّسوا} أي: على بعضكم بعضًا. والتّجسّس غالبًا يطلق في الشّرّ، ومنه الجاسوس. وأمّا التّحسّس فيكون غالبًا في الخير، كما قال تعالى إخبارًا عن يعقوب [عليه السّلام] إنّه قال: {يا بنيّ اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح اللّه} [يوسف: 87]، وقد يستعمل كلٌّ منهما في الشّرّ، كما ثبت في الصّحيح أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لا تجسّسوا، ولا تحسّسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد اللّه إخوانًا".
وقال الأوزاعيّ: التّجسّس: البحث عن الشّيء. والتّحسّس: الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون، أو يتسمّع على أبوابهم. والتّدابر: الصّرم. رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقوله: {ولا يغتب بعضكم بعضًا} فيه نهيٌ عن الغيبة، وقد فسّرها الشّارع كما جاء في الحديث الّذي رواه أبو داود: حدّثنا القعنبي، حدّثنا عبد العزيز بن محمّدٍ، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول اللّه، ما الغيبة؟ قال: "ذكرك أخاك بما يكره". قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه".
ورواه التّرمذيّ عن قتيبة، عن الدّراوردي، به. وقال: حسنٌ صحيحٌ. ورواه ابن جريرٍ عن بندار، عن غندر، عن شعبة، عن العلاء. وهكذا قال ابن عمر، ومسروقٌ، وقتادة، وأبو إسحاق، ومعاوية بن قرّة.
وقال أبو داود: حدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى، عن سفيان، حدّثني عليّ بن الأقمر، عن أبي حذيفة، عن عائشة قالت: قلت للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: حسبك من صفيّة كذا وكذا! -قال غير مسدّدٍ: تعني قصيرةً-فقال: "لقد قلت كلمةً لو مزجت بماء البحر لمزجته". قالت: وحكيت له إنسانًا، فقال صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما أحبّ أنّي حكيت إنسانًا، وإنّ لي كذا وكذا".
ورواه التّرمذيّ من حديث يحيى القطّان، وعبد الرّحمن بن مهديّ، ووكيع، ثلاثتهم عن سفيان الثّوريّ، عن عليّ بن الأقمر، عن أبي حذيفة سلمة بن صهيبة الأرحبيّ، عن عائشة، به. وقال: حسنٌ صحيحٌ.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني ابن أبي الشّوارب: حدّثنا عبد الواحد بن زيادٍ، حدّثنا سليمان الشّيبانيّ، حدّثنا حسّان بن المخارق ؛ أنّ امرأةً دخلت على عائشة، فلمّا قامت لتخرج أشارت عائشة بيدها إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم -أي: إنّها قصيرةٌ-فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "اغتبتيها".
والغيبة محرّمةٌ بالإجماع، ولا يستثنى من ذلك إلّا ما رجحت مصلحته، كما في الجرح والتّعديل والنّصيحة، كقوله صلّى اللّه عليه وسلّم، لمّا استأذن عليه ذلك الرّجل الفاجر: "ائذنوا له، بئس أخو العشيرة"، وكقوله لفاطمة بنت قيسٍ -وقد خطبها معاوية وأبو الجهم-: "أمّا معاوية فصعلوكٌ، وأمّا أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه". وكذا ما جرى مجرى ذلك. ثمّ بقيّتها على التّحريم الشّديد، وقد ورد فيها الزّجر الأكيد ؛ ولهذا شبّهها تعالى بأكل اللّحم من الإنسان الميّت، كما قال تعالى: {أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه}؟ أي: كما تكرهون هذا طبعًا، فاكرهوا ذاك شرعًا؛ فإنّ عقوبته أشدّ من هذا وهذا من التّنفير عنها والتّحذير منها، كما قال، عليه السّلام، في العائد في هبته: "كالكلب يقيء ثمّ يرجع في قيئه"، وقد قال: "ليس لنا مثل السّوء". وثبت في الصّحاح والحسان والمسانيد من غير وجهٍ أنّه، عليه السّلام، قال في خطبة [حجّة] الوداع: "إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا".
وقال أبو داود: حدّثنا واصل بن عبد الأعلى، حدّثنا أسباط بن محمّدٍ، عن هشام بن سعدٍ، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "كلّ المسلم على المسلم حرام: ماله وعرضه ودمه، حسب امرىء من الشّرّ أن يحقر أخاه المسلم".
ورواه التّرمذيّ عن عبيد بن أسباط بن محمّدٍ، عن أبيه، به. وقال: حسنٌ غريبٌ.
وحدّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا الأسود بن عامرٍ، حدّثنا أبو بكر بن عيّاشٍ، عن الأعمش، عن سعيد بن عبد اللّه بن جريجٍ، عن أبي برزة الأسلميّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنّه من يتبع عوراتهم يتبع اللّه عورته ومن يتبع اللّه عورته يفضحه في بيته".
تفرّد به أبو داود. وقد روي من حديث البراء بن عازبٍ، فقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدّثنا إبراهيم بن دينارٍ، حدّثنا مصعب بن سلّامٍ، عن حمزة بن حبيب الزيات، عن أبي إسحاق السّبيعي، عن البراء بن عازبٍ قال: خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى أسمع العواتق في بيوتها -أو قال: في خدورها-فقال: "يا معشر من آمن بلسانه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبّعوا عوراتهم، فإنّه من يتبع عورة أخيه يتبع اللّه عورته، ومن يتبع اللّه عورته يفضحه في جوف بيته".
طريقٌ أخرى عن ابن عمر: قال أبو بكرٍ أحمد بن إبراهيم الإسماعيليّ: أخبرنا عبد اللّه بن ناجية، حدّثنا يحيى بن أكثم، حدّثنا الفضل بن موسى الشّيبانيّ، عن الحسين بن واقدٍ، عن أوفى بن دلهم، عن نافعٍ، عن ابن عمر؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبّعوا عوراتهم؛ فإنّه من يتّبع عورات المسلمين يتبع اللّه عورته، ومن يتبع اللّه عورته يفضحه ولو في جوف رحله". قال: ونظر ابن عمر يومًا إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك، وللمؤمن أعظم حرمةً عند اللّه منك.
قال أبو داود: وحدّثنا حيوة بن شريح، حدّثنا بقيّة، عن ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحولٍ، عن وقّاص بن ربيعة، عن المستورد؛ أنّه حدّثه: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "من أكل برجلٍ مسلمٍ أكلةً فإنّ اللّه يطعمه مثلها في جهنّم، ومن كسى ثوبًا برجلٍ مسلمٍ فإنّ اللّه يكسوه مثله في جهنّم. ومن قام برجلٍ مقام سمعةٍ ورياءٍ فإنّ اللّه يقوم به مقام سمعةٍ ورياءٍ يوم القيامة". تفرّد به أبو داود.
وحدّثنا ابن مصفّى، حدّثنا بقيّة وأبو المغيرة قالا حدّثنا صفوان، حدّثني راشد بن سعدٍ وعبد الرّحمن بن جبيرٍ، عن أنس بن مالكٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لمّا عرج بي مررت بقومٍ لهم أظفارٌ من نحاسٍ، يخمشون وجوههم وصدورهم، قلت: من هؤلاء يا جبرائيل ؟ قال: هؤلاء الّذين يأكلون لحوم النّاس، ويقعون في أعراضهم".
تفرّد به أبو داود، وهكذا رواه الإمام أحمد، عن أبي المغيرة عبد القدّوس بن الحجّاج الشّاميّ، به.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أحمد بن عبدة، حدثنا أبو عبد الصمد بن عبد العزيز ابن عبد الصّمد العمّيّ، حدّثنا أبو هارون العبديّ، عن أبي سعيدٍ الخدريّ [رضي اللّه عنه] قال: قلنا يا رسول اللّه، حدّثنا ما رأيت ليلة أسري بك؟ = قال: "ثمّ انطلق بي إلى خلقٍ من خلق اللّه كثيرٍ، رجالٍ ونساءٍ موكّل بهم رجالٌ يعمدون إلى عرض جنب أحدهم فيحذون منه الحذوة من مثل النّعل ثمّ يضعونه في فيّ أحدهم، فيقال له: "كل كما أكلت"، وهو يجد من أكله الموت –يا محمّد- لو يجد الموت وهو يكره عليه فقلت: يا جبرائيل، من هؤلاء: قال: هؤلاء الهمّازون اللمّازون أصحاب النّميمة. فيقال: {أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه} وهو يكره على أكل لحمه.
هكذا أورد هذا الحديث، وقد سقناه بطوله في أوّل تفسير "سورة سبحان" وللّه الحمد.
وقال أبو داود الطّيالسيّ في مسنده: حدّثنا الرّبيع، عن يزيد، عن أنسٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر النّاس أن يصوموا يومًا ولا يفطرنّ أحدٌ حتّى آذن له. فصام النّاس، فلمّا أمسوا جعل الرّجل يجيء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيقول: ظللت منذ اليوم صائمًا، فائذن لي. فأفطر فيأذن له، ويجيء الرّجل فيقول ذلك، فيأذن له، حتّى جاء رجلٌ فقال: يا رسول اللّه، إن فتاتين من أهلك ظلّتا منذ اليوم صائمتين، فائذن لهما فليفطرا فأعرض عنه، ثمّ أعاد، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما صامتا، وكيف صام من ظلّ يأكل لحوم النّاس؟ اذهب، فمرهما إن كانتا صائمتين أن يستقيئا". ففعلتا، فقاءت كلّ واحدةٍ منهما علقةً علقةً فأتى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبره، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لو ماتتا وهما فيهما لأكلتهما النّار".
إسنادٌ ضعيفٌ، ومتنٌ غريبٌ. وقد رواه الحافظ البيهقيّ من حديث يزيد بن هارون: حدّثنا سليمان التّيميّ قال: سمعت رجلًا يحدّث في مجلس أبي عثمان النّهدي عن عبيدٍ -مولى رسول اللّه -أنّ امرأتين صامتا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وأنّ رجلًا أتى رسول اللّه فقال: يا رسول اللّه، إنّ هاهنا امرأتين صامتا، وإنّهما كادتا تموتان من العطش -أراه قال: بالهاجرة-فأعرض عنه -أو: سكت عنه-فقال: يا نبيّ اللّه، إنّهما -واللّه قد ماتتا أو كادتا تموتان. فقال: ادعهما. فجاءتا، قال: فجيء بقدحٍ -أو عسّ-فقال لإحداهما: " قيئي" فقاءت من قيحٍ ودمٍ وصديدٍ حتّى قاءت نصف القدح. ثمّ قال للأخرى: قيئي فقاءت قيحًا ودمًا وصديدًا ولحمًا ودمًا عبيطًا وغيره حتّى ملأت القدح. فقال: إنّ هاتين صامتا عمّا أحلّ اللّه لهما، وأفطرتا على ما حرّم اللّه عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم النّاس.
وهكذا قد رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وابن أبي عديٍّ، كلاهما عن سليمان بن طرخان التّيميّ، به مثله أو نحوه. ثمّ رواه أيضًا من حديث مسدّد، عن يحيى القطّان، عن عثمان بن غياثٍ، حدّثني رجلٌ أظنّه في حلقة أبي عثمان، عن سعدٍ -مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم-أنّهم أمروا بصيامٍ، فجاء رجلٌ في نصف النّهار فقال: يا رسول اللّه، فلانة وفلانة قد بلغتا الجهد. فأعرض عنه مرّتين أو ثلاثًا، ثمّ قال: "ادعهما". فجاء بعس -أو: قدح-فقال لإحداهما: "قيئي"، فقاءت لحمًا ودمًا عبيطًا وقيحًا، وقال للأخرى مثل ذلك، فقال: "إنّ هاتين صامتا عمّا أحلّ اللّه لهما، وأفطرتا على ما حرّم اللّه عليهما، أتت إحداهما للأخرى فلم تزالا تأكلان لحوم النّاس حتّى امتلأت أجوافهما قيحًا".
وقال البيهقيّ: كذا قال "عن سعدٍ"، والأوّل -وهو عبيدٌ-أصحّ.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدّثنا عمرو بن الضّحّاك بن مخلد، حدّثنا أبي أبو عاصمٍ، حدّثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزّبير عن ابن عمّ لأبي هريرة أنّ ماعزًا جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللّه، إنّي قد زنيت فأعرض عنه -قالها أربعًا-فلمّا كان في الخامسة قال: "زنيت"؟ قال: نعم. قال: "وتدري ما الزّنا؟ " قال: نعم، أتيت منها حرامًا ما يأتي الرّجل من امرأته حلالًا. قال: "ما تريد إلى هذا القول؟ " قال: أريد أن تطهّرني. قال: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أدخلت ذلك منك في ذلك منها كما يغيب الميل في المكحلة والرّشاء في البئر؟ ". قال: نعم، يا رسول اللّه. قال: فأمر برجمه فرجم، فسمع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر إلى هذا الّذي ستر اللّه عليه فلم تدعه نفسه حتّى رجم رجم الكلب. ثمّ سار النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى مرّ بجيفة حمارٍ فقال: أين فلانٌ وفلانٌ؟ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار" قالا غفر اللّه لك يا رسول، اللّه وهل يؤكل هذا؟ قال: "فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا من، والّذي نفسي بيده، إنّه الآن لفي أنهار الجنّة ينغمس فيها"] إسناده صحيحٌ].
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الصّمد، حدّثني أبي، حدّثنا واصلٌ -مولى ابن عيينة-حدّثني خالد بن عرفطة، عن طلحة بن نافعٍ، عن جابر بن عبد اللّه قال: كنّا مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فارتفعت ريح جيفةٍ منتنةٍ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أتدرون ما هذه الرّيح؟ هذه ريح الّذين يغتابون المؤمنين ".
طريقٌ أخرى: قال عبد بن حميد في مسنده: حدّثنا إبراهيم بن الأشعث، حدّثنا الفضيل بن عياضٍ، عن سليمان، عن أبي سفيان -وهو طلحة بن نافعٍ-عن جابرٍ قال: كنّا مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في سفرٍ فهاجت ريح منتنةٌ، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ نفرًا من المنافقين اغتابوا ناسًا من المسلمين، فلذلك بعثت هذه الرّيح" وربّما قال: "فلذلك هاجت هذه الرّيح".
وقال السّدّيّ في قوله: {أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا}: زعم أنّ سلمان الفارسيّ كان مع رجلين من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في سفرٍ يخدمهما ويخفّ لهما، وينال من طعامهما، وأنّ سلمان لمّا سار النّاس ذات يومٍ وبقي سلمان نائمًا، لم يسر معهم، فجعل صاحباه يكلّمانه فلم يجداه، فضربا الخباء فقالا ما يريد سليمان -أو: هذا العبد-شيئًا غير هذا: أن يجيء إلى طعامٍ مقدورٍ، وخباءٍ مضروبٍ! فلمّا جاء سلمان أرسلاه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يطلب لهما إدامًا، فانطلق فأتى رسول اللّه [صلّى اللّه عليه وسلّم] ومعه قدح له، فقال: يا رسول اللّه، بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك؟ قال: "ما يصنع أصحابك بالأدم؟ قد ائتدموا". فرجع سلمان يخبرهما بقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فانطلقا حتّى أتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالا لا والّذي بعثك بالحقّ، ما أصبنا طعامًا منذ نزلنا. قال: "إنّكما قد ائتدمتما بسلمان بقولكما".
قال: ونزلت: {أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا}، إنّه كان نائمًا.
وروى الحافظ الضّياء المقدسيّ في كتابه "المختارة" من طريق حبّان بن هلالٍ، عن حمّاد بن سلمة، عن ثابتٍ، عن أنس بن مالكٍ قال: كانت العرب تخدم بعضها بعضًا في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر ما رجلٌ يخدمهما، فناما فاستيقظا ولم يهيّئ لهما طعاما، فقالا إن هذا لنؤوم، فأيقظاه، فقالا له: ائت رسول اللّه فقل له: إنّ أبا بكرٍ وعمر يقرئانك السّلام، ويستأدمانك.
فقال: "إنّهما قد ائتدما" فجاءا فقالا يا رسول اللّه، بأيّ شيءٍ ائتدمنا؟ فقال: "بلحم أخيكما، والّذي نفسي بيده، إنّي لأرى لحمه بين ثناياكما". فقالا استغفر لنا يا رسول اللّه فقال: "مراه فليستغفر لكما".
وقال الحافظ أبو يعلى: حدّثنا الحكم بن موسى، حدّثنا محمّد بن مسلمٍ، عن محمّد بن إسحاق، عن عمّه موسى بن يسار، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من أكل من لحم أخيه في الدّنيا، قرّب له لحمه في الآخرة، فيقال له: كله ميتًا كما أكلته حيًّا. قال: فيأكله ويكلح ويصيح". غريبٌ جدًّا.
وقوله: {واتّقوا اللّه} أي: فيما أمركم به ونهاكم عنه، فراقبوه في ذلك واخشوا منه، {إنّ اللّه توّابٌ رحيمٌ} أي: توّابٌ على من تاب إليه، رحيمٌ بمن رجع إليه، واعتمد عليه.
قال الجمهور من العلماء: طريق المغتاب للنّاس في توبته أن يقلع عن ذلك، ويعزم على ألّا يعود. وهل يشترط النّدم على ما فات؟ فيه نزاعٌ، وأن يتحلّل من الّذي اغتابه. وقال آخرون: لا يشترط أن يتحّلله فإنّه إذا أعلمه بذلك ربّما تأذّى أشدّ ممّا إذا لم يعلم بما كان منه، فطريقه إذًا أن يثني عليه بما فيه في المجالس الّتي كان يذمّه فيها، وأن يردّ عنه الغيبة بحسبه وطاقته، فتكون تلك بتلك، كما قال الإمام أحمد:
حدّثنا أحمد بن الحجّاج، أخبرنا عبد اللّه، أخبرنا يحيى بن أيّوب، عن عبد اللّه بن سليمان؛ أنّ إسماعيل بن يحيى المعافريّ أخبره أنّ سهل بن معاذ بن أنسٍ الجهنيّ أخبره، عن أبيه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "من حمى مؤمنًا من منافقٍ يعيبه، بعث اللّه إليه ملكًا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنّم. ومن رمى مؤمنًا بشيءٍ يريد شينه، حبسه اللّه على جسر جهنّم حتّى يخرج ممّا قال". وكذا رواه أبو داود من حديث عبد اللّه -وهو ابن المبارك-به بنحوه.
وقال أبو داود أيضًا: حدّثنا إسحاق بن الصّبّاح، حدّثنا ابن أبي مريم، أخبرنا اللّيث: حدّثني يحيى بن سليمٍ؛ أنّه سمع إسماعيل بن بشيرٍ يقول: سمعت جابر بن عبد اللّه، وأبا طلحة بن سهلٍ الأنصاريّ يقولان: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما من امرىء يخذل امرأً مسلمًا في موضعٍ تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه، إلّا خذله اللّه في مواطن يحبّ فيها نصرته. وما من امرئٍ ينصر امرأً مسلمًا في موضعٍ ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلّا نصره اللّه في مواطن يحبّ فيها نصرته". تفرّد به أبو داود). [تفسير ابن كثير: 7/ 377-385]

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم إنّ اللّه عليمٌ خبيرٌ (13) }
يقول تعالى مخبرًا للنّاس أنّه خلقهم من نفسٍ واحدةٍ، وجعل منها زوجها، وهما آدم وحوّاء، وجعلهم شعوبًا، وهي أعمّ من القبائل، وبعد القبائل مراتب أخر كالفصائل والعشائر والعمائر والأفخاذ وغير ذلك.
وقيل: المراد بالشّعوب بطون العجم، وبالقبائل بطون العرب، كما أنّ الأسباط بطون بني إسرائيل. وقد لخّصت هذا في مقدّمةٍ مفردةٍ جمعتها من كتاب: "الإنباه" لأبي عمر بن عبد البرّ، ومن كتاب "القصد والأمم، في معرفة أنساب العرب والعجم". فجميع النّاس في الشّرف بالنّسبة الطّينيّة إلى آدم وحوّاء سواءٌ، وإنّما يتفاضلون بالأمور الدّينيّة، وهي طاعة اللّه ومتابعة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم؛ ولهذا قال تعالى بعد النّهي عن الغيبة واحتقار بعض النّاس بعضًا، منبّهًا على تساويهم في البشريّة: {يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا} أي: ليحصل التّعارف بينهم، كلٌ يرجع إلى قبيلته.
وقال مجاهدٌ في قوله: {لتعارفوا}، كما يقال: فلان بن فلانٍ من كذا وكذا، أي: من قبيلة كذا وكذا.
وقال سفيان الثّوريّ: كانت حمير ينتسبون إلى مخاليفها، وكانت عرب الحجاز ينتسبون إلى قبائلها.
وقد قال أبو عيسى التّرمذيّ: حدّثنا أحمد بن محمّدٍ، حدّثنا عبد اللّه بن المبارك، عن عبد الملك بن عيسى الثّقفيّ، عن يزيد -مولى المنبعث-عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم؛ فإنّ صلة الرّحم محبّةٌ في الأهل، مثراةٌ في المال، منسأةٌ في الأثر". ثمّ قال: غريبٌ، لا نعرفه إلّا من هذا الوجه.
وقوله: {إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم} أي: إنّما تتفاضلون عند اللّه بالتّقوى لا بالأحساب. وقد وردت الأحاديث بذلك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
قال البخاريّ رحمه اللّه: حدّثنا محمّد بن سلامٍ، حدّثنا عبدة، عن عبيد اللّه، عن سعيد بن أبي سعيدٍ، عن أبي هريرة قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أيّ النّاس أكرم؟ قال: "أكرمهم عند اللّه أتقاهم" قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فأكرم النّاس يوسف نبيّ اللّه، ابن نبيّ اللّه، ابن خليل اللّه". قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فعن معادن العرب تسألوني؟ " قالوا: نعم. قال: "فخياركم في الجاهليّة خياركم في الإسلام إذا فقهوا".
وقد رواه البخاريّ في غير موضعٍ من طرقٍ عن عبدة بن سليمان. ورواه النّسائيّ في التّفسير من حديث عبيد اللّه -وهو ابن عمر العمريّ-به.
حديثٌ آخر: قال مسلمٌ، رحمه اللّه: حدّثنا عمرٌو النّاقد، حدّثنا كثير بن هشامٍ، حدّثنا جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصمّ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ اللّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
ورواه ابن ماجه عن أحمد بن سنانٍ، عن كثير بن هشامٍ، به.
حديثٌ آخر: وقال الإمام أحمد: حدّثنا وكيعٌ، عن أبي هلالٍ، عن بكرٍ، عن أبي ذرٍّ قال: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال له: "انظر، فإنّك لست بخيرٍ من أحمر ولا أسود إلّا أن تفضله بتقوى. تفرّد به أحمد.
حديثٌ آخر: وقال الحافظ أبو القاسم الطّبرانيّ: حدّثنا أبو عبيدة عبد الوارث بن إبراهيم العسكريّ، حدّثنا عبد الرّحمن بن عمرو بن جبلة، حدّثنا عبيد بن حنينٍ الطّائيّ، سمعت محمّد بن حبيب بن خراش العصريّ، يحدّث عن أبيه: أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: المسلمون إخوةٌ، لا فضل لأحدٍ على أحدٍ إلّا بالتّقوى"
حديثٌ آخر: قال أبو بكرٍ البزّار في مسنده: حدّثنا أحمد بن يحيى الكوفيّ، حدّثنا الحسن بن الحسين، حدّثنا قيسٌ -يعني ابن الرّبيع-عن شبيب بن غرقدة، عن المستظلّ بن حصينٍ، عن حذيفة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "كلّكم بنو آدم. وآدم خلق من ترابٍ، ولينتهينّ قومٌ يفخرون بآبائهم، أو ليكوننّ أهون على اللّه من الجعلان".
ثمّ قال: لا نعرفه عن حذيفة إلّا من هذا الوجه.
حديثٌ آخر: قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا الرّبيع بن سليمان، حدّثنا أسد بن موسى، حدّثنا يحيى بن زكريّا القطّان، حدّثنا موسى بن عبيدة، عن عبد اللّه بن دينارٍ، عن ابن عمر قال: طاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم فتح مكّة على ناقته القصواء يستلم الأركان بمحجنٍ في يده، فما وجد لها مناخًا في المسجد حتّى نزل صلّى اللّه عليه وسلّم على أيدي الرّجال، فخرج بها إلى بطن المسيل فأنيخت. ثمّ إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خطبهم على راحلته، فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو له أهلٌ ثمّ قال: "يا أيّها النّاس، إنّ اللّه قد أذهب عنكم عبّية الجاهليّة وتعظّمها بآبائها، فالنّاس رجلان: رجلٌ برٌّ تقيٌّ كريمٌ على اللّه، وفاجرٌ شقيٌّ هيّنٌ على اللّه. إنّ اللّه يقول: {يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم إنّ اللّه عليمٌ خبيرٌ} ثمّ قال: "أقول قولي هذا وأستغفر اللّه لي ولكم".
هكذا رواه عبد بن حميدٍ، عن أبي عاصمٍ الضّحّاك بن مخلد، عن موسى بن عبيدة، به.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن إسحاق، حدّثنا ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن عليّ بن رباحٍ، عن عقبة بن عامرٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنّ أنسابكم هذه ليست بمسبّةٍ على أحدٍ، كلّكم بنو آدم طفّ الصاع لم يملؤه، ليس لأحدٍ على أحدٍ فضلٌ إلّا بدينٍ وتقوًى، وكفى بالرّجل أن يكون بذيّا بخيلًا فاحشًا".
وقد رواه ابن جريرٍ، عن يونس، عن ابن وهبٍ، عن ابن لهيعة، به ولفظه: "النّاس لآدم وحوّاء، طفّ الصّاع لم يملئوه، إنّ اللّه لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم".
وليس هو في شيءٍ من الكتب السّتّة من هذا الوجه.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا أحمد بن عبد الملك، حدّثنا شريكٌ، عن سماك، عن عبد اللّه بن عميرة زوج درّة ابنة أبي لهبٍ، عن درّة بنت أبي لهبٍ قالت: قام رجلٌ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو على المنبر، فقال: يا رسول اللّه، أيّ النّاس خيرٌ؟ فقال صلّى اللّه عليه وسلّم: "خير النّاس أقرؤهم، وأتقاهم للّه عزّ وجلّ، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرّحم".
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا حسنٌ، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا أبو الأسود، عن القاسم بن محمّدٍ، عن عائشة قالت: ما أعجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم شيءٌ من الدّنيا، ولا أعجبه أحدٌ قطّ، إلّا ذو تقًى. تفرّد به أحمد رحمه اللّه.
وقوله: {إنّ اللّه عليمٌ خبيرٌ} أي: عليمٌ بكم، خبيرٌ بأموركم، فيهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويرحم من يشاء، ويعذب من يشاء، ويفضّل من يشاء على من يشاء، وهو الحكيم العليم الخبير في ذلك كلّه. وقد استدلّ بهذه الآية الكريمة وهذه الأحاديث الشّريفة، من ذهب من العلماء إلى أنّ الكفاءة في النّكاح لا تشترط، ولا يشترط سوى الدّين، لقوله: {إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم} وذهب الآخرون إلى أدلّةٍ أخرى مذكورةٍ في كتب الفقه، وقد ذكرنا طرفًا من ذلك في "كتاب الأحكام" وللّه الحمد والمنّة. وقد روى الطّبرانيّ عن عبد الرّحمن أنّه سمع رجلًا من بني هاشمٍ يقول: أنا أولى النّاس برسول اللّه. فقال: غيرك أولى به منك، ولك منه نسبه). [تفسير ابن كثير: 7/ 385-388]

رد مع اقتباس