عرض مشاركة واحدة
  #13  
قديم 22 ربيع الثاني 1435هـ/22-02-2014م, 12:24 AM
أروى المطيري أروى المطيري غير متواجد حالياً
فريق تنسيق النصوص
 
تاريخ التسجيل: Sep 2013
المشاركات: 405
افتراضي

تفسير قول الله تعالى: {ومن شر غاسق إذا وقب}

ما يفيده تنكير الغاسق في الآية
{غاسق} التنوين هنا للتنكير المفيد للعموم، أي: من شر كل غاسقٍ، وهذا يدل على أن الذي يغسق أشياء كثيرة.
قال ابن جرير: (كل غاسق فإنه صلى الله عليه وسلم كان يُؤمر بالاستعاذة من شرِّه إذا وقب).

أقوال العلماء في المراد بالغاسق
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف الصالح في تفسير الغاسق ما يدل على أنه يقع على أشياء متعددة يجمعها وصف الغسوق.
ففُسِّرَ الغاسق بالليل، وفسر بالقمر، وفسر بالكوكب، وفسر بالثريا، وفسّر بغير ذلك.
فأما تفسيره بالليل فعليه أكثر المفسرين من التابعين وعلماء اللغة ، ولا شك أن الليل يغسِق وقد قال الله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}.
دلوك الشمس: زوالها ، وقيل: غروبها، وقيل: دنوّها للغروب، ثلاثة أقوال.
وغسق الليل فيه ثلاثة أقوال أيضاً: أول ظلمته عند غروب الشمس، وأول العشاء عند غياب الشفق، وحين اشتداد ظلمة الليل واجتماعها، وذلك نصف الليل.
وهذه الأقوال كلها صحيحة وهي تنتظم مواقيت الصلوات بَدْءًا وانتهاء سوى صلاة الفجر، فقال تعالى: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً}.
فقول الله تعالى: {ومن شر غاسق إذا وقب} فسر بأنه "الليل إذا دخل"، وهذا قول مجاهد بن جبر.
وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أن معنى {وقب} أي: "أقبل ودخل على الناس".
وروى عن معمر عن قتادة أن معنى {وقب} أي: "غاب وذهب".
فإذا صحَّ قول قتادة -وهو من أهل عصر الاحتجاج- فاللفظ من الأضداد، فيكون لليل وقوب عند دخوله ووقوب عند ذهابه.
فكأن الوقوب وصف لحالة دخوله وحالة خروجه.
ومما يقوّي هذا أن المعوذتين تسن قراءتهما عند الإصباح وعند الإمساء.
ومن أهل العلم من أنكر معرفة المعنى الذي ذكره قتادة؛ قال ابن جرير: (ولست أعرف ما قال قتادة في ذلك من كلام العرب، بل المعروف من كلامها من معنى وقب: دخل)
وقال أبو جعفر ابن النحاس: (وقول قتادة : "وقب: ذهب" لا يعرف).
وقتادة من أهل عصر الاحتجاج والإسناد إليه صحيح؛ فلا يدفع كلامه بمثل هذا النفي.
لكن هذه المسألة فيها لبس يزول بإذن الله بمعرفة أصل لفظ الوقوب عند العرب.
وسيأتي بيان هذه المسألة إن شاء الله وذكر ما يشهد لقول قتادة من كلام العرب، بعد تمام الكلام على معنى الغاسق.

ما قيل في سبب وصف الليل بأنه غاسق
فالذين فسروا الغاسق بأنه الليل منهم من تكلم في علة وصف الليل بالغسوق واختلفوا في ذلك على أقوال:
القول الأول: أن الليل سمي غاسقاً لأنه مظلم، وكل ما يُظلِم فهو غاسق، والظلمة غسق.
وهذا قول الفراء وابن قتيبة وابن جرير الطبري وجماعة من اللغويين منهم: الأخفش واليمان البندنيجي وابن خالويه وغيرهم.
قال ابن جرير الطبري في تفسيره: (وقوله: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} يقول: ومن شرّ مظلم إذا دخل، وهجم علينا بظلامه) ا.هـ.
وهؤلاء يذهبون إلى أن الغاسق هو كل ما كان فيه ظلمة من الليل وغيره، فكل ظلمة هي غسق.
والقول الثاني: أن الليل سمي غاسقاً لأنه أبرد من النهار، وهذا قول الزجاج فإنه قال: (قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار، والغاسق: البارد ، والغسق: البرد).
والزجاج ومن قال بقوله ممن أتى بعده يُستدل لهم بقول الله تعالى: {هذا فليذوقوه حميم وغساق} وقوله: {لا يذوقون فيها برداً ولا شرابا * إلا حميماً وغساقاً} قرئ بالتخفيف والتشديد. غسّاقاً وغساقاً.
فالحميم: الحار، والغسَّاق: البارد الذي يحرق من شدة برده على أحد الأقوال، وهو قول ابن عباس في الغساق: "الزمهرير"، وقال به مجاهد وأبو العالية.
وذلك أن أهل النار يعذبون بشدة الحر وبشدة البرد، والعياذ بالله من عذابه.
وعند هؤلاء أن كل بارد فهو غاسق؛ سواء أكان مظلماً أم غير مظلم.
وعند الأولين: كل مظلم فهو غاسق؛ سواء أكان بارداً أم غير بارد.
وقيل غير ذلك من الأقوال، وكل طائفة منهما أصابت بعض الحق.

القول الراجح في معنى الغاسق
ويجمع هذين القولين قول هو الصواب والتحقيق إن شاء الله ،
وهو ما قاله الماوردي في تفسيره إذ قال: (أصل الغسق: الجريان بالضرر، مأخوذ من قولهم: غسقت القرحة إذا جرى صديدها).

قوله: (الجريان بالضرر) لو قال: (بما يحتمل الضرر) لكان أدق في العبارة وأصوب.
وهذا المعنى – إذا تأملته وجدته - يجمع الأقوال التي قيلت في تفسير الغاسق كلها، وهو معنى صحيح تدل عليه شواهد اللغة.
ولذلك ينبغي لطالب علم التفسير إذا وصل إلى مرحلة المتوسطين فيه أن يحرص على معرفة إطلاقات اللفظ عند العرب، ثم يحاول أن يستخرج المعنى الكلي للفظ من المعاني التي تحتملها تلك الإطلاقات؛ كما فعل القاضي الماوردي هنا، وقد أحسن في ذلك؛ فإن العرب تقول: غسَق الجرح، إذا سال صديده.
وغسَقت العين: إذا جرى دمعها بما يخالطه من قذى العين وغمصها ورمصها.
قال العوام بن عقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى يبكي على امرأة كان يريدها فماتت فتصبَّر عن البكاء عليها حتى سمع صوت حمامة تنوح فهيجت ما في نفسه فبكى وأنشد يعاتب نفسه على البكاء:


أأن سجعت فى بطن وادٍ حمامةٌ.......تجاوب أخرى ماء عينيك غاسق
كأنك لم تسمع بكاء حمامة.......بليلٍ ولم يحزنك إلف مفارق
ولم تر مفجوعا بشىء يحبه.......سواك ولم يعشق كعشقك عاشق
بلى فأفق عن ذكر ليلى فإنما.......أخو الصبر من كف الهوى وهو تائق

وهذه الأبيات ذكرها أبو علي القالي في أماليه، والشاهد منها قوله: (ماء عينيك غاسق) أي: جارٍ بالدمع وما يصحبه من قذى العين على إثر البكاء الذي جاشت به النفس.
وغَسَقُ الطعامِ عند العرب هو: قُمَاشُه وما يكون فيه من أخلاط يسمونه غسقاً.
وتقول العرب: غَسَقَ اللبنُ إذا انصبَّ من الضرع.
وغسقت السماء إذا أمطرت وإذا أظلمت.
وهذه المعاني مذكورة بشواهدها في كتب اللغة.
وفي حديث عمر موقوفاً: (ولا تفطروا حتى يغسِقَ اللّيلُ على الظِّرابِ) أي: حتى تغشى ظلمةُ الليل الظرابَ وهي الجبال الصغار، وذلك إذا كانت الشمس متوارية بسبب غيم أو جبال ولم يتبيَّن غروبُها، فلا يفطر الصائم حتى يغسِق الليل وهو أوَّل ظلمته.
وكان الربيع بن خثيمٍ الثوري يقول لمؤذنه يوم الغيم: "أَغْسِقْ أَغْسِقْ"، أي: لا تؤذن للمغرب حتى تبدوَ ظلمةُ الليل.
وقال الحارث بن جحدر الحضرمي وهو جاهلي قديم:

أقولُ لِفَتْلاءِ المَرافِقِ سَمْحَةٍ ..... ولِلَّيلِ كِسْرٌ يَصْنع البيدَ غاسِقُه
أي: أن ظلمة الليل تجعل الأرض كأنها بيداء مستوية لأن الليل يغطي الجبال والشعاب بظلمته حين يغسق عليها.
فتبيَّن بذلك أن الغسق شيء ينتقل ويجري وربما يتغشى وربما يكون فيه ما يكون من الأخلاط والآفات.
ويجمع ذلك أنه يقب كما سيأتي شرحه إن شاء الله.
وإذا تأملت هذا المعنى وجدته يصدق على جميع الأقوال:
فالليل يغسق إذا غطَّى بظلمته، ويكون معه ما يكون من الفتن والآفات والشرور، وفي الصحيحين من حديث أسامةَ بنِ زيد رضي الله عنهما قال: (أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة ثم قال: ((هل ترون ما أرى؟ إني أرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر)) ).
وفي الصحيحين أيضاً من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: (استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: ((سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن!! وماذا فتح من الخزائن!!
أيقظوا صواحبات الحُجَر؛ فربَّ كاسية في الدنيا عاريةٍ في الآخرة)) ).
فظلمة الليل تغسِق أي: تتغشى الأفق بما يخالطها من الفتن والشرور والآفات ، وذلك كل ليلة، ونحن نستعيذ بالله من شر غسوق الليل وما يكون فيه من الفتن والآفات والشرور.
والبَرْدُ كذلك يغسِق لأنه يتغشى من يصيبه البرد شيئاً فشيئاً، ويدخل البرد إلى أعضائه دخولاً يكون فيه شرور وآفات، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وصيته لرعيته لما حضر الشتاء: (فإن البرد عدو سريع دخوله، بعيد خروجه). رواه ابن المبارك كما في لطائف المعارف لابن رجب.
والجرح يغسق إذا سال بصديده، ويكون غسوقه مصحوباً بأخلاط قد تُرى وقد لا تُرى، وقد يكون أثرها محسوساً وقد يكون خفياً غير محسوس.
والسِّحر يغسِق ، والحسد يغسِق، والعين تغسق، وسائر الشرور تغسق على الإنسان فيحصل بسبب ذلك من الضرر والأذى ما يحصل مما يأذنُ الله به، ويعصمُ الله من شره من استعاذ به.
فدلَّ هذا على أن لفظ الغاسق يقع على أشياء متعددة ومن أشهرها ما ذكره المفسرون من باب التمثيل لا الحصر.

القول الراجح في المراد بالغاسق

قال ابن جرير: (الليلُ إذا دخل في ظلامه: غاسق، والنجم إذا أفل: غاسق، والقمر: غاسق إذا وقب، ولم يخصِّص بعضَ ذلك، بل عمَّ الأمرَ بذلك ، فكلُّ غاسق فإنه صلى الله عليه وسلم كان يؤمر بالاستعاذة من شرّه إذا وقب) ا.هـ.
وقال محمد بن كعب القرظي: {ومن شر غاسق إذا وقب} هو النهار إذا دخل في الليل. رواه ابن جرير.
وقال الزهري: (الغاسق إذا وقب: الشمس إذا غربت). رواه ابن وهب في جامعه.
وقال الزمخشري: (ويجوز أن يراد بالغاسق : الأسود من الحيات، ووقبه: ضربه ونقبه).
وهذا القول لا يُؤثر عن أحد من السلف، لكن يشمله المعنى العامّ للآية، لأن السمَّ يجري في الجسد بما يحتمله من الضرر.

رد مع اقتباس