عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 23 شعبان 1435هـ/21-06-2014م, 06:27 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وممّن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النّفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذّبهم مرّتين ثمّ يردّون إلى عذابٍ عظيمٍ (101)}
يخبر تعالى رسوله، صلوات اللّه وسلامه عليه، أنّ في أحياء العرب ممّن حول المدينة منافقين، وفي أهل المدينة أيضًا منافقون {مردوا على النّفاق} أي: مرنوا واستمرّوا عليه: ومنه يقال: شيطانٌ مريدٌ وماردٌ، ويقال: تمرّد فلانٌ على اللّه، أي: عتا وتجبّر.
وقوله: {لا تعلمهم نحن نعلمهم} لا ينافي قوله تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنّهم في لحن القول} الآية [محمّدٍ:30]؛ لأنّ هذا من باب التّوسّم فيهم بصفاتٍ يعرفون بها، لا أنّه يعرف جميع من عنده من أهل النّفاق والرّيب على التّعيين. وقد كان يعلم أنّ في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقًا، وإن كان يراه صباحًا ومساءً، وشاهد هذا بالصّحّة ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن النّعمان بن سالمٍ، عن رجلٍ، عن جبير بن مطعمٍ، رضي اللّه عنه، قال: قلت: يا رسول اللّه، إنّهم يزعمون أنّه ليس لنا أجرٌ بمكّة، فقال: لتأتينّكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلبٍ وأصغى إليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم برأسه فقال: "إنّ في أصحابي منافقين"
ومعناه: أنّه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين من الكلام بما لا صحّة له، ومن مثلهم صدر هذا الكلام الّذي سمعه جبير بن مطعمٍ. وتقدّم في تفسير قوله: {وهمّوا بما لم ينالوا} [التّوبة:74] أنّه عليه السّلام أعلم حذيفة بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقًا، وهذا تخصيصٌ لا يقتضي أنّه اطّلع على أسمائهم وأعيانهم كلّهم، واللّه أعلم.
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة "أبي عمر البيروتيّ" من طريق هشام بن عمّارٍ: حدّثنا صدقة بن خالدٍ، حدّثنا بن جابرٍ، حدّثني شيخ بيروت يكنّى أبا عمر، أظنّه حدّثني عن أبي الدّرداء؛ أنّ رجلًا يقال له "حرملة" أتى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: الإيمان هاهنا -وأشار بيده إلى لسانه -والنّفاق هاهنا -وأشار بيده إلى قلبه ولم يذكر اللّه إلّا قليلًا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "اللّهمّ اجعل له لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وارزقه حبّي، وحبّ من يحبّني، وصيّر أمره إلى خيرٍ". فقال: يا رسول اللّه، إنّه كان لي أصحابٌ من المنافقين وكنت رأسًا فيهم، أفلا آتيك بهم؟ قال: "من أتانا استغفرنا له، ومن أصرّ على دينه فاللّه أولى به، ولا تخرقنّ على أحدٍ سترًا"
قال: وكذا رواه أبو أحمد الحاكم، عن أبي بكرٍ الباغنديّ، عن هشام بن عمّارٍ، به.
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة في هذه الآية أنّه قال: ما بال أقوام يتكلفون علم النّاس؟ فلانٌ في الجنّة وفلانٌ في النّار. فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري! لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأحوال النّاس، ولقد تكلّفت شيئًا ما تكلّفه الأنبياء قبلك. قال نبيّ اللّه نوحٌ: {قال وما علمي بما كانوا يعملون} [الشّعراء: 112] وقال نبيّ اللّه شعيبٌ: {بقيّة اللّه خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظٍ} [هودٍ: 86] وقال اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {لا تعلمهم نحن نعلمهم}.
وقال السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، عن ابن عبّاسٍ في هذه الآية قال: قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خطيبًا يوم الجمعة فقال: "اخرج يا فلان، فإنّك منافقٌ، واخرج يا فلان فإنّك منافقٌ". فأخرج من المسجد ناسًا منهم، فضحهم. فجاء عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم حياءً أنّه لم يشهد الجمعة وظنّ أنّ النّاس قد انصرفوا، واختبئوا هم من عمر، ظنّوا أنّه قد علم بأمرهم. فجاء عمر فدخل المسجد فإذا النّاس لم يصلّوا، فقال له رجلٌ من المسلمين: أبشر يا عمر، قد فضح اللّه المنافقين اليوم. قال ابن عبّاسٍ: فهذا العذاب الأوّل حين أخرجهم من المسجد، والعذاب الثّاني عذاب القبر
وكذا قال الثّوريّ، عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ نحو هذا.
وقال مجاهدٌ في قوله: {سنعذّبهم مرّتين} يعني: القتل والسّباء وقال -في روايةٍ -بالجوع، وعذاب القبر، {ثمّ يردّون إلى عذابٍ عظيمٍ}
وقال ابن جريجٍ: عذاب الدّنيا، وعذاب القبر، ثمّ يردّون إلى عذاب النّار.
وقال الحسن البصريّ: عذابٌ في الدّنيا، وعذابٌ في القبر
وقال عبد الرّحمن بن زيدٍ: أمّا عذابٌ في الدّنيا فالأموال والأولاد، وقرأ قول اللّه {فلا تعجبك أموالهم وأولادهم إنّما يريد اللّه أن يعذّبهم بها في الدّنيا} [التّوبة: 85] فهذه المصائب لهم عذابٌ، وهي للمؤمنين أجرٌ، وعذابٌ في الآخرة في النّار {ثمّ يردّون إلى عذابٍ عظيمٍ} قال: النّار.
وقال محمّد بن إسحاق: {سنعذّبهم مرّتين} قال: هو -فيما بلغني -ما هم فيه من أمر الإسلام، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبةٍ، ثمّ عذابهم في القبور إذا صاروا إليها، ثمّ العذاب العظيم الّذي يردّون إليه، عذاب الآخرة والخلد فيه.
وقال سعيدٌ، عن قتادة في قوله: {سنعذّبهم مرّتين} عذاب الدنيا، وعذاب القبر، {ثمّ يردّون إلى عذابٍ عظيمٍ} ذكر لنا أنّ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أسرّ إلى حذيفة باثني عشر رجلًا من المنافقين، فقال: "ستّةٌ منهم تكفيكهم الدّبيلة: سراجٌ من نار جهنّم، يأخذ في كتف أحدهم حتّى يفضي إلى صدره، وستّةٌ يموتون موتًا". وذكر لنا أنّ عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، كان إذا مات رجلٌ ممّن يرى أنّه منهم، نظر إلى حذيفة، فإن صلّى عليه وإلّا تركه. وذكر لنا أنّ عمر قال لحذيفة: أنشدك باللّه، أمنهم أنا؟ قال: لا. ولا أومن منها أحدًا بعدك. ). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 203-206]

تفسير قوله تعالى: {وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيّئًا عسى اللّه أن يتوب عليهم إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (102)}
لمّا بيّن تعالى حال المنافقين المتخلّفين عن الغزاة رغبةً عنها وتكذيبًا وشكًّا، شرع في بيان حال المذنبين الّذين تأخّروا عن الجهاد كسلًا وميلًا إلى الرّاحة، مع إيمانهم وتصديقهم بالحقّ، فقال: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} أي: أقرّوا بها واعترفوا فيما بينهم وبين ربّهم، ولهم أعمالٌ أخر صالحةٌ، خلطوا هذه بتلك، فهؤلاء تحت عفو اللّه وغفرانه.
وهذه الآية -وإن كانت نزلت في أناسٍ معيّنين -إلّا أنّها عامّةٌ في كل المذنبين الخاطئين المخلصين المتلوّثين.
وقد قال مجاهدٌ: إنّها نزلت في أبي لبابة لمّا قال لبني قريظة: إنّه الذّبح، وأشار بيده إلى حلقه.
وقال ابن عبّاسٍ: {وآخرون} نزلت في أبي لبابة وجماعةٍ من أصحابه، تخلّفوا عن غزوة تبوك، فقال بعضهم: أبو لبابة وخمسةٌ معه، وقيل: وسبعةٌ معه، وقيل: وتسعةٌ معه، فلمّا رجع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من غزوته ربطوا أنفسهم بسواري المسجد، وحلفوا لا يحلّهم إلّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فلمّا أنزل اللّه هذه الآية: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} أطلقهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وعفا عنهم.
وقال البخاريّ: حدّثنا مؤمّل بن هشامٍ، حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدّثنا عوفٌ، حدّثنا أبو رجاءٍ، حدّثنا سمرة بن جندب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لنا: "أتاني اللّيلة آتيان فابتعثاني فانتهينا إلى مدينةٍ مبنيّةٍ بلبنٍ ذهبٍ ولبن فضّةٍ، فتلقّانا رجالٌ شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطرٌ كأقبح ما أنت راءٍ، قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النّهر. فوقعوا فيه، ثمّ رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السّوء عنهم، فصاروا في أحسن صورةٍ، قالا لي: هذه جنّة عدنٍ، وهذا منزلك. قالا أمّا القوم الّذين كانوا شطر منهم حسن وشطرٌ منهم قبيحٌ، فإنّهم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيّئًا، فتجاوز اللّه عنهم".
هكذا رواه مختصرًا، في تفسير هذه الآية). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 206]

تفسير قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({خذ من أموالهم صدقةً تطهّرهم وتزكّيهم بها وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكنٌ لهم واللّه سميعٌ عليمٌ (103) ألم يعلموا أنّ اللّه هو يقبل التّوبة عن عباده ويأخذ الصّدقات وأنّ اللّه هو التّوّاب الرّحيم (104)}
أمر اللّه تعالى رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يأخذ من أموالهم صدقة يطهّرهم ويزكّيهم بها، وهذا عامٌّ وإن أعاد بعضهم الضّمير في "أموالهم" إلى الّذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملًا صالحًا وآخر سيّئًا؛ ولهذا اعتقد بعض مانعي الزّكاة من أحياء العرب أنّ دفع الزّكاة إلى الإمام لا يكون، وإنّما كان هذا خاصًّا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؛ ولهذا احتجّوا بقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقةً تطهّرهم وتزكّيهم بها وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكنٌ لهم} وقد ردّ عليهم هذا التّأويل والفهم الفاسد الصّديق أبو بكرٍ وسائر الصّحابة، وقاتلوهم حتّى أدّوا الزّكاة إلى الخليفة، كما كانوا يؤدونها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، حتّى قال الصّدّيق: واللّه لو منعوني عقالا -وفي روايةٍ: عناقًا -يؤدّونه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأقاتلنّهم على منعه.
وقوله: {وصلّ عليهم} أي: ادع لهم واستغفر لهم، كما رواه مسلمٌ في صحيحه، عن عبد اللّه بن أبي أوفى قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا أتي بصدقة قومٍ صلّى عليهم، فأتاه أبي بصدقته فقال: "اللّهمّ صل على آل أبي أوفى" وفي الحديث الآخر: أنّ امرأةً قالت: يا رسول اللّه، صلّ عليّ وعلى زوجي. فقال: "صلّى اللّه عليك، وعلى زوجك".
وقوله: {إنّ صلاتك}: قرأ بعضهم: "صلواتك" على الجمع، وآخرون قرءوا: {إنّ صلاتك} على الإفراد.
{سكنٌ لهم} قال ابن عبّاسٍ: رحمةٌ لهم. وقال قتادة: وقارٌ.
وقوله: {واللّه سميعٌ} أي: لدعائك {عليمٌ} أي: بمن يستحقّ ذلك منك ومن هو أهلٌ له.
قال الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، حدّثنا أبو العميس، عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة، عن ابنٍ لحذيفة، عن أبيه؛ أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا دعا لرجلٍ أصابته، وأصابت ولده، وولد ولده.
ثمّ رواه عن أبي نعيم، عن مسعر، عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة، عن ابنٍ لحذيفة -قال مسعر:وقد ذكره مرّةً عن حذيفة -: إنّ صلاة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لتدرك الرّجل وولده وولد ولده). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 207-208]

تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ألم يعلموا أنّ اللّه هو يقبل التّوبة عن عباده ويأخذ الصّدقات} هذا تهييجٌ إلى التّوبة والصّدقة اللّتين كلّ منها يحطّ الذّنوب ويمحّصها ويمحقها.
وأخبر تعالى أنّ كلّ من تاب إليه تاب عليه، ومن تصدّق بصدقةٍ من كسب حلالٍ فإنّ اللّه تعالى يتقبّلها بيمينه فيربّيها لصاحبها، حتّى تصير التّمرة مثل أحدٍ. كما جاء بذلك الحديث، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم -كما قال الثّوريّ ووكيعٌ، كلاهما عن عبّاد بن منصورٍ، عن القاسم بن محمّدٍ أنّه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ اللّه يقبل الصّدقة ويأخذها بيمينه فيربّيها لأحدكم، كما يربّي أحدكم مهره، حتّى إنّ اللّقمة لتصير مثل أحدٍ"، وتصديق ذلك في كتاب اللّه، عزّ وجلّ: {[ألم يعلموا أنّ اللّه] هو يقبل التّوبة عن عباده ويأخذ الصّدقات} و [قوله] {يمحق اللّه الرّبا ويربي الصّدقات} [البقرة: 276].
وقال الثّوريّ والأعمش كلاهما، عن عبد اللّه بن السّائب، عن عبد اللّه بن أبي قتادة قال: قال عبد اللّه بن مسعودٍ، رضي اللّه عنه: إنّ الصّدقة تقع في يد اللّه عزّ وجلّ قبل أن تقع في يد السّائل. ثمّ قرأ هذه الآية: {ألم يعلموا أنّ اللّه هو يقبل التّوبة عن عباده ويأخذ الصّدقات}.
وقد روى ابن عساكر في تاريخه، في ترجمة عبد اللّه بن الشّاعر السّكسكي الدّمشقيّ -وأصله حمصيٌّ، وكان أحد الفقهاء، روى عن معاوية وغيره، وحكى عنه حوشب بن سيفٍ السّكسكيّ الحمصيّ -قال: غزا النّاس في زمان معاوية، رضي اللّه عنه، وعليهم عبد الرّحمن بن خالد بن الوليد، فغلّ رجلٌ من المسلمين مائة دينارٍ روميّةٍ. فلمّا قفل الجيش ندم وأتى الأمير، فأبى أن يقبلها منه، وقال: قد تفرّق النّاس ولن أقبلها منك، حتّى تأتي اللّه بها يوم القيامة فجعل الرّجل يستقرئ الصّحابة، فيقولون له مثل ذلك، فلمّا قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه، فأبى عليه. فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع، فمرّ بعبد اللّه بن الشّاعر السّكسكيّ، فقال له: ما يبكيك؟ فذكر له أمره، فقال أمطيعني أنت؟ فقال: نعم، فقال: اذهب إلى معاوية فقل له: اقبل منّي خمسك، فادفع إليه عشرين دينارًا، وانظر الثّمانين الباقية فتصدّق بها عن ذلك الجيش، فإنّ اللّه يقبل التّوبة عن عباده، وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم ففعل الرّجل، فقال معاوية، رضي اللّه عنه: لأن أكون أفتيته بها أحبّ إليّ من كل شيء أملكه، أحسن الرجل"). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 208]

تفسير قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وقل اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون وستردّون إلى عالم الغيب والشّهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون (105)}
قال مجاهدٌ: هذا وعيد، يعني من اللّه تعالى للمخالفين أوامره بأنّ أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى، وعلى الرّسول، وعلى المؤمنين. وهذا كائنٌ لا محالة يوم القيامة، كما قال: {يومئذٍ تعرضون لا تخفى منكم خافيةٌ} [الحاقّة: 18]، وقال تعالى: {يوم تبلى السّرائر} [الطّارق: 9]، وقال {وحصّل ما في الصّدور} [العاديات: 10] وقد يظهر ذلك للنّاس في الدّنيا، كما قال الإمام أحمد: حدّثنا حسن بن موسى، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "لو أنّ أحدكم يعمل في صخرةٍ صماء ليس لها بابٌ ولا كوّة، لأخرج اللّه عمله للنّاس كائنًا ما كان"..
وقد ورد: أنّ أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ، كما قال أبو داود الطّيالسيّ: حدّثنا الصّلت بن دينارٍ، عن الحسن، عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: "إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم، فإن كان خيرًا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: "اللّهمّ، ألهمهم أن يعملوا بطاعتك".
وقال الإمام أحمد: أخبرنا عبد الرّزّاق، عن سفيان، عمّن سمع أنسًا يقول: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيرًا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللّهمّ، لا تمتهم حتّى تهديهم كما هديتنا".
وقال البخاريّ: قالت عائشة، رضي اللّه عنها: إذا أعجبك حسن عمل امرئٍ، فقل: {اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون}.
وقد ورد في الحديث شبيهٌ بهذا، قال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد، حدّثنا حميد، عن أنسٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لا عليكم أن تعجبوا بأحدٍ حتّى تنظروا بم يختم له؟ فإنّ العامل يعمل زمانًا من عمره -أو: برهة من دهره -بعملٍ صالحٍ لو مات عليه لدخل الجنّة، ثمّ يتحوّل فيعمل عملًا سيّئًا، وإنّ العبد ليعمل البرهة من دهره بعملٍ سيّئٍ، لو مات عليه دخل النّار، ثمّ يتحوّل فيعمل عملًا صالحًا، وإذا أراد اللّه بعبدٍ خيرًا استعمله قبل موته". قالوا: يا رسول اللّه وكيف يستعمله: قال: "يوفّقه لعملٍ صالحٍ ثمّ يقبضه عليه" تفرّد به أحمد من هذا الوجه). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 209-210]

تفسير قوله تعالى: {وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وآخرون مرجون لأمر اللّه إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم واللّه عليمٌ حكيمٌ (106)}
قال ابن عبّاسٍ ومجاهد وعكرمة، والضّحّاك وغير واحدٍ: هم الثّلاثة الّذين خلّفوا، أي: عن التّوبة، وهم: مرارة بن الرّبيع، وكعب بن مالكٍ، وهلال بن أميّة، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد، كسلًا وميلًا إلى الدّعة والحفظ وطيّب الثّمار والظّلال، لا شكًّا ونفاقًا، فكانت منهم طائفةٌ ربطوا أنفسهم بالسّواري، كما فعل أبو لبابة وأصحابه، وطائفةٌ لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثّلاثة المذكورون، فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء، وأرجى هؤلاء عن التّوبة حتّى نزلت الآية الآتية، وهي قوله: {لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين والأنصار} الآية [التّوبة: 117]، {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت [وضاقت عليهم أنفسهم]} الآية [التّوبة: 118]، كما سيأتي بيانه في حديث كعب بن مالكٍ.
وقوله: {إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم} أي: هم تحت عفو اللّه، إن شاء فعل بهم هذا، وإن شاء فعل بهم ذاك، ولكنّ رحمته تغلب غضبه، وهو {عليمٌ حكيمٌ} أي: عليمٌ بمن يستحقّ العقوبة ممّن يستحقّ العفو، حكيمٌ في أفعاله وأقواله، لا إله إلّا هو، ولا ربّ سواه). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 210]


رد مع اقتباس