الموضوع: مسائل في السحر
عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 6 جمادى الأولى 1435هـ/7-03-2014م, 10:14 PM
أروى المطيري أروى المطيري غير متواجد حالياً
فريق تنسيق النصوص
 
تاريخ التسجيل: Sep 2013
المشاركات: 405
افتراضي

إنكار المعتزلة للسحر

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ):({وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ (4)} [الفلق: 4] جَمْعُ نَفَّاثَةٍ وفي المُكَسَّرِ نَوَافِثُ يقالُ: إِنَّهُنَّ نِسَاءٌ سَوَاحِرُ كُنَّ في عهدِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ أُمِرَ بالاستعاذةِ مِنْهُنَّ لأنَّهُنَّ يُوهِمْنَ أنهن يَنْفَعْنَ أو يَضْرُرْنَ فرُبَّما لَحِقَ الإنسانُ في دينِه ما يَأْثَمُ به. فأمَّا السِّحْرُ فبَاطِلٌ). [إعراب القرآن: 5/314]
قالَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الجَصَّاصُ (ت: 370هـ): (قالَ اللهُ تعالَى:َاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] ... إلى آخِر القصةِ.
قالَ أبو بكرٍ: الواجبُ أن نقدِّمَ القولَ فِي السِّحْرِ لخفائِهِ على كثيرٍ من أهلِ العلمِ فضلاً عنِ العامَّةِ، ثمَّ نُعقِّبُه بالكلامِ فِي حُكمِه في مقتضَى الآيةِ فِي المعَانِي وَالأحكامِ.
فنقولُ: إنَّ أهلَ اللغَةِ يذكُرونَ أنَّ أَصْلَهُ في اللُّغَةِ لِمَا لَطُفَ وَخَفِيَ سَبَبُهُ، وَالسَّحْرُ عندَهُم بالفتحِ هُو الغِذَاءُ وَلُطْفُ مَجَارِيهِ، قالَ لبيد:
أرانا مُوضِعينَ لأَمْرِ غَيْبٍ.....وَنُسْحَرُ بالطَّعامِ وَبالشرابِ
قِيلَ فيه وجهانِ: نُعَلَّلُ وَنُخْدَعُ كالمسحورِ وَالمخدُوعِ، وَالآخَرُ نُغْذَى .
وأيَّ الوجهين كان فمعناه الخفَاءُ.
وقال آخَرُ :
فإنْ تسألينا فيمَ نحن فإننا.....عصافيرُ من هذا الأنامِ المُسَحَّرِ
وهذا البيتُ يَحْتَمِلُ من المعنى ما احتملَه الأوَّلُ أيضا؛ أنه أراد بالمسحَّرِ أنه ذو سَحْرٍ، وَالسَّحْرُ الرئةُ ومَا يتعلق بالحلقومِ، وهذا يرجعُ إلى معنى الخفاءِ، ومنه قولُ عائشةَ: تُوفِّيَ رسولُ اللهِصَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بين سَحْرِي وَنَحْرِي، وَقولُه تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحَّرِينَ (153)} [الشعراء: 153] يعني مِن المخلوقِ الذي يُطْعَمُ وَيُسْقَى، وَيدُلُّ عليه قولُه تعالى: َمَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشعراء: 186] وَكقولِهِ تعالَى: {مالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7].
وَيَحْتَمِلُ أنه ذو سَحْرٍ مثلُنا، وإنما يذكُر السحرَ في مثلِ هذه المواضِعِ لِضَعْفِ هذه الأجسادِ وَلَطَافَتِهَا وَرِقَّتِهَا، وبها معَ ذلكَ قِوامُ الإِنسَانِ؛ فمن كان بهذه الصِّفَةِ فهو ضَعيفٌ مُحتاجٌ.
وَهذا هو معنى السِّحْرِ في اللغة، ثم نُقِلَ هذا الاسمُ إلى كلِّ أمرٍ خَفِيَ سببُه وَتُخُيِّلَ عَلَى غيرِ حَقيقتِه، وَيَجرِي مَجرَى التمويهِ وَالخداعِ.
وَمَتى أُطلِقَ ولم يُقَيَّدْ أفادَ ذمَّ فاعِلِه، وَقد أُجْرِيَ مقيَّدًا فيما يُمتدَحُ وَيُحمَدُ، رُوِيَ ((إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا))
-حدثنا عبدالباقي، قال: حدثنا إبراهيمُ الحرَّانيُّ، قال: حدثنا سليمانُ بنُ حربٍ، قال: حدثنا حمادُ بنُ زيدٍ، عن محمدِ بنِ الزبيرِ قال: قدِم على رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم الزِّبرقانُ بن بدرٍ وَعمرُو بنُ الأهتمِ وَقيسُ بنُ عاصِمٍ، فقالَ لِعَمْرٍو: ((خبِّرنِي عَن الزِّبرقَانِ))؛ فقالَ: مُطَاعٌ في نادِيهِ، شَديدُ العَارِضَةِ، مَانِعٌ لِمَا وَرَاءَ ظهرِهِ. فقالَ الزبرقانُ: هو واللهِ يَعْلَمُ أنِّي أفضلُ منه. فقالَ عمرٌو: إنه زَمِر المروءَةِ، ضَيِّقُ العَطَنِ، أَحْمَقُ الأَبِ، لَئِيمُ الخَالِ. يَا رَسُولَ اللهِ صَدَقْتُ فِيهِمَا، أَرْضَانِي فقُلْتُ أَحْسَنَ مَا عَلِمْتُ، وَأَسْخَطَنِي فَقُلْتُ أَسْوَأَ مَا عَلِمْتُ؛ فَقَالَ عَليهِ السَّلامُ: ((إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا)).
-وَحدَّثنا إبراهيمُ الحرَّانيُّ، قالَ: حدَّثنا مُصعَبُ بنُ عبدِ اللهِ، قالَ: حدَّثنا مالكُ بنُ أَنَسٍ، عن زيدِ بنِ أَسْلَمَ، عَن ابنِ عُمَرَ، قالَ: قَدِمَ رجلانِ فخطَب أحدُهما فعَجِبَ الناسُ لذلكَ فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ: ((إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا)).
قالَ: وَحدَّثنا مُحمَّدُ بنُ بكرٍ، قالَ: حدَّثنا أبو دَاودَ، قالَ: حدَّثنا مُحمَّدُ بنُ يَحيَى بنِ فارسٍ، قالَ: حدَّثنا سَعيدُ بنُ مُحمَّدٍ، قالَ: حدَّثنا أبو تُمَيْلَةَ، قالَ: حدَّثنا أبو جَعْفَرٍ النحْويُّ عبدُ اللهِ بنُ ثابتٍ، قالَ: حدَّثني صَخْرُ بنُ عبدِ اللهِ بن بُرَيدَةَ، عَن أَبيهِ، عن جدِّهِ قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا، وَإِنَّ مِنَ العِلْمِ جَهْلاً، وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حُكْمًا، وَإِنَّ مِنَ القَوْلِ عِيَالاً))
قالَ صَعْصَعَةُ بنُ صُوحانِ: صَدَقَ نبيُّ اللهِ، أمَّا قولُهُ: ((إِنَ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا)) فالرَّجُلُ يكونُ عليهِ الحقُّ، وهو أَلْحَنُ بالحُجَجِ من صاحبِ الحقِّ؛ فيَسْحَرُ القومَ ببيانِهِ فيَذهَبُ بالحقِّ.
وَأمَّا قولُه: ((وَإِنَّ مِنَ العِلْمِ جَهْلاً)) فيتكلَّفُ العالمُ إلى علمِهِ مَا لا يعلَمُهُ فيجهِّلُهُ ذلكَ.
وَأمَّا قولُه: ((إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حُكْمًا)) فهي هذه الأمثالُ والمواعظُ التي يتَّعِظُ بها الناسُ.
وَأمَّا قولُه: ((إِنَّ مِنَ القَوْلِ عِيَالاً)) فعَرْضُك كلامَك وَحديثَكَ على مَن ليس من شأنهِ ولا يُرِيدُهُ.
فسَمَّى النبيُّ عليهِ السَّلامُ بعضَ البيانِ سِحْرًا لأن صاحبَه بَيْنَ أنْ يُنبئَ عن حقٍّ؛ فيوضحُهُ ويُجلِّيهِ بحسنِ بيانِهِ بعدَ أن كَانَ خفيًّا؛ فهذا مِنَ السِّحْرِ الحلالِ الذي أقرَّ النبيُّ عليهَ السَّلامُ عمرَو بنَ الأهتمِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يسخَطْهُ منهُ.
وَرُوِيَ أنَّ رَجُلاً تكلَّمَ بكَلامٍ بليغٍ عندَ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ؛ فَقَالَ عُمَرُ: هذا وَاللهِ السِّحْرُ الحَلالُ.
وَبَيْنَ أن يصوِّرَ الباطلَ فِي صُورَةِ الحقِّ ببيانِهِ، وَيَخْدَعَ السَّامِعينَ بتَمْوِيهِهِ.
وَمَتى أُطلِقَ فهو اسمٌ لكلِّ أمرٍ مُمَوَّهٍ باطلٍ لا حقيقةَ له وَلا ثباتَ، قالَ اللهُ تعالى: َحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ}[الأعراف: 116] يعني مَوَّهُوا عليهِم حتى ظنوا أنَّ حبالَهم وعصيَّهم تسعَى، وَقال: ُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)} [طه: 66]. فأخبرَ أن ما ظنوه سعيًا منهَا لم يكُن سعيًا، وإنما كَان تخييلاً، وَقد قيلَ: إنها كانت عصيًا مجوَّفة قد مُلِئَت زئبقًا، وَكذلكَ الحبالُ كانت معمولَةً من أَدَمٍ محشوَّةً زئبقًا، وقد حَفَرُوا قبلَ ذلك تحتَ المواضِعِ أسرَابًا وجعلُوا آزاجًا وملئوها نارًا؛ فلمَّا طُرِحَت عليهِ وَحَمِيَ الزِّئبقُ حرَّكَهَا لأنَّ من شأنِ الزئبقِ إذا أَصَابتهُ النَّارُ أن يطيرَ؛ فأخبرَ اللهُ أنَّ ذلكَ كانَ مموَّهًا على غيرِ حقيقةٍ.
وَالعَرَبُ تقولُ لِضَرْبٍ من الحَلْيِ: مسحورٌ أي مموَّهٌ على مَن رَآه مسحورةٌ بهِ عينُهُ.
فمَا كانَ مِنَ البيانِ على حقٍّ وَيوضحُه فهو من السِّحْرِ الحلالِ، وَمَا كَانَ منه مقصُودًا بهِ إلى تمويهٍ وَخَدِيعَةٍ وَتصويرِ باطِلٍ فِي صُورَةِ الحقِّ فهوَ مِنَ السِّحْرِ المذمُومِ.
فإن قيل: إذا كان موضوعُ السحرِ التمويهَ والإخفاءَ؛ فكيف يجوزُ أن يسمَّى ما يوضحُ الحقَّ وينبئ عنه سِحْرًا، وهو إنما أظهرَ بذلك ما خَفِيَ، ولم يقصدْ به إلى إخفاءِ ما ظَهَرَ، وإظهارِ غيرِ حَقيقتِهِ.
قيلَ له: سُمِّيَ ذلكَ سِحْرًا من حيثُ كانَ الأغلبُ فِي ظنِّ السامعِ أنه لَوْ وَرَدَ عليهِ المعنَى بلفظٍ مُستنكَرٍ غيرِ مبينٍ لما صادَف منهُ قبولاً ولا أصغَى إليه، وَمَتَى سَمِعَ المعنَى بعبارَةٍ مقبولةِ عَذْبَةٍ لا فَسَادَ فيهَا وَلا استنكارَ، وقد تأتَّى له بلفظِهِ وَحُسْنِ بَيَانِهِ بما لا يتأتَّى لهُ الغبيُّ الذي لا بيَانَ لَهُ أصغَى إِليهِ وَسَمِعَهُ وَقَبِلَهُ؛ فسمَّى استمالَتَهُ للقلوبِ بهذا الضربِ مِنَ البيانِ سِحْرًا، كَمَا يَسْتَمِيلُ السَّاحِرُ قلوبَ الحاضرينَ إلَى مَا مَوَّهَ به ولبَّسَه؛ فمن هذا الوجهِ سُمِّيَ البيانُ سِحْرًا لا من الوجهِ الذي ظننتَ.
ويجوزُ أن يكونَ إنما سُمِّيَ البيانُ سِحْرًا لأنَّ المقتدِرَ على البيانِ ربما قبَّحَ ببيانِهِ بعضَ ما هو حَسَنٌ، وَحَسَّنَ عندَه بعضَ ما هُو قَبيحٌ؛ فسمَّاه لذلك سِحْرًا، كما سَمَّى ما مَوَّهَ بهِ صاحبُهُ وَأظهرَ على غيرِ حقيقَتِهِ سِحْرًا.
قالَ أبو بكرٍ رَحِمَهُ اللهُ: وَاسمُ السِّحْرِ إنما أُطْلِقَ عَلَى البيَانِ مَجَازًا لا حَقِيقَةً، وَالحقيقةُ مَا وَصَفنَا، وَلِذلِكَ صَارَ عِندَ الإِطلاقِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ أَمْرٍ مُمَوَّهٍ قد قُصِدَ بهِ الخديعةُ وَالتلبيسُ وَإِظهارُ مَا لا حَقِيقَةَ لَهُ وَلا ثَبَاتَ). [أحكام القرآن: 1/50 ]
قالَ مَحْمُودُ بْنُ عُمَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ (ت: 538هـ): (النَّفَّاثَاتُ: النساءُ أو النفُوسُ أو الجماعاتُ السواحِرُ اللاَّتِي يَعْقِدْنَ عُقَداً في خُيُوطٍ ويَنْفُثْنَ عليها، ويَرْقِينَ.
والنَّفْثُ: النَّفْخُ معَ رِيقٍ، ولا تأثيرَ لذلك، اللَّهُمَّ إلاَّ إذَا كانَ ثَمَّ إطعامُ شيءٍ ضارٍّ، أو سَقْيُهُ أو إشمامُه‏،‏ أو مُبَاشَرَةُ المَسْحورِ به على بعضِ الوجوهِ، ولكنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ قد يَفْعَلُ عندَ ذلك فِعلاً على سبيلِ الامتحانِ الذي يَتَمَيَّزُ به الثبِتُ على الحَقِّ مِن الحَشْوِيَّةِ والجَهَلَةِ مِن العوامِّ، فيَنْسِبُهُ الحَشْوِيَّةُ والرَّعَاعُ إليهنَّ، وإلى نَفْثِهِنَّ، والثابتونَ بالقولِ الثابتِ لا يَلْتَفِتُونَ إلى ذلك، ولا يَعْبَؤُونَ به.
فإنْ قُلْتَ‏:‏ فما مَعْنَى الاستعاذةِ مِن شَرِّهِنَّ؟
قلتُ‏:‏ فيها ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدُها‏:‏ أنْ يُسْتَعَاذَ مِن عَمَلِهِنَّ الذي هو صَنْعَةُ السِّحْرِ، ومِن إِثمِهِنَّ في ذلك‏.‏
والثاني‏:‏ أنْ يُسْتَعَاذَ مِن فِتْنَتِهِنَّ الناسَ بسِحْرِهِنَّ، وما يَخْدَعْنَهُم به مِن باطلِهِنَّ.
والثالثُ: أنْ يُسْتَعَاذَ مِمَّا يُصِيبُ اللَّهُ به مِن الشرِّ عندَ نَفْثِهِنَّ.
ويَجوزُ أنْ يُرَادَ بهنَّ النساءُ الكَيَّادَاتُ، مِن قولِه‏:‏ ‏{‏إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)‏} [يوسُف: 28]؛ تشبيهاً لكَيْدِهِنَّ بالسحرِ والنفْثِ في العُقَدِ‏.‏
أو اللاتي يَفْتِنَّ الرجالَ بتَعَرُّضِهِنَّ لهم ومحاسِنِهنَّ كأنَّهُنَّ يَسْحَرْنَهُم بذلكَ‏). [الكشاف: 6/465-466]
قال صَالِحُ بْنُ غُرْمِ اللهِ الغَامِدِيُّ (م): (قالَ اللهُ تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ (4)} [الفلق: 4]
قال الزَّمَخْشَرِيُّ: {النَّفَّاثَاتِ} [الفلق: 4] النِّساءُ: أو النُّفوسُ, أو الجَماعاتُ السَّواحِرُ اللاَّتِي يَعْقِدْنَ عُقَدًا في خُيُوطٍ ويَنْفُثْنَ عليها ويَرْقِينَ, والنَّفْثُ: النَّفْخُ مع رِيقٍ, ولا تَأْثِيرَ لذلك, اللَّهُمَّ إلاَّ إذا كان ثَمَّ إطْعامُ شَيْءٍ ضَارٍّ, أو سَقْيِهِ, أو إشْمامِهِ, أو مُباشَرَةِ المَسْحُورِ به على بَعْضِ الوُجوهِ, ولكِنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ قد يَفْعَلُ عند ذلك فِعْلاً على سَبِيلِ الامْتِحانِ الَّذِي يَتَمَيَّزُ به الثَّبِتُ على الحَقِّ مِنَ الحَشْوِيَّةِ والجَهَلَةِ مِنَ العَوامِّ، فيَنْسِبُهُ الحَشْوِيَّةُ والرَّعاعُ إلَيْهِنَّ وإلى نَفْثِهِنَّ, والثَّابِتونَ بالقَوْلِ الثَّابِتِ لا يَلْتَفِتونَ إلى ذلك ولا يَعْبَؤُونَ به).
قال ابْنُ المُنَيِّرِ: (وقد تَقَدَّمَ أنَّ قاعِدَةَ القَدَرِيَّةِ إنْكارُ حَقِيقَةِ السِّحْرِ, على أنَّ الكِتابَ والسُّنَّةَ قد وَرَدا بوُقوعِهِ, والأَمْرِ بالتّ‍َعَوُّذِ منه, وقد سُحِرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في مُشْطٍ ومُشاطَةٍ, في جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ, والحَدِيثُ مَشْهورٌ, وإنَّما الزَّمَخْشَرِيُّ اسْتَفَزَّهُ الهَوَى حتى أَنْكَرَ ما عَرَفَ, وما به إلاَّ أنْ يَتَّبِعَ اعْتِزالَهُ، ويُغَطِّيَ بكَفِّهِ وَجْهَ الغَزالَةِ).
التَّعْلِيقُ:
والأَمْرُ كما ذَكَرَ ابْنُ المُنَيِّرِ, وقد سَبَقَ بَيانُ بُطْلانِ مَذْهَبِ الزَّمَخْشَرِيِّ هذا في غَيْرِ هذا المَوْضِعِ.

عادَ كَلامُ الزَّمَخْشَرِيِّ, قال: (فإنْ قُلْتَ: فما مَعْنَى الاسْتِعاذَةِ مِن شَرّهِنَّ؟ قُلْتُ: فيها ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُها: أنْ يُسْتَعاذَ مِن عَمَلِهِنَّ الَّذِي هو صَنْعَةُ السِّحْرِ، ومِن إثْمِهِنَّ في ذلك.
والثَّانِي: أنْ يُسْتَعاذَ مِن فِتْنَتِهِنَّ النَّاسَ بسِحْرِهِنَّ, وما يَخْدَعْنَهم به مِن باطِلِهِنَّ.
والثَّالِثُ: أنْ يُسْتَعاذَ مِمَّا يُصِيبُ اللهُ به مِنَ الشَّرِّ عند نَفْثِهِنَّ, ويَجوزُ أنْ يُرادَ بِهِنَّ النِّساءُ الكَيَّاداتُ من قَوْلِهِ: {‏إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)‏} [28: يُوسُفُ] تَشْبِيهًا لكَيْدِهِنَّ بالسِّحْرِ والنَّفْثِ في العُقَدِ.....)
قال ابْنُ المُنَيِّرِ: (وهذا مِنَ الطِّرازِ الأَوَّلِ فَعَدِّ عَنْهُ جانِبًا, ولو فَسَّرَ غَيْرُهُ النَّفَّاثاتِ في العُقَدِ بالمتخيلاتِ مِنَ النِّساءِ، ولَسْنَ ساحِراتٍ, حتى يَتِمَّ إنْكارُ وُجودِ السِّحْرِ لعَدَّهُ مِن بِدَعِ التَّفاسِيرِ).
التَّعْلِيقُ:
والَّذِي عليه أَهْلُ التَّحْقِيقِ أنَّ المُرَادَ بالنَّفَّاثاتِ هنا الأَرْواحُ والأَنْفُسُ الشِّرِّيرَةُ, لا النِّساءُ النَّفَّاثاتُ؛ لأنَّ السِّحْرَ يَكونُ مِنَ الذُّكورِ والإناثِ.
والسِّحْرُ إنَّما هو من جِهَةِ الأَنْفُسِ الخَبِيثَةِ والأَرْواحِ الشِّرِّيرَةِ, وسُلْطانُهُ إنَّما يَظْهَرُ منها, فلهذا ذُكِرَتِ النَّفَّاثاتُ هنا بلَفْظِ التَّأْنِيثِ دُونَ التَّذْكِيرِ.
والنَّفْثُ فِعْلُ السَّاحِرِ, فإذا تَكَيَّفَتْ نَفْسُهُ بالخُبْثِ والشَّرِّ الَّذِي يُرِيدُهُ بالمَسْحورِ,واسْتَعانَ عليه بالأَرْواحِ الخَبِيثَةِ, نَفَخَ في العُقَدِ الَّتِي يَعْقِدُها نَفْخًا معه رِيقٌ, فيَخْرُجُ مِن نَفْسِهِ الخَبِيثَةِ نَفَسٌ مُمازِجٌ للشَّرِّ والأَذَى، مُقْتَرِنٌ بالرِّيقِ المُمازِجِ لذلك، يُساعِدُهُ في ذلك الرُّوحُ الشَّيْطانِيَّةُ على أَذَى المَسْحورِ, فيَقَعُ فيه السِّحْرُ بإذْنِ اللهِ الكَوْنِيِّ القَدَرِيِّ لا الأَمْرِ الشَّرْعِيِّ الدِّينِيِّ.
وهَذِهِ الآيَةُ مِن أَدِلَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ على أنَّ السِّحْرَ له تَأْثِيرٌ وحَقِيقَةٌ, وقد جَرَى بَيانُ وَجْهِ ذلك في غَيْرِ هذا المَوْضِعِ, واللهُ أَعْلَمُ). [المسائل الاعتزالية في تفسير الكشاف: 2/1123-1125]
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بنِ الحُسَيْنِ الرَّازِيُّ (ت: 604هـ): (المسألةُ الثالثةُ: أَنْكَرَت المُعْتَزِلَةُ تَأْثِيرَ السِّحْرِ، وقَدْ تَقَدَّمَتْ هذه المَسْأَلَةُ، ثُمَّ قالُوا: سَبَبُ الاسْتِعَاذَةِ مِن شَرِّهِنَّ لثَلاثَةِ أَوْجُهٍ؛ أحَدُها: أَنْ يُسْتَعَاذَ مِن إِثْمِ عَمَلِهِنَّ في السِّحْرِ، والثاني: أَنْ يُسْتَعاذَ مِن فِتْنَتِهِنَّ النَّاسَ بسِحْرِهِنَّ. والثَالِثُ: أَنْ يُسْتَعاذَ مِن إِطْعَامِهِنَّ الأَطْعِمَةَ الرَّدِيئَةَ المُورِثَةَ للجُنُونِ والموتِ).
[التفسير الكبير: 32/179] (م)


رد مع اقتباس