عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 1 ربيع الأول 1434هـ/12-01-2013م, 11:53 PM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

الفصل الأول:
في ذكر طبقات الفقهاء، والكتب وكيفية شيوع العلم خلفا وسلفا، وذكر بعض الفقهاء المعتمدين وغير المعتمدين، وبعض الكتب المعتمدة وغير المعتمدة، مع فوائد نفيسة، وفرائد لطيفة تنشط بسمعها الآذان وتفرح بمطالعتها طبائع الكسلان، وهذا أمر لا بد للمفتي من معرفته لينزل الناس منازلهم ويضعهم في مواضعهم، فإن من لا يعرف مراتب الفقهاء ودرجاتهم يقع في الخبط بتقديم من لا يستحق التقديم، وتأخير من يليق بالتقديم، وكم من عالم من علماء زماننا ومن قبلنا لم يعلم بطبقات فقهائنا، فرجح أقوال من هو أدنى، وهجر تصريحات من هو أعلى، وكم من فاضل ممن عاصرنا ومن سبقنا اعتمد على جامعي الرطب واليابس، واستند بكاتبي المسائل الغريبة والروايات الضعيفة كالناعس، أعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد شرع الشرائع وبين الأحكام، وأظهر لنا الحلال والحرام، ثم الصحابة المهديون - لاسيما الخلفاء الراشدون - صرفوا سعيهم في إقامة المشروعات، وإيضاح الأحكام بالحجج الواضحات، ثم انتقل إرث العلم إلى طبقة التابعين - ومنهم إمامنا الأقوم أبو حنيفة الأعظم - ثم إلى من بعدهم إلى زماننا هذا.

وممن اشتهر مذهبهم ودونت الكتب على مسلكهم الأئمة الأربعة:
أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد، ومذاهب باقي المجتهدين قد اندرست لا يوجد لها أثر ولا يرى بها خبير يستفسر، إلا أن الناس تفرقوا في السلوك على هذه المذاهب، وتفرقت البلاد في شيوع المشارب، فشاع مذهب مالك في بلاد المغرب، ومذهب الشافعي في بلاد الحجاز، ومذهب أبي حنيفة في بلاد الهند والسند، ثم إن علم إمامنا قد انتقل بواسطة تلامذته ومن بعدهم إلى بلاد شاسعة، وتفرقت فقهاء مذهبنا في مدن واسعة فمنهم أصحابنا المتقدمون في العراق، ومنهم مشايخ بلخ ومشايخ خراسان، ومشايخ سمرقند ومشايخ بخارا، ومشايخ بلاد آخر: كإصبهان وشيراز وطوس وزنجان وهمدان واسترآباد وبسطام ومرغينان وفرغانة ودامغان، وغير ذلك من المدن الداخلة في أقاليم ما وراء النهر، وخراسان وآذربيجان وخوارزم وغزنة وكرمان إلى جميع بلاد الهند، وغير ذلك من بلاد العرب والعجم وكلهم نشروا علم أبي حنيفة إملاء وتذكيرا وتصنيفا، وكانوا يتفقهون ويجتهدون ويفيدون ويصنفون، فبقي نظام العلم وأهاليه على أحسن النظام على ممر الدهور والأعوام، إلى حين قدر الله خروج جنكيزخان فوضع السيف وقتل العباد وخرب العلم وأهلك البلاد، ثم تلاه بنوه وأولاده وأحفاده، فسارت الفقهاء الحنفية الذين نجوا من ظلمهم بأهاليهم إلى دمشق وحلب وديار مصر والروم، فانتشر العلم هناك كذا ذكره الكفوي في أعلام الأخيار.

واعلم أن لأصحابنا الحنفية خمس طبقات:
الأولى: طبقة المتقدمين من أصحابنا: كتلامذة أبي حنيفة نحو أبي يوسف ومحمد وزفر وغيرهم، وهم كانوا يجتهدون في المذهب ويستخرجون الأحكام من الأدلة الأربعة على مقتضى القواعد التي قررها أستاذهم، فإنهم وإن خالفوه في بعض الفروع لكنهم قلدوه في الأصول بخلاف مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، فإنهم يخالفونه في الفروع غير مقلدين له في الأصول، وهذه الطبقة هي الطبقة الثانية من الاجتهاد.
والثانية: طبقة أكابر المتأخرين: كأبي بكر الخصاف والطحاوي، وأبي الحسن الكرخي والحلوائي، والسرخسي وفخر الإسلام البزدوي، وقاضيخان وصاحب الذخيرة، والمحيط البرهاني الصدر برهان الدين
محمود، والشيخ طاهر أحمد صاحب النصاب، وخلاصة الفتاوى وأمثالهم، فإنهم يقدرون على الاجتهاد في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب، ولا يقدرون على مخالفته لا في الفروع ولا في الأصول.
والثالثة: طبقة أصحاب التخريج من المقلدين: كالرازي وأضرابه، فإنهم لا يقدرون على الاجتهاد أصلا لكنهم لإحاطتهم بالأصول يقدرون على تفصيل قول مجمل ذي وجهين، وحكم مبهم محتمل لأمرين منقول عن أبي حنيفة أو أصحابه، وما وقع في الهداية في بعض المواضع: كذا في تخريج الرازي من هذا القبيل.
والرابعة: طبقة أصحاب الترجيح من المقلدين: كأبي الحسن أحمد القدوري وشيخ الإسلام برهان الدين صاحب الهداية وأمثالهما، وشأنهم تفضيل بعض الروايات على بعض بقولهم: هذا أولى وهذا أصح رواية وهذا أوضح دراية، وهذا أوفق بالقياس وهذا أرفق بالناس.
والخامسة: طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين الأقوى والقوي والضعيف وظاهر الرواية، ورواية النادرة كشمس الأئمة محمد الكردري وجمال الدين الحصيري، وحافظ الدين النسفي وغيرهم مثل أصحاب المتون المعتبرة من المتأخرين: كصاحب المختار وصاحب الوقاية وصاحب المجمع، وشأنهم أن لا ينقل في كتابهم الأقوال المردودة والروايات الضعيفة، وهذه الطبقة هي أدنى طبقات المتفقهين، وأما الذين هم دون ذلك فإنهم كانوا ناقصين عامين، يلزمهم تقليد علماء عصرهم لا يحل لهم أن يفتوا إلا بطريق الحكاية كذا ذكره الكفوي أيضا.
وقال ابن كمال باشا الرومي صاحب الإصلاح والإيضاح وغيره - المتوفي سنة أربعين وتسعمائة - في بعض رسائله:


الفقهاء على سبع طبقات:
الأولى: طبقة المجتهدين في الشرع: كالأئمة الأربعة ومن سلك مسلكهم في تأسيس قواعد الأصول، واستنباط الأحكام والفروع عن الأدلة الأربعة من غير تقليد لأحد لا في الفروع ولا في الأصول.
والثانية: طبقة المجتهدين في المذهب: كأبي يوسف ومحمد، وسائر أصحاب أبي حنيفة القادرين على استخراج الأحكام عن الأدلة المذكورة على مقتضى القواعد التي قررها أستاذهم أبو حنيفة، فإنهم وإن خالفوه في بعض أحكام الفروع لكنهم يقلدونه في قواعد الأصول وبه يمتازون عن المعارضين في المذهب.
والثالثة: طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب: كالخصاف والطحاوي، وأبي الحسن الكرخي والسرخسي، والحلوائي والبزدوي وقاضيخان وأمثالهم، فإنهم لا يقدرون على المخالفة للشيخ لا في الفروع ولا في الأصول، لكنهم يستنبطون الأحكام في المسائل التي لا نص فيها عنه على حسب أصول قررها وقواعد بسطها.
والرابعة: طبقة أصحاب التخريج من المقلدين: كالرازي وأضرابه، فإنهم لا يقدرون على الاجتهاد أصلا لكنهم لإحاطتهم بالأصول، وضبطهم للمأخذ يقدرون على تفصيل قول مجمل ذي وجهين، وحكم محتمل لأمرين منقول عن صاحب المذهب، أو عن واحد من أصحابه المجتهدين برأيهم ونظرهم في الأصول، والمقايسة على أمثاله ونظائره من الفروع.
والخامسة: طبقة أصحاب الترجيح من المقلدين: كأبي الحسين القدروي، وصاحب الهداية وأمثالهما، وشأنهم تفضيل بعض الروايات على بعض.
والسادسة: طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين الأقوى والقوي والضعيف وظاهر المذهب وظاهر الرواية والرواية النادرة: كأصحاب المتون الأربعة المعتبرة من المتأخرين مثل: صاحب الكنز وصاحب المختار وصاحب الوقاية وصاحب المجمع.
والسابعة: طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذكر ولا يفرقون بين الغث والسمين، ولا يميزون الشمال عن اليمين بل يجمعون ما يجدون، كحاطب الليل انتهى ملخصا وكذا ذكره عمر بن عمر الأزهري المصري المتوفى سنة تسع وسبعين وألف في آخر كتابه الجواهر النفيسة شرح الدرة المنيفة في مذهب أبي حنيفة، وكذا ذكره من جاء بعده مقلدا له إلا أن فيه أنظارا شتى من جهة إدخال من في الطبقة الأعلى في الأدنى، قد أبداها الفاضل هارون بن بهاء الدين بن شهاب الدين المرجاني الحنفي.

ولا بأس بسرد عبارته لتضمنها فوائد شريفة وفوائد لطيفة وهي هذه:
ليت شعري ما معنى قولهم: إن أبا يوسف ومحمدا وزفر وإن خالفوا أبا حنيفة في بعض الأحكام لكنهم يقلدونه في الأصول ما الذي يريد به ؟ فإن أراد منه الأحكام الإجمالية التي يبحث عنها في كتب الأصول فهي قواعد عقلية، وضوابط برهانية يعرفها المرء من حيث أنه ذو عقل وصاحب فكر، ونظر سواء كان مجتهدا أو غير مجتهد، ولا تعلق لها بالاجتهاد قط، وشأن الأئمة الثلاثة أرفع وأجل من أن لا يعرفوا بها، كما هو اللازم من تقليدهم غيرهم فيها، فحاشاهم ثم حاشاهم عن هذه النقيصة، وحالهم في الفقه إن لم يكن أرفع من مالك والشافعي فليسوا بدونهما، وقد اشتهر في أفواه الموافق والمخالف وجرى مجرى الأمثال قولهم: أبو حنيفة أبو يوسف بمعنى أن البالغ إلى الدرجة القصوى في الفقاهة أبو يوسف.

وقال الخطيب البغدادي: قال طلحة بن محمد بن جعفر: أبو يوسف مشهور الأمر ظاهر الفضل أفقه أهل عصره لم يتقدمه أحد في زمانه، وكان على النباهة في العلم والحكم، والعلم والقدر، وهو أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة ونشرها، وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض، وكذلك محمد بن الحسن قد بالغ الشافعي في مدحه والثناء عليه، وقد ذكر القاضي عبد الرحمن بن خلدون المالكي في مقدمته: إن الشافعي رحل إلى العراق، ولقي أصحاب الإمام أبي حنيفة وأخذ عنهم، ومزج طريقة أهل الحجاز بطريقة أهل العراق، وكذلك أحمد بن حنبل أخذ عن أصحاب أبي حنيفة مع وفور بضاعته في الحديث انتهى، ولكل واحد منهم أصول مختصة تفردوا بها عن أبي حنيفة وخالفوه فيها بل قال الغزالي: إنهما خالفا أبا حنيفة في ثلثي مذهبه، ونقل النووي في تهذيب الأسماء عن أبي المعالي الجويني: أن كل ما اختاره المزني أرى أنه تخريج ملحق بالمذهب لا كأبي يوسف ومحمد، فإنهما يخالفان أصول صاحبهما، وأحمد بن حنبل لم يذكره الإمام أبو جعفر الطبري في عداد الفقهاء وقال: إنما هو من حفاظ الحديث، فكيف يكون من المجتهدين في الشرع دون أبي يوسف ومحمد ؟ كما أفاده في قضاء البحر بل صرح بعض معاصريه أنه من أهل الاجتهاد انتهى.

ومن أصحاب التخريج الفقيه أبو عبدالله الجرجاني، وقد أبدى بعض معاصرينا (سلمه الله تعالى) في بعض تحريراته الواقعة في مسألة من مسائل الرضاع احتمال أن يكون هو من الطبقة السابقة، وأخرجه من الطبقات السابقة وهو أمر منشأه قلة التتبع وعدم وسعة النظر، وقد رددت عليه في تحريراتي الواقعة ردا لتحريره، أنه أو لم ينظر إلى كلام صاحب الهداية في باب صفة الصلاة: ثم القومة والجلسة سنة عندهما وكذا الطمأنينة في تخريج الجرجاني، وفي تخريج الكرخي واجبة حتى تحب سجدتا السهو بتركها عنده انتهى.

قال العيني في البناية شرح الهداية: هو الشيخ أبو عبدالله الجرجاني تلميذ أبي بكر الرازي تلميذ الكرخي انتهى وفي أعلام الأخيار: للشيخ الإمام أوحد الأعلام أبو عبدالله الفقيه الجرجاني محمد بن يحيى بن مهدي عده صاحب الهداية من أصحاب التخريج، وهو تلميذ أبي بكر الرازي تلميذ الكرخي، وتفقه عليه أبو الحسين أحمد بن محمد القدوري والإمام أحمد بن محمد الناطفي مات سنة ثمان وتسعين وثلاث مائة انتهى.

واعلم أن مذهب الإمام أبي حنيفة أكثره مأخوذ عن الصحابة الذين نزلوا بالكوفة، ومن بعدهم من علمائها، وكان ألزم بمذهب إبراهيم عظيم الشأن في التخريج على مذهبه، وكان أشهر أصحابه أبو يوسف تولى قضاء القضاة زمن هارون الرشيد، فكان سببا لشيوع مذهبه في أقطار العراق وبلاد ما وراء النهر وغيرها، وكان أحسنهم تصنيفا وجمعا محمد بن الحسن، وجمع في تصانيفه رأيه ورأي شيخيه، فتوجه أصحاب أبي حنيفة إلى تلك التصانيف تلخيصا وتقريبا وتخريجا وتأسيسا، وإنما عد مذهب أبي يوسف ومحمد مع مذهب أبي حنيفة مذهبا واحدا، مع أنهما مجتهدان مستقلان لأنهما مع مخالفتهما له في الأصول والفروع لم يتجاوزا عن محجة إبراهيم وغيره من علماء الكوفة، كذا قال المحدث ولي الله الدهلوي في رسالته الإنصاف في بيان سبب الاختلاف.

واعلم أن المجتهد على أقسام ثلاثة:
أحدها: المجتهد المطلق المستقل: ومن شروطه فقه النفس وسلامة الذهن، وصحة التصرف والاستنباط والتيقظ، ومعرفة الأدلة وآلاتها المذكورة في الأصول وشروطها ومع الفقه، والضبط لأمهات المسائل.
وثانيها: المجتهد المطلق المنتسب: وهو أن ينتسب إلى إمام متين من الأئمة المجتهدين، لكن لا يقلده لا في المذهب ولا في الدليل لاتصافه بآلات الاجتهاد، وإنما انتسب إليه لسلوكه طريقه في الاجتهاد.
وثالثها: المجتهد في المذهب: وهو أن يكون مقيدا بمذهب إمام مستقلا بتقرير أصوله بالدليل غير أنه لا يجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده، وشرطه كونه عالما بالمذهب وأصوله وأدلة الأحكام تفصيلا، وكونه بصيرا بمسالك الأقيسة والمعاني تام الارتياض في التخريج، والاستنباط بقياس غير المنصوص عليه على المنصوص، لعلمه بأصول إمامه ولا يعرى عن تقليد لإمامه لإخلاله ببعض أدوات الاجتهاد المستقل كالنحو والحديث، ونحو ذلك كذا ذكره ابن حجر المكي في رسالته شن الغارة على من أظهر معرة تقوله في الحنا وعواره.

أما القسم الأول فاتصف به الأئمة الأربعة ومن بعدهم وقال ابن حجر: قال ابن الصلاح: إن هذه المرتبة قد انقطعت من نحو ثلاث مائة سنة، ولابن الصلاح نحو ثلاث مائة فيكون قد انقطعت من نحو ستمائة سنة، بل نقل ابن الصلاح عن بعض الأصوليين أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد مستقل انتهى.

وفي الميزان لعبد الوهاب الشعراني: قد نقل الجلال السيوطي: أن الاجتهاد المطلق على قسمين: مطلق غير منتسب كما عليه الأئمة الأربعة، ومطلق منتسب كما عليه أكابر أصحابهم قال: ولم يدع الاجتهاد المطلق غير المنتسب بعد الأئمة الأربعة إلا الإمام محمد بن جرير الطبري، ولم يسلم له ذلك انتهى وفي الميزان أيضا: فإن قلت: هل يصح لأحد الآن الوصول إلى مقام أحد من الأئمة المجتهدين ؟ فالجواب نعم لأن الله تعالى على كل شيء قدير، ولم يرد لنا دليل على منعه وقد قال بعضهم: إن الناس الآن يصلون إلى ذلك من طريق الكشف لا من طريق النظر والاستدلال، فإن ذلك مقام لم يدعه بعد الأئمة الأربعة أحد إلا ابن جرير، ولم يسلموا له وجميع من ادعى الاجتهاد المطلق إنما مراده المطلق المنتسب الذي لا يخرج عن قواعد إمامه كابن القاسم، وأصبغ مع مالك، وكمحمد وأبي يوسف مع أبي حنيفة، وكالمزني والربيعة مع الشافعي، إذ ليس في قوة أحد بعد الأئمة الأربعة أن يبتكر الأحكام، ويستخرجها من الكتاب والسنة في ما نعلم أبدا ومن ادعى له قلنا له: فاستخرج لنا شيئا لم يسبق لأحد من الأئمة استخراجه، فليتأمل ذلك مع ما قدمناه آنفا من سعة قدرة الله لا سيما، والقرآن لا تنقضي عجائبه ولا أحكامه في نفس الأمر فاعلم ذلك انتهى.

وقال بحر العلوم اللكنوي في شرح تحرير الأصول: اعلم أن بعض المتعصبين قالوا: اختتم الاجتهاد المطلق على الأئمة الأربعة، ولم يوجد مجتهد مطلق بعدهم، والاجتهاد في المذهب اختتم على العلامة النسفي صاحب الكنز، ولم يوجد مجتهد في المذهب وهذا غلط ورجم بالغيب، فإن سئل من أين علمتم هذا ؟ لا يقدرون على إبداء دليل أصلا، ثم هو تحكم على قدرة الله تعالى فمن أين يحصل علم أن لا يوجد إلى يوم القيامة أحد يتفضل الله عليه مقام الاجتهاد، فاجتنب عن مثل هذه التعصبات انتهى.

وقال هو أيضا في شرح مسلم الثبوت: من الناس من حكم بوجوب خلو الزمان عن المجتهد بعد العلامة النسفي، وعنوا به الاجتهاد في المذهب، وأما الاجتهاد المطلق فقالوا: إنه اختتم بالأئمة الأربعة حتى أوجبوا تقليد واحد من هؤلاء على الأئمة، وهذا كله هوس من هوساتهم لم يأتوا بدليل ولا يعبأ بكلامهم، وإنما هم من الذين حكم الحديث عليهم: أنهم أفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ولم يفهموا أن هذا إخبار بالغيب في خمس لا يعلمهن إلا الله انتهى.

والحاصل أن من ادعى بأنه قد انقطعت مرتبة الاجتهاد المطلق المستقل بالأئمة الأربعة انقطاعا لا يمكن عوده فقد غلط وخبط، فإن الاجتهاد رحمة من الله سبحانه، ورحمة الله لا تقتصر على زمان دون زمان، ولا على بشر دون بشر، ومن ادعى انقطاعها في نفس الأمر مع إمكان وجودها في كل زمان، فإن أراد أنه لم يوجد بعد الأربعة مجتهد اتفق الجمهور على اجتهاده، وسلموا استقلاله كاتفاقهم على اجتهادهم فهو مسلم، وإلا فقد وجد بعدهم أيضا أرباب الاجتهاد المستقل: كأبي ثور البغدادي وداؤد الظاهري ومحمد بن إسماعيل البخاري، وغيرهم على ما لا يخفى على من طالع كتب الطبقات.

وأما القسم الثاني فاتصف به أبو يوسف ومحمد، وغيرهما من أصحاب أبي حنيفة، وفي الشافعية كثيرون بلغوا هذه المرتبة: كالنووي وابن الصلاح وابن دقيق العيد، وتقي الدين السبكي وابنه تاج الدين السبكي، والسراج البلقيني وابن الزملكاني والسيوطي، وغيرهم ممن عاصرهم أو تقدمهم على ما ذكره السيوطي في حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة وغيره.
وفي الإنصاف: انقرض المجتهد المطلق المنتسب في مذهب أبي حنيفة بعد المائة الثالثة، وذلك لأنه لا يكون إلا محدثا جيدا، واشتغالهم بعلم الحديث قليل قديما وحديثا، وإنما كان فيه المجتهدون في المذهب. وهذا الاجتهاد أراد من قال: أدنى الشروط للمجتهد أن يحفظ المبسوط، وقل المجتهد المنتسب في مذهب مالك، وكل من كان منهم بهذه المنزلة فإنه لا يعد تفرده وجها في المذهب: كابن عبد البر وأبي بكر بن العربي، وأما مذهب أحمد فكان قليلا قديما وحديثا، وكان فيه المجتهدون طبقة بعد طبقة إلى أن انقرض في المائة التاسعة، واضمحل في أكثر البلاد اللهم إلا ناس قليلون بمصر وبغداد، وأما مذهب الشافعي فأكثر المذاهب مجتهدا مطلقا، ومجتهدا في المذهب وأكثر المذاهب أصوليا ومتكلما، وأوفرها مفسرا للقرآن وشارحا للحديث، وأسندها إسنادا ورواية وكان أوائل أصحابه مجتهدين بالاجتهاد المطلق ليس فيهم من يقلده في جميع مجتهداته حتى نشأ ابن شريح، فأسس قواعد التقليد والتخريج، ثم جاء أصحابه يمشون في سبيله وينسحبون على منواله، ولذلك يعد من المجددين على رأس المائتين انتهى.

وأما القسم الثالث فاتصف به كثيرون من الأصحاب الحنفية، كما مر ذكره مفصلا وفي باقي المذاهب أيضا كثيرون بلغوا هذه المرتبة، واعلم أنهم كما قسموا الفقهاء على طبقات كذلك قسموا المسائل أيضا على درجات ليختار المفتي عند التعارض ما هو من الدرجة الأعلى، ولا يرجح الأدنى على الأعلى قال الكفوي في أعلام الأخيار:

إن مسائل مذهبنا على ثلاث طبقات:
الأولى: مسائل الأصول، وهي مسائل ظاهر الرواية وهي مسائل المبسوط لمحمد (ولها نسخ أشهرها وأظهرها نسخة أبي سليمان الجوزجاني ويقال له: الأصل) ومسائل الجامع الصغير والجامع الكبير والسير والزيادات، كلها تأليف محمد بن الحسن، ومن مسائل ظاهر الروية مسائل كتاب المنتقى للحاكم الشهيد، وهو للمذهب أصل أيضا بعد كتب محمد بن الحسن، ولا يوجد في هذه الأعصار في هذه الأمصار وكتاب الكافي للحاكم أيضا أصل من أصول المذهب، وقد شرحه المشايخ منهم السرخسي والإسبيجابي.
والطبقة الثانية: هي مسائل غير ظاهر الرواية، وهي المسائل التي رويت عن الأئمة في غير الكتب المذكورة إما في كتب آخر لمحمد: كالكيسانيات والرقيات والجرجانيات والهارونيات، وإما في كتب غير محمد: كالمجرد للحسن بن زياد، ومنها كتب الأمالي والإملاء أن يقعد العالم وحوله تلامذته بالمحابر والقراطيس، فيتكلم بما فتح الله عليه من العلم، ويكتب التلامذة مجلسا مجلسا، ثم يجمعون ما كتبوا وكان هذا عادة أصحابنا المتقدمين ومنها الروايات المتفرقة: كروايات ابن سماعة وغيره من أصحاب محمد، وغيره من مسائل مخالفة للأصول، فإنها غير ظاهر الرواية وتعد من النوادر كما يقال: نوادر ابن سماعة ونوادر هشام ونوادر ابن رستم وغيره.
والطبقة الثالثة: وتسمى الواقعات، وهي مسائل استنبطها المتأخرون من أصحاب محمد وأصحاب أصحابه ونحوهم، فمن بعدهم إلى انقراض عصر الاجتهاد في الواقعات التي لم توجد فيها رواية الأئمة الثلاثة وأول كتاب جمع فيه مما علم النوازل، فإنه كتاب ألفه الفقيه أبو الليث السمرقندي المعروف بإمام الهدى، وجمع فيه فتاوى المتأخرين المجتهدين من مشايخه وشيوخ مشايخه: كمحمد بن مقاتل الرازي ومحمد بن سلمة ونصير بن يحيى، وذكر فيها اختياراته أيضا، ثم جمع المشايخ فيه كتبا، كمجموع النوازل والوقعات للناطفي والصدر الشهيد، ثم جمع من بعدهم من المشايخ هذه الطبقات في فتاواهم غير ممتازة كما في جامع قاضيخان، وكتاب الخلاصة وغيرها من الفتاوى انتهى كلامه.
وفي رد المحتار على الدر المختار لمحمد أمين الشهير بابن عابدين الشامي نقلا عن شرح البيري على الأشباه، وشرح إسماعيل النابلسي على الدر:

اعلم أن مسائل أصحابنا الحنفية على ثلاث طبقات:
الأولى: مسائل الأصول وتسمى ظاهر الرواية أيضا، وهي مسائل مروية عن أصحاب المذهب وهم: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، ويلحق بهم زفر والحسن بن زياد، وغيرهما ممن أخذ عن الإمام لكن الغالب الشائع في ظاهر الرواية أن يكون قول الثلاثة، وكتب ظاهر الرواية كتب محمد الستة.
والثانية: مسائل النوادر وهي المروية عن أصحابنا المذكورين لكن لا في الكتب المذكورة بل إما في كتب أخر لمحمد: كالكيسانيات، وإما في كتب غير محمد: كالمجرد للحسن وغيره، ومنها كتب الأمالي المروية عن أبي يوسف، وإما برواية مفردة كرواية ابن سماعة والمعلى بن منصور وغيرهما في مسائل معينة.
والثالثة: الوقعات وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون لما سئلوا عنها ولم يجدو فيها رواية، وهم أصحاب أبي يوسف ومحمد وأصحاب أصحابهما وهلم جرا، وهم كثيرون فمن أصحابهما مثل: عصام بن يوسف وابن رستم، ومحمد بن سماعة وأبي سليمان الجورجاني، وأبي حفص البخاري ومن بعدهم مثل: محمد بن سلمة ومحمد بن مقاتل، ونصير بن يحيى وأبي النصر القاسم بن سلام، وقد يتفق لهم أن يخالفوا أصحاب المذهب لدلائل وأسباب ظهرت لهم، وأول كتاب جمع في فتاواهم في ما بلغنا كتاب النوازل لأبي الليث، ثم جمع المشايخ بعده كتبا آخر، كمجموع الغوازل والواقعات للناطفي، والواقعات للصدر الشهيد، ثم ذكر المتأخرون هذه المسائل مختلطة كما في فتاوى قاضيخان وغيره، وميز بعضهم كما في محيط رضي الدين السرخسي، فإنه ذكر أولا مسائل الأصول، ثم النوادر ثم الفتاوى، ونعم ما فعل انتهى ملخصا.
وقد تقسم المسائل بوجه آخر، وهو ما ذكره شاه ولي بن عبد الرحيم المحدث الدهلوي في رسالته عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد بقوله: اعلم أن القاعدة عند محققي الفقهاء أن

المسائل على أربعة أقسام:
قسم تقرر في ظاهر المذهب وحكمه أنهم يقبلونه في كل حال وافقت الأصول أو خالفت؛
وقسم هو رواية شاذة عن أبي حنيفة وصاحبيه وحكمه أنهم لا يقبلونه إلا إذا وافق الأصول؛
وقسم هو تخريج المتأخرين اتفق عليه جمهور الأصحاب وحكمه أنه يفتون به على كل حال؛ وقسم هو تخريج منهم لم يتفق عليه جمهور الأصحاب وحكمه أن يعرض المفتي على الأصول والنظائر من كلام السلف فإن وجده موافقا لها أخذ به وإلا تركه انتهى كلامه.

فائدة: لعلك تتفطن من هذا البحث أنه ليس كل ما في الفتاوى المعتبرة المختلطة، كالخلاصة والظهيرية، وفتاوى قاضيخان وغيرها من الفتاوى التي لم يميز أصحابها بين المذهب والتخريج، وغيره قول أبي حنيفة وصاحبيه، بل منها ما هو منقول عنهم، ومنها ما هو مستنبط الفقهاء، ومنها ما هو مخرج الفقهاء، فيجب على الناظر فيها أن لا يتجاسر على نسبة كل ما فيها إليهم، بل يميز بين ما هو قولهم، وما هو مخرج من بعدهم، ومن لم يتميز بين ذلك وبين هذا أشكل الأمر عليه ألا ترى في مسألة العشر في العشر في بحث الحياض، فإن الفتاوى مملوءة من اعتباره، والفتوى عليه مع أنه ليس مذهب صاحب المذهب، إنما مذهبه كما صرح به محمد في الموطأ، وقدماء أصحابنا هو أنه لو كان الحوض بحيث لا يتحرك أحد جوانبه بتحريك الجانب الآخر لا يتنجس بوقوع النجاسة فيه، وإلا يتنجس ومن لم يتقنه وظن أنه مذهب صاحب المذهب تعسر عليه الأمر في تأصيله على أصل شرعي معتمد عليه، وقد حققت هذا البحث بما لا مزيد عليه في شرح شرح الوقاية، فليراجع وكذلك مسألة الإشارة في التشهد، فإن كثيرا من كتب الفتاوى متواردة على منعها وكراهتها، فيظن الناظرون فيها أنه مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، فيشكل عليهم الأمر بورود أحاديث متعددة قولية وفعلية، تدل على جوازها وسنيتها قال علي القاري المكي في رسالته تزيين العبارة، لتحسين الإشارة بعدما ذكر الأخبار الدالة على الإشارة، لم يعلم من الصحابة ولا من علماء السلف خلاف في هذه المسألة، ولا في جواز الإشارة، بل قال به إمامنا الأعظم وصاحباه، وكذا مالك والشافعي وأحمد، وسائر علماء الأمصار والأعصار، وقد نص عليه مشايخنا المتقدمون والمتأخرون، فلا اعتداد لما ترك هذه السنة الأكثرون من سكان ما وراء النهر، وأهل خراسان والعراق وبلاد الهند ممن غلب عليهم التقليد، وفاتهم التحقيق والتأييد من التعلق بالقول السديد، وقد ذكر محمد في موطئه حديثا في ذلك ثم قال: وبصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم نأخذ، وهو قول أبي حنيفة، ونقل الشمني في شرح النقاية أنه قال أبو يوسف في الأمالي: إنه يعقد الخنصر والبنصر، ويحلق بالوسطى والإبهام، ويشير بالسبابة انتهى كلامه ملخصا، ثم قال علي القاري: وقد أغرب الكيداني حيث قال: والعاشر من المحرمات الإشارة بالسبابة، كأهل الحديث أي مثل إشارة جماعة يجمعهم العلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا منه خطأ عظيم، وجرم جسيم منشأه الجهل عن قواعد الأصول، ومراتب الفروع من النقول، ولو لا حسن الظن به وتأويل كلامه بسبب لكان كفره صحيحا، وارتداده صريحا فهل يحل لمؤمن أن يحرم ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ما كاد أن يكون متواترا في نقله ويمنع جواز ما عليه عامة العلماء كابرا عن كابر ؟ انتهى فظهر منه أن قول النهي المذكور في الفتاوى، إنما هو من مخرجات المشايخ لا من مذهب صاحب المذهب وقس عليه أمثاله، وهي كثيرة لا تخفى على المحقق.

وإذا عرفت هذا فحينئذ يسهل الأمر في دفع طعن المعاندين على الإمام أبى حنيفة وصاحبيه، فإنهم طعنوا في كثير من المسائل المدرجة في فتاوى الحنفية أنها مخالفة للأحاديث الصحيحة، أو أنها ليست متأصلة على أصل شرعي ونحو ذلك، وجعلوا ذلك ذريعة إلى طعن الأئمة الثلاثة ظنا منهم أنها مسائلهم ومذاهبهم، وليس كذلك بل هي من تفريعات المشايخ استنبطوها من الأصول المنقولة عن الأئمة، فوقعت مخالفة للأحاديث الصحيحة، فلا طعن بها على الأئمة الثلاثة، بل ولا على المشايخ أيضا، فإنهم لم يقرروها مع علمهم بكونها مخالفة للأحاديث، إذ لم يكونوا متلاعنين في الدين، بل من كبراء المسلمين بهم وصل ما وصل إلينا من فروع الدين، بل لم يبلغهم تلك الأحاديث، ولو بلغتهم لم يقرروا على خلافها فهم في ذلك معذورون ومأجورون، والحاصل أن المسائل المنقولة عن أئمتنا الثلاثة قلما يوجد منها ما لم يكن له أصل شرعي أصلا، أو يكون مخالفا للأخبار الصحيحة الصريحة، وما وجد عنهم على سبيل الندرة كذلك، فالعذر عنهم العذر، فاحفظ هذا ولا تكن من المتعسفين، واعلم أنه قد كثر النقل عن الإمام أبي حنيفة وأصحابه، بل وعن جميع الأئمة في الاهتداء إلى ترك آرائهم إذا وجد نص صحيح صريح مخالف لأقوالهم، كما ذكره الخطيب البغدادي والسيوطي في تبييض الصحيفة بمناقب الإمام أبي حنيفة، وعبد الوهاب الشعراني في الميزان وغيرهم، وسيأتي ذكر نبذ من ذلك في الفصل الثالث، وقال علي القاري في تزيين العبارة: قال إمامنا الأعظم: لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعرف مأخذه من الكتاب والسنة، أو إجماع الأمة أو القياس الجلي في المسألة، وإذا عرفت هذا فاعلم أنه لو لم يكن للإمام نص على المرام لكان من المتعين على أتباعه الكرام - فضلا عن العوام - أن يعملوا بما صحح عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكذا لو صح عن الإمام، ففي الإشارة وصح إثباتها عن صاحب البشارة فلا شك في ترجيح المثبت المسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف ؟ وقد طابق نقله الصريح مما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسناد الصحيح انتهى، فبناء على هذا أمكن لنا أن نورد تقسيما آخر للمسائل فنقول:

الفروع المذكورة في الكتب على طبقات:
الأولى: المسائل الموافقة للأصول الشرعية المنصوصة في الآيات، أو السنن النبوية، أو الموافقة لإجماع الأمة، أو قياسات أئمة الملة من غير أن يظهر على خلافها نص شرعي جلي أو خفي.
والثانية: المسائل التي دخلت في أصول شرعية، ودلت عليها بعض آيات، أو أحاديث نبوية مع ورود بعض آيات دالة على عكسه، وأحاديث ناصة على نقضه لكن دخولها في الأصول من طريق أصح وأقوى وما يخالفها وروده من سبيل أضعف وأخفى، وحكم هذين القسمين هو القبول كما دل عليه المعقول والمنقول.
والثالثة: التي دخلت في أصول شرعية مع ورود ما يخالفها بطرق صحيحة قوية، والحكم فيه لمن أوتي العلم، والحكمة اختيار الأرجح بعد وسعة النظر ودقة الفكرة، ومن لم يتيسر له ذلك فهو مجاز في ما هنالك.
والرابعة: التي لم يستخرج إلا من القياس، وخالفه دليل فوقه غير قابل للاندراس، وحكمة ترك الأدنى واختيار الأعلى، وهو عين التقليد في صورة ترك التقليد.
والخامسة: التي لم يدل عليها دليل شرعي لا كتاب ولا حديث ولا إجماع ولا قياس مجتهد جلي، أو خفي لا بالصراحة ولا بالدلالة، بل هي من مخترعات المتأخرين الذين يقلدون طرق آبائهم ومشايخهم المتقدمين، وحكمه الطرح والجرح، فاحفظ هذا التفصيل، فإنه قل من اطلع عليه وبإهماله ضل كثير عن سواء السبيل.
واعلم أن المتأخرين قد اعتمدوا على المتون الثلاثة: الوقاية ومختصر القدوري والكنز ومنهم من اعتمد على الأربعة: الوقاية والكنز والمختار ومجمع البحرين وقالوا: العبرة لما فيها عند تعارض ما فيها وما في غيرها لما عرفوا من جلالة قدر مؤلفيها والتزامهم إيراد مسائل ظاهر الرواية والمسائل التي اعتمد عليها المشايخ.

أما الوقاية: فهو للإمام تاج الشريعة محمود بن صدر الشريعة أحمد بن عبيد الله جمال الدين العبادي المحبوبي البخاري أخذ العلم عن أبيه ؟ صدر الشريعة الأكبر أحمد عن أبيه كان عالما فاضلا، ونحريرا كاملا محققا مدققا ألف كتاب الوقاية الذي انتخبه من الهداية، صنفه لأجل ابن ابنه صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود بن تاج الشريعة كذا في أعلام الأخيار.
وفيه أيضا: عبيد الله صدر الشريعة بن مسعود بن محمود تاج الشريعة، صاحب شرح الوقاية حافظ قوانين الشرع ملخص مشكلات الأصل والفرع عالم المعقول، والمنقول فقيه أصولي محدث مفسر أخذ العلم عن جده تاج الشريعة محمود، وكان ذا عناية بتقييد نفائس جده، وجمع فوائده شرح الوقاية من تصانيف جده تاج الشريعة، ثم اختصره وسماه النقاية، وألف في الأصول متنا سماه التنقيح، ثم صنف شرحا سماه التوضيح مات سنة سبع وأربعين وسبعمائة، ومرقد والديه وأولاده وأجداد والديه في شرع آبار بخارا، وأما جده أبو أبيه تاج الشريعة، وأبو والدته برهان الدين، فإنهما ماتا في الكرمان ودفنا فيه كذا ذكره عبد الباقي الخطيب بالمدينة المنورة انتهى.
وفي مدينة العلوم: من شروح الهداية نهاية الكفاية لتاج الشريعة، وهو محمود كان عالما فاضلا كاملا، وله مختصر الهداية المسمى بالوقاية انتهى.

أقول: هذا كله نص على أن مصنف الوقاية هو شارح الهداية تاج الشريعة، وأن اسمه محمود بن صدر الشريعة الأكبر، وأنه جد صدر الشريعة شارح الوقاية من قبل أبيه، والمشهور أن مصنف الوقاية جد فاسد لشارح الوقاية، وبه صرح القهستاني في جامع الرموز حيث ذكر: أن شارح الوقاية صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود بن تاج الشريعة عمر بن صدر الشريعة، وأن صاحب الوقاية برهان الشريعة محمود بن صدر الشريعة أخو تاج الشريعة، وكذا ذكره صاحب كشف الظنون.
أن الوقاية للإمام برهان الشريعة محمود بن صدر الشريعة صنفه لأجل ابن بنته صدر الشريعة والله أعلم بحقيقة الحال، وقد حققت الأمر بتصريحات الثقات في مقدمة شرحي لشرح الوقاية فلتطالع.

وأما مختصر القدوري: فهو لأبي الحسين أحمد بن محمد بن جعفر القدوري (بالضم) قال السمعاني في كتاب الأنساب: كان من أهل بغداد فقيها صدوقا انتهت إليه رياسة أصحاب مذهب أبي حنيفة، وارتفع جاهه مات في رجب سنة ثمان وعشرين وأربعمائة ببغداد انتهى.

وأما الكنز: فهو لأبي البركات حافظ الدين عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، نسبة إلى مدينة نسف من بلاد السغد في بلاد ما وراء النهر، كان إماما فاضلا عديم النظير في زمانه، فقيد المثيل في الأصول والفروع تفقه على شمس الأئمة الكردري - تلميذ صاحب الهداية - ومن تصانيفه الكنز والوافي وشرحه الكافي، والمصفى شرح المنظومة النسفية، والمستصفى شرح النافع ومنار الأصول، وشرحه كشف الأسرار ومدارك التنزيل في التفسير، وغير ذلك ومن تلامذته ابن الساعاتي صاحب مجمع البحرين، والسغناقي صاحب النهاية شرح الهداية، وغيرهما كذا في أعلام الأخيار وذكر صاحب كشف الظنون: أن وفاته كانت سنة سبع مائة وعشرة.

وأما المختار: فهو لأبي الفضل مجد الدين عبد الله بن محمود بن مودود بن محمود الموصلي، كان شيخا فقيها عارفا بالمذهب من أفراد الدهر في الفروع والأصول، حافظا لمسائل مشاهير الفتاوى، ولد بالموصل سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وحصل عند أبيه أبي الثناء محمود مباني العلوم ورحل إلى دمشق، فأخذ عن جمال الدين الحصيري، ثم رجع إلى بلاده وتولى القضاء بالكوفة، ثم عزل ورجع إلى بغداد ورتب الدرس بمشهد أبي حنيفة، ولم يزل يدرس إلى أن مات سنة ثلاث وثمانين وستمائة صنف المختار في عنفوان شبابه، ثم شرحه وسماه الاختيار كذا في أعلام الأخيار.

وأما مجمع البحرين: فهو لمظفر الدين أحمد بن علي بن ثعلب الساعاتي البعلبكي أصلا، والبغدادي منشأ وأبوه هو الذي عمل الساعات المشهورة ببغداد، واشتهر بعلم النحو والهيئة، وعمل الساعات وابنه هذا نشأ ببغداد، وبلغ رتبة الكمال وصار إمام العصر في العلوم الشرعية، كان ثقة حافظا متقنا، أقر له شيوخ زمانه بأنه فارس جواد في ميدانه، أخذ العلم عن تاج الدين علي عن ظهير الدين صاحب الفتاوى الظهيرية عن قاضيخان، وكانت وفاته سنة أربع وتسعين وستمائة كذا في أعلام الأخيار.

واعلم أنه إذا تعارض ما في المتون وما في غيرها من الشروح والفتاوى فالعبرة لما في المتون، ثم للشروح المعتبرة ثم للفتاوى إلا إذا وجد التصحيح، ونحو ذلك في ما في الشروح والفتاوى، ولم يوجد ذلك في المتون
فحينئذ يقدم ما في الطبقة الأدنى على ما في الطبقة الأعلى قال ابن عابدين في رد المحتار: صرحوا أن ما في المتون مقدم على ما في الشروح، وما في الشروح مقدم على ما في الفتاوى لكن هذا عند التصريح بتصحيح كل من القولين أو عدم التصريح أصلا، أما لو ذكرت مسألة في المتون ولم يصرحوا بتصحيحها، بل صرحوا بتصحيح مقابلها، فقد أفاد العلامة قاسم ترجيح الثاني لأنه تصحيح صريح، وما في المتون تصحيح التزامي، والتصحيح الصريح مقدم على التصحيح الالتزامي أي التزام المتون ذكر ما هو الصحيح انتهى.

واعلم أنه ينبغي للمفتي أن يجتهد في الرجوع إلى الكتب المعتمدة، ولا يعتمد على كل كتاب لا سيما الفتاوى التي هي كالصحاري، ما لم يعلم حال مؤلفه وجلالة قدره، فإن وجد مسألة في كتاب لم يوجد لها أثر في الكتب المعتمدة ينبغي أن يتصفح ذلك فيها، فإن وجد فيها وإلا لا يجترأ على الإفتاء بها، وكذا لا يجترأ على الإفتاء من الكتب المختصرة، وإن كانت معتمدة ما لم يستعن بالحواشي والشروح، فلعل اختصاره يوصله إلى الورطة الظلماء قال في رد المحتار: في شرح الأشباه لشيخنا المحقق هبة الله البعلي: قال شيخنا العلامة صالح الجينيني: إنه لا يجوز الإفتاء من الكتب المختصرة، كالنهر وشرح الكنز للعيني والدر المختار شرح تنوير الأبصار، أو لعدم الاطلاع على حال مؤلفيها، كشرح الكنز لمنلا مسكين، وشرح النقاية للقهستاني أو لنقل الأقوال الضعيفة فيها، كالقنية للزاهدي فلا يجوز الإفتاء من هذه إلا إذا علم المنقول عنه وأخذه منه هكذا سمعته منه، وهو علامة في الفقه مشهور والعهدة عليه أقول، وينبغي إلحاق الأشباه والنظائر بها، فإن فيها من الإيجاز في التعبير ما لا يفهم معناه إلا بعد الاطلاع على مأخذه، بل فيها في مواضع كثيرة الإيجاز المخل يظهر ذلك لمن مارس مطالعتها مع الحواشي، فلا يأمن المفتي من الوقوع في الغلط إذا اقتصر عليها، فلا بد له من مراجعة ما كتب عليها من الحواشي أو غيرها انتهى كلامه.

وتفصيل ذلك أن اعتبار المؤلف يكون لوجوه: فمنها إعراض أجلة العلماء وأئمة الفقهاء عن كتاب، فإنه آية واضحة على كونه غير معتبر عندهم، ومنها عدم الاطلاع على حال مؤلفه، هل كان فقيها معتمدا أم كان جامعا بين الغث والسمين (وإن عرف اسمه واشتهر رسمه) كجامع الرموز للقهستاني فإنه له، وإن تداوله الناس لكنه لما لم يعرف حاله أنزله من درجة الكتب المعتمدة إلى حيز الكتب الغير المعتبرة، قال صاحب كشف الظنون عند ذكر شراح النقاية: والمولى شمس الدين محمد الخراساني القهستاني نزيل بخارا ومرجع الفتوى بها، وجميع ما وراء النهر المتوفي سنة اثنين وستين وتسعمائة، وهو أعظم الشروح نفعا وأدقها إشارة ورمزا كثير النفع، عظيم الوقع سماه جامع الرموز فرغ من تأليفه سنة إحدى وأربعين وتسعمائة وقيل: إنه مات في حدود سنة خمسين وتسعمائة ببخارا، وقال المولى عصام الدين في حق القهستاني: إنه لم يكن من تلامذة شيخ الإسلام الهروي لا من أعاليهم ولا أدانيهم، وإنما كان دلال الكتب في زمانه، ولا كان يعرف الفقه ولا غيره بين أقرانه، ويؤيده أنه يجمع في شرحه هذا بين الغث والسمين والصحيح، والضعيف من غير تصحيح ولا تدقيق، فهو كحاطب الليل جامع بين الرطب واليابس في النيل، وهو العوارض في ذم الروافض انتهى.

ومنها: أن يكون مؤلفه قد جمع فيه الروايات الضعيفة، والمسائل الشاذة من الكتب الغير المعتبرة، وإن كان في نفسه فقيها جليلا، كالقنية فإن مؤلفه مختار بن محمود بن محمد أبو الرجاء نجم الدين الزاهدي الغزميني نسبة ! لى غزمين (بفتح الغين) قصبة من قصبات خوارزم كان من كبار الأئمة وأعيان الفقهاء، له اليد الباسطة في المذهب والباع الطويل في الكلام والمناظرة، وله التصانيف التي سارت بها الركبان، كالقنية وشرح مختصر القدوري المسمى بالمجتبى والرسالة الناصرية، وغير ذلك أخذ العلوم عن برهان الأئمة شمس الدين محمد بن عبد الكريم التركستاني عن الدهقاني الكاساني عن نجم الدين النسفي عن أبي اليسر البزدوي، وأخذ أيضا عن ناصر الدين المطرزي صاحب المغرب وعن صدر القراء يوسف بن محمد الخوازمي، وعن القاضي بديع القزيني صاحب البحر المحيط وغيرهم، ومن تصانيفه كتاب زاد الأئمة والجامع في الحيض، وكتاب في الفرائض والحاوي وغير ذلك مات سنة ثمان وخمسين وستمائة كذا في أعلام الأخيار وغيره.

وهو مع جلالته متساهل في نقل الروايات ولذا قال المولى بركلي على ما نقله صاحب كشف الظنون: القنية وإن كانت فوق الكتب الغير المعتبرة (وقد نقل عنها بعض العلماء في كتبهم) لكنها مشهورة عند العلماء بضعف الرواية، وأن صاحبها معتزلي الاعتقاد حنفي الفروع انتهى.

وقال الطحطاوي في حواشي الدر المختار في باب ما يفسد الصوم، ما في القنية من أن الكحل وجب تركه يوم عاشوراء، لا يعول عليه لأن القنية ليست من كتب المذهب المعتمدة انتهى.
وقال ابن عابدين صاحب رد المحتار في تنقيح الفتاوى الحامدية في كتاب الإجارة: الحاوي للزاهدي مشهور بنقل الروايات الضعيفة، ولذا قال ابن وهبان وغيره: إنه لا عبرة بما يقوله الزاهدي مخالفا لغيره انتهى.
وقال أيضا في موضع آخر منه: قد ذكر ابن وهبان وغيره بأنه لا عبرة لما يقوله الزاهدي إذا خالف غيره انتهى.

ومن هذا القسم: المحيط البرهاني فإن مؤلفه وإن كان فقيها جليلا معدودا في طبقة المجتهدين في المسائل (كما مر وستأتي ترجمته في الفصل الرابع) لكنهم نصوا على أنه لا يجوز الإفتاء منه لكونه مجموعا للرطب واليابس، قال زين العابدين بن نجيم المصري في رسالته المصنفة في بعض صور الوقف ردا على بعض معاصريه نقله عن المحيط البرهاني، كذب لأن المحيط البرهاني مفقود كما صرح به ابن أمير الحاج الحلبي في شرح منية المصلي، وعلى تقدير أنه ظفر به دون أهل عصره لم يجز الإفتاء منه، ولا النقل منه كما صرح في فتح القدير من كتاب القضاء انتهى.

ومن هذا القسم: السراج الوهاج شرح مختصر القدوري كما قال في كشف الظنون: عده المولى البركلي من الكتب المتداولة الضعيفة الغير المعتبرة انتهى.
مع أن مؤلفه جليل القدر وهو أبو بكر بن علي بن محمد الحدادي قال علي القاري في طبقات الحنفية: كان عالما عاملا ناسكا فاضلا زاهدا كان يقرأ في كل يوم خمسة عشر درسا، وله مصنفات كثيرة منها التفسير المسمى بكشف التنزيل، والجوهرة النيرة شرح مختصر القدوري في أربع مجلدات، والسراج الوهاج شرح مختصر القدوري في ثمانية مجلدات وغير ذلك، وسارت بمؤلفاته الركبان مات سنة ثمانمائة وله كرامات كثيرة انتهى.

ومن الكتب الغير المعتبرة: مشتمل الأحكام لفخر الدين الرومي ألفه للسلطان محمد الفاتح قال صاحب كشف الظنون: عده المولى بركلي من جملة الكتب المتداولة الواهية انتهى.
وكذا: كنز العباد فإنه مملوء من المسائل الواهية، والأحاديث الموضوعة لا عبرة له لا عند الفقهاء ولا عند المحدثين، قال علي القاري في طبقات الحنفية: علي بن أحمد الغوري له كتاب جمع فيه مكروهات المذهب سماه مفيد المستفيد، وله كنز العباد في شرح الأوراد قال العلامة جمال الدين المرشدي: فيه أحاديث سمجة موضوعة لا يحل سماعها انتهى.
وكذا: مطالب المؤمنين نسبة ابن عابدين في تنقيح الفتاوى الحامدية إلى الشيخ بدر الدين بن تاج بن عبد الرحيم اللاهوري، وخزانة الروايات نسبه صاحب كشف الظنون إلى القاضي جكن الحنفي الهندي الساكن بقصبة كن من الكجرات، وشرعة الإسلام لمحمد بن أبي بكر الجوغي، نسبة إلى جوغ قرية من قرى سمرقند الشهير بركن الإسلام إمام زاده المتوفي سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، فإن هذه الكتب مملؤة من الرطب واليابس مع ما فيها من الأحاديث المخترعة والأخبار المختلفة.
وكذا: الفتاوى الصوفية لفضل الله محمد بن أيوب المنتسب إلى ماجو تلميذ صاحب جامع المضمرات شرح القدوري يوسف بن عمر الصوفي قال صاحب كشف الظنون: قال المولى البركلي: الفتاوى الصوفية ليست من الكتب المعتبرة، فلا يجوز العمل بما فيها إلا إذا علم موافقتها للأصول انتهى.
وكذا: فتاوى الطوري وفتاوى ابن نجيم كما ذكره صاحب رد المحتار وغيره.

والحكم في هذه الكتب الغير المعتبرة، أن لا يؤخذ منها ما كان مخالفا لكتب الطبقة الأعلى، ويتوقف في ما وجد فيها ولم يوجد في غيرها ما لم يدخل ذلك في أصل شرعي.
وأما الكتب المختصرة بالاختصار المخل، فلا يفتى منها إلا بعد نظر غائر وفكر دائر، وليس ذلك لعدم اعتبارها، بل لأن اختصاره يوقع المفتي في الغلط كثيرا كما مر الإشارة إليه.

واعلم أنه ليس تفاوت المصنفات في الدرجات إلا بحسب تفاوت درجات مؤلفيها، أو تفاوت ما فيها لا بحسب التأخر الزماني والتقدم الزماني، فليس أن تصنيف كل متأخر أدنى من تصنيف المتقدم، بل قد يكون تصنيف المتأخر أعلى درجة من تصنيف المتقدم بحسب تفوقه عليه في الصفات الجليلة، كما لا يخفى على من نظر بعين البصيرة، ولذا قال الدماميني في شرح التسهيل: قال المبرد: ليس لقدم العهد يفضل القائل، ولا لحداثته يهضم المصيب، ولكن يعطى كل ما يستحق، وكثير من الناس من تحرى هذه البلية الشنعاء، فتراهم إذا سمعوا شيئا من النكت الحسنة غير معزو إلى معين استحسنوه بناء على أنه للمتقدمين، فإذا علموا أنه لبعض أبناء عصرهم نكصوا على الأعقاب واستقبحوه، أو ادعوا أن صدور ذلك عن عصري مستبعد، وما الحامل لذلك إلا حسد ذميم انتهى.
ويعجبني في هذا قول خير الدين الرملي أستاذ صاحب الدر المختار:
قل لمن لم ير المعاصــر شيئا ... ويـــــــــــــرى للأوائــــــــــــــل التقديما
إنَّ ذاك القديمَ كان حديـــــــثا ... وسيبقى هذا الحديثُ قديمـــــا
تتمة: كل ما ذكرنا من ترتيب المصنفات إنما هو بحسب المسائل الفقهية، وأما بحسب ما فيها من الأحاديث النبوية فلا، فكم من كتاب معتمد اعتمد عليه أجلة الفقهاء مملوء من الأحاديث الموضوعة، ولا سيما الفتاوى فقد وضح لنا بتوسيع النظر أن أصحابهم، وإن كانوا من الكاملين لكنهم في نقل الأخبار من المتساهلين، وهذا هو الذي فتح فم الطاعنين فزعموا أن مسائل الحنفية مستندة إلى الأحاديث الواهية والموضوعة، وأن أكثرها مخالفة للأخبار المثبتة في كتب أئمة الدين، وهذا ظن فاسد ووهم كاسد.
[النافع الكبير:1/7-31]


رد مع اقتباس