عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 16 جمادى الآخرة 1435هـ/16-04-2014م, 12:12 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى: {ومن أحسن دينًا ممّن أسلم وجهه للّه} أخلص العمل لربّه، عزّ وجلّ، فعمل إيمانًا واحتسابًا {وهو محسنٌ} أي: اتّبع في عمله ما شرعه اللّه له، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحقّ، وهذان الشّرطان لا يصحّ عمل عاملٍ بدونهما، أي: يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون للّه، والصّواب أن يكون متّبعًا للشّريعة فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص، فمن فقد العمل أحد هذين الشّرطين فسد. فمن فقد الإخلاص كان منافقًا، وهم الذين يراءون النّاس، ومن فقد المتابعة كان ضالًّا جاهلًا. ومتى جمعهما فهو عمل المؤمنين: {الّذين نتقبّل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيّئاتهم [في أصحاب الجنّة وعد الصّدق الّذي كانوا يوعدون]} [الأحقاف: 16]؛ ولهذا قال تعالى: {واتّبع ملّة إبراهيم حنيفًا} وهم محمّدٌ وأتباعه إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: {إنّ أولى النّاس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا النّبيّ [والّذين آمنوا واللّه وليّ المؤمنين]} [آل عمران: 68] وقال تعالى: {[قل إنّني هداني ربّي إلى صراطٍ مستقيمٍ دينًا قيمًا ملّة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين]} [الأنعام: 161] و {ثمّ أوحينا إليك أن اتّبع ملّة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين} [النّحل: 123] والحنيف: هو المائل عن الشّرك قصدًا، أي تاركًا له عن بصيرةٍ، ومقبلٌ على الحقّ بكلّيّته، لا يصدّه عنه صادٌّ، ولا يردّه عنه رادٌّ.
وقوله: {واتّخذ اللّه إبراهيم خليلا} وهذا من باب التّرغيب في اتّباعه؛ لأنّه إمامٌ يقتدى به، حيث وصل إلى غاية ما يتقرّب به العباد له، فإنّه انتهى إلى درجة الخلّة الّتي هي أرفع مقامات المحبّة، وما ذاك إلّا لكثرة طاعته لربّه، كما وصفه به في قوله: {وإبراهيم الّذي وفّى} [النّجم: 37] قال كثيرون من السّلف: أي قام بجميع ما أمر به ووفّى كلّ مقامٍ من مقامات العبادة، فكان لا يشغله أمرٌ جليلٌ عن حقيرٍ، ولا كبيرٌ عن صغيرٍ. وقال تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ فأتمّهنّ [قال إنّي جاعلك للنّاس إمامًا]} الآية [البقرة: 124]. وقال تعالى: {إنّ إبراهيم كان أمّةً قانتًا للّه حنيفًا ولم يك من المشركين [شاكرًا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراطٍ مستقيمٍ. وآتيناه في الدّنيا حسنةً وإنّه في الآخرة لمن الصّالحين]} [النّحل: 120-122].
وقال البخاريّ: حدّثنا سليمان بن حربٍ، حدّثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابتٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن عمرو بن ميمونٍ قال: إنّ معاذًا لمّا قدم اليمن صلّى الصّبح بهم: فقرأ: {واتّخذ اللّه إبراهيم خليلا} فقال رجلٌ من القوم: لقد قرّت عين أمّ إبراهيم.
وقد ذكر ابن جريرٍ في تفسيره، عن بعضهم أنّه إنّما سمّاه اللّه خليلًا من أجل أنّه أصاب أهل ناحيته جدب، فارتحل إلى خليلٍ له من أهل الموصل -وقال بعضهم: من أهل مصر -ليمتار طعامًا لأهله من قبله، فلم يصب عنده حاجته. فلمّا قرب من أهله مرّ بمفازةٍ ذات رملٍ، فقال: لو ملأت غرائري من هذا الرّمل، لئلّا أغمّ أهلي برجوعي إليهم بغير ميرةٍ، وليظنّوا أنّي أتيتهم بما يحبّون. ففعل ذلك، فتحوّل ما في غرائره من الرّمل دقيقًا، فلمّا صار إلى منزله نام وقام أهله ففتحوا الغرائر، فوجدوا دقيقًا فعجنوا وخبزوا منه فاستيقظ، فسألهم عن الدّقيق الّذي منه خبزوا، فقالوا: من الدّقيق الّذي جئت به من عند خليلك فقال: نعم، هو من خليلي اللّه. فسمّاه اللّه بذلك خليلًا.
وفي صحّة هذا ووقوعه نظرٌ، وغايته أن يكون خبرًا إسرائيليًّا لا يصدّق ولا يكذّب، وإنّما سمّي خليل اللّه لشدّة محبّة ربّه، عزّ وجلّ، له، لما قام له من الطّاعة الّتي يحبّها ويرضاها؛ ولهذا ثبت في الصّحيحين، من حديث أبي سعيدٍ الخدريّ: أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم لمّا خطبهم في آخر خطبةٍ خطبها قال: "أمّا بعد، أيّها النّاس، فلو كنت متّخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتّخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلًا ولكنّ صاحبكم خليل اللّه".
وجاء من طريق جندب بن عبد اللّه البجلي، وعبد اللّه بن عمرو بن العاص، وعبد اللّه بن مسعودٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "إن اللّه اتّخذني خليلًا كما اتّخذ إبراهيم خليلًا".
وقال أبو بكر بن مردويه: حدّثنا عبد الرّحيم بن محمّد بن مسلمٍ، حدّثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد، حدّثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني بمكّة، حدّثنا عبيد اللّه الحنفي، حدّثنا زمعة بن صالحٍ، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: جلس ناسٌ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ينتظرونه، فخرج حتّى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، وإذا بعضهم يقول: عجبًا إن اللّه اتّخذ من خلقه خليلًا فإبراهيم خليله! وقال آخر: ماذا بأعجب من أنّ اللّه كلّم موسى تكليمًا! وقال آخر: فعيسى روح اللّه وكلمته! وقال آخر: آدم اصطفاه اللّه! فخرج عليهم فسلّم وقال: "قد سمعت كلامكم وتعجّبكم أنّ إبراهيم خليل اللّه، وهو كذلك، وموسى كليمه، وعيسى روحه وكلمته، وآدم اصطفاه اللّه، وهو كذلك ألا وإنّي حبيب اللّه ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل شافعٍ، وأوّل مشفع ولا فخر، وأنا أوّل من يحرّك حلق الجنّة، فيفتح اللّه فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأوّلين والآخرين يوم القيامة ولا فخر".
وهذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه، ولبعضه شواهد في الصّحاح وغيرها.
وقال قتادة، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: أتعجبون من أن تكون الخلّة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرّؤية لمحمّدٍ، صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين.
رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيحٌ على شرط البخاريّ، ولم يخرجاه. وكذا روي عن أنس بن مالكٍ، وغير واحدٍ من الصّحابة والتّابعين، والأئمّة من السّلف والخلف.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا يحيى بن عبدك القزوينيّ، حدّثنا محمّدٌ -يعني ابن سعيد بن سابق - حدّثنا عمرٌو -يعني ابن أبي قيسٍ -عن عاصمٍ، عن أبي راشدٍ، عن عبيد بن عمير قال: كان إبراهيم عليه السّلام يضيف النّاس، فخرج يومًا يلتمس إنسانًا يضيفه، فلم يجد أحدًا يضيفه، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلًا قائمًا، فقال: يا عبد اللّه، ما أدخلك داري بغير إذني؟ قال: دخلتها بإذن ربّها. قال: ومن أنت؟ قال: أنا ملك الموت، أرسلني ربّي إلى عبدٍ من عباده أبشّره أنّ اللّه قد اتّخذه خليلًا. قال: من هو؟ فواللّه إن أخبرتني به ثمّ كان بأقصى البلاد لآتينّه ثمّ لا أبرح له جارًا حتّى يفرّق بيننا الموت. قال: ذلك العبد أنت. قال: أنا؟ قال: نعم. قال: فيم اتّخذني اللّه خليلًا؟ قال: إنّك تعطي النّاس ولا تسألهم.
وحدّثنا أبي، حدّثنا محمود بن خالدٍ السّلميّ، حدّثنا الوليد، عن إسحاق بن يسارٍ قال: لمّا اتّخذ اللّه إبراهيم خليلًا ألقى في قلبه الوجل، حتّى إن كان خفقان قلبه ليسمع من بعيدٍ كما يسمع خفقان الطّير في الهواء. وهكذا جاء في صفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أنّه كان يسمع لصدره أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء). [تفسير القرآن العظيم: 2/422-424]

تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ولله ما في السّموات وما في الأرض} أي: الجميع ملكه وعبيده وخلقه، وهو المتصرّف في جميع ذلك، لا رادّ لما قضى، ولا معقّب لما حكم، ولا يسأل عمّا يفعل، لعظمته وقدرته وعدله وحكمته ولطفه ورحمته.
وقوله: {وكان اللّه بكلّ شيءٍ محيطًا} أي: علمه نافذٌ في جميع ذلك، لا تخفى عليه خافيةٌ من عباده، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرّةٍ في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ولا تخفى عليه ذرّةٌ لما تراءى للنّاظرين وما توارى). [تفسير القرآن العظيم: 2/424]

رد مع اقتباس