عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 29 محرم 1440هـ/9-10-2018م, 08:32 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا أيّها النّبيّ قل لأزواجك إن كنتنّ تردن الحياة الدّنيا وزينتها فتعالين أمتّعكنّ وأسرّحكنّ سراحًا جميلا (28) وإن كنتنّ تردن اللّه ورسوله والدّار الآخرة فإنّ اللّه أعدّ للمحسنات منكنّ أجرًا عظيمًا (29)}.
هذا أمرٌ من اللّه لرسوله، صلوات اللّه وسلامه عليه، بأن يخيّر نساءه بين أن يفارقهنّ، فيذهبن إلى غيره ممّن يحصل لهنّ عنده الحياة الدّنيا وزينتها، وبين الصّبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهنّ عند اللّه في ذلك الثّواب الجزيل، فاخترن، رضي اللّه عنهنّ وأرضاهنّ، اللّه ورسوله والدّار الآخرة، فجمع اللّه لهنّ بعد ذلك بين خير الدّنيا وسعادة الآخرة.
قال البخاريّ: حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيبٌ، عن الزّهريّ، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرّحمن، أنّ عائشة، رضي اللّه عنها، زوج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره اللّه أن يخيّر أزواجه، فبدأ بي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "إنّي ذاكرٌ لك أمرًا، فلا عليك أن لا تستعجلي حتّى تستأمري أبويك"، وقد علم أنّ أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه. قالت: ثمّ قال: "وإنّ اللّه قال: {يا أيّها النّبيّ قل لأزواجك} إلى تمام الآيتين، فقلت له: ففي أيّ هذا أستأمر أبويّ؟ فإنّي أريد اللّه ورسوله والدّار الآخرة.
وكذا رواه معلّقًا عن اللّيث: حدّثني يونس، عن الزّهريّ، عن أبي سلمة، عن عائشة، فذكره وزاد: قالت: ثمّ فعل أزواج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مثل ما فعلت.
وقد حكى البخاريّ أنّ معمرًا اضطرب، فتارةً رواه عن الزّهريّ، عن أبي سلمة، وتارةً رواه عن الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا أحمد بن عبدة الضّبّي، حدّثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه قال: قالت عائشة: لمّا نزل الخيار قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّي أريد أن أذكر لك أمرًا، فلا تقضي فيه شيئًا حتّى تستأمري أبويك". قالت: قلت: وما هو يا رسول اللّه؟ قال: فردّه عليها. فقالت: فما هو يا رسول اللّه؟ قالت: فقرأ عليها: {يا أيّها النّبيّ قل لأزواجك إن كنتنّ تردن الحياة الدّنيا وزينتها} إلى آخر الآية. قالت: فقلت: بل نختار اللّه ورسوله والدّار الآخرة. قالت: ففرح بذلك النّبيّ صلّى الله عليه وسلم
وحدّثنا ابن وكيع، حدّثنا محمّد بن بشرٍ، عن محمّد بن عمرٍو، عن أبي سلمة، عن عائشة، رضي اللّه عنها، قالت: لمّا نزلت آية التّخيير، بدأ بي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: "يا عائشة، إني عارض عليك أمرًا، فلا تفتياني فيه [بشيءٍ] حتّى تعرضيه على أبويك أبي بكرٍ وأمّ رومان". فقلت: يا رسول اللّه، وما هو؟ قال: "قال اللّه عزّ وجلّ: {يا أيّها النّبيّ قل لأزواجك إن كنتنّ تردن الحياة الدّنيا وزينتها فتعالين أمتّعكنّ وأسرّحكنّ سراحًا جميلا. وإن كنتنّ تردن اللّه ورسوله والدّار الآخرة فإنّ اللّه أعدّ للمحسنات منكنّ أجرًا عظيمًا}.قالت: فإنّي أريد اللّه ورسوله والدّار الآخرة، ولا أؤامر في ذلك أبويّ أبا بكرٍ وأمّ رومان، فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ثمّ استقرأ الحجر فقال: "إنّ عائشة قالت كذا وكذا". فقلن: ونحن نقول مثل ما قالت عائشة، رضي اللّه عنهنّ كلّهنّ.
ورواه ابن أبي حاتمٍ، عن أبي سعيدٍ الأشجّ، عن أبي أسامة، عن محمّد بن عمرٍو، به.
قال ابن جريرٍ: وحدّثنا سعيد بن يحيى الأمويّ، حدّثنا أبي، عن محمّد بن إسحاق، عن عبد اللّه بن أبي بكرٍ، عن عمرة، عن عائشة؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا نزل إلى نسائه أمر أن يخيّرهنّ، فدخل عليّ فقال: "سأذكر لك أمرًا فلا تعجلي حتّى تستشيري أباك". فقلت: وما هو يا نبيّ اللّه؟ قال: "إنّي أمرت أن أخيّركنّ"، وتلا عليها آية التّخيير، إلى آخر الآيتين. قالت: فقلت: وما الّذي تقول لا تعجلي حتّى تستشيري أباك؟ فإنّي اختار اللّه ورسوله، فسرّ بذلك، وعرض على نسائه فتتابعن كلّهن، فاخترن اللّه ورسوله.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا يزيد بن سنانٍ البصريّ، حدّثنا أبو صالحٍ عبد اللّه بن صالحٍ، حدّثني اللّيث، حدّثني عقيل، عن الزّهريّ، أخبرني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن أبي ثور، عن ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما، قال: قالت عائشة، رضي اللّه عنها: أنزلت آية التّخيير فبدأ بي أوّل امرأةٍ من نسائه، فقال: "إنّي ذاكرٌ لك أمرًا، فلا عليك ألّا تعجلي حتّى تستأمري أبويك". قالت: قد علم أنّ أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه. قالت: ثمّ قال: "إنّ اللّه قال: {يا أيّها النّبيّ قل لأزواجك} الآيتين. قالت عائشة: فقلت: أفي هذا أستأمر أبويّ؟ فإنّي أريد اللّه ورسوله والدّار الآخرة. ثمّ خيّر نساءه كلّهنّ، فقلن مثل ما قالت عائشة، رضي اللّه عنهنّ.
وأخرجه البخاريّ ومسلمٌ جميعًا، عن قتيبة، عن اللّيث، عن الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة مثله.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن مسلم بن صبيح، عن مسروقٍ، عن عائشة قالت: خيّرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فاخترناه، فلم يعدّها علينا شيئًا. أخرجاه من حديث الأعمش
وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو عامرٍ عبد الملك بن عمرٍو، حدّثنا زكريّا بن إسحاق، عن أبي الزّبير، عن جابرٍ قال: أقبل أبو بكرٍ، رضي اللّه عنه، يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوسٌ، والنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم جالسٌ: فلم يؤذن له. ثمّ أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له. ثمّ أذن لأبي بكرٍ وعمر فدخلا والنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم جالسٌ وحوله نساؤه، وهو ساكتٌ، فقال عمر: لأكلّمنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لعلّه يضحك، فقال عمر: يا رسول اللّه، لو رأيت ابنة زيدٍ -امرأة عمر -سألتني النّفقة آنفًا، فوجأت عنقها. فضحك النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى بدا ناجذه وقال: "هنّ حولي يسألنني النّفقة". فقام أبو بكرٍ، رضي اللّه عنه، إلى عائشة ليضربها، وقام عمر، رضي اللّه عنه، إلى حفصة، كلاهما يقولان: تسألان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ما ليس عنده. فنهاهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلن نساؤه: واللّه لا نسأل رسول اللّه بعد هذا المجلس ما ليس عنده. قال: وأنزل اللّه، عزّ وجلّ، الخيار، فبدأ بعائشة فقال: "إنّي أذكر لك أمرًا ما أحبّ أن تعجلي فيه حتّى تستأمري أبويك". قالت: وما هو؟ قال: فتلا عليها: {يا أيّها النّبيّ قل لأزواجك} الآية، قالت عائشة، رضي اللّه عنها: أفيك أستأمر أبويّ؟ بل أختار اللّه ورسوله، وأسألك ألّا تذكر لامرأةٍ من نسائك ما اخترت. فقال: "إنّ اللّه تعالى لم يبعثني معنّفًا، ولكن بعثني معلّمًا ميسّرًا، لا تسألني امرأةٌ منهنّ عمّا اخترت إلّا أخبرتها".
انفرد بإخراجه مسلمٌ دون البخاريّ، فرواه هو والنّسائيّ، من حديث زكريّا بن إسحاق المكّيّ، به.
وقال عبد اللّه بن الإمام أحمد: حدّثنا سريج بن يونس، حدّثنا عليّ بن هاشم بن البريد، عن محمّد بن عبيد [اللّه بن عليّ] بن أبي رافعٍ، عن عثمان بن عليّ بن الحسين، عن أبيه، عن عليٍّ، رضي اللّه عنه: أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم خيّر نساءه الدّنيا والآخرة، ولم يخيّرهنّ الطّلاق.
وهذا منقطعٌ، وقد روي عن الحسن وقتادة وغيرهما نحو ذلك. وهو خلاف الظّاهر من الآية، فإنّه قال: {فتعالين أمتّعكنّ وأسرّحكنّ سراحًا جميلا} أي: أعطيكن حقوقكنّ وأطلق سراحكنّ.
وقد اختلف العلماء في جواز تزويج غيره لهنّ لو طلّقهنّ، على قولين، وأصحّهما نعم لو وقع، ليحصل المقصود من السّراح، واللّه أعلم.
قال عكرمة: وكان تحته يومئذٍ تسع نسوةٍ، خمسٌ من قريشٍ: عائشة، وحفصة، وأمّ حبيبة، وسودة، وأمّ سلمة، وكانت تحته صلّى اللّه عليه وسلّم صفيّة بنت حييّ النّضريّة، وميمونة بنت الحارث الهلاليّة، وزينب بنت جحشٍ الأسديّة، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة، رضي اللّه عنهنّ وأرضاهنّ.
[ولم يتزوّج واحدةً منهنّ، إلّا بعد أن توفّيت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ بن كلابٍ، تزوّجها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بمكّة، وهو ابن خمسٍ وعشرين سنةً، وبقيت معه إلى أن أكرمه اللّه برسالته فآمنت به ونصرته، وكانت له وزير صدقٍ، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، رضي اللّه عنها، في الأصحّ، ولها خصائص منها: أنّه لم يتزوّج عليها غيرها، ومنها أنّ أولاده كلّهم منها، إلّا إبراهيم، فإنّه من سرّيّته مارية، ومنها أنّها خير نساء الأمة.
واختلف في تفضيلها على عائشة على ثلاثة أقوالٍ، ثالثها الوقف.
وسئل شيخنا أبو العبّاس بن تيميّة عنهما فقال: اختصّت كلّ واحدةٍ منهما بخاصّيّةٍ، فخديجة كان تأثيرها في أوّل الإسلام، وكانت تسلّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وتثبّته، وتسكّنه، وتبذل دونه مالها، فأدركت غرة الإسلام، واحتملت الأذى في اللّه وفي رسوله وكان نصرتها للرّسول في أعظم أوقات الحاجة، فلها من النّصرة والبذل ما ليس لغيرها. وعائشة تأثيرها في آخر الإسلام، فلها من التّفقّه في الدّين وتبليغه إلى الأمّة، وانتفاع بنيها بما أدّت إليهم من العلم، ما ليس لغيرها. هذا معنى كلامه، رضي اللّه عنه.
ومن خصائصها: أنّ اللّه، سبحانه، بعث إليها السّلام مع جبريل، فبلّغها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك. روى البخاريّ في صحيحه عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال: أتى جبريل، عليه السّلام، النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللّه، هذه خديجة، قد أتت معها إناءٌ فيه إدامٌ أو طعامٌ أو شراب، فإذا هي أتتك فأقرأها السّلام من ربّها ومنّي، وبشّرها ببيتٍ في الجنّة، من قصب، لا صخب فيه ولا نصب وهذه لعمر اللّه خاصّةٌ، لم تكن لسواها. وأمّا عائشة، رضي اللّه عنها، فإنّ جبريل سلّم عليها على لسان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فروى البخاريّ بإسناده أنّ عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يومًا: "يا عائشة، هذا جبريل يقرئك السّلام". فقلت: وعليه السّلام ورحمة اللّه وبركاته، ترى ما لا أرى، تريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. ومن خواصّ خديجة، رضي الله عنها: أنه لم تسوءه قطّ، ولم تغاضبه، ولم ينلها منه إيلاءٌ، ولا عتبٌ قطّ، ولا هجرٌ، وكفى بهذه منقبةٌ وفضيلةٌ.
ومن خواصّها: أنّها أوّل امرأةٍ آمنت باللّه ورسوله من هذه الأمّة.
فصلٌ:
فلمّا توفّاها اللّه تزوّج بعدها سودة بنت زمعة، رضي اللّه عنها، وهي سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك بن جبل بن عامر بن لؤيٍّ، وكبرت عنده، وأراد طلاقها فوهبت يومها لعائشة، فأمسكها. وهذا من خواصّها: أنّها آثرت بيومها حبّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم تقرّبًا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وحبًّا له، وإيثارًا لمقامها معه، فكان يقسم لعائشة يومها ويوم سودة، ويقسم لنسائه، ولا يقسم لها وهي راضيةٌ بذلك مؤثرةٌ، لترضي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وتزوّج الصّدّيقة بنت الصّدّيق عائشة بنت أبي بكرٍ، رضي اللّه عنهما، وهي بنت ستّ سنين قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاثٍ، وبنى بها بالمدينة أوّل مقدمه في السّنة الأولى، وهي بنت تسعٍ، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة، وتوفّيت بالمدينة، ودفنت بالبقيع، وأوصت أن يصلّي عليها أبو هريرة سنة ثمانٍ وخمسين، ومن خصائصها: أنّها كانت أحبّ أزواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إليه، كما ثبت ذلك عنه في البخاريّ وغيره، أنّه سئل أيّ النّاس أحبّ إليك؟ قال: "عائشة". قيل: فمن الرّجال؟ قال: "أبوها".
ومن خصائصها أيضًا: أنّه لم يتزوّج بكرًا غيرها، ومن خصائصها: أنّه كان ينزل عليه الوحي وهو في لحافها دون غيرها.
ومن خصائصها: أنّ اللّه، عزّ وجلّ، لمّا أنزل عليه آية التّخيير بدأ بها فخيّرها، فقال: "ولا عليك ألّا تعجلي حتّى تستأمري أبويك". فقالت: أفي هذا أستأمر أبويّ، فإنّي أريد اللّه ورسوله والدّار الآخرة. فاستنّ بها بقيّة أزواجه صلّى اللّه عليه وسلّم، وقلن كما قالت.
ومن خصائصها: أنّ اللّه، سبحانه، برّأها ممّا رماها به أهل الإفك، وأنزل في عذرها، وبراءتها، وحيًا يتلى في محاريب المسلمين، وصلواتهم إلى يوم القيامة، وشهد لها أنّها من الطّيّبات، ووعدها المغفرة والرّزق الكريم، وأخبر سبحانه، أنّ ما قيل فيها من الإفك كان خيرًا لها، ولم يكن بذلك الّذي قيل فيها شرٌّ لها، ولا عيبٌ لها، ولا خافضٌ من شأنها، بل رفعها اللّه بذلك، وأعلى قدرها وعظّم شأنها، وأصار لها ذكرًا بالطّيب والبراءة بين أهل الأرض والسّماء، فيا لها من منقبةٍ ما أجلّها. وتأمّل هذا التّشريف والإكرام النّاشئ عن فرط تواضعها واستصغارها لنفسها، حيث قالت: ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلّم اللّه فيّ بوحيٍ يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رؤيا يبرّئني اللّه بها، فهذه صّدّيقة الأمّة، وأمّ المؤمنين، وحبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وهي تعلم أنّها بريئةٌ مظلومةٌ، وأنّ قاذفيها ظالمون مفترون عليها، قد بلغ أذاهم إلى أبويها، وإلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وهذا كان احتقارها لنفسها وتصغيرها لشأنها، فما ظنّك بمن قد صام يومًا أو يومين، أو شهرًا أو شهرين، قد قام ليلةً أو ليلتين، فظهر عليه شيءٌ من الأحوال، ولاحظوا أنفسهم بعين استحقاق الكرامات، وأنّهم ممّن يتبرّك بلقائهم، ويغتنم بصالح دعائهم، وأنّهم يجب على النّاس احترامهم وتعظيمهم وتعزيزهم وتوقيرهم، فيتمسّح بأثوابهم، ويقبّل ثرى أعتابهم، وأنّهم من اللّه بالمكانة الّتي تنتقم لهم لأجلها من تنقّصهم في الحال، وأن يؤخذ من أساء الأدب عليهم من غير إمهالٍ، وإنّ إساءة الأدب عليهم ذنبٌ لا يكفّره شيءٌ إلّا رضاهم.
ولو كان هذا من وراء كفايةٍ لهان، ولكنّ من وراء تخلّفٍ، وهذه الحماقات والرّعونات نتاج الجهل الصّميم، والعقل غير المستقيم، فإنّ ذلك إنّما يصدر من جاهلٍ معجبٍ بنفسه، غافلٍ عن جرمه وعيوبه وذنوبه، مغترٍّ بإمهال اللّه له عن أخذه بما هو فيه من الكبر والازدراء على من لعلّه عند اللّه خيرٌ منه. نسأل اللّه العافية في الدّنيا والآخرة. وينبغي للعبد أن يستعيذ باللّه أن يكون عند نفسه عظيمًا، وهو عند اللّه حقيرٌ، ومن خصائص عائشة، رضي اللّه عنها: أنّ الأكابر من الصّحابة، رضي اللّه عنهم، كان إذا أشكل الأمر عليهم من الدّين، استفتوها فيجدون علمه عندها.
ومن خصائصها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفّي في بيتها. ومن خصائصها: أنّ الملك أرى صورتها للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قبل أن يتزوّجها في خرقة حريرٍ، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ يكن هذا من عند اللّه يمضه". ومن خصائصها: أنّ النّاس كانوا يتحرّون هداياهم يومها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تقرّبًا إلى الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم، فيتحفونه بما يحبّ في منزل أحبّ نسائه إليه، رضي اللّه عنهم أجمعين، وتكنّى أمّ عبد اللّه، وروي أنّها أسقطت من النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم سقطًا، ولا يثبت ذلك.
وتزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حفصة بنت عمر بن الخطّاب، وكانت قبله عند حبيش بن حذافة، وكان من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وممّن شهد بدرًا، توفّيت سنة سبعٍ، وقيل: ثمانٍ وعشرين، ومن خواصّها: ما ذكره الحافظ أبو محمّدٍ المقدسيّ في مختصره في السّيرة: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم طلّقها، فأتاه جبريل فقال: إنّ اللّه يأمرك أن تراجع حفصة، فإنّها صوّامةٌ قوّامةٌ وإنّها زوجتك في الجنّة.
وقال الطّبرانيّ في المعجم الكبير: حدّثنا أحمد بن طاهر بن حرملة بن يحيى، حدّثنا جدّي حرملة، حدّثنا ابن وهبٍ، حدّثنا عمرو بن صالحٍ الحضرميّ، عن موسى بن عليّ بن رباحٍ، عن أبيه، عن عقبة بن عامرٍ، أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم طلّق حفصة، فبلغ ذلك عمر بن الخطّاب، فوضع التّراب على رأسه، وقال: ما يعبأ اللّه بابن الخطّاب بعد هذا. فنزل جبريل، عليه السّلام، على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: إنّ اللّه يأمرك أن تراجع حفصة رحمةً لعمر.
وتزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمّ حبيبة بنت أبي سفيان، واسمها رملة بنت صخر بن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد منافٍ، هاجرت مع زوجها عبد اللّه بن جحشٍ إلى أرض الحبشة، فتنصّر بالحبشة، وأتمّ اللّه لها الإسلام، وتزوّجها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهي بأرض الحبشة، وأصدقها عند النّجاشيّ أربعمائة دينارٍ، وبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عمرو بن أميّة الضّمريّ بها إلى أرض الحبشة، وولّى نكاحها عثمان بن عفّان، وقيل: خالد بن سعيد بن العاص، وهي الّتي أكرمت فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إن يجلس عليه أبوها لمّا قدم أبو سفيان المدينة، وقالت له: إنّك مشركٌ، ومنعته الجلوس عليه.
وتزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمّ سلمة واسمها هند بنت أبي أمّيّة بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالبٍ، وكانت قبله عند أبي سلمة بن عبد الأسد، توفّيت سنة اثنتين وستّين، ودفنت بالبقيع، وهي آخر أزواج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم موتًا، وقيل: بل ميمونة، ومن خصائصها: أنّ جبريل دخل على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وهي عنده فرأته في صورة دحية الكلبيّ. ففي صحيح مسلمٍ عن أبي عثمان قال: أنبئت أنّ جبريل أتى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وعنده أمّ سلمة، فقال: فجعل يتحدّث، ثمّ قام فقال نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأمّ سلمة: "من هذا؟ " أو كما قال. قالت: هذا دحية الكلبيّ. قالت: وايم اللّه، ما حسبته إلّا إيّاه، حتّى سمعت خطبة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، يخبر أنّه جبريل، أو كما قال، قال سليمان التّيميّ: فقلت لأبي عثمان: ممّن سمعت هذا الحديث؟ قال: من أسامة بن زيدٍ وزوّجها ابنها-عمر-من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وردّت طائفةٌ ذلك بأنّ ابنها لم يكن له من السّنّ حينئذٍ ما يعقد التّزويج، وردّ الإمام أحمد ذلك، وأنكر على من قاله، ويدلّ على صحّة قول أحمد ما رواه مسلمٌ في صحيحه أنّ عمر بن أبي سلمة-ابنها-سأل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن القبلة للصّائم؟ فقال: "سل هذه" يعني: أمّ سلمة فأخبرته أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يفعله، فقال: لسنا كرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، يحلّ اللّه لرسوله ما شاء. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّي أتقاكم للّه وأعلمكم به" أو كما قال. ومثل هذا لا يقال لصغيرٍ جدًّا، وعمر ولد بأرض الحبشة قبل الهجرة. وقال البيهقيّ: وقول من زعم أنه كان صغيرا، دعوى ولم يثبت صغره بإسنادٍ صحيحٍ.
وتزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم زينب بنت جحشٍ من بني خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وهي بنت عمّته أميمة بنت عبد المطّلب، وكانت قبل عند مولاه زيد بن حارثة، فطلّقها فزوّجه اللّه إياها من فوق سبع سموات، وأنزل عليه: {فلمّا قضى زيدٌ منها وطرًا زوّجناكها} فقام فدخل عليها بلا استئذانٍ، وكانت تفخر بذلك على سائر أزواج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وتقول: زوّجكن أهاليكنّ وزوّجني الله من فوق سبع سمواته، وهذا من خصائصها. توفّيت بالمدينة سنة عشرين، ودفنت بالبقيع.
وتزوّج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم زينب بنت خزيمة الهلاليّة، وكانت تحت عبد اللّه بن جحشٍ، تزوّجها سنة ثلاثٍ من الهجرة، وكانت تسمّى أمّ المساكين، ولم تلبث عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلّا يسيرًا، شهرين أو ثلاثةً، وتوفّيت، رضي اللّه عنها.
وتزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق، وكانت سبيت في غزوة بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيسٍ، فكاتبها، فقضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كتابتها، وتزوّجها سنة ستٍّ من الهجرة، وتوفّيت سنة ستٍّ وخمسين، وهي الّتي أعتق المسلمون بسببها مائة أهل بيتٍ من الرّقيق، وقالوا: أصهار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وكان ذلك من بركتها على قومها.
وتزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صفيّة بنت حييٍّ، من ولد هارون بن عمران أخي موسى، سنة سبعٍ، فإنّها سبيت من خيبر، وكانت قبله تحت كنانة بن أبي الحقيق، فقتله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، توفّيت سنة ستٍّ وثلاثين، وقيل: سنة خمسين. ومن خصائصها: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أعتقها وجعل عتقها صداقها. قال أنسٌ: أمهرها نفسها، وصار ذلك سنّةً للأمة إلى يوم القيامة، ويجوز للرّجل أن يجعل عتق جاريته صداقها، وتصير زوجته على منصوص الإمام أحمد، رحمه اللّه. قال التّرمذيّ: حدّثنا إسحاق بن منصورٍ، وعبد بن حميدٍ، قالا حدّثنا عبد الرّزّاق، حدّثنا معمرٌ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ قال: بلغ صفيّة أنّ حفصة قالت: صفيّة بنت يهوديٍّ، فبكت، فدخل عليها النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهي تبكي فقال: "ما يبكيك؟ " قالت: قالت لي حفصة: إنّي ابنة يهوديٍّ. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّك لابنة نبيٍّ وإنّ عمّك لنبيٌّ، وإنّك لتحت نبيٍّ، فبما تفخر عليك؟ " ثمّ قال: "اتّق اللّه يا حفصة". قال التّرمذيّ: هذا حديثٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه. وهذا من خصائصها، رضي اللّه عنها.
وتزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ميمونة بنت الحارث الهلاليّة، تزوّجها بسرف وهو على تسعة أميالٍ من مكّة، وهي آخر من تزوّج من أمّهات المؤمنين، توفّيت سنة ثلاثٍ وستّين، وهي خالة خالد بن الوليد، وخالة ابن عبّاسٍ، فإنّ أمّه أمّ الفضل بنت الحارث وهي الّتي اختلف في نكاح النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لها. هل نكحها حلالًا أو محرمًا؟ والصّحيح إنّما تزوّجها حلالًا كما قال أبو رافعٍ الشّفير في نكاحها.
قال الحافظ أبو محمّدٍ المقدسيّ وغيره: وعقد على سبعٍ ولم يدخل بهنّ، فالصّلاة على أزواجه تابعةٌ لاحترامهنّ وتحريمهنّ على الأمّة، وأنّهنّ نساؤه صلّى اللّه عليه وسلّم في الدّنيا والآخرة، فمن فارقها في حياتها ولم يدخل، لا يثبت لها أحكام زوجاته اللّاتي دخل بهنّ صلّى اللّه عليه وعلى أزواجه وآله وذريته وسلم تسليما]). [تفسير ابن كثير: 6/ 401-407]

تفسير قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا نساء النّبيّ من يأت منكنّ بفاحشةٍ مبيّنةٍ يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على اللّه يسيرًا (30) ومن يقنت منكنّ للّه ورسوله وتعمل صالحًا نؤتها أجرها مرّتين وأعتدنا لها رزقًا كريمًا (31)}
يقول تعالى واعظًا نساء النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، اللّاتي اخترن اللّه ورسوله والدّار الآخرة، واستقرّ أمرهنّ تحت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يخبرهنّ بحكمهنّ [وتخصيصهنّ] دون سائر النّساء، بأنّ من يأت منهنّ بفاحشةٍ مبيّنةٍ -قال ابن عبّاسٍ: وهي النّشوز وسوء الخلق. وعلى كلّ تقديرٍ فهو شرطٌ، والشّرط لا يقتضي الوقوع كقوله تعالى: {ولقد أوحي إليك وإلى الّذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنّ عملك} [الزّمر:65]، وكقوله: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} [الأنعام: 88]، {قل إن كان للرّحمن ولدٌ فأنا أوّل العابدين} [الزّخرف:81]، {لو أراد اللّه أن يتّخذ ولدًا لاصطفى ممّا يخلق ما يشاء سبحانه هو اللّه الواحد القهّار} [الزّمر:4]، فلمّا كانت محلّتهن رفيعةً، ناسب أن يجعل الذّنب لو وقع منهنّ مغلّظًا، صيانةً لجنابهنّ وحجابهنّ الرّفيع؛ ولهذا قال: {من يأت منكنّ بفاحشةٍ مبيّنةٍ يضاعف لها العذاب ضعفين}.
قال مالكٌ، عن زيد بن أسلم: {يضاعف لها العذاب ضعفين} قال: في الدّنيا والآخرة.
وعن ابن أبي نجيحٍ [عن مجاهدٍ] مثله.
{وكان ذلك على اللّه يسيرًا} أي: سهلًا هيّنًا). [تفسير ابن كثير: 6/ 408]

تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :(ثمّ ذكر عدله وفضله في قوله: {ومن يقنت منكنّ للّه ورسوله} أي: يطع اللّه ورسوله ويستجب {نؤتها أجرها مرّتين وأعتدنا لها رزقًا كريمًا} أي: في الجنّة، فإنّهنّ في منازل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، في أعلى علّيّين، فوق منازل جميع الخلائق، في الوسيلة الّتي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش). [تفسير ابن كثير: 6/ 408]

رد مع اقتباس