عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 19 ذو القعدة 1439هـ/31-07-2018م, 08:37 AM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير}
المعنى: واذكر إذ بوأنا، و"بوأ" هي تعدية بالتضعيف، و"باء" معناه: رجع، فكأن المبوئ يرد المبوأ إلى المكان، واستعملت اللفظة بمعنى "سكن"، ومنه قوله تعالى: {نتبوأ من الجنة}، وقال الشاعر:
كم صاحب لي صالح بوأته بيدي لحدا
واللام في قوله تعالى: "إبراهيم" قالت فرقة: هي زائدة، وقالت فرقة: "بوأنا"
[المحرر الوجيز: 6/235]
نازلة منزلة فعل يتعدى باللام كنحو جعلنا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والأظهر أن يكون المفعول الأول بـ "بوأنا" محذوفا تقديره: الناس أو العالم، ثم قال: "لإبراهيم"، بمعنى: له كانت هذه الكرامة وعلى يديه بوئوا.
و "البيت" هو الكعبة، وكان -فيما روي- قد جعله الله تعالى متعبدا لآدم عليه السلام، ثم درس بالطوفان وغيره، فلما جاءت مدة إبراهيم عليه السلام أمره الله تعالى ببنائه، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثرا، فبعث الله ريحا فكشف له عن أساس آدم فرتب قواعده عليه.
وقوله تعالى: {أن لا تشرك بي شيئا} هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام في قول الجمهور حكيت لنا، بمعنى قيل له: " ألا تشرك بي شيئا "، وقرأ عكرمة: "أن لا يشرك بي" بالياء على معنى نقل معنى القول الذي قيل له، قال أبو حاتم: ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة، بمعنى: لئلا يشرك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
يحتمل أن تكون "أن" في قراءة الجمهور مفسرة، ويحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة.
وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت، أي: هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعد وأنتم، فلم تفوا بل أشركتم، وقالت فرقة: الخطاب من قوله: {أن لا تشرك} لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج.
[المحرر الوجيز: 6/236]
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والجمهور على أن ذلك لإبراهيم عليه السلام، وهو الأصح.
و "تطهير البيت" عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء وغير ذلك، و"القائمون" هم المصلون، وذكر الله تعالى من أركان الصلاة أعظمها وهي: القيام والركوع والسجود). [المحرر الوجيز: 6/237]

تفسير قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (وقرأ جمهور الناس: "وأذن" بشد الذال، وقرأ الحسن بن أبي الحسن، وابن محيصن: "وآذن" بمدة وتخفيف الذال، وتصحف هذا على ابن جني؛ فإنه حكى عنهما "وأذن" على أنه فعل ماض وأعرب عن ذلك بأن جعله عطفا على "بوأنا". وروي أن إبراهيم عليه السلام لما أمر بالأذان بالحج قال: يا رب وإذا ناديت فمن يسمعني؟ فقيل له: ناد يا إبراهيم، فعليك النداء وعلينا البلاغ، فصعد على أبي قبيس -وقيل: على حجر المقام - ونادى: أيها الناس، إن الله قد أمركم بحج هذا البيت فحجوا، واختلفت الروايات في ألفاظه عليه السلام، واللازم أن يكون فيها ذكر البيت والحج، وروي أنه يوم نادى أسمع كل من يحج إلى يوم القيامة في أصلاب الرجال، وأجابه كل شيء في ذلك الوقت من جماد وغيره: لبيك اللهم لبيك، فجرت التلبية على ذلك، قاله ابن عباس وابن جبير.
وقرأ جمهور الناس: "بالحج" بفتح الحاء، وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها، و"رجالا" جمع راجل كتاجر وتجار، [وصاحب وصحاب]، وقرأ عكرمة، وابن عباس، وأبو مجلز، وجعفر بن محمد: "رجالا" بضم الراء وشد الجيم، ككاتب وكتاب. وقرأ عكرمة أيضا، وابن أبي إسحق: "رجالا" بضم الراء وتخفيف
[المحرر الوجيز: 6/237]
الجيم، وهو قليل في أبنية الجمع، ورويت عن ابن مجاهد، وقرأ مجاهد: "رجالى" على وزن فعالى، فهو مثل كسالى.
و "الضامر"، قالت فرقة: أراد بها الناقة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وذلك أنه يقال: ناقة ضامر، ومنه قول الأعشى:
عهدي بها في الحي قد درعت ... هيفاء مثل المهرة الضامر
فيجيء قوله تعالى: "يأتين" مستقيما على هذا التأويل. وقالت فرقة: "الضامر" كل ما اتصف بذلك من جمل أو ناقة وغير ذلك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا هو الأظهر، لكنه يتضمن معنى الجماعات أو الرفاق، فيحسن لذلك قوله: "يأتين". وقرأ أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه: "يأتون"، وهي قراءة ابن أبي عبلة، والضحاك.
وفي تقديم "رجالا" تفضيل للمشاة في الحج، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما آسى على شيء فاتني إلا أن أكون حججت ماشيا، فإني سمعت الله تعالى يقول: "يأتونك رجالا"، وقال ابن أبي نجيح: حج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ماشيين، واستدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
قال مالك في الموازية: لا أسمع للبحر ذكرا.
[المحرر الوجيز: 6/238]
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا تأنس، لا أنه يلزم من سقوط ذكر البحر سقوط الفرض، وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس بالسفن، ولا بد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان مكة إما راجلا وإما على ضامر، فإنما ذكرت حالتا الوصول، وإسقاط فرض الحج بمجرد[عدم الذكر] البحر ليس بالكثير ولا بالقوي، فأما إذا اقترن به عدو أو خوف أو هول شديد أو مرض يلحق شخصا ما فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب في ذلك، وأنه ليس بسبيل يستطاع، وذكر صاحب كتاب (الاستظهار) في هذا المعنى كلاما ظاهره أن الوجوب لا يسقطه شيء من هذه الأعذار.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا ضعيف.
و "الفج": الطريق الواسعة، و"العميق" معناه: البعيد، وقال الشاعر
إذا الخيل جاءت من فجاج عميقة ... يمد بها في السير أشعث شاحب). [المحرر الوجيز: 6/239]

تفسير قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (و "المنافع" في هذه الآية: التجارة في قول أكثر المتأولين، ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، وقال أبو جعفر محمد بن علي: أراد الأجر ومنافع الآخرة، وقال مجاهد بعموم الوجهين.
وقوله تعالى: "اسم الله"، يصح أن يريد بالاسم هاهنا المسمى، بمعنى: ويذكروا الله، على تجوز في هذه العبارة، إلا أن يقصد ذكر القلوب، ويحتمل أن يريد بالاسم التسميات، وذكر الله تعالى إنما هو بذكر أسمائه، ثم يذكر القلب السلطان والصفات، وهذا كله على أن يكون الذكر بمعنى حمده وتقديسه شكرا على نعمته في
[المحرر الوجيز: 6/239]
الرزق، ويؤيده قوله عليه السلام: إنها أيام أكل وشرب وذكر الله، وذهب قوم إلى أن المراد ذكر اسم الله تعالى على النحر والذبح، وقالوا: إن في ذكر الأيام دليلا على أن الذبح في الليل لا يجوز، وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "الأيام المعلومات" هي أيام العشر ويوم النحر وأيام التشريق، وقال ابن سيرين: هي أيام العشر فقط، وقالت فرقة: بل أيام التشريق، ذكره القتيبي، وقالت فرقة فيها مالك وأصحابه: بل الأيام المعلومات يوم النحر، ويومان بعده، وأيام التشريق الثلاثة هي المعدودات، فيكون يوم النحر معلوما لا معدودا، واليومان بعده معلومان ومعدودات والرابع معدود لا معلوم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وحمل هؤلاء على هذا التفصيل أنهم أخذوا "ذكر اسم الله" هنا على الذبح للأضاحي والهدي وغيره، فاليوم الرابع لا يضحى فيه عند مالك وجماعة، وأخذوا التعجل والتأخر بالنفر في الأيام المعدودات، فتأمل هذا يبن لك قصدهم، ويظهر أن تكون المعلومات والمعدودات بمعنى، أي تلك الأيام الفاضلة كلها، ويبقى أمر الذبح وأمر الاستعجال لا يتعلق بمعدود ولا بمعلوم، وتكون فائدة قوله: "معلومات" و"معدودات" التحريض على هذه الأيام وعلى اغتنام فضلها؛ إذ ليست كغيرها، فكأنه قال: هي مخصوصات فلتغتنم.
وقوله، تعالى: "فكلوا" ندب، واستحب أهل العلم للرجل أن يأكل من هديه أو ضحيته مع التصدق بأكثرها، مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل، و"البائس": الذي قد مسه ضر الفاقة وبؤسها، يقال: بأس الرجل يبؤس، وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن لم تكن فقرا، ومنه قوله عليه السلام: لكن البائس
[المحرر الوجيز: 6/240]
سعد بن خولة، والمراد في هذه الآية أهل الحاجة). [المحرر الوجيز: 6/241]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق}
اختلفت القراءة في سكون اللام في قوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا} وفي تحريك جميع ذلك بالكسر، وفي تحريك "ليقضوا" وتسكين الاثنين، وقد تقدم في قوله تعالى: {فليمدد بسبب إلى السماء} توجيه جميع ذلك.
و "التفث" ما يفعله المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه وإزالة شعث ونحوه من إقامة الخمس من الفطرة حسب الحديث وفي ضمن ذلك قضاء جميع مناسكه إذ لا يقضى التفث إلا بعد ذلك. وقرأ عاصم وحده -في رواية أبي بكر -: "وليوفوا" بفتح الواو وشد الفاء، و"وفى" و"أوفى" لغتان مستعملتان في كتاب الله تعالى و"أوفى" أكثر. و"النذور"
[المحرر الوجيز: 6/241]
ما معهم من هدي وغيره، و"الطواف" المذكور في هذه الآية هو طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج، قال الطبري: لا خلاف بين المتأولين في ذلك. قال مالك: هو واجب يرجع تاركه من وطنه إلا أن يطوف طواف وداع فإنه يجزيه منه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويحتمل بحسب الترتيب أن تكون الإشارة إلى طواف الوداع إذ المستحسن أن يكون ولا بد، وقد أسند الطبري عن عمرو بن أبي سلمة قال: سألت زهيرا عن قوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} فقال: هو طواف الوداع. وقال مالك في الموطأ: واختلف المتألون في وجه صفة البيت بالعتيق، فقال مجاهد، والحسن: العتيق: القديم، يقال: سيف عتيق، وقد عتق الشيء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا قول يعضده النظر؛ إذ هو أول بيت وضع للناس، إلا أن ابن الزبير قال: سمي عتيقا لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة بمنعه إياه منهم، وروي في هذا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نظر مع الحديث. وقالت فرقة: سمي عتيقا لأنه لم يملك موضعه قط، وقالت فرقة: سمي عتيقا لأن الله تعالى يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا يرده التصريف. وقيل: سمي عتيقا لأنه أعتق من غرق الطوفان، قاله ابن
[المحرر الوجيز: 6/242]
جبير، ويحتمل أن تكون "العتيق" صفة مدح تقتضي جودة الشيء، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حملت على فرس عتيق الحديث، ونحوه قولهم: كلام حر). [المحرر الوجيز: 6/243]

رد مع اقتباس