عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 30 جمادى الأولى 1435هـ/31-03-2014م, 03:29 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {يا أيّها الّذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم وممّا أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلاّ أن تغمضوا فيه واعلموا أنّ اللّه غنيٌّ حميدٌ (267)}
هذا الخطاب هو لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه صيغة أمر من الإنفاق، واختلف المتأولون هل المراد بهذا الإنفاق، الزكاة المفروضة أو التطوع، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبيدة السلماني ومحمد بن سيرين: «هي في الزكاة المفروضة». نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر، ودرهم زائف خير من تمرة، فالأمر على هذا القول للوجوب، والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن بن أبي الحسن وقتادة، أن الآية في التطوع، وروى البراء بن عازب، وعطاء بن أبي رباح ما معناه: «أن الأنصار كانوا أيام الجداد يعلقون أقناء التمر في حبل بين أسطوانتين في المسجد فيأكل من ذلك فقراء المهاجرين فعلق رجل حشفا فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بئسما علق هذا»، فنزلت الآية».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «والأمر على هذا القول على الندب، وكذلك ندبوا إلى أن لا يتطوعوا إلا بجيد مختار، والآية تعم الوجهين، لكن صاحب الزكاة يتلقاها على الوجوب وصاحب التطوع يتلقاها على الندب، وهؤلاء كلهم وجمهور المتأولين قالوا معنى من طيّبات من جيد ومختار ما كسبتم، وجعلوا الخبيث بمعنى الرديء والرذالة»، وقال ابن زيد معناه: «من حلال ما كسبتم»، قال: وقوله: {ولا تيمّموا الخبيث} أي الحرام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وقول ابن زيد ليس بالقوي من جهة نسق الآية لا من معناه في نفسه»، وقوله: {من طيّبات ما كسبتم} يحتمل أن لا يقصد به لا الجيد ولا الحلال، لكن يكون المعنى كأنه قال: أنفقوا مما كسبتم، فهو حض على الإنفاق فقط. ثم دخل ذكر الطيب تبيينا لصفة حسنة في المكسوب عاما وتعديدا للنعمة كما تقول: أطعمت فلانا من مشبع الخبز وسقيته من مروي الماء، والطيب على هذا الوجه يعم الجودة والحل، ويؤيد هذا الاحتمال أن عبد الله بن مغفل قال: ليس في مال المؤمن خبيث، وكسبتم معناه كانت لكم فيه سعاية، إما بتعب بدن أو مقاولة في تجارة، والموروث داخل في هذا لأن غير الوارث قد كسبه، إذ الضمير في كسبتم إنما هو لنوع الإنسان أو المؤمنين، وممّا أخرجنا لكم من الأرض النباتات والمعادن والركاز وما ضارع ذلك، وتيمّموا معناه تعمدوا وتقصدوا، يقال تيمم الرجل كذا وكذا إذا قصده، ومنه قول امرئ القيس:
تيمّمت العين التي عند ضارج ....... يفيء عليها الظّلّ عرمضها طام
ومنه قول الأعشى:
تيمّمت قيسا وكم دونه ....... من الأرض من مهمه ذي شزن
ومنه التيم الذي هو البدل من الوضوء عند عدم الماء، وهكذا قرأ جمهور الناس وروى البزي عن ابن كثير تشديد التاء في أحد وثلاثين موضعا أولها هذا الحرف، وحكى الطبري أن في قراءة عبد الله بن مسعود «ولا تؤموا الخبيث» من أممت إذا قصدت، ومنه إمام البناء، والمعنى في القراءتين واحد، وقرأ الزهري ومسلم بن جندب «ولا تيمّموا» بضم التاء وكسر الميم، وهذا على لغة من قال: يممت الشيء بمعنى قصدته، وفي اللفظ لغات، منها أممت الشيء خفيفة الميم الأولى وأممته بشدها ويممته وتيممته، وحكى أبو عمرو أن ابن مسعود قرأ «ولا تؤمموا» بهمزة بعد التاء، وهذه على لغة من قال أممت مثقلة الميم، وقد مضى القول في معنى الخبيث وقال الجرجاني في كتاب نظم القرآن: «قال فريق من الناس: إن الكلام تم في قوله: الخبيث ثم ابتدأ خبرا آخر في وصف الخبيث فقال: تنفقون منه وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم أي ساهلتم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع، والضمير في منه عائد على الخبيث». قال الجرجاني وقال فريق آخر: «بل الكلام متصل إلى قوله فيه».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «فالضمير في منه عائد على ما كسبتم، ويجيء تنفقون كأنه في موضع نصب على الحال، وهو كقوله: أنا أخرج أجاهد في سبيل الله»، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: {ولستم بآخذيه إلّا أن تغمضوا فيه} فقال البراء بن عازب وابن عباس والضحاك وغيرهم: «معناه ولستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم عند الناس إلا بأن تساهلوا في ذلك، وتتركون من حقوقكم وتكرهونه ولا ترضونه، أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم»، وقال الحسن بن أبي الحسن معنى الآية: «لستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع، إلا أن يهضم لكم من ثمنه»، وروي نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة» وقال البراء بن عازب أيضا: «معناه ولستم بآخذيه لو أهدي إليكم إلّا أن تغمضوا أي تستحيي من المهدوي أن تقبل منه ما لا حاجة لك فيه، ولا قدر له في نفسه».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا يشبه كون الآية في التطوع»، وقال ابن زيد معنى الآية: «ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا في مكروهه»، وقرأ جمهور الناس «إلا أن تغمضوا» بضم التاء وسكون الغين وكسر الميم. وقرأ الزهري بفتح التاء وكسر الميم مخففا، وروي عنه أيضا «تغمّضوا» بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم مشددة، وحكى مكي عن الحسن البصري «تغمّضوا» مشددة الميم مفتوحة وبفتح التاء. وقرأ قتادة بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففا قال أبو عمرو: «معناه إلا أن يغمض لكم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «هذه اللفظة تنتزع إما من قول العرب أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز»، فمن ذلك قول الطرماح بن حكيم:
لم يفتنا بالوتر قوم وللضـ ....... ـيم أناس يرضون بالإغماض
وإما أن تنتزع من تغميض العين لأن الذي يريد الصبر على مكروه يغمض عنه عينيه ومنه قول الشاعر:
إلى كم وكم أشياء منكم تريبني ....... أغمض عنها لست عنها بذي عمى
وهذا كالإغضاء عند المكروه، وقد ذكر النقاش هذا المعنى في هذه الآية وأشار إليه مكي، وإما من قول العرب أغمض الرجل إذا أتى غامضا من الأمر كما تقول: أعمن إذا أتى عمان، وأعرق إذا أتى العراق، وأنجد، وأغور، إذا أتى نجدا والغور الذي هو تهامة، ومنه قول الجارية: وإن دسر أغمض فقراءة الجمهور تخرج على التجاوز وعلى تغميض العين لأن أغمض بمنزلة غمض وعلى أنها بمعنى حتى تأتوا غامضا من التأويل والنظر في أخذ ذلك إما لكونه حراما على قول ابن زيد، وإما لكونه مهديا أو مأخوذا في دين على قول غيره، وأما قراءة الزهري الأولى فمعناها تهضموا سومها من البائع منكم فيحطكم، قال أبو عمرو:«معنى قراءتي الزهري حتى تأخذوا بنقصان».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وأما قراءته الثانية فهذا مذهب أبي عمرو الداني فيها». ويحتمل أن تكون من تغميض العين. وأما قراءة قتادة فقد ذكرت تفسير أبي عمرو لها. وقال ابن جني: «معناها توجدوا قد غمضتم في الأمر بتأولكم أو بتساهلكم وجريتم على غير السابق إلى النفوس، وهذا كما تقول: أحمدت الرجل وجدته محمودا إلى غير ذلك من الأمثلة»، ثم نبه تعالى على صفة الغنى أي لا حاجة به إلى صدقاتكم، فمن تقرب وطلب مثوبة فليفعل ذلك بما له قدر، وحميدٌ معناه محمود في كل حال، وهي صفة ذات). [المحرر الوجيز: 2/ 71-76]


تفسير قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {الشّيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء واللّه يعدكم مغفرةً منه وفضلاً واللّه واسعٌ عليمٌ (268) يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذّكّر إلاّ أولوا الألباب (269)}
هذه الآية وما بعدها وإن لم تكن أمرا بالصدقة فهي جالبة للنفوس إلى الصدقة، بين عز وجل فيها نزغات الشيطان ووسوسته وعداوته، وذكر بثوابه هو لا رب غيره. وذكر بتفضله بالحكمة وأثنى عليها، ونبه أن أهل العقول هم المتذكرون الذين يقيمون بالحكمة قدر الإنفاق في طاعة الله عز وجل وغير ذلك، ثم ذكر علمه بكل نفقة ونذر. وفي ذلك وعد ووعيد. ثم بين الحكم في الإعلان والإخفاء وكذلك إلى آخر المعنى. والوعد في كلام العرب إذا أطلق فهو في الخير وإذا قيد بالموعود ما هو فقد يقيد بالخير وبالشر كالبشارة. فهذه الآية مما قيد الوعد فيها بمكروه وهو الفقر و «الفحشاء» كل ما فحش وفحش ذكره، ومعاصي الله كلها فحشاء، وروى حيوة عن رجل من أهل الرباط أنه قرأ «الفقر» بضم الفاء، وهي لغة، وقال ابن عباس: «في الآية اثنتان من الشيطان، واثنتان من الله تعالى»، وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن للشيطان لمة من ابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، فمن وجد ذلك فليتعوذ، وأما لمة الملك فوعد بالحق وتصديق بالخير فمن وجد ذلك فليحمد الله، ثم قرأ عليه السلام {الشّيطان يعدكم الفقر ويأمركم} الآية»، والمغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة، والفضل هو الرزق في الدنيا والتوسعة فيه والتنعيم في الآخرة، وبكل قد وعد الله تعالى، وذكر النقاش: «أن بعض الناس تأنس بهذه الآية في أن الفقر أفضل من الغنى، لأن الشيطان إنما يبعد العبد من الخير وهو بتخويفه الفقر يبعد منه».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وليس في الآية حجة قاطعة أما إن المعارضة بها قوية وروي أن في التوراة «عبدي أنفق من رزقي أبسط عليك فضلي، فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة» وفي القرآن مصداقه: وهو {وما أنفقتم من شيءٍ فهو يخلفه، وهو خير الرّازقين} [سبأ: 39]» وواسعٌ لأنه وسع كل شيء رحمة وعلما). [المحرر الوجيز: 2/ 77-78]

تفسير قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم أخبر تعالى عن نفسه أنه يؤتي الحكمة أي يعطيها لمن يشاء من عباده، واختلف المتأولون في الحكمة في هذا الموضع فقال السدي: «الحكمة النبوءة»، وقال ابن عباس: «هي المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وعربيته». وقال قتادة: «الحكمة الفقه في القرآن»، وقاله مجاهد، وقال مجاهد أيضا: «الحكمة الإصابة في القول والفعل»، وقال ابن زيد وأبوه زيد بن أسلم: «الحكمة العقل في الدين»، وقال مالك: «الحكمة المعرفة في الدين والفقه فيه والاتباع له»، وروى عنه ابن القاسم أنه قال: «الحكمة التفكر في أمر الله والاتباع له»، وقال أيضا: «الحكمة طاعة الله والفقه في الدين والعمل به»، وقال الربيع: «الحكمة الخشية»، ومنه قول النبي عليه السلام: «رأس كل شيء خشية الله تعالى»، وقال إبراهيم: «الحكمة الفهم» وقاله زيد بن أسلم، وقال الحسن: «الحكمة الورع»، وهذه الأقوال كلها ما عدا قول السدي قريب بعضها من بعض لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في عمل أو قول. وكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة. وكل ما ذكر فهو جزء من الحكمة التي هي الجنس.
وقرأ الجمهور «من يؤت الحكمة» على بناء الفعل للمفعول. وقرأ الزهري ويعقوب «ومن يؤت» بكسر التاء على معنى ومن يؤت الله الحكمة ف من مفعول أول مقدم والحكمة مفعول ثان، وقرأ الأخفش: «ومن يؤته الحكمة»، وقرأ الربيع بن خثيم «تؤتي الحكمة من تشاء» بالتاء في «تؤتي» و «تشاء» منقوطة من فوق، «ومن يؤت الحكمة» بالياء، وباقي الآية تذكرة بينة وإقامة لهمم الغفلة، والألباب العقول واحدها لب). [المحرر الوجيز: 2/ 78-79]

تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وما أنفقتم من نفقةٍ أو نذرتم من نذرٍ فإنّ اللّه يعلمه وما للظّالمين من أنصارٍ (270) إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لكم ويكفّر عنكم من سيّئاتكم واللّه بما تعملون خبيرٌ (271)}
كانت النذر من سيرة العرب تكثر منها، فذكر تعالى النوعين ما يفعله المرء متبرعا وما يفعله بعد إلزامه لنفسه، ويقال: نذر الرجل كذا إذا التزم فعله «ينذر» بضم الذال «وينذر» بكسرها، وقوله تعالى: {فإنّ اللّه يعلمه} قال مجاهد: «معناه يحصيه»، وفي الآية وعد ووعيد، أي من كان خالص النية فهو مثاب ومن أنفق رئاء أو لمعنى آخر مما يكشفه المن والأذى ونحو ذلك فهو ظالم يذهب فعله باطلا ولا يجد ناصرا فيه، ووحد الضمير في يعلمه وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص). [المحرر الوجيز: 2/ 80]

تفسير قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {إن تبدوا الصّدقات} الآية، ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية هي في صدقة التطوع، قال ابن عباس: «جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها، يقال بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها يقال بخمسة وعشرين ضعفا»، قال: «وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ويقوي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة»، وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عرضة لذلك»، وقال سفيان الثوري: «هذه الآية في التطوع»، وقال يزيد بن أبي حبيب: «إنما أنزلت هذه الآية في الصدقة على اليهود والنصارى، وكان يأمر بقسم الزكاة في السر»، وهذا مردود لا سيما عند السلف الصالح، فقد قال الطبري: «أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل»، قال المهدوي: «وقيل المراد بالآية فرض الزكاة وما تطوع به، فكان الإخفاء فيهما أفضل في مدة النبي عليه السلام، ثم ساءت ظنون الناس بعد ذلك فاستحسن العلماء إظهار الفرض لئلا يظن بأحد المنع»، قال أبو محمد: «وهذا القول مخالف للآثار، ويشبه في زمننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض، فقد كثر المانع لها وصار إخراجها عرضة للرياء»، وقال النقاش: «إن هذه الآية نسخها قوله تعالى: {الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سرًّا وعلانيةً} [البقرة: 274]، وقوله: {فنعمّا هي} ثناء على إبداء الصدقة، ثم حكم أن الإخفاء خير من ذلك الإبداء»، واختلف القراء في قوله: {فنعمّا هي}، فقرأ نافع في غير رواية ورش، وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل «فنعمّا» بكسر النون وسكون «فنعمّا» بكسر النون والعين، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «فنعمّا» بفتح النون وكسر العين وكلهم شدد الميم، قال أبو علي: «من قرأ بسكون العين لم يستقم قوله، لأنه جمع بين ساكنين الأول منهما ليس بحرف مد ولين، وإنما يجوز ذلك عند النحويين إذا كان الأول حرف مد، إذ المد يصير عوضا من الحركة، وهذا نحو دابة وضوال وشبهه»، ولعل أبا عمرو أخفى الحركة واختلسها كأخذه بالإخفاء في باريكم ويأمركم فظن السامع الإخفاء إسكانا للطف، ذلك في السمع وخفائه، وأما من قرأ «نعمّا» بكسر النون والعين فحجته أن أصل الكلمة «نعم» بكسر الفاء من أجل حرف الحلق، ولا يجوز أن يكون ممن يقول «نعم» ألا ترى أن من يقول هذا قدم ملك فيدغم، لا يدغم، هؤلاء قوم ملك وجسم ماجد، قال سيبويه: «نعما» بكسر النون والعين ليس على لغة من قال «نعم» فأسكن العين، ولكن على لغة من قال «نعم» فحرك العين»، وحدثنا أبو الخطاب: «أنها لغة هذيل وكسرها كما قال لعب ولو كان الذي قال «نعما» ممن يقول نعم بسكون العين لم يجز الإدغام».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «يشبه أن هذا يمتنع لأنه يسوق إلى اجتماع ساكنين»، قال أبو علي: «وأما من قرأ «نعمّا» بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها وهو نعم ومنه قول الشاعر:
ما أقلّت قدماي أنهم = نعم الساعون في الأمر المبر
ولا يجوز أن يكون ممن يقول قبل الإدغام «نعم» بسكون العين، وقال المهدوي: «وذلك جائز محتمل، وتكسر العين بعد الإدغام لالتقاء الساكنين»، قال أبو علي: «وما من قوله «نعما» في موضع نصب»، وقوله هي تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر والتقدير: نعم شيئا إبداؤها. والإبداء هو المخصوص بالمدح، إلا أن المضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه، ويدلك على هذا قوله فهو خيرٌ لكم أي الإخفاء خير، فكما أن الضمير هنا للإخفاء لا للصدقات، فكذلك أولا الفاعل هو الإبداء، وهو الذي اتصل به الضمير، فحذف الإبداء وأقيم ضمير الصدقات مقامه، واختلف القراء في قوله تعالى: {ونكفّر عنكم} فقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر: «ونكفر» بالنون ورفع الراء، وقرأ نافع وحمزة والكسائي: «ونكفر» بالنون والجزم في الراء، وروي مثل ذلك أيضا عن عاصم، وقرأ ابن عامر: «ويكفر» بالياء ورفع الراء، وقرأ ابن عباس وتكفر بالتاء وكسر الفاء وجزم الراء، وقرأ عكرمة: وتكفر بالتاء وفتح الفاء وجزم الراء، وقرأ الحسن: «ويكفر» بالياء وجزم الراء، وروي عن الأعمش أنه قرأ: ويكفّر بالياء ونصب الراء، وقال أبو حاتم: قرأ الأعمش: «يكفر» بالياء دون واو قبلها وبجزم الراء، وحكى المهدوي عن ابن هرمز أنه قرأ: «وتكفر» بالتاء ورفع الراء، وحكي عن عكرمة وشهر بن حوشب أنهما قرآها بتاء ونصب الراء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «فما كان من هذه القراءات بالنون فهي نون العظمة، وما كان منها بالتاء فهي الصدقة فاعلة»، إلا ما روي عن عكرمة من فتح الفاء فإن التاء في تلك القراءة إنما هي للسيئات، وما كان منها بالياء فالله تعالى هو المكفر، والإعطاء في خفاء هو المكفر، ذكره مكي وأما رفع الراء فهو على وجهين: أحدهما أن يكون الفعل خبر ابتداء، تقدير ونحن نكفر، أو وهي تكفر، أعني الصدقة، أو والله يكفر، والثاني: القطع والاستئناف وأن لا تكون الواو العاطفة للاشتراك لكن لعطف جملة على جملة، وأما الجزم في الراء فإنه حمل للكلام على موضع قوله تعالى: {فهو خيرٌ} إذ هو في موضع جزم جوابا للشرط، كأنه قال: وإن تخفوها يكن أعظم لأجركم، ثم عطفه على هذا الموضع كما جاء قراءة من قرأ: {من يضلل الله فلا هادي له ونذرهم} [الأعراف: 186] بجزم الراء وأمثلة هذا كثيرة، وأما نصب الراء فعلى تقدير «إن» وتأمل، وقال المهدوي: «هو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام». والجزم في الراء أفصح هذه القراءات، لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء وكونه مشروطا إن وقع الإخفاء. وأما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى، ومن في قوله: {من سيّئاتكم} للتبعيض المحض، والمعنى في ذلك متمكن، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: «من زائدة في هذا الموضع وذلك منهم خطأ»، وقوله: {واللّه بما تعملون خبيرٌ} وعد ووعيد). [المحرر الوجيز: 2/ 80-85]


رد مع اقتباس