عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 17 ربيع الثاني 1434هـ/27-02-2013م, 02:16 AM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي جمهرة تفاسير السلف

تفسير السلف

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)}
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ الّذين كفروا}
اختلف أهل التّأويل فيمن عنى بهذه الآية، وفيمن نزلت؛ فكان ابن عبّاسٍ يقول، كما حدّثنا به، محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{إنّ الّذين كفروا} أي بما أنزل إليك من ربّك، وإن قالوا إنّا قد آمنّا بما قد جاءنا من قبلك ».
فكان ابن عبّاسٍ يرى أنّ هذه الآية نزلت في اليهود الّذين كانوا بنواحي المدينة على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم توبيخًا لهم في جحودهم نبوّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وتكذيبهم به، مع علمهم به ومعرفتهم بأنّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إليهم وإلى النّاس كافّةً.
- وقد حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: أنّ صدر، سورة البقرة إلى المائة منها نزل في رجالٍ سمّاهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار اليهود، ومن المنافقين من الأوس والخزرج. كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم.
وقد روي عن ابن عبّاسٍ في تأويل ذلك قولٌ آخر.
- وهو ما حدّثنا به المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثنى معاويه بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحرص على أن يؤمن جميع النّاس، ويتابعوه على الهدى؛ فأخبره اللّه جلّ ثناؤه أنّه لا يؤمن إلاّ من سبق من اللّه السّعادة في الذّكر الأوّل، ولا يضلّ إلاّ من سبق له من اللّه الشّقاء في الذّكر الأوّل».
- وقال آخرون بما حدّثت به، عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ، قال:«آيتان في قادة الأحزاب: {إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}، إلى قوله: {ولهم عذابٌ عظيمٌ} قال: وهم الّذين ذكرهم اللّه في هذه الآية: {ألم تر إلى الّذين بدّلوا نعمة اللّه كفرًا وأحلّوا قومهم دار البوار جهنّم يصلونها وبئس القرار} قال: فهم الّذين قتلوا يوم بدرٍ».
وأولى هذه التّأويلات بالآية تأويل ابن عبّاسٍ الّذي ذكره محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ عنه؛ وإن كان لكلّ قولٍ ممّا قاله الّذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهبٌ.
فأمّا مذهب من تأوّل في ذلك ما قاله الرّبيع بن أنسٍ، فهو أنّ اللّه تعالى ذكره لمّا أخبر عن قومٍ من أهل الكفر بأنّهم لا يؤمنون، وأنّ الإنذار غير نافعهم، ثمّ كان من الكفّار من قد نفعه اللّه بإنذار النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إيّاه لإيمانه باللّه وبالنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وما جاء به من عند اللّه بعد نزول هذه السّورة؛ لم يجز أن تكون الآية نزلت إلاّ في خاصٍّ من الكفّار. وإذ كان ذلك كذلك وكانت قادة الأحزاب لا شكّ أنّهم ممّن لم ينفعه اللّه عزّ وجلّ بإنذار النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إيّاه حتّى قتلهم اللّه تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدرٍ، علم أنّهم ممّن عنى اللّه جلّ ثناؤه بهذه الآية.
وأمّا علّتنا في اختيارنا ما اخترنا من التّأويل في ذلك، فهي أنّ قول اللّه جلّ ثناؤه: {إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} عقيب خبر اللّه جلّ ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب، وعقيب نعتهم وصفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله. فأولى الأمور بحكمة اللّه أن يتلى ذلك الخبر عن كفّارهم ونعوتهم وذمّ أسبابهم وأحوالهم، وإظهار شتمهم والبراءة منهم؛ لأنّ مؤمنيهم ومشركيهم وإن اختلفت أحواله باختلاف أديانهم، فإنّ الجنس يجمع جميعهم بأنّهم بنو إسرائيل.
وإنّما احتجّ اللّه جلّ ثناؤه بأوّل هذه السّورة لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم على مشركي اليهود من أحبار بني إسرائيل الّذين كانوا مع علمهم بنبوّته منكرين نبوّته بإظهار نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم على ما كانت تسرّه الأحبار منهم وتكتمه فيجهله عظم اليهود وتعلمه الأحبار منهم ليعلموا أنّ الّذي أطلعه على علم ذلك هو الّذي أنزل الكتاب على موسى عليه السلام، إذ كان ذلك من الأمور الّتي لم يكن محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم ولا قومه ولا عشيرته يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نزول الفرقان على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، فيمكنهم ادّعاء اللّبس في أمره عليه الصّلاة والسّلام أنّه نبيٌّ، وأنّ ما جاء به فمن عند اللّه، وأنّى يمكنهم ادّعاء اللّبس في صدق أمّيٍّ نشأ بين أمّيّين لا يكتب، ولا يقرأ، ولا يحسب، فيقال قرأ الكتب فعلم أو حسب فنجّم، وانبعث على أخبار قرّاءٍ كتبةٍ، قد درسوا الكتب ورأسوا الأمم، يخبرهم عن مستور عيوبهم، ومصون علومهم، ومكتوم أخبارهم، وخفيّات أمورهم الّتي جهلها من هو دونهم من أحبارهم؟ إنّ أمر من كان كذلك لغير مشكلٍ، وإنّ صدقه والحمد للّه لبيّنٌ.
وممّا ينبئ عن صحّة ما قلنا من أنّ الّذين عنى اللّه تعالى ذكره بقوله: {إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} هم أحبار اليهود الّذين قتلوا على الكفر وماتوا عليه اقتصاص اللّه تعالى ذكره نبأهم وتذكيره إيّاهم ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمّدٍ عليه الصّلاة والسّلام بعد اقتصاصه تعالى ذكره ما اقتصّ من أمر المنافقين واعتراضه بين ذلك بما اعترض به من الخبر عن إبليس وآدم في قوله: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم} الآيات، واحتجاجه لنبيّه عليهم بما احتجّ به عليهم فيها عند جحودهم نبوّته. فإذا كان الخبر أوّلاً عن مؤمني أهل الكتاب وآخرًا عن مشركيهم، فأولى أن يكون وسطًا عنهم، إذ كان الكلام بعضه لبعضٍ تبعٌ، إلاّ أن تأتي دلالةٌ واضحةٌ بعدول بعض ذلك عمّا ابتدئ به من معانيه، فيكون معروفًا حينئذٍ انصرافه عنه.
وأمّا معنى الكفر في قوله: {إنّ الّذين كفروا} فإنّه الجحود؛ وذلك أنّ الأحبار من يهود المدينة جحدوا نبوّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وستروه عن النّاس وكتموا أمره، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
وأصل الكفر عند العرب تغطية الشّيء ولذلك سمّوا اللّيل كافرًا لتغطية ظلمته ما لبسته، كما قال الشّاعر:

فتذكّرا ثقلاً رثيدًا بعد ما ....... ألقت ذكاء يمينها في كافر

وقال لبيد بن ربيعة:

في ليلةٍ كفر النّجوم غمامها

يعني غطّاها.

فكذلك الأحبار من اليهود غطّوا أمر محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وكتموه النّاس مع علمهم بنبوّته ووجودهم صفته في كتبهم. فقال اللّه جلّ ثناؤه فيهم: {إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّنّاه للنّاس في الكتاب أولئك يلعنهم اللّه ويلعنهم اللاّعنون} وهم الّذين أنزل اللّه عزّ وجلّ فيهم: {إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}). [جامع البيان: 1/ 258 -262]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}
وتأويل {سواءٌ}: معتدلٌ، مأخوذٌ من التّساوي، كقولك: متساوٍ هذان الأمران عندي، وهما عندي سواءٌ؛ أي هما متعادلان عندي، ومنه قول اللّه جلّ ثناؤه: {فانبذ إليهم على سواءٍ} يعني بذلك أعلمهم وآذنهم بالحرب حتّى يستوي علمك وعلمهم بما عليه كلّ فريقٍ منهم للفريق الآخر. فكذلك قوله: {سواءٌ عليهم} معتدلٌ عندهم أيّ الأمرين كان منك إليهم الإنذار أم ترك الإنذار لأنّهم كانوا لا يؤمنون، وقد ختمت على قلوبهم وسمعهم. ومن ذلك قول عبيد اللّه بن قيس الرّقيّات:

تقدت بي الشّهباء نحو ابن جعفرٍ ....... سواءٌ عليها ليلها ونهارها

يعني: بذلك: معتدلٌ عندها السّير في اللّيل والنّهار، لأنّه لا فتورٌ فيه. ومنه قول الآخر:

وليلٍ يقول المرء من ظلماته ....... سواءٌ صحيحات العيون وعورها

لأنّ الصّحيح لا يبصر فيه إلاّ بصرًا ضعيفًا من ظلمته.
وأمّا قوله: {أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} فإنّه ظهر به الكلام ظهور الاستفهام وهو خبرٌ؛ لأنّه وقع موقع أيّ، كما تقول: لا نبالي أقمت أم قعدت، وأنت مخبرٌ لا مستفهمٌ لوقوع ذلك موقع أيّ، وذلك أنّ معناه إذا قلت ذلك: ما نبالي أيّ هذين كان منك، فكذلك ذلك في قوله: {سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} لمّا كان معنى الكلام: سواءٌ عليهم أيّ هذين كان منك إليهم، حسن في موضعه مع سواءٍ: أفعلت أم لم تفعل.
وقد كان بعض نحويّي أهل البصرة يزعم أنّ حرف الاستفهام إنّما دخل مع سواءٍ وليس باستفهامٍ، لأنّ المستفهم إذا استفهم غيره فقال: أزيدٌ عندك أم عمرٌو؟ مستثبتٌ صاحبه أيّهما عنده، فليس أحدهما أحقّ بالاستفهام من الآخر، فلمّا كان قوله: {سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} بمعنى التّسوية، أشبه ذلك الاستفهام إذ أشبهه في التّسوية، وقد بيّنّا الصّواب في ذلك.
فتأويل الكلام إذًا: معتدلٌ يا محمّد على هؤلاء الّذين جحدوا نبوّتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها، وكتموا بيان أمرك للنّاس بأنّك رسولي إلى خلقي، وقد أخذت عليهم العهد والميثاق أن لا يكتموا ذلك وأن يبيّنوه للنّاس ويخبروهم أنّهم يجدون صفتك في كتبهم؛ {أأنذرتهم أم لم تنذرهم} فإنّهم لا يؤمنون ولا يرجعون إلى الحقّ ولا يصدّقون بك وبما جئتهم به.
- كما حدّثنا محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} أي أنّهم قد كفروا بما عندهم من العلم من ذكرٍ وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق لك؛ فقد كفروا بما جاءك وبما عندهم ممّا جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا وقد كفروا بما عندهم من علمك). [جامع البيان: 1/ 263 -265]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6)}
قوله تعالى: {إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}
- حدّثني أبي، ثنا يحيى بن عثمان بن صالحٍ المصريّ، ثنا أبي، ثنا ابن لهيعة، حدّثني عبيد اللّه بن المغيرة، عن أبي الهيثم، عن عبد اللّه بن عمرٍو، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:
قيل يا رسول اللّه إنّا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ فنكاد أن نأيس. فقال: « ألا أخبركم؟» ، ثمّ قال: {إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} هؤلاء أهل النّار»، قالوا: لسنا منهم يا رسول اللّه؟ قال: « أجل».
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ أبو غسّان محمّد بن عمرٍو زنيجٌ، ثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق قال: فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ: «{إنّ الّذين كفروا} أي بما أنزل إليك، وإن قالوا إنّا قد آمنّا بما جاءنا قبلك، {سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} أي أنّهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق فقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم ممّا جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا، وقد كفروا بما عندهم من علمك».
- حدّثنا عصام بن روّاد بن الجرّاح، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع ابن أنسٍ، عن أبي العالية قال: « آيتان في قادة الأحزاب: {إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} قال: هم الّذين ذكرهم اللّه في هذه الآية: {ألم تر إلى الّذين بدّلوا نعمت اللّه كفرًا وأحلّوا قومهم دار البوار}».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 40]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصرهم غشاوة ولهم عذاب عظيم}
أخرج ابن جريج، وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير في السنة، وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} ونحو هذا من القرآن، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول».
وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال: قيل يا رسول الله أنا تقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ فنكاد نيأس فقال: «ألا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار»، قالوا: بلى يا رسول الله، «{ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} إلى قوله: {المفلحون} هؤلاء أهل الجنة»، قالوا: إنا نرجو أن نكون هؤلاء، ثم قال: «{إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم} إلى قوله {عظيم} هؤلاء أهل النار»، قلنا: لسنا هم يا رسول الله، قال: «أجل».
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: «{إن الذين كفروا} أي: بما أنزل إليك وإن قالوا إنا قد آمنا بما جاء من قبلك، {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} أي: أنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق لك فقد كفروا بما جاءك وبما عندهم مما جاءهم به غيرك فكيف يسمعون منك إنذارا وتخويفا وقد كفروا بما عندهم من نعتك، {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} أي: عن الهدى أن يصيبوه أبدا بغير ما كذبوا به من الحق الذي جاءك من ربك حتى يؤمنوا به وأن آمنوا بكل ما كان قبلك ولهم بما هو عليه من خلافك، {عذاب عظيم} فهذا في الأحبار من يهود».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {إن الذين كفروا}
قال: «نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب وهم الذين ذكرهم في هذه الآية {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا} [إبراهيم الآية 28] قال: فهم الذين قتلوا يوم بدر ولم يدخل من القادة أحد في الإسلام إلا رجلان، أبو سفيان والحكم بن أبي العاص».
وأخرج ابن المنذر عن السدي في قوله: {أأنذرتهم أم لم تنذرهم} قال: «وعظتهم أم لم تعظهم».
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} قال: «أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون». ). [الدر المنثور: 1/ 152 -155]

تفسير قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) )
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (قال سفيان [الثوري]: وكان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقرءونها {على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة}). [تفسير الثوري: 41]
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ} ]
- نا هشيمٌ، قال: نا أبو الأشهب، عن الحسن، وأبي رجاءٍ، قرأ أحدهما: (غشاوة) والآخر: (غشوة) ). [سنن سعيد بن منصور: 2/546]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ ولهم عذابٌ عظيمٌ}
قال أبو جعفرٍ: وأصل الختم: الطّبع، والخاتم: هو الطّابع يقال منه: ختمت الكتاب، إذا طبعته.
فإن قال لنا قائلٌ: وكيف يختم على القلوب، وإنّما الختم طبعٌ على الأوعية والظّروف والغلف.
قيل: فإنّ قلوب العباد أوعيةٌ لما أودعت من العلًوم وظروفٌ لما جعل فيها من المعارف بالأمور، فمعنى الختم عليها وعلى الأسماع الّتي بها تدرك المسموعات، ومن قبلها يوصل إلى معرفة حقائق الأنباء عن المغيبات، نظير معنى الختم على سائر الأوعية والظّروف.
فإن قال: فهل لذلك من صفةٍ تصفها لنا فنفهمها؟ أهي مثل الختم الّذي يعرف لمّا ظهر للأبصار، أم هي بخلاف ذلك؟
قيل: قد اختلف أهل التّأويل في صفة ذلك، وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم.
- فحدّثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرّمليّ، قال: حدّثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، قال: أرانا مجاهدٌ بيده فقال: «كانوا يرون أنّ القلب في مثل هذا، يعني الكفّ، فإذا أذنب العبد ذنبًا ضمّ منه، وقال بأصبعه الخنصر هكذا، فإذا أذنب ضمّ، وقال بأصبعٍ أخرى، فإذا أذنب ضمّ، وقال بأصبعٍ أخرى هكذا، حتّى ضمّ أصابعه كلّها»، قال: «ثمّ يطبع عليه بطابعٍ»، قال مجاهدٌ: «وكانوا يرون أنّ ذلك الرّين».
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا وكيعٌ، عن الأعمش، عن مجاهدٍ، قال: «القلب مثل الكفّ، فإذا أذنب ذنبًا قبض أصبعًا حتّى يقبض أصابعه كلّها، وكان أصحابنا يرون أنّه الرّان».
- حدّثنا القاسم بن الحسن، قال: حدّثنا الحسين بن داود، قال: حدّثني حجّاجٌ، قال: حدّثنا ابن جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ: «نبّئت أنّ الذّنوب على القلب تحفّ به من نواحيه حتّى تلتقي عليه، فالتقاؤها عليه الطّبع، والطّبع الختم»، قال ابن جريجٍ: الختم ختمٌ على القلب والسّمع.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: حدّثني عبد اللّه بن كثيرٍ، أنّه سمع مجاهدًا، يقول: «الرّان أيسر من الطّبع، والطّبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشدّ ذلك كلّه».
وقال بعضهم: إنّما معنى قوله: {ختم اللّه على قلوبهم} إخبارٌ من اللّه جلّ ثناؤه عن تكبّرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحقّ، كما يقال: إنّ فلانًا لأصمّ عن هذا الكلام، إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهّمه تكبّرًا.
والحقّ في ذلك عندي ما صحّ بنظيره الخبر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
- وهو ما حدّثنا به، محمّد بن يسارٍ، قال: حدّثنا صفوان بن عيسى، قال: حدّثنا ابن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نكتةٌ سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد زادت حتّى يغلّق قلبه؛ فذلك الرّان الّذي قال اللّه جلّ ثناؤه: {كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}».
فأخبر صلّى اللّه عليه وسلّم أنّ الذّنوب، إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذٍ الختم من قبل اللّه عزّ وجلّ والطّبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلكٌ، ولا للكفر منها مخلّصٌ، فذلك هو الطّبع والختم الّذي ذكره اللّه تبارك وتعالى في قوله: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم} نظير الطّبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظّروف الّتي لا يوصل إلى ما فيها إلاّ بفضّ ذلك عنها ثمّ حلّها، فكذلك لا يصلّ الإيمان إلى قلوب من وصف اللّه أنّه ختم على قلوبهم، إلاّ بعد فضّه خاتمه وحلّه رباطه عنها.
ويقال لقائلي القول الثّاني الزّاعمين أنّ معنى قوله جلّ ثناؤه: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم} هو وصفهم بالاستكبار والإعراض عن الّذي دعوا إليه من الإقرار بالحقّ تكبّرًا: أخبرونا عن استكبار الّذين وصفهم اللّه جلّ ثناؤه بهذه الصّفة وإعراضهم عن الإقرار بما دعوا إليه من الإيمان وسائر المعاني اللّواحق به، أفعلٌ منهم، أم فعلٌ من اللّه تعالى ذكره بهم؟
فإن زعموا أنّ ذلك فعلٌ منهم وذلك قولهم، قيل لهم: فإنّ اللّه تبارك وتعالى قد أخبر أنّه هو الّذي ختم على قلوبهم وسمعهم، وكيف يجوز أن يكون إعراض الكافر عن الإيمان وتكبّره عن الإقرار به، وهو فعله عندكم ختمًا من اللّه على قلبه وسمعه، وختمه على قلبه وسمعه فعل اللّه عزّ وجلّ دون فعل الكافر؟ فإن زعموا أنّ ذلك جازٌ أن يكون كذلك، لأنّ تكبّره وإعراضه كانا عن ختم اللّه على قلبه وسمعه، فلمّا كان الختم سببًا لذلك جاز أن يسمّى مسبّبه به؛ تركوا قولهم، وأوجبوا أنّ الختم من اللّه على قلوب الكفّار وأسماعهم معنى غير كفر الكافر وغير تكبّره وإعراضه عن قبول الإيمان والإقرار به، وذلك دخولٌ فيما أنكروه.
وهذه الآية من أوضح الدلّيل على فساد قول المنكرين تكليف ما لا يطاق إلاّ بمعونة اللّه؛ لأنّ اللّه جلّ ثناؤه أخبر أنّه ختم على قلوب صنفٍ من كفّار عباده وأسماعهم، ثمّ لم يسقط التّكليف عنهم ولم يضع عن أحدٍ منهم فرائضه ولم يعذره في شيءٍ ممّا كان منه من خلاف طاعته بسبب ما فعل به من الختم والطّبع على قلبه وسمعه، بل أخبر أنّ لجميعهم منه عذابًا عظيمًا على تركهم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه من حدوده وفرائضه مع حتمه القضاء مع ذلك أنّهم لا يؤمنون). [جامع البيان: 1/ 265 -268]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وعلى أبصارهم غشاوةٌ}
قال أبو جعفرٍ: وقوله: {وعلى أبصارهم غشاوةٌ} خبر مبتدأٍ بعد تمام الخبر عمّا ختم اللّه جلّ ثناؤه عليه من جوارح الكفّار الّذين مضت قصصهم، وذلك أنّ {غشاوةٌ} مرفوعةٌ بقوله: {وعلى أبصارهم} فذلك دليلٌ على أنّه خبر مبتدأٍ، وأنّ قوله: {ختم اللّه على قلوبهم} قد تناهى عند قوله: {وعلى سمعهم} وذلك هو القراءة الصّحيحة عندنا لمعنيين.
أحدهما: اتّفاق الحجّة من القرّاء والعلماء على الشّهادة بتصحيحها، وانفراد المخالف لهم في ذلك وشذوذه عمّا هم على تخطئته مجمعون؛ وكفى بإجماع الحجّة على تخطئة قراءة شاهدًا على خطئها.
والثّاني: أنّ الختم غير موصوفةٍ به العيون في شيءٍ من كتاب اللّه، ولا في خبرٍ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ولا موجودٌ في لغة أحدٍ من العرب. وقد قال تبارك وتعالى في سورةٍ أخرى: {وختم على سمعه وقلبه} ثمّ قال: {وجعل على بصره غشاوةً} فلم يدخل البصر في معنى الختم، وذلك هو المعروف في كلام العرب. فلم يجز لنا ولا لأحدٍ من النّاس القراءة بنصب الغشاوة لما وصفت من العلّتين اللّتين ذكرت، وإن كان لنصبها مخرجٌ معروفٌ في العربيّة.
وبما قلنا في ذلك من القول والتّأويل، روي الخبر عن ابن عبّاسٍ.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي الحسين بن الحسن، عن أبيه، عن جدّه، عن ابن عبّاسٍ: «{ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم} والغشاوة على أبصارهم».
فإن قال قائلٌ: وما وجه مخرج النّصب فيها؟
قيل له: أن تنصبها بإضمار جعل كأنّه قال: وجعل على أبصارهم غشاوةً؛ ثمّ أسقط جعل؛ إذ كان في أوّل الكلام ما يدلّ عليه، وقد يحتمل نصبها على اتّباعها موضع السّمع إذ كان موضعه نصبًا، وإن لم يكن حسنًا إعادة العامل فيه على غشاوةٍ ولكن على إتباع الكلام بعضه بعضًا، كما قال تعالى ذكره: {يطوف عليهم ولدانٌ مخلّدون بأكوابٍ وأباريق}، ثمّ قال: {وفاكهةٍ ممّا يتخيّرون ولحم طيرٍ ممّا يشتهون وحورٍ عينٍ} فخفض اللّحم والحور العين على العطف به على الفاكهة إتباعًا لآخر الكلام أوّله، ومعلومٌ أنّ اللّحم لا يطاف به ولا بالحور العين، ولكنّ ذلك كما قال الشّاعر يصف فرسه:

علفتها تبنًا وماءً باردًا ....... حتّى شتت همّالةً عيناها

ومعلومٌ أنّ الماء يشرب ولا يعلف، ولكنّه نصب ذلك على ما وصفت قبل. وكما قال الآخر:

ورأيت زوجك في الوغى ....... متقلّدًا سيفًا ورمحا

وكان ابن جريجٍ يقول في انتهاء الخبر عن الختم إلى قوله: {وعلى سمعهم} وابتداء الخبر بعده؛ بمثل الّذي قلنا فيه، ويتأوّل فيه من كتاب اللّه: {فإن يشإ اللّه يختم على قلبك}.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، قال: حدّثنا ابن جريجٍ، قال: «الختم على القلب والسّمع، والغشاوة على البصر قال اللّه تعالى ذكره: {فإن يشإ اللّه يختم على قلبك} وقال: {وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوةً}».
والغشاوة في كلام العرب: الغطاء ومنه قول الحارث بن خالد بن العاص:

تبعتك إذ عيني عليها غشاوةٌ ....... فلمّا انجلت قطّعت نفسي ألومها

ومنه يقال: تغشّانى الهمّ: إذا تجلّله وركبه. ومنه قول نابغة بني ذبيان:

هلاّ سألت بني ذبيان ما حسبي ....... إذا الدّخان تغشّى الأشمط البرما

يعني بذلك: إذا تجلّله وخالطه.
وإنّما أخبر اللّه تعالى ذكره نبيّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم عن الّذين كفروا به من أحبار اليهود، أنّه قد ختم على قلوبهم وطبع عليها فلا يعقلون للّه تبارك وتعالى موعظةً وعظهم بها فيما آتاهم من علم ما عندهم من كتبه، وفيما حدّد في كتابه الّذي أوحاه وأنزله إلى نبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وعلى سمعهم فلا يسمعون من محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم نبيّ اللّه تحذيرًا ولا تذكيرًا ولا حجّةً أقامها عليهم بنبوّته، فيتذكّروا ويحذروا عقاب اللّه عزّ وجلّ في تكذيبهم إيّاه، مع علمهم بصدقه وصحّة أمره؛ وأعلمه مع ذلك أنّ على أبصارهم غشاوةً عن أن يبصروا سبيل الهدى فيعلموا قبيح ما هم عليه من الضّلالة والرّدى.
وبنحو ما قلنا في ذلك روي الخبر عن جماعةٍ من أهل التّأويل.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ} أي عن الهدى أن يصيبوه أبدًا بغير ما كذّبوك به من الحقّ الّذي جاءك من ربّك، حتّى يؤمنوا به، وإن آمنوا بكلّ ما كان قبلك».
- حدّثني موسى بن هارون الهمدانيّ، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم} يقول فلا يعقلون، ولا يسمعون ويقول: وجعل على أبصارهم غشاوةً، يقول: على أعينهم فلا يبصرون.
وأمّا آخرون فإنّهم كانوا يتأوّلون أنّ الّذين أخبر اللّه عنهم من الكفّار أنّه فعل ذلك بهم هم قادة الأحزاب الّذين قتلوا يوم بدرٍ.
- حدّثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا إسحاق بن الحجّاج، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ، قال: «هاتان الآيتان إلى قوله: {ولهم عذابٌ عظيمٌ} هم: {الّذين بدّلوا نعمة اللّه كفرًا وأحلّوا قومهم دار البوار} وهم الّذين قتلوا يوم بدرٍ فلم يدخل من القادة أحدٌ في الإسلام إلاّ رجلان: أبو سفيان بن حربٍ، والحكم بن أبي العاص».
- وحدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن الحسن، قال:«أمّا القادة فليس فيهم نجيبٌ، ولا ناجٍ، ولا مهتدٍ».
وقد دلّلنا فيما مضى على أولى هذين التّأويلين بالصّواب فكرهنا إعادته). [جامع البيان: 1/ 269 - 273]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولهم عذابٌ عظيمٌ}
وتأويل ذلك عندي كما قاله ابن عبّاسٍ وتأوّله.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «ولهم بما هم عليه من خلافك عذابٌ عظيمٌ، قال: فهذا في الأحبار من يهود فيما كذّبوك به من الحقّ الّذي جاءك من ربّك بعد معرفتهم».). [جامع البيان: 1/274]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ ولهم عذابٌ عظيمٌ (7)}
قوله: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم}
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ أبو غسّان محمّد بن عمرٍو زنيجٌ، ثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق قال فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٌ مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: قوله: «{ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ} أي: عن الهدى أن يصيبوه أبدًا بغير ما كذّبوك به من الحقّ الّذي جاءك من ربّك حتّى يؤمنوا به وإن آمنوا بكلّ ما كان قبلك، ولهم بما هم عليه من خلافك عذابٌ عظيمٌ، فهذا في الأحبار من يهود فيما كذّبوا به من الحقّ بعد معرفته».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم} يقول: «فلا يسمعون ولا يعقلون».
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا محمّد بن المثنّى، ثنا محمّد بن جهضمٍ، ثنا أبو معشرٍ، عن سعيدٍ المقبريّ قال: «ختم اللّه على قلوبهم بالكفر».
- حدّثنا موسى بن أبي موسى الأنصاريّ، ثنا هارون بن حاتمٍ، ثنا عبد الرّحمن ابن أبي حمّادٍ، عن أسباطٍ، عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ:«ختم اللّه يعني طبع اللّه».
- أخبرنا موسى بن هارون الطّوسيّ فيما كتب إليّ، ثنا الحسين بن محمّدٍ المرّوذيّ، ثنا شيبان بن عبد الرّحمن- يعني النّحويّ- عن قتادة قال:«استحوذ عليهم الشيطان إذ أطاعوه، فـ {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ}، فهم لا يبصرون هدًى، ولا يسمعون ولا يفقهون، ولا يعقلون».
- حدّثنا الحسين بن الحسن، ثنا إبراهيم بن عبد اللّه بن حاتمٍ الهرويّ، أنبأ الحجّاج بن محمّدٍ، عن ابن جريجٍ عن مجاهدٍ: {ختم اللّه على قلوبهم} قال: «الطّبع ثبتت الذّنوب على القلب تحفّ به من كلّ نواحيه حتّى تلتقي عليه. فالتقاؤها عليه الطّبع. والطّبع الختم».). [تفسير القرآن العظيم: 1/41]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وعلى أبصارهم غشاوةٌ}
- أخبرنا محمّد بن سعد بن محمّد بن الحسن بن عطيّة العوفي فيما كتب إليّ حدّثني أبي، حدّثني عمّي الحسين، عن أبيه، عن جدّه، عن ابن عبّاسٍ في قوله: «{ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} والغشاوة على أبصارهم».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {وعلى أبصارهم غشاوةٌ}: يقول: جعل على أبصارهم غشاوةٌ، يقول: على أعينهم فهم لا يبصرون.). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 41- 42]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ولهم عذابٌ عظيمٌ}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {عذابٌ} يقول:«نكالٌ».
- قرأت على محمّد بن الفضل بن موسى، ثنا محمّد بن عليٍّ، أنبأ محمد ابن مزاحمٍ عن بكير بن معروفٍ، عن مقاتل بن حيّان، قوله: «{ولهم عذابٌ عظيمٌ} يعني عذاب وافر».). [تفسير القرآن العظيم: 1/42]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال:«الختم على قلوبهم وعلى سمعهم والغشاوة على أبصارهم».
وأخرج ابن جريج عن ابن مسعود قال: «{ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} فلا يعقلون ولا يسمعون وجعل على أبصارهم، يقول: أعينهم {غشاوة} فلا يبصرون».
وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: «أخبرني عن قوله عز وجل: {ختم الله على قلوبهم}»، قال: «طبع الله عليها»، قال: «وهل تعرف العرب ذلك»، قال: «أما سمعت الأعشى وهو يقول: وصهباء طاف يهود بها ....... فأبرزها وعليها ختم».
وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن وأبي رجاء: قرأ أحدهما {غشاوة} والآخر (غشوة)). [الدر المنثور: 1/ 155 - 156]

تفسير قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنبأنا معمر عن قتادة في قوله: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} حتى بلغ {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} قال:«هذه في المنافقين».). [تفسير عبد الرزاق: 1/39]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}
قال أبو جعفرٍ: أمّا قوله: {ومن النّاس} فإنّ في النّاس وجهين: أحدهما أن يكون جمعًا لا واحد له من لفظه، وإنّما واحدهم إنسانٌ وواحدتهم إنسانةٌ.
والوجه الآخر: أن يكون أصله أناسٌ أسقطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها، ثمّ دخلتها الألف واللاّم المعرّفتان، فأدغمت اللاّم الّتي دخلت مع الألف فيها للتّعريف في النّون، كما قيل في: {لكنّا هو اللّه ربّي} على ما قد بيّنّا في اسم اللّه الّذي هو اللّه.
وقد زعم بعضهم أنّ النّاس لغةٌ غير أناسٍ، وأنّه سمع العرب تصغّره نويسٌ من النّاس، وأنّ الأصل لو كان أناسٌ لقيل في التّصغير: أنيسٌ، فردّ إلى أصله.
قال أبو جعفرٍ: وأجمع جميع أهل التّأويل على أنّ هذه الآية نزلت في قومٍ من أهل النّفاق، وأنّ هذه الصّفة صفتهم.
ذكر بعض من قال ذلك من أهل التّأويل بأسمائهم.
- حدّثنا محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} يعني: المنافقين من الأوس والخزرج، ومن كان على أمرهم».
وقد سميّ في حديث ابن عبّاسٍ هذا أسماؤهم عن أبيّ بن كعبٍ، غير أنّي تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرّزّاق، قال: أنبأنا معمرٌ، عن قتادة، في قوله: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} حتّى بلغ: {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} قال: «هذه في المنافقين».
- حدّثنا محمّد بن عمرٍو الباهليّ، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى بن ميمونٍ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: «هذه الآية إلى ثلاث عشرة في نعت المنافقين».
- حدّثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله.
- حدّثنا سفيان، قال: حدّثنا أبي، عن سفيان، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ مثله.
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن إسماعيل السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} «هم المنافقون».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ، في قوله: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر} إلى: {فزادهم اللّه مرضًا ولهم عذابٌ أليمٌ} قال: «هؤلاء أهل النّفاق».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين بن داود، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، في قوله: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} قال: «هذا المنافق يخالف قوله فعله وسرّه علانيته ومدخله مخرجه ومشهده مغيبه».
وتأويل ذلك أنّ اللّه جلّ ثناؤه لمّا جمع لرسوله محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم أمره في دار هجرته واستقرّ بها قراره وأظهر اللّه بها كلمته، وفشا في دور أهلها الإسلام، وقهر بها المسلمون من فيها من أهل الشّرك من عبدة الأوثان، وذلّ بها من فيها من أهل الكتاب؛ أظهر أحبار يهودها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الضّغائن وأبدوا له العداوة والشّنآن حسدًا وبغيًا إلاّ نفرًا منهم، هداهم اللّه للإسلام فأسلموا، كما قال اللّه جلّ ثناؤه: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحقّ} وطابقهم سرًّا على معاداة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه وبغيهم الغوائل قومٌ من أراهط الأنصار الّذين آووا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ونصروه كانوا قد عسوا في شركهم وجاهليّتهم قد سمّوا لنا بأسمائهم، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم.
وظاهروهم على ذلك في خفاءٍ غير جهارٍ حذار القتل على أنفسهم والسّباء من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، وركونًا إلى اليهود، لما هم عليه من الشّرك وسوء البصيرة بالإسلام، فكانوا إذا لقوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأهل الإيمان به من أصحابه، قالوا لهم حذارًا على أنفسهم: إنّا مؤمنون باللّه وبرسوله وبالبعث، وأعطوهم بألسنتهم كلمة الحقّ ليدرءوا عن أنفسهم حكم اللّه فيمن اعتقد ما هم عليه مقيمون من الشّرك لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم، وإذا لقوا إخوانهم من اليهود وأهل الشّرك والتّكذيب بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وبما جاء به فخلوا بهم، قالوا: {إنّا معكم إنّما نحن مستهزئون} فإيّاهم عنى جلّ ذكره بقوله: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} يعني بقوله تعالى خبرًا عنهم: {آمنّا باللّه}: صدّقنا باللّه.
وقد دلّلنا على أنّ معنى الإيمان التّصديق فيما مضى قبل من كتابنا هذا قبل.
وقوله: {وباليوم الآخر} يعني بالبعث يوم القيامة، وإنّما سمّي يوم القيامة اليوم الآخر: لأنّه آخر يومٍ، لا يوم بعده سواه.
فإن قال قائلٌ: وكيف لا يكون بعده يومٌ، ولا انقطاع للآخرة، ولا فناء، ولا زوال؟
قيل: إنّ اليوم عند العرب إنّما سمّي يومًا بليلته الّتي قبله، فإذا لم يتقدّم النّهار ليلٌ لم يسمّ يومًا، فيوم القيامة يومٌ لا ليل له بعده سوى اللّيلة الّتي قامت في صبيحتها القيامة، فذلك اليوم هو آخر الأيّام، ولذلك سمّاه اللّه جلّ ثناؤه: اليوم الآخر، ونعته بالعقم، ووصفه بأنّه يومٌ عقيمٌ لأنّه لا ليل بعده.
وأمّا تأويل قوله: {وما هم بمؤمنين} ونفيه عنهم جلّ ذكره اسم الإيمان، وقد أخبر عنهم أنّهم قد قالوا بألسنتهم آمنّا باللّه وباليوم الآخر؛ فإنّ ذلك من اللّه جلّ وعزّ تكذيبٌ لهم فيما أخبروا عن اعتقادهم من الإيمان بقلوبهم والإقرار بالبعث، وإعلامٌ منه نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّ الّذي يبدونه له بأفواههم خلاف ما في ضمائر قلوبهم، وضدّ ما في عزائم نفوسهم.
وفي هذه الآية دلالةٌ واضحةٌ على بطول ما زعمته الجهميّة من أنّ الإيمان هو التّصديق بالقول دون سائر المعاني غيره، وقد أخبر اللّه جلّ ثناؤه عن الّذين ذكرهم في كتابه من أهل النّفاق أنّهم قالوا بألسنتهم: {آمنّا باللّه وباليوم الآخر} ثمّ نفى عنهم أن يكونوا مؤمنين، إذ كان اعتقادهم غير مصدّقٍ قيلهم ذلك.
وقوله: {وما هم بمؤمنين} يعني بمصدّقين بما يزعمون أنّهم به مصدّقون). [جامع البيان: 1/ 274 - 279]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8) يخادعون اللّه والّذين آمنوا وما يخدعون إلّا أنفسهم وما يشعرون (9)}
قوله تعالى: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر}
- حدّثنا محمّد بن يحيى ثنا أبو غسّان محمّد بن عمرٍو زنيجٌ، ثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق قال فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} يعني- المنافقين من الأوس والخزرج، ومن كان على أمرهم».
- حدّثنا عصام بن روّاد بن الجرّاح، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية في قوله: {ومن النّاس من يقول آمنّا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} قال: «هؤلاء المنافقون». قال أبو محمّدٍ: وكذلك فسّره الحسن، وقتادة، والسّدّيّ). [تفسير القرآن العظيم: 1/42]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله تعالى:{وما هم بمؤمنين}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، حدّثني عبد اللّه بن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ قوله: {وما هم بمؤمنين} قال: «مصدّقين».). [تفسير القرآن العظيم: 1/42]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}.
أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: «{ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} يعني: المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم».
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير عن ابن عباس، أن سورة البقرة إلى المائة منها هي رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ومن المنافقين من الأوس والخزرج.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} قال: «المراد بهذه الآية المنافقون».
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير عن قتادة في قوله: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر} حتى بلغ {وما كانوا مهتدين} قال:«هذه في المنافقين».
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: {ومن الناس من يقول آمنا بالله} الآية، قال: «هذا نعت المنافق نعت عبدا خائن السريرة كثير الإخلاف يعرف بلسانه وينكر بقلبه ويصدق بلسانه ويخالف بعمله ويصبح على حال ويمسي على غيره ويتكفأ تكفؤ السفينة كلما هبت ريح هب فيها.».
وأخرج ابن المنذر عن محمد بن سيرين قال: «لم يكن عندهم أخوف من هذه الآية {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}».
وأخرج عبد بن حميد عن يحيى بن عتيق قال: كان محمد يتلو هذه الآية عند ذكر الحجاج ويقول: «أنا لغير ذلك أخوف {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين}».
وأخرج ابن سعد عن أبي يحيى قال سأل رجل حذيفة وأنا عنده فقال: وما النفاق قال: «أن تتكلم باللسان ولا تعمل به».). [الدر المنثور: 1/ 156 - 158]


تفسير قوله تعالى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {يخادعون اللّه والّذين آمنوا وما يخدعون إلاّ أنفسهم وما يشعرون}
قال أبو جعفرٍ: وخداع المنافق ربّه والمؤمنين إظهاره بلسانه من القول والتّصديق خلاف الّذي في قلبه من الشّكّ والتّكذيب ليدرأ عن نفسه بما أظهر بلسانه حكم اللّه عزّ وجلّ، اللاّزم من كان بمثل حاله من التّكذيب لو لم يظهر بلسانه ما أظهر من التّصديق والإقرار، من القتل والسّباء، فذلك خداعه ربّه وأهل الإيمان باللّه.
فإن قال قائلٌ: وكيف يكون المنافق للّه وللمؤمنين مخادعًا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقدٌ إلاّ تقيّةً؟
قيل: لا تمتنع العرب أن تسمّي من أعطى بلسانه غير الّذي هو في ضميره تقيّةً لينجو ممّا هو له خائفٌ، فنجا بذلك ممّا خافه مخادعًا لمن تخلّص منه بالّذي أظهر له من التّقيّة، فكذلك المنافق سمّي مخادعًا للّه وللمؤمنين بإظهاره ما أظهر بلسانه تقيّةً ممّا تخلّص به من القتل والسّباء فى العاجل، وهو لغير ما أظهر مستبطنٌ، وذلك من فعله وإن كان خدّاعًا للمؤمنين في عاجل الدّنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادعٌ؛ لأنّه يظهر لها بفعله ذلك بها أنّه يعطيها أمنيّتها ويسقيها كأس سرورها، وهو موردها به حياض عطبها، ومجرعها به كأس عذابها، ومذيقها من غضب اللّه وأليم عقابه ما لا قبل لها به، فذلك خديعته نفسه ظنًّا منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنّه إليها محسنٌ، كما قال جلّ ثناؤه: {وما يخدعون إلاّ أنفسهم وما يشعرون} إعلامًا منه عباده المؤمنين أنّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم وإسخاطهم عليهم ربّهم بكفرهم وشكّهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين، ولكنّهم على عمياء من أمرهم مقيمون.
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك كان ابن زيدٍ يقول.
- حدّثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: سألت عبد الرّحمن بن زيدٍ، عن قول اللّه، جلّ ذكره: {يخادعون اللّه والّذين آمنوا} إلى آخر الآية، قال: «هؤلاء المنافقون يخادعون اللّه ورسوله والّذين آمنوا، أنّهم مؤمنون بما أظهروا».
وهذه الآية من أوضح الدّليل على تكذيب اللّه قول الزّاعمين: إنّ اللّه لا يعذّب من عباده إلاّ من كفر به عنادًا، بعد علمه بوحدانيّته، وبعد تقرّر صحّة ما عاند ربّه تبارك وتعالى عليه من توحيده والإقرار بكتبه ورسله عنده؛ لأنّ اللّه جلّ ثناؤه قد أخبر عن الّذين وصفهم بما وصفهم به من النّفاق وخداعهم إيّاه والمؤمنين أنّهم لا يشعرون أنّهم مبطلون فيما هم عليه من الباطل مقيمون، وأنّهم بخداعهم الّذي يحسبون أنّهم به يخادعون ربّهم وأهل الإيمان به مخدوعون، ثمّ أخبر تعالى ذكره أنّ لهم عذابًا أليمًا بتكذيبهم بما كانوا يكذّبونه من نبوّة نبيّه واعتقاد الكفر به، وبما كانوا يكذبون في زعمهم أنّهم مؤمنون، وهم على الكفر مصرّون.
فإن قال لنا قائلٌ: قد علمت أنّ المفاعلة لا تكون إلاّ من فاعلين، كقولك: ضاربت أخاك، وجالست أباك؛ إذا كان كلّ واحدٍ مجالس صاحبه ومضاربه. فأمّا إذا كان الفعل من أحدهما فإنّما يقال: ضربت أخاك أوجلست إلى أبيك، فمن خادع المنافق فجاز أن يقال فيه: يخادع اللّه والمؤمنون.
قيل: قد قال بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب: إنّ ذلك حرفٌ جاء بهذه الصّورة، أعني يخادع بصورة يفاعل وهو بمعنى يفعل في حروفٍ أمثالها شاذّةٌ من منطق العرب، نظير قولهم: قاتلك اللّه، بمعنى قتلك اللّه.
وليس القول في ذلك عندي كالّذي قال، بل ذلك من التّفاعل الّذي لا يكون إلاّ من اثنين كسائر ما يعرف من معنى يفاعل ومفاعلٍ في كلّ كلام العرب، وذلك أنّ المنافق يخادع اللّه جلّ ثناؤه بكذبه بلسانه على ما قد تقدّم وصفه، واللّه تبارك اسمه خادعه بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاة نفسه في آجل معاده، كالّذي أخبر في قوله: {ولا يحسبنّ الّذين كفروا أنّما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنّما نملي لهم ليزدادوا إثمًا} وبالمعنى الّذي أخبر أنّه، فاعلٌ به في الآخرة بقوله: {يوم يقول المنافقون والمنافقات للّذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم} الآية، فذلك نظير سائر ما يأتي من معاني الكلام بفاعلٍ ومفاعلٌ.
وقد كان بعض أهل النّحو من أهل البصرة يقول: لا تكون المفاعلة إلاّ من شيئين، ولكنّه إنّما قيل: يخادعون اللّه عند أنفسهم بظنّهم أن لا يعاقبوا، فقد علموا خلاف ذلك في أنفسهم بحجّة اللّه تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته {وما يخدعون إلاّ أنفسهم} قال: وقد قال بعضهم: {وما يخدعون} يقول: يخدعون أنفسهم بالتّخلية بها. وقد تكون المفاعلة من واحدٍ في أشياء كثيرةٍ). [جامع البيان: 1/ 279 - 283]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وما يخدعون إلاّ أنفسهم}
إن قال لنا قائلٌ: أوليس المنافقون قد خدعوا المؤمنين بما أظهروا بألسنتهم من قيل الحقّ عن أنفسهم وأموالهم وذراريّهم حتّى سلمت لهم دنياهم وإن كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم؟
قيل: خطأٌ أن يقال إنّهم خدعوا المؤمنين؛ لأنّا إذا قلنا ذلك أوجبنا لهم حقيقة خدعةٍ جازت لهم على المؤمنين، كما أنّا لو قلنا: قتل فلانٌ فلانًا، أوجبنا له حقيقة قتلٍ كان منه لفلانٍ، ولكنّا نقول: خادع المنافقون ربّهم والمؤمنين، ولم يخدعوهم بل خدعوا أنفسهم، كما قال جلّ ثناؤه دون غيرها، نظير ما تقول في رجلٍ قاتل آخر فقتل نفسه ولم يقتل صاحبه: قاتل فلانٌ فلانًا ولم يقتل إلاّ نفسه، فتوجب له مقاتلة صاحبه، وتنفي عنه قتله صاحبه، وتوجب له قتل نفسه.
فكذلك تقول: خادع المنافق ربّه والمؤمنين، ولم يخدع إلاّ نفسه، فتثبت منه مخادعة ربّه والمؤمنين، وتنفي أن يكون خدع غير نفسه؛ لأنّ الخادع هو الّذي قد صحّت له الخديعة ووقع منه فعلها، فالمنافقون لم يخدعوا غير أنفسهم، لأنّ ما كان لهم من مالٍ وأهلٍ فلم يكن المسلمون ملكوه عليهم في حال خداعهم إيّاهم عنه بنفاقهم ولا قبلها فيستنقذوه بخداعهم منهم، وإنّما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غير الّذي في ضمائرهم، وبحكم اللّه لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريّهم في ظاهر أمورهم بحكم ما انتسبوا إليه من الملّة، واللّه بما يخفون من أمورهم عالمٌ. وإنّما الخادع من ختل غيره عن شيئه، والمخدوع غير عالمٍ بموضع خديعة خادعه، فأمّا والمخادع عارفٌ بخداع صاحبه إيّاه، وغير لاحقه من خداعه إيّاه مكروهٌ، بل إنّما يتجافى للظّانّ به أنّه له مخادعٌ استدراجًا ليبلغ غايةً يتكامل له عليه الحجّة للعقوبة الّتي هو به موقعٌ عند بلوغه إيّاها. والمستدرج غير عالمٍ بحال نفسه عند مستدرجه، ولا عارفٍ باطّلاعه على ضميره، وأنّ إمهال مستدرجه إيّاه وتركه معالجة عقوبته على جرمه ليبلغ المخاتل المخادع من استحقاقه عقوبة مستدرجه بكثرة إساءته وطول عصيانه إيّاه وكثرة صفح المستدرج وطول عفوه عنه أقصى غايةٍ، فإنّما هو خادعٌ نفسه لا شكّ دون من حدّثته نفسه أنّه له مخادعٌ، ولذلك نفى اللّه جلّ ثناؤه عن المنافق أن يكون خدع غير نفسه، إذ كانت الصّفة الّتي وصفنا صفته.
وإذ كان الأمر على ما وصفنا من خداع المنافق ربّه وأهل الإيمان به، وأنّه غير صائرٍ بخداعه ذلك إلى خديعةٍ صحيحةٍ إلاّ لنفسه دون غيرها لما يورّطها بفعله من الهلاك والعطب، فالواجب إذًا أن يكون الصّحيح من القراءة: {وما يخدعون إلاّ أنفسهم} دون: وما يخادعون، لأنّ لفظ المخادع غير موجبٍ تثبيت خديعةٍ على صحّةٍ، ولفظ خادعٍ موجبٌ تثبيت خديعةٍ على صحّةٍ، ولا شكّ أنّ المنافق قد أوجب تثبيت خديعة اللّه لنفسه بما ركب من خداعه ربّه ورسوله والمؤمنين بنفاقه، فلذلك وجبت الصّحّة لقراءة من قرأ: {وما يخدعون إلاّ أنفسهم}.
ومن الدّلالة أيضًا على أنّ قراءة من قرأ: {وما يخدعون} أولى بالصّحّة من قراءة من قرأ: (وما يخادعون ) أنّ اللّه جلّ ثناؤه قد أخبر عنهم أنّهم يخادعون اللّه والمؤمنين في أوّل الآية، فمحالٌ أن ينفي عنهم ما قد أثبت أنّهم قد فعلوه، لأنّ ذلك تضادٌّ في المعنى، وذلك غير جائزٍ من اللّه جلّ ثناؤه). [جامع البيان: 1/ 283 - 285]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وما يشعرون}
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وما يشعرون} وما يدرون، يقال: ما شعر فلانٌ بهذا الأمر، وهو لا يشعر به إذا لم يدر به ولم يعلم شعرًا وشعورًا، وقال الشّاعر:

عقّوا بسهمٍ ولم يشعر به أحدٌ ....... ثمّ استفاءوا وقالوا حبّذا الوضح

يعني بقوله: لم يشعر به أحد: لم يدر به أحدٌ ولم يعلم.
فأخبر اللّه تعالى ذكره عن المنافقين، أنّهم لا يشعرون بأنّ اللّه خادعهم بإملائه لهم واستدراجه إيّاهم الّذي هو من اللّه جلّ ثناؤه إبلاغٌ إليهم في الحجّة والمعذرة، ومنهم لأنفسهم خديعةٌ، ولها في الآجل مضرّةٌ. كالّذي؛ حدّثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: سألت ابن زيدٍ عن قوله: {وما يخدعون إلاّ أنفسهم وما يشعرون} قال: «ما يشعرون أنّهم ضرّوا أنفسهم بما أسرّوا من الكفر والنّفاق وقرأ قول اللّه: {يوم يبعثهم اللّه جميعًا} قال: هم المنافقون حتّى بلغ {ويحسبون أنّهم على شيءٍ} قد كان الإيمان ينفعهم عندكم».). [جامع البيان: 1/ 285 - 286]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {يخادعون اللّه}
- أخبرنا عليّ بن المبارك فيما كتب إليّ ثنا زيد بن المبارك، ثنا محمّد بن ثورٍ، عن ابن جريجٍ في قوله: {يخادعون اللّه} قال: «يظهرون لا إله إلا اللّه، يريدون أن يحرّزوا بذلك دماءهم وأموالهم، وفي أنفسهم غير ذلك».
{في قلوبهم مرضٌ فزادهم اللّه مرضًا ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يكذبون (10)}
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد بن زريعٍ، ثنا سعيدٌ ابن أبي عروبة، عن قتادة، في قوله: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين. يخادعون الله والّذين آمنوا وما يخدعون إلّا أنفسهم وما يشعرون} « نعت المنافق: خنع الأخلاق، يصدّق بلسانه وينكر بقلبه، ويخالف بعلمه، ويصبح على حال ويسمى على غيره، ويسمى على حال ويصبح على غيره، يتكفأ تكفأ السفينة كلما هبت ريح هب معها».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 42 - 43]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.}
أخرج أحمد بن منيع في مسنده بسند ضعيف عن رجل من الصحابة، إن قائلا من المسلمين قال: يا رسول الله ما النجاة غدا، قال: «لا تخدع الله»، قال: وكيف نخادع الله، قال: «أن تعمل بما أمرك به تريد به غيره فاتقوا الرياء فإنه الشرك بالله فإن المرائي ينادى به يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة أسماء، يا كافر يا فاجر يا خاسر يا غادر، ضل عملك وبطل أجرك فلا خلاق لك اليوم عند الله فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع وقرأ من القرآن: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا} [الكهف الآية 110] الآية و{إن المنافقين يخادعون الله} [النساء الآية 142] الآية.».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله: {يخادعون الله} قال: «يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دمائهم وأموالهم وفي أنفسهم غير ذلك».
وأخرج ابن جرير عن ابن وهب قال: سألت ابن زيد عن قوله: {يخادعون الله والذين آمنوا} قال: «هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا أنهم يؤمنون بما أظهروه»، وعن قوله {وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} قال:« ما يشعرون بأنهم ضروا أنفسهم بما أسروا من الكفر والنفاق ثم قرأ {يوم يبعثهم الله جميعا}، قال: هم المنافقون، حتى بلغ قوله {ويحسبون أنهم على شيء} [المجادلة الآية 18] .».
وأخرج البيهقي في الشعب عن قيس بن سعد قال: «لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم المكر والخديعة في النار لكنت أمكر
هذه الأمة». ). [الدر المنثور: 1/ 158 - 160]

تفسير قوله تعالى: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضًا ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يكذبون}
قال أبو جعفرٍ: وأصل المرض: السّقم، ثمّ يقال ذلك في الأجساد والأديان فأخبر اللّه جلّ ثناؤه أنّ في قلوب المنافقين مرضًا، وإنّما عنى تبارك وتعالى بخبره عن مرض قلوبهم الخبر عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد، ولكن لمّا كان معلومًا بالخبر عن مرض القلب أنّه معنيٌّ به مرض ما هم معتقدوه من الاعتقاد استغنى بالخبر عن القلب بذلك، والكناية به عن تصريح الخبر عن ضمائرهم واعتقاداتهم؛ كما قال عمر بن لجأٍ:

وسبّحت المدينة لا تلمها ....... رأت قمرًا بسوقهم نهارا

يريد وسبّح أهل المدينة. فاستغنى بمعرفة السّامعين خبره بالخبر عن المدينة عن الخبر عن أهلها. ومثله قول عنترة العبسيّ:

هلاّ سألت الخيل يا ابنة مالك ....... إن كنت جاهلةً بما لم تعلمي

يريد: هلاّ سألت أصحاب الخيل؟ ومنه قولهم: يا خيل اللّه اركبي، يراد: يا أصحاب خيل اللّه اركبوا، والشّواهد على ذلك أكثر من أن يحصيها الكتابٌ، وفيما ذكرنا كفايةٌ لمن وفّق لفهمه.
فكذلك معنى قول اللّه جلّ ثناؤه: {في قلوبهم مرضٌ} إنّما يعني في اعتقاد قلوبهم الّذي يعتقدونه في الدّين والتّصديق بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وبما جاء به من عند اللّه مرضٌ وسقم، فاجتزأ بدلالة الخبر عن قلوبهم على معناه عن تصريح الخبر عن اعتقادهم.
والمرض الّذي ذكر اللّه جلّ ثناؤه أنّه في اعتقاد قلوبهم الّذي وصفناه هو شكّهم في أمر محمّدٍ، وما جاء به من عند اللّه وتحيّرهم فيه، فلا هم به موقنون إيقان إيمانٍ، ولا هم له منكرون إنكار إشراكٍ؛ ولكنّهم كما وصفهم اللّه عزّ وجلّ مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما يقال: فلانٌ تمرّض في هذا الأمر، أي يضعّف العزم ولا يصحّح الرّويّة فيه.
وبمثل الّذي قلنا في تأويل ذلك تظاهر القول في تفسيره من المفسّرين.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{في قلوبهم مرضٌ} أي شكٌّ».
- وحدّثت عن المنجاب، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، قال: «المرض: النّفاق».
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {في قلوبهم مرضٌ} يقول: «في قلوبهم شكٌّ».
- حدّثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال عبد الرّحمن بن زيدٍ في قوله: {في قلوبهم مرضٌ} قال: «هذا مرضٌ في الدّين وليس مرضًا في الأجساد، قال: هم المنافقون.».
- حدّثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا سويد بن نصرٍ، قال: أخبرنا ابن المبارك قراءةً عن سعيدٍ، عن قتادة، في قوله: {في قلوبهم مرضٌ} قال: «في قلوبهم ريبةٌ وشكٌّ في أمر اللّه جلّ ثناؤه».
- وحدّثت عن عمّار بن الحسن، قال حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ: {في قلوبهم مرضٌ} قال: «هؤلاء أهل النّفاق، والمرض الّذي في قلوبهم الشّكّ في أمر اللّه».
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال عبد الرّحمن بن زيدٍ: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر} حتّى بلغ: {في قلوبهم مرضٌ} قال: «المرض: الشّكّ الّذي دخلهم في الإسلام».). [جامع البيان: 1/ 286 - 289]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فزادهم اللّه مرضًا}.
قد دلّلنا آنفًا على أنّ تأويل المرض الّذي وصف اللّه جلّ ثناؤه أنّه في قلوب المنافقين: هو الشّكّ في اعتقادات قلوبهم وأديانهم وما هم عليه، في أمر محمّدٍ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأمر نبوّته وما جاء به، مقيمون.
فالمرض الّذي أخبر اللّه جلّ ثناؤه عنهم أنّه زادهم على مرضهم هو نظير ما كان في قلوبهم من الشّكّ والحيرة قبل الزّيادة، فزادهم اللّه بما أحدث من حدوده وفرائضه الّتي لم يكن فرضها قبل الزّيادة الّتي زادها المنافقين، من الشّكّ والحيرة إذ شكّوا وارتابوا في الّذي أحدث لهم من ذلك، إلى المرض والشّكّ الّذي كان في قلوبهم في السّالف من حدوده وفرائضه الّتي كان فرضها قبل ذلك، كما زاد المؤمنين به إلى إيمانهم الّذي كانوا عليه قبل ذلك بالّذي أحدث لهم من الفرائض والحدود إذ آمنوا به، إلى إيمانهم بالسّالف من حدوده وفرائضه إيمانًا، كالّذي قال جلّ ثناؤه في تنزيله: {وإذا ما أنزلت سورةٌ فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيمانًا فأمّا الّذين آمنوا فزادتهم إيمانًا وهم يستبشرون وأمّا الّذين في قلوبهم مرضٌ فزادتهم رجسًا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون} فالزّيادة الّتي زيدها المنافقون من الرّجاسة إلى رجاستهم هو ما وصفنا، والزّيادة الّتي زيدها المؤمنون إلى إيمانهم هو ما بيّنّا، وذلك هو التّأويل المجمع عليه.
ذكر بعض من قال ذلك من أهل التّأويل.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {فزادهم اللّه مرضًا} قال: «شكًّا».
- حدّثني موسى بن هارون، قال: أخبرنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {فزادهم اللّه مرضًا} يقول:«فزادهم اللّه شكًّا».
- حدّثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا سويد بن نصرٍ، قال: أخبرنا ابن المبارك، قراءةً عن سعيدٍ، عن قتادة: {فزادهم اللّه مرضًا} يقول:«فزادهم اللّه ريبةً وشكًّا في أمر اللّه».
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قول اللّه: {في قلوبهم مرضٌ فزادهم اللّه مرضًا} قال: « زادهم رجسًا». وقرأ قول اللّه عزّ وجلّ: {فأمّا الّذين آمنوا فزادتهم إيمانًا وهم يستبشرون} {وأمّا الّذين في قلوبهم مرضٌ فزادتهم رجسًا إلى رجسهم} قال: «شرًّا إلى شرّهم، وضلالةً إلى ضلالتهم».
- وحدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع: «{فزادهم اللّه مرضًا} فزادهم اللّه شكًّا».). [جامع البيان: 1/ 289 - 291]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولهم عذابٌ أليمٌ}
قال أبو جعفرٍ: والأليم: هو الموجع، ومعناه: ولهم عذابٌ مؤلمٌ، فصرف مؤلمٍ إلى أليمٍ كما يقال: ضربٌ وجيعٌ بمعنى موجعٌ، واللّه بديع السّموات والأرض بمعنى مبدع. ومنه قول عمرو بن معدي كرب الزّبيديّ:

أمن ريحانة الدّاعي السّميع ....... يؤرّقني وأصحابي هجوع

بمعنى المسمع. ومنه قول ذي الرّمّة:

ونرفع من صدور شمردلاتٍ ....... يصدّ وجوهها وهجٌ أليم

ويروى يصكّ.
وإنّما الأليم صفةٌ للعذاب، كأنّه قال: ولهم عذابٌ مؤلمٌ. وهو مأخوذٌ من الألم، والألم: الوجع.
- كما حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، قال: «الأليم: الموجع».
- حدّثنا يعقوب، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا جويبرٌ، عن الضّحّاك، قال: «العذاب الأليم، الموجع».
- وحدّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، في قوله {أليمٌ} قال: «هو العذاب الموجع وكلّ شيءٍ في القرآن من الأليم فهو الموجع».). [جامع البيان: 1/ 291 - 293]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {بما كانوا يكذبون}
اختلفت القراءة في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: {بما كانوا يكذبون} مخفّفة الذّال مفتوحة الياء، وهي قراءة عظم قرأة أهل الكوفة.
وقرأه آخرون: (يكذّبون ) بضمّ الياء وتشديد الذّال، وهي قراءة أهل المدينة والحجاز والبصرة.
وكأنّ الّذين قرءوا ذلك بتشديد الذّال وضمّ الياء رأوا أنّ اللّه جلّ ثناؤه إنّما أوجب للمنافقين العذاب الأليم بتكذيبهم نبيّهم محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم وبما جاء به، وأنّ الكذب لولا التّكذيب لا يوجب لأحدٍ اليسير من العذاب، فكيف بالأليم منه؟
وليس الأمر في ذلك عندي كالّذي قالوا؛ وذلك أنّ اللّه عزّ وجلّ أنبأ عن المنافقين في أوّل النّبأ عنهم في هذه السّورة بأنّهم يكذبون بدعواهم الإيمان وإظهارهم ذلك بألسنتهم خداعًا للّه عزّ وجلّ ولرسوله وللمؤمنين، فقال: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون اللّه والّذين آمنوا} بذلك من قيلهم مع استسرارهم الشّكّ والرّيبة {وما يخدعون} بصنيعهم ذلك {إلاّ أنفسهم} دون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين {وما يشعرون} بموضع خديعتهم أنفسهم واستدراج اللّه عزّ وجلّ إيّاهم بإملائه لهم، {في قلوبهم مرضٌ} شك النفاقٌ وريبته، واللّه زائدهم شكًّا وريبةً بما كانوا يكذبون اللّه ورسوله والمؤمنين بقولهم بألسنتهم: {آمنّا باللّه وباليوم الآخر} وهم في قيلهم ذلك كذبةٌ لاستسرارهم الشّكّ والمرض في اعتقادات قلوبهم، في أمر اللّه وأمر رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، فأولى في حكمة اللّه جلّ جلاله أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم، دون ما لم يجر له ذكرٌ من أفعالهم؛ إذ كان سائر آيات تنزيله بذلك نزل؛ وهو أن يفتتح ذكر محاسن أفعال قومٍ ثمّ يختم ذلك بالوعد على ما افتتح به ذكره من أفعالهم، ويفتتح ذكر مساوئ أفعال آخرين ثمّ يختم ذلك بالوعيد على ما ابتدأ به ذكره من أفعالهم، فكذلك الصّحيح من القول في الآيات الّتي افتتح فيها ذكر بعض مساوئ أفعال المنافقين أن يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من قبائح أفعالهم.
فهذا هذا مع دلالة الآية الأخرى على صحّة ما قلنا وشهادتها بأنّ الواجب من القراءة ما اخترنا، وأنّ الصّواب من التّأويل ما تأوّلنا من أنّ وعيد اللّه المنافقين في هذه الآية العذاب الأليم على الكذب الجامع معنى الشّكّ والتّكذيب، وذلك قول اللّه تبارك وتعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول اللّه واللّه يعلم إنّك لرسوله واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون اتّخذوا أيمانهم جنّةً فصدّوا عن سبيل اللّه إنّهم ساء ما كانوا يعملون}
والآية الأخرى في المجادلة: {اتّخذوا أيمانهم جنّةً فصدّوا عن سبيل اللّه فلهم عذابٌ مهينٌ} فأخبر جلّ ثناؤه أنّ المنافقين، بقيلهم ما قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، مع اعتقادهم فيه ما هم معتقدون، كاذبون، ثمّ أخبر تعالى ذكره أنّ العذاب المهين لهم على ذلك من كذبهم، ولو كان الصّحيح من القراءة على ما قرأه القارئون في سورة البقرة: {ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يكذبون} لكانت القراءة في السّورة الأخرى: واللّه يشهد إنّ المنافقين لمكذّبون، ليكون الوعيد لهم من العذاب المهين الّذي هو عقيب ذلك وعيدًا على التّكذيب، لا على الكذب.
وفي إجماع المسلمين على أنّ الصّواب من القراءة في قوله: {واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون} بمعنى الكذب، وأنّ إيعاد اللّه تبارك وتعالى فيه المنافقين العذاب الأليم على ذلك من كذبهم، أوضح الدّلالة على أنّ الصّحيح من القراءة في سورة البقرة: {بما كانوا يكذبون} بمعنى الكذب، وأنّ الوعيد من اللّه تعالى ذكره للمنافقين فيها على الكذب حقٌّ، لا على التّكذيب الّذي لم يجز له ذكرٌ نظير الّذي في سورة المنافقين سواءٌ.
وقد زعم بعض نحويّي البصرة أنّ ما من قول اللّه تبارك اسمه: {بما كانوا يكذبون} اسمٌ للمصدر، كما أنّ أنّ والفعل اسمان للمصدر في قولك: أحبّ أن تأتيني، وأنّ المعنى إنّما هو بكذبهم وتكذيبهم. قال: وأدخل كان ليخبر أنّه كان فيما مضى، كما تقال: ما أحسن ما كان عبد اللّه. فأنت تعجب من عبد اللّه لا من كونه، وإنّما وقع التّعجّب في اللّفظ على كونه.
وكان بعض نحويّي الكوفة ينكر ذلك من قوله ويستخطئه ويقول: إنّما ألغيت كان في التّعجّب لأنّ الفعل قد تقدّمها، فكأنّه قال: حسنًا كان زيدٌ، وحسنٌ كان زيدٌ يبطل كان، ويعمل مع الأسماء والصّفات الّتي بألفاظ الأسماء إذا جاءت قبل كان ووقعت كان بينها وبين الأسماء، وأمّا العلّة في إبطالها إذا أبطلت في هذه الحال فشبيه الصّفات والأسماء بفعل ويفعل اللّتي لا يظهر عمل كان فيهما، ألا ترى أنّك تقول: يقوم كان زيدٌ، ولا يظهر عمل كان في يقوم، وكذلك قام كان زيدٌ، فلذلك أبطل عملها مع فاعلٍ تمثيلاً بفعل ويفعل، وأعملت مع فاعلٍ أحيانًا لأنّه اسمٌ كما تعمل في الأسماء، فأمّا إذا تقدّمت كان الأسماء والأفعال وكان الاسم والفعل بعدها، فخطأٌ عنده أن تكون كان مبطلةٌ؛ فلذلك أحال قول البصريّ الّذي حكيناه، وتأوّل قول اللّه عزّ وجلّ: {بما كانوا يكذبون} أنّه بمعنى: الّذي يكذبونه). [جامع البيان: 1/ 293 - 296]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله تعالى: {في قلوبهم مرض}
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا محمّد بن أبي بكرٍ المقدسي، ثنا عبد العزيز بن عبد الصّمد، عن مالك بن دينارٍ، عن عكرمة {في قلوبهم مرضٌ} قال: «الزّنا».
- حدّثنا أحمد بن منصورٍ الرّماديّ، ثنا عبد الرّزّاق، ثنا معمرٌ، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه {في قلوبهم مرضٌ} قال: «ذلك في بعض أمور النّساء».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث أنبأ بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ {في قلوبهم مرضٌ} قال: «المرض النّفاق».
والوجه الثّالث:
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ أبو غسّان محمّد بن عمرٍو، ثنا سلمة، عن محمّد ابن إسحاق قال: فيما حدّثنا محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{في قلوبهم مرضٌ} أي شكٌّ».
- حدّثنا عصام بن روّاد بن الجرّاح العسقلانيّ، ثنا آدم بن أبي إياسٍ، ثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية: «يقول اللّه: {في قلوبهم مرضٌ} يعني الشّكّ». قال أبو محمّدٍ: وكذا روي عن مجاهدٍ، والحسن، وعكرمة، والرّبيع بن أنسٍ، والسّدّيّ، وقتادة). [تفسير القرآن العظيم: 1/43]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {فزادهم اللّه مرضًا}
[الوجه الأول]
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق قال: فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{فزادهم اللّه مرضًا} أي شكًّا».
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم ثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، يقول: «{فزادهم اللّه مرضًا} يعني شكًّا».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا محمّد بن عليّ بن سعيدٍ النّسائيّ، ثنا قتيبة بن سعيدٍ، ثنا جعفر بن سليمان الضّبعيّ، عن محمّد بن عليٍّ، عن سعدٍ الإسكاف، عن زيد بن عليٍّ أنّه قال: «المرض مرضان: مرض زنًا، ومرض نفاقٍ».
- حدّثنا أبي، ثنا أبو عمر حفص بن عمر، ثنا الحارث بن وجيهٍ، عن مالك بن دينارٍ قال: سألت عكرمة عن قوله: {فزادهم اللّه مرضًا} قال: «زنًا».
الوجه الثّالث:
- حدّثنا محمّد بن عليٍّ أنبأ العبّاس، ثنا يزيد، ثنا سعيدٌ، عن قتادة، في قوله: «{فزادهم اللّه مرضًا} أي نفاقًا».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 43 - 44]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله تعالى: {ولهم عذابٌ أليمٌ}
- حدّثنا عصام بن روّادٍ العسقلانيّ، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع ابن أنسٍ عن أبي العالية، في قوله: {ولهم عذابٌ أليمٌ} قال: «الأليم الموجع في القرآن كلّه». قال: وكذلك فسّره سعيد بن جعفرٍ، والضّحّاك بن مزاحمٍ، وقتادة وأبو مالكٍ، وأبو عمران الجونيّ، ومقاتل بن حيّان). [تفسير القرآن العظيم: 1/44]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {بما كانوا يكذبون}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث، أنبأ بشرٌ، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ، في قوله: «{بما كانوا يكذبون} يقول: يبدّلون ويحرّفون».). [تفسير القرآن العظيم: 1/44]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون}
أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {مرض} قال: «شك»، {فزادهم الله مرضا} أي قال: «شكا».
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {في قلوبهم مرض} قال: «النفاق»، {ولهم عذاب أليم} قال:« نكال موجع»، {بما كانوا يكذبون} قال: «يبدلون ويحرفون».
وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له أخبرني عن قوله تعالى: {في قلوبهم مرض} قال: «النفاق»، قال: وهل تعرف العرب ذلك، قال: «نعم.
أما سمعت قول الشاعر:
أجامل أقواما حياء وقد أرى ....... صدروهم تغلي علي مراضها».

قال: فأخبرني عن قوله {ولهم عذاب أليم}، قال: «{الأليم} الموجع »، قال: وهل تعرف العرب ذلك، قال: «نعم، أما سمعت قول الشاعر:
نام من كان خليا من ألم ....... وبقيت الليل طولا لم أنم».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: «كل شيء في القرآن {أليم} فهو الموجع».
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: «{الأليم} الموجع في القرآن كله».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله {مرض} قال: «ريبة وشك في أمر الله»، {فزادهم الله مرضا} قال: «ريبة وشكا»، {ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} قال: «إياكم والكذب فإنه من باب النفاق وإنا والله ما رأينا عملا قط أسرع في فساد قلب عبد من كبر أو كذب».
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: {في قلوبهم مرض} قال: «هذا مرض في الدين وليس مرضا في الأجساد، وهم المنافقون والمرض الشك الذي دخل في الإسلام.»
وأخرج ابن جرير عن الربيع في قوله: {في قلوبهم مرض} قال: «هؤلاء أهل النفاق، والمرض في قلوبهم الشك في أمر الله عز وجل {فزادهم الله مرضا} قال: شكا».
وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: «العذاب الأليم، هم الموجع وكل شيء في القرآن من {الأليم} فهو الموجع»). [الدر المنثور: 1/ 160 - 162]


رد مع اقتباس