عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 9 ربيع الثاني 1434هـ/19-02-2013م, 08:10 AM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

تفسير السلف


تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) }
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أخبرنا معمر عن قتادة لا ريب فيه هدى يقول لا شك فيه). [تفسير عبد الرزاق: 1/39]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتّقين}.
قال عامّة المفسّرين: تأويل قول اللّه تعالى: {ذلك الكتاب} هذا الكتاب.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني هارون بن إدريس الأصمّ الكوفيّ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن محمّدٍ المحاربيّ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: {ذلك الكتاب} قال:« هو هذا الكتاب ».
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا ابن عليّة، قال: أخبرنا خالدٌ الحذّاء، عن عكرمة، قال: « {ذلك الكتاب} هذا الكتاب ».
- حدّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازيّ، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدّثنا الحكم بن ظهيرٍ، عن السّدّيّ، في قوله: {ذلك الكتاب} قال: « هذا الكتاب ».
- حدّثنا القاسم بن الحسن، قال: حدّثنا الحسين بن داود، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قوله: {ذلك الكتاب} هذا الكتاب قال: قال ابن عبّاسٍ{ذلك الكتاب} هذا الكتاب ».
فإن قال قائلٌ: وكيف يجوز أن يكون ذلك بمعنى هذا؟ وهذا لا شكّ إشارةٌ إلى حاضرٍ معاينٌ، وذلك إشارةٌ إلى غائبٍ غير حاضرٍ ولا معاينٍ؟
قيل: جاز ذلك لأنّ كلّ ما تقضّى وقرب تقضّيه من الأخبار فهو وإن صار بمعنى غير الحاضر، فكالحاضر عند المخاطب؛ وذلك كالرّجل يحدّث الرّجل الحديث، فيقول السّامع: إنّ ذلك واللّه لكما قلت، وهذا واللّه كما قلت، وهو واللّه كما ذكرت. فيخبر عنه مرّةً بمعنى الغائب إذ كان قد تقضّى ومضى، ومرّةً بمعنى الحاضر لقرب جوابه من كلام مخبره كأنّه غير منقضٍ، فكذلك ذلك في قوله: {ذلك الكتاب} لأنّه جلّ ذكره لمّا قدّم قبل ذلك الكتاب {الم} الّتي ذكرنا تصرّفها في وجوهها من المعاني على ما وصفنا، قال لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم: يا محمّد هذا الّذي ذكرته وبيّنته لك الكتاب. ولذلك حسن وضع ذلك في مكان هذا، لأنّه أشير به إلى الخبر عمّا تضمّنه قوله: {الم} من المعاني بعد تقضّي الخبر عنه {الم}، فصار لقرب الخبر عنه من تقضّيه كالحاضر المشار إليه، فأخبر عنه بذلك لانقضائه ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب.
وترجمه المفسّرون أنّه بمعنى هذا لقرب الخبر عنه من انقضائه، فكان كالمشاهد المشار إليه بهذا نحو الّذي وصفنا من الكلام الجاري بين النّاس في محاوراتهم، وكما قال جلّ ذكره: {واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكلٌّ من الأخيار هذا ذكرٌ} فهذا ما في ذلك إذا عنى بها هذا.
وقد يحتمل قوله جلّ ذكره: {ذلك الكتاب} أن يكون معنيًّا به السّور الّتي نزلت قبل سورة البقرة بمكّة والمدينة، فكأنّه قال جلّ ثناؤه لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: يا محمّد اعلم أنّ ما تضمّنته سور الكتاب الّتي قد أنزلتها إليك هو الكتاب الّذي لا ريب فيه. ثمّ ترجمه المفسّرون بأنّ معنى ذلك: هذا الكتاب، إذ كانت تلك السّور الّتي نزلت قبل سورة البقرة من جملة جميع كتابنا هذا الّذي أنزله اللّه عزّ وجلّ على نبيّنا محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم.
وكان التّأويل الأوّل أولى بما قاله المفسّرون؛ لأنّ ذلك أظهر معاني قولهم الّذي قالوه في ذلك.
وقد وجّه معنى ذلك بعضهم إلى نظير معنى بيت خفاف بن ندبة السّلميّ:


فإن تك خيلي قد أصيب صميمها.......فعمدًا على عينٍ تيمّمت مالكا.

أقول له والرّمح يأطر متنه.......تأمّل خفافًا إنّني أنا ذلكا


كأنّه أراد: تأمّلني أنا ذلك. فزعم أنّ {ذلك الكتاب} بمعنى هذا نظير ما أظهر خفافٌ من اسمه على وجه الخبر عن الغائب وهو مخبرٌ عن نفسه، فكذلك أظهر ذلك بمعنى الخبر عن الغائب، والمعنى فيه الإشارة إلى الحاضر المشاهد.
والقول الأوّل أولى بتأويل الكتاب لما ذكرنا من العلل.
وقد قال بعضهم: {ذلك الكتاب} يعني به التّوراة والإنجيل، وإذا وجّه تأويل ذلك إلى هذا الوجه فلا مؤنة فيه على متأوّله كذلك لأنّ ذلك يكون حينئذٍ إخبارًا عن غائبٍ على صحّةٍ). [جامع البيان: 1/231-228]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {لا ريب فيه}
وتأويل قوله: {لا ريب فيه} لا شكّ فيه،.
- كما حدّثني هارون بن إدريس الأصمّ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن المحاربيّ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: {لا ريب فيه}، قال: «لا شكّ فيه ».
- حدّثني سلاّم بن سالمٍ الخزاعيّ، قال: حدّثنا خلف بن ياسين الكوفيّ، عن عبد العزيز بن أبي روّادٍ، عن عطاءٍ: {لا ريب فيه} قال: «لا شكّ فيه ».
- حدّثني أحمد بن إسحاق الأهوازيّ، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدّثنا الحكم بن ظهيرٍ، عن السّدّيّ، قال: «{لا ريب فيه} لا شكّ فيه ».
- حدّثني موسى بن هارون الهمدانيّ، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {لا ريب فيه} لا شكّ فيه.
- حدّثنا محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {لا ريب فيه} قال: « لا شكّ فيه ».
- حدّثنا القاسم بن الحسن قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عبّاسٍ{لا ريب فيه} يقول لا شكّ فيه ».
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: حدّثنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: {لا ريب فيه} يقول: « لا شكّ فيه».
- وحدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ، قوله: {لا ريب فيه} يقول: « لا شكّ فيه».وهو مصدرٌ من قولك: رابني الشّيء يريبني ريبًا. ومن ذلك قول ساعدة بن جؤيّة الهذليّ..

فقالوا تركنا الحيّ قد حصروا به.......فلا ريب أن قد كان ثمّ لحيم

ويروى: حصروا، وحصروا، والفتح أكثر، والكسر جائزٌ. يعني بقوله: حصروا به أطافوا به، ويعني بقوله، {لا ريب فيه} لا شكّ فيه، وبقوله: أن قد كان ثمّ لحيم يعني قتيلاً، يقال، قد لحم إذا قتل.
والهاء الّتي في فيه. عائدةٌ على الكتاب، كأنّه قال: لا شكّ في ذلك الكتاب أنّه من عند اللّه هدًى للمتّقين).[جامع البيان: 1/233-231]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {هدًى}.
- حدّثني أحمد بن حازمٍ الغفاريّ، قال، حدّثنا أبو نعيمٍ، قال: حدّثنا سفيان، عن بيانٍ، عن الشّعبيّ: {هدًى} قال، «هدًى من الضّلالة».
- حدّثني موسى بن هارون، قال، حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباط بن نصرٍ، عن إسماعيل السّدّيّ، في خبرٍ ذكره، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {هدًى للمتّقين} يقول: « نورٌ للمتّقين ».
والهدى في هذا الموضع مصدرٌ من قولك هديت فلانًا الطّريق إذا أرشدته إليه. ودللته عليه، وبيّنته له، أهديه هدًى وهدايةً.
فإن قال لنا قائلٌ: أوما كتاب اللّه نورًا إلاّ للمتّقين ولا رشادًا إلاّ للمؤمنين؟
قيل: ذلك كما وصفه ربّنا عزّ وجلّ، ولو كان نورًا لغير المتّقين، ورشادًا لغير المؤمنين لم يخصّص اللّه عزّ وجلّ المتّقين بأنّه لهم هدًى، بل كان يعمّ به جميع المنذرين؛ ولكنّه هدًى للمتّقين، وشفاءٌ لما في صدور المؤمنين، ووقرٌ في آذان المكذّيين، وعمًى لأبصار الجاحدين. وحجّةٌ للّه بالغةٌ على الكافرين؛ فالمؤمن به مهتدٍ، والكافر به محجوجٌ.
وقوله: {هدًى} يحتمل أوجهًا من المعاني؛
أحدها: أن يكون نصبًا لمعنى القطع من الكتاب لأنّه نكرةٌ والكتاب معرفةٌ، فيكون التّأويل حينئذٍ: الم ذلك الكتاب هاديًا للمتّقين. وذلك مرفوعٌ بـ الم، والم به، والكتاب نعتٌ لذلك.
وقد يحتمل أن يكون نصبًا على القطع من راجع ذكر الكتاب الّذي في فيه، فيكون معنى ذلك حينئذٍ: الم الّذي لا ريب فيه هاديًا.
وقد يحتمل أن يكون أيضًا نصبًا على هذين الوجهين، أعني على وجه القطع من الهاء الّتي في فيه، ومن الكتاب على أنّ الم كلامٌ تامٌّ، كما قال ابن عبّاسٍ إنّ معناه: أنا اللّه أعلم. ثمّ يكون ذلك الكتاب خبرًا مستأنفًا، ويرفع حينئذٍ الكتاب بذلك وذلك بالكتاب، ويكون هدًى قطعًا من الكتاب، وعلى أن يرفع ذلك بالهاء العائدة عليه الّتي في فيه، والكتاب نعتٌ له، والهدى قطعٌ من الهاء الّتي في فيه. وإن جعل الهدى في موضع رفعٍ لم يجز أن يكون {ذلك الكتاب} إلاّ خبرًا مستأنفًا والم كلامًا تامًّا مكتفيًا بنفسه إلاّ من وجهٍ واحدٍ؛ وهو أن يرفع حينئذٍ هدًى بمعنى المدح كما قال اللّه جلّ وعزّ: {الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدًى ورحمةٌ للمحسنين} في قراءة من قرأ رحمةٌ بالرّفع على المدح للآيات.
والرّفع في هدًى حينئذٍ يجوز من ثلاثة أوجهٍ،
أحدها: ما ذكرنا من أنّه مدحٌ مستأنفٌ. والآخر: على أن يجعل مرّافع ذلك، والكتاب نعتٌ لذلك. والثّالث: أن يجعل تابعًا لموضع {لا ريب فيه} ويكون {ذلك الكتاب} مرفوعًا بالعائد في فيه، فيكون كما قال تعالى ذكره: {وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ}.
وقد زعم بعض المتقدّمين في العلم بالعربيّة من الكوفيّين أنّ الم مرافع {ذلك الكتاب} بمعنى: هذه الحروف من حروف المعجم، ذلك الكتاب الّذي وعدتك أن أوحيه إليك. ثمّ نقض ذلك من قوله فأسرع نقضه، وهدم ما بنى فأسرع هدمه، فزعم أنّ الرّفع في هدًى من وجهين والنّصب من وجهين، وأنّ أحد وجهي الرّفع أن يكون الكتاب نعتًا لذلك، والهدى في موضع رفع خبرٍ لذلك كأنّك قلت: ذلك هدى لا شكّ فيه. قال: وإن جعلت {لا ريب فيه} خبره رفعت أيضًا هدًى بجعله تابعًا لموضع {لا ريب فيه} كما قال اللّه جلّ ثناؤه: {وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ} كأنّه قال: وهذا كتابٌ هدًى من صفته كذا وكذا. قال: وأمّا أحد وجهي النّصب، فأن تجعل الكتاب خبرًا لذلك وتنصب هدًى على القطع؛ لأنّ هدًى نكرةٌ اتّصلت بمعرفةٍ وقد تمّ خبرها فنصبتها، لأنّ النّكرة لا تكون دليلاً على معرفةٍ، وإن شئت نصبت هدًى على القطع من الهاء الّتي في فيه كأنّك قلت: لا شكّ فيه هاديًا.
قال أبوجعفرٍ: فترك الأصل الّذي أصّله في الم وأنّها مرفوعةٌ ب {ذلك الكتاب} ونبذه وراء ظهره. واللاّزم له على الأصل الّذي كان أصله أن لا يجيز الرّفع في هدًى بحالٍ إلاّ من وجهٍ واحدٍ، وذلك من قبل الاستئناف إذ كان مدحًا. فأمّا على وجه الخبر لذلك، أو على وجه الإتباع لموضع {لا ريب فيه} فكان اللاّزم له على قوله أن يكون خطأً، وذلك أنّ الم إذا رفعت {ذلك الكتاب} فلا شكّ أنّ هدًى غير جائزٍ حينئذٍ أن يكون خبرًا لذلك بمعنى المرّافع له، أو تابعًا لموضع لا ريب فيه، لأنّ موضعه حينئذٍ نصبٌ لتمام الخبر قبله وانقطاعه بمخالفته إيّاه عنه). [جامع البيان: 237-1/233]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {للمتّقين}.
- حدّثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن سفيان، عن رجلٍ، عن الحسن، قوله:{للمتّقين} قال: « اتّقوا ما حرّم عليهم وأدّوا ما افترض عليهم ».
- حدّثنا محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {للمتّقين} أي الّذين يحذرون من اللّه عزّ وجلّ عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته بالتّصديق بما جاء به.
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {هدًى للمتّقين} قال: «هم المؤمنون ».
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا أبو بكر بن عيّاشٍ، قال: «سألني الأعمش عن المتّقين؟ قال: فأجبته، فقال لي: سئل عنها الكلبيّ، فسألته فقال: الّذين يجتنبون كبائر الإثم قال: فرجعت إلى الأعمش، فقال: نرى أنّه كذلك ولم ينكره».
- حدّثني المثنّى بن إبراهيم الطّبريّ، قال: حدّثنا إسحاق بن الحجّاج، عن عبد الرّحمن بن عبد اللّه، قال: حدّثنا عمر أبو حفصٍ، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: {هدًى للمتّقين} هم من نعتهم ووصفهم فأثبت صفتهم فقال: {الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون}.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، قال حدّثنا بشر بن عمّارٍة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {للمتّقين} قال: « المؤمنين الّذين يتّقون الشّرك ويعملون بطاعتي ».
وأولى التّأويلات بقول اللّه جلّ ثناؤه: {هدًى للمتّقين} تأويل من وصف القوم بأنّهم الّذين اتّقوا اللّه تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه، فتجنّبوا معاصيه واتّقوه فيما أمرهم به من فرائضه فأطاعوه بأدائها. وذلك أنّ اللّه جلّ ثناؤه أبهم وصفهم بالتّقوى فلم يحصر تقواهم إيّاه على بعض ما هو جلّ ثناؤه أهلٌ له منهم دون بعضٍ. فليس لأحدٍ من النّاس أن يحصر معنى ذلك على وصفهم بشيءٍ من تقوى اللّه عزّ وجلّ دون شيء إلاّ بحجّةٍ يجب التّسليم لها، لأنّ ذلك من صفة القوم لو كان محصورًا على خاصٍّ من معاني التّقوى دون العام لم يدع اللّه جلّ ثناؤه بيان ذلك لعباده، إمّا في كتابه، وإمّا على لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم؛ إذ لم يكن في العقل دليلٌ على استحالة وصفهم بعموم التّقوى.
فقد تبيّن إذًا بذلك فساد قول من زعم أنّ تأويل ذلك إنّما هو: الّذين اتّقوا الشّرك وبرءوا من النّفاق؛ لأنّه قد يكون كذلك وهو فاسقٌ غير مستحقٌّ أن يكون من المتّقين. إلاّ أن يكون عند قائل هذا القول معنى النّفاق ركوب الفواحش الّتي حرّمها اللّه جلّ ثناؤه وتضييع فرائضه الّتي فرضها عليه، فإنّ جماعةً من أهل العلم قد كانت تسمّي من كان كذلك منافقًا، فيكون، وإن كان مخالفًا في تسميته من كان كذلك بهذا الاسم، مصيبًا تأويل قول اللّه عزّ وجلّ للمتّقين). [جامع البيان: 1/239-237]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ( {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتّقين (2)}
قوله: {ذلك الكتاب}
- به عن عكرمة: {ذلك الكتاب}قال: «هذا الكتاب ». قال: وهكذا فسّره سعيد ابن جبيرٍ والسّدّيّ ومقاتل بن حيّان وزيد بن أسلم.قوله: {الكتاب}
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا أسباط بن محمّدٍ، عن الهذليّ- يعني أبا بكرٍ- عن الحسن في قول اللّه: الكتاب قال: «القرآن ». قال أبو محمّدٍ: وروي عن ابن عبّاسٍ مثل ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1/34-33]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {لا ريب فيه}
- حدّثنا أبي، ثنا أبو اليمان الحكم بن نافعٍ، ثنا حريز بن عثمان عن عبد الرحمن ابن أبي عوفٍ، عن عبد الرّحمن بن مسعودٍ الفزاريّ، عن أبي الدّرداء قال: «الرّيب- يعني الشّكّ- من الكفر ». قال أبو محمّدٍ: «ولا أعلم في هذا الحرف اختلافًا بين المفسّرين منهم ابن عبّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، وأبو مالكٍ، ونافعٌ مولى ابن عمر، وعطاء بن أبي رباحٍ، وأبو العالية، والرّبيع بن أنسٍ، وقتادة، ومقاتل بن حيّان، والسّدّيّ، وإسماعيل بن أبي خالد»). [تفسير القرآن العظيم: 1/34]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {هدى}
اختلف في تفسيره على أوجه:
[الوجه الأول]
فمنهم من قال: هدى من الضّلالة.
- حدّثنا الحسن بن أبي الرّبيع، أنا عبد الرّزّاق، أخبرني الثّوريّ، عن بيانٍ.
- وحدّثنا أبي، ثنا أبو نعيمٍ وعيسى بن جعفرٍ قالا: ثنا سفيان، عن بيانٍ، عن الشّعبيّ في قوله: {هدًى }قال: « من الضلالة ».
[الوجه الثاني]
ومن فسّره على نورٍ:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّاد بن طلحة القنّاد، ثنا أسباط بن نصرٍ، عن السّدّيّ: وأمّا هدى للمتقين نور للمتقين.
[الوجه الثالث]
ومن فسّره على تبيانٍ للمتّقين:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، ثنا ابن لهيعة، عن عطاء ابن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ: هدًى للمتّقين تبيان للمتقين). [تفسير القرآن العظيم: 1/34]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {للمتقين}
[الوجه الأول]
- حدّثنا أحمد بن سنانٍ، ثنا أبو النّضر هاشم بن القاسم، ثنا أبو عقيلٍ عبد الله ابن عقيلٍ، عن عبد اللّه بن يزيد، عن ربيعة بن يزيد وعطيّة بن قيسٍ، عن عطيّة السّعديّ وكان من أصحاب النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم-: «لا يكون الرّجل من المتّقين حتّى يدع ما لا بأس به حذرًا لما به البأس».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي، ثنا عبد اللّه بن عمران، ثنا إسحاق بن سليمان الرّازيّ، عن المغيرة ابن مسلمٍ، عن ميمونٍ، عن أبي حمزة قال:« كنت جالسًا عند أبي وائلٍ فدخل علينا رجلٌ يقال له أبو عفيفٍ من أصحاب معاذٍ. فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيفٍ، ألا تحدّثنا عن معاذ بن جبلٍ؟ قال: بلى، سمعته يقول: يحبس النّاس يوم القيامة في نقيع واحدٍ فينادي منادٍ: أين المتّقون؟ فيقومون في كنف الرّحمن، لا يحتجب اللّه منهم ولا يستتر. قلت: من المتّقون؟ قال: قومٌ اتّقوا الشّرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا للّه العبادة فيمرّون إلىالجنّة ».
الوجه الثّالث:
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان محمّد بن عمرٍو زنيجٌ، ثنا سلمة عن محمّد بن إسحاق قال: فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال:« يقول اللّه سبحانه وبحمده: هدًى للمتّقين أي الّذين يحذرون من اللّه عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته بالتّصديق بما جاء منه ».
والوجه الرّابع:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّاد بن طلحة القنّاد، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: هدًى للمتّقين نورٌ للمتّقين، وهم المؤمنون.
- حدّثنا محمّد بن يحيى ثنا العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد بن زريعٍ حدثني سعيد ابن أبي عروبة، عن قتادة في قوله: هدًى للمتّقين من هم؟ نعتهم اللّه، فأثبت نعتهم ووصفهم. قال: « الّذين يؤمنون بالغيب »). [تفسير القرآن العظيم: 1/35-34]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (أخبرني أبو أحمد محمّد بن إسحاق الصّفّار، ثنا أحمد بن نصرٍ، ثنا عمرو بن طلحة القنّاد، ثنا أسباط بن نصرٍ، عن إسماعيل بن عبد الرّحمن، عن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ رضي اللّه عنه: {الم ذلك الكتاب}[البقرة: 2] قال: « {الم} [البقرة: 1] : حرف اسم اللّه، و {الكتاب} [البقرة: 2] : القرآن، {لا ريب فيه}[البقرة: 2] : لا شكّ فيه» هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرّجاه ). [المستدرك: 2/286] (م)
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين })
-أخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن الضريس، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد قال: «من أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين ومن أربعين آية إلى عشرين ومائة في بني إسرائيل».
-وأخرج وكيع عن مجاهد قال:« هؤلاء الآيات الأربع في أول سورة البقرة إلى {المفلحون} نزلت في نعت المؤمنين واثنتان من بعدها إلى {عظيم} نزلت في نعت الكافرين وإلى العشر نزلت في المنافقين ».
-وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس قال:« أربع آيات من فاتحة سورة البقرة في الذين آمنوا وآيتان في قادة الأحزاب ».
-وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن مسعود {الم} حرف اسم الله و{الكتاب} القرآن {لا ريب} لا شك فيه.
-وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله {ذلك الكتاب} قال: «هذا الكتاب»
-وأخرج ابن جرير، وابن الأنباري في المصاحف عن عكرمة، مثله.
-وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {لا ريب فيه} قال: «لا شك فيه ».
-وأخرج أحمد في الزهد، وابن أبي حاتم عن أبي الدرداء قال «ال {ريب} الشك من الكفر ».
-وأخرج الطستي في مسائل ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له:« أخبرني عن قوله عز وجل {لا ريب فيه} قال: لا شك فيه قال: وهل تعرف العرب ذلك قال: نعم، أما سمعت ابن الزبعرى وهو يقول: ليس في الحق يا أمامة ريب * إنما الريب ما يقول الكذوب ».
-وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله {لا ريب فيه} قال:« لا شك فيه».
-وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله). [الدر المنثور: 1/129-127]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}.
-أخرج وكيع، وابن جرير عن الشعبي في قوله {هدى} قال: «من الضلالة ».
-وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله {هدى} قال:« نور{للمتقين}قال: هم المؤمنون ».
-وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {هدى للمتقين} أي الذين يحذرون من أمر الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته في التصديق بما جاء منه.
-وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله {هدى للمتقين} قال: « للمؤمنين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتي ».
-وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله {هدى للمتقين} قال:« جعله الله هدى وضياء لمن صدق به ونور للمتقين ».
-وأخرج أبن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال:« يحبس الناس يوم القيامة بقيع واحد فينادي مناد: أين المتقون فيقومون في كنف الرحمن لايحتجب الله منهم ولا يستتر، قيل: من المتقون قال: قوم اتقوا الشرك عبادة الأوثان واخلصوا لله العبادة فيمرون إلى الجنة ».
-وأخرج أحمد، وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عطية السعدي وكان من الصحابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يبلغ العبد المؤمن أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى عن أبي هريرة، « أن رجلا قال له: ما التقوى قال: هل أخذت طريقا ذا شوك قال: نعم، قال: فكيف صنعت قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه قال: ذاك التقوى ».
-وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وابن أبي حاتم عن طلق بن حبيب أنه قيل له: ألا تجمع لنا التقوى في كلام يسير يرونه قال: «التقوى العمل بطاعة الله على نور من الله رجاء رحمة الله والتقوى ترك معاصي الله على نور من الله مخافة عذاب الله ».
-وأخرج أحمد في الزهد، وابن أبي الدنيا عن أبي الدرداء قال: «تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما، يكون حجابا بينه وبين الحرام ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: « ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن سفيان الثوري قال: « إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الله بن المبارك قال: « لو أن رجلا اتقى مائة شيء ولم يتق شيئا واحدا لم يكن من المتقين ».
-وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا عن عون بن عبد الله قال:« تمام التقوى أن تبتغي علم ما لم تعلم منها إلى ما قد علمت منها»-وأخرج ابن أبي الدنيا عن رجاء قال:« من سره أن يكون متقيا فليكن أذل من قعود أبل كل من أتى عليه أرغاه ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا من طريق مالك بن أنس عن وهب بن كيسان قال: «كتب رجل إلى عبد الله بن الزبير بموعظة، أما بعد، فإن لأهل التقوى علامات يعرفون بها ويعرفونها من أنفسهم، من صبر على البلاء ورضي بالقضاء وشكر النعماء وذل لحكم القرآن ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن المبارك قال: « قال داود لابنه سليمان عليه السلام: يا بني إنما تستدل على تقوى الرجل بثلاثة أشياء، لحسن توكله على الله فيما نابه ولحسن رضاه فيما أتاه ولحسن زهده فيما فاته ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن سهم بن سحاب قال:« معدن من التقوى لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله ».
-وأخرج أحمد في الزهد، وابن أبي الدنيا عن سعيد بن أبي سعيد المقبري قال: « بلغنا أن رجلا جاء إلى عيسى فقال: يا معلم الخير كيف أكون تقيا لله كما ينبغي له قال: بيسير من الأمر، تحب الله بقلبك كله وتعمل بكدحك وقوتك ما استطعت وترحم ابن جنسك كما ترحم نفسك، قال: من ابن جنسي يا معلم الخير قال: ولد آدم كلهم وما لا تحب أن يؤتى إليك فلا تأته إلى أحد فأنت تقي لله حقا ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن إياس بن معاوية قال:« رأس التقوى ومعظمه أن لا تعبد شيئا دون الله ثم تتفاض الناس بالتقى والنهى».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن عون بن عبد الله قال:« فواتح التقوى حسن النية وخواتمها التوفيق والعبد فيما بين ذلك بين هلكات وشبهات ونفس تحطب على سلوها وعدو مكيد غير غافل ولا عاجز ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن محرز الطفاري قال: « كيف يرجو مفاتيح التقوى من يؤثر على الآخرة الدنيا ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز قال:« ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله فمن رزق بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن محمد بن يوسف الفريابي قال: « قلت لسفيان أرى الناس يقولون سفيان الثوري وأنت تنام الليل فقال لي: اسكت، ملاك هذا الأمر التقوى ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن شبيب بن شبة قال: « تكلم رجل من الحكماء عند عبد الملك بن مروان فوصف المتقي فقال: رجل آثر الله على خلقه وآثر الآخرة على الدنيا ولم تكربه المطالب ولم تمنعه المطامع نظر ببصر قلبه إلى معالي إرادته فسما لها ملتمسا لها فزهده مخزون يبيت إذا نام الناس ذا شجون ويصبح مغموما في الدنيا مسجون قد انقطعت من همته الراحة دون منيته فشفاؤه القرآن ودواؤه الكلمة من الحكمة والموعظة الحسنة لا يرى منها الدنيا عوضا ولا يستريح إلى لذة سواها، فقال عبد الملك: أشهد أن هذا أرجى ء بالا منا وأنعم عيشا ».
-وأخرج ابن أبي شيبة وأبو نعيم في الحلية عن ميمون بن مهران قال:« لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه حتى تعلم من أين مطعمه ومن أين ملبسه ومن أين مشربه أمن حل ذلك أو من حرام ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز، أنه لما ولي حمد الله وأثنى عليه ثم قال: « أوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله خلف من كل شيء وليس من تقوى الله خلف ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز قال: « يا أيها الناس اتقوا الله فإنه ليس من هالك إلا له خلف إلا التقوى ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن قتادة قال:« لما خلق الله الجنة قال لها تكلمي قالت: طوبى للمتقين ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار قال: « القيامة عرس المتقين ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن محمد بن يزيد الرحبي قال:« قيل لأبي الدرداء: أنه ليس أحد له بيت في الأنصار إلا قال شعرا فما لك لا تقول قال: وأنا قلت فاستمعوه:

يريد المرء أن يعطى مناه.......ويأبى الله إلا ما أرادا

يقول المرء فائدتي وذخري.......وتقوى الله أفضل ما استفادا »


-وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العفيف وكان من أصحاب معاذ بن جبل قال: « يدخل أهل الجنة على أربعة أصناف، المتقين ثم الشاكرين ثم الخائفين ثم أصحاب اليمين »). [الدر المنثور: 1/137-130]


تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) }
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [قوله تعالى: {الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتّقين * الّذين يؤمنون بالغيب} ]
- حدّثنا سعيد بن منصورٍ، قال: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عميرٍ، عن عبد الرّحمن بن يزيد، عن عبد اللّه، قال: «ذكروا أصحاب محمّدٍ (صلّى الله عليه وسلّم) وإيمانهم، فقال عبد اللّه: إنّ أمر محمّدٍ (صلّى الله عليه وسلّم) كان بيّنًا لمن رآه، والّذي لا إله غيره، ما آمن مؤمنٌ أفضل من إيمانٍ بغيبٍ، ثمّ قرأ: {الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتّقين * الّذين يؤمنون بالغيب} ».
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا سفيان، قال: قال الحارث بن قيسٍ لعبد اللّه: «عند اللّه نحتسب ما سبقتمونا به يا أصحاب محمّدٍ من رؤية رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم. فقال عبد اللّه: نحتسب إيمانكم بمحمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم ولم تروه »). [سنن سعيد بن منصور: 2/545-544]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى. {الّذين يؤمنون}.
- حدّثنا محمّد بن حميدٍ الرّازيّ، قال حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {الّذين يؤمنون} قال:« يصدّقون ».
- حدّثني يحيى بن عثمان بن صالحٍ السّهميّ، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {يؤمنون} يصدّقون.
- حدّثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا إسحاق بن الحجّاج، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع: {يؤمنون} يخشون.
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى الصّنعانيّ، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، قال: قال الزّهريّ: « الإيمان: العمل ».
- وحدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن العلاء بن المسيّب بن رافعٍ، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد اللّه، قال:« الإيمان: التّصديق ».
ومعنى الإيمان عند العرب: التّصديق فيدعى المصدّق بالشّيء قولاً مؤمنًا به، ويدعى المصدّق قوله بفعله مؤمنًا. ومن ذلك قول اللّه جلّ ثناؤه: {وما أنت بمؤمنٍ لنا ولو كنّا صادقين} يعني: وما أنت بمصدّقٍ لنا في قولنا. وقد تدخل الخشية للّه في معنى الإيمان الّذي هو تصديق القول بالعمل.
والإيمان كلمةٌ جامعةٌ للإقرار باللّه وكتبه ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل. وإذا كان ذلك كذلك، فالّذي هو أولى بتأويل الآية وأشبه بصفة القوم: أن يكونوا موصوفين بالتّصديق بالغيب، قولاً، واعتقادًا، وعملاً، إذ كان جلّ ثناؤه لم يحصرهم من معنى الإيمان على معنى دون معنى، بل أجمل وصفهم به من غير خصوص شيءٍ من معانيه أخرجه من صفتهم بخبرٍ ولا عقلٍ). [جامع البيان: 1/241-240]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {بالغيب}.
- حدّثنا محمّد بن حميدٍ الرّازيّ، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {بالغيب} قال: « بما جاء به، يعني من اللّه جلّ ثناؤه ».
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ: {بالغيب} أمّا الغيب: فما غاب عن العباد من أمر الجنّة وأمر النّار، وما ذكر اللّه تبارك وتعالى في القرآن. لم يكن تصديقهم بذلك، يعني المؤمنين من العرب، من قبل أصل كتابٍ أو علمٍ كان عندهم.
- حدّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازيّ، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدّثنا سفيان، عن عاصمٍ، عن زرٍّ، قال:«الغيب: القرآن».
- حدّثنا بشر بن معاذٍ العقديّ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، في قوله: {الّذين يؤمنون بالغيب} قال: « آمنوا بالجنّة والنّار والبعث بعد الموت وبيوم القيامة، وكلّ هذا غيبٌ ».
- حدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ:« {الّذين يؤمنون بالغيب}آمنوا باللّه وملائكته ورسله واليوم الآخر وجنّته وناره ولقائه، وآمنوا بالحياة بعد الموت، فهذا غيبٌ كلّه ».
وأصل الغيب: كلّ ما غاب عنك من شيءٍ، وهو من قولك: غاب فلانٌ يغيب غيبًا.
وقد اختلف أهل التّأويل في أعيان القوم الّذين أنزل اللّه جلّ ثناؤه هاتين الآيتين من أوّل هذه السّورة فيهم، وفي نعتهم وصفتهم الّتي وصفهم بها من إيمانهم بالغيب، وسائر المعاني الّتي حوتها الآيتان من صفاتهم غيره.
فقال بعضهم: هم مؤمنو العرب خاصّةً، دون غيرهم من مؤمني أهل الكتابين.
واستدلّوا على صحّة قولهم ذلك وحقيقة تأويلهم بالآية الّتي تتلو هاتين الآيتين، وهو قول اللّه عزّ وجلّ: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}
قالوا: فلم يكن للعرب كتابٌ قبل الكتاب الّذي أنزله اللّه عزّ وجلّ على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم تدين بتصديقه والإقرار والعمل به، وإنّما كان الكتاب لأهل الكتابين غيرها. قالوا: فلمّا قصّ اللّه عزّ وجلّ نبأ الّذين يؤمنون بما أنزل إلى محمّدٍ وما أنزل من قبله بعد اقتصاصه نبأ المؤمنين بالغيب، علمنا أنّ كلّ صنفٍ منهم غير الصّنف الآخر، وأنّ المؤمنين بالغيب نوعٌ غير النّوع المصدّق بالكتابين اللّذين أحدهما منزّلٌ على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، والآخر منهما على من قبله من رسل اللّه عز وجل.
قالوا: وإذا كان ذلك كذلك صحّ ما قلنا من أنّ تأويل قول اللّه تعالى: {الّذين يؤمنون بالغيب} إنّما هو الّذين يؤمنون بما غاب عنهم من الجنّة والنّار والثّواب والعقاب والبعث، والتّصديق باللّه وملائكته وكتبه ورسله وجميع ما كانت العرب لا تدين به في جاهليّتها، مما أوجب اللّه جلّ ثناؤه على عباده الدّينونة به دون غيرهم.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أمّا {الّذين يؤمنون بالغيب} فهم المؤمنون من العرب {ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون} أمّا الغيب: فما غاب عن العباد من أمر الجنّة والنّار، وما ذكر اللّه في القرآن. لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصل كتابٍ أو علمٍ كان عندهم. {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب ».
وقال بعضهم: بل نزلت هذه الآيات الأربع في مؤمني أهل الكتاب خاصّةً، لإيمانهم بالقرآن عند إخبار اللّه جلّ ثناؤه إيّاهم فيه عن الغيوب الّتي كانوا يخفونها بينهم ويسرّونها، فعلموا عند إظهار اللّه جلّ ثناؤه نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم على ذلك منهم في تنزيله أنّه من عند اللّه جلّ وعزّ، فآمنوا بالنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وصدّقوا بالقرآن وما فيه من الإخبار عن الغيوب الّتي لا علم لهم بها لمّا استقرّ عندهم بالحجّة الّتي احتجّ اللّه تبارك وتعالى بها عليهم في كتابه، من الإخبار فيه عمّا كانوا يكتمونه من ضمائرهم؛ أنّ جميع ذلك من عند اللّه.
وقال بعضهم: بل الآيات الأربع من أوّل هذه السّورة أنزلت على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم بوصف جميع المؤمنين الّذين ذلك صفتهم من العرب والعجم وأهل الكتابين وسواهم، وإنّما هذه صفة صنفٍ من النّاس، والمؤمن بما أنزل اللّه على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وما أنزل من قبله هو المؤمن بالغيب.
قالوا: وإنّما وصفهم اللّه بالإيمان بما أنزل إلى محمّدٍ وبما أنزل إلى من قبله بعد تقضّي وصفه إيّاهم بالإيمان بالغيب؛ لأنّ وصفه إيّاهم بما وصفهم به من الإيمان بالغيب كان معنيًّا به أنّهم يؤمنون بالجنّة والنّار والبعث، وسائر الأمور الّتي كلّفهم اللّه جلّ ثناؤه الايمان بها ممّا لم يروه ولم يأت بعد ممّا هو آتٍ، دون الإخبار عنهم أنّهم يؤمنون بما جاء به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم ومن قبله من الرّسل ومن الكتب.
قالوا: فلمّا كان معنى قوله {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} غير موجودٍ في قوله: {الّذين يؤمنون بالغيب} كانت الحاجة من العباد إلى معرفة صفتهم بذلك ليعرّفهم نظير حاجتهم إلى معرفتهم بالصّفة الّتي وصفوا بها من إيمانهم بالغيب ليعلموا ما يرضي اللّه من أفعال عباده، ويحبّه من صفاتهم، فيكونوا به إن وفّقهم له ربّهم.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن عمرو بن العبّاس الباهليّ، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ الضّحّاك بن مخلدٍ، قال: حدّثنا عيسى بن ميمونٍ المكّيّ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: «أربع آياتٍ من سورة البقرة في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة في المنافقين ».
- حدّثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي عن سفيان، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ بمثله.
- وحدّثني المثنّى بن إبراهيم قال: حدّثنا موسى بن مسعودٍ، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله.
- وحدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ، قال:« أربع آياتٍ من فاتحة هذه السّورة، يعني سورة البقرة، في الّذين آمنوا، وآيتان في قادة الأحزاب ».
وأولى القولين عندي بالصّواب وأشبههما بتأويل الكتاب، القول الأوّل، وهو: أنّ الّذين وصفهم اللّه تعالى ذكره بالإيمان بالغيب، وما وصفهم به جلّ ثناؤه في الآيتين الأولتين غير الّذين وصفهم بالإيمان بالّذي أنزل على محمّدٍ والّذي أنزل على من قبله من الرّسل؛ لما ذكرت من العلل قبل لمن قال ذلك.
وممّا يدلّ أيضًا مع ذلك على صحّة هذا القول أنّه جنس، بعد وصف المؤمنين بالصّفتين اللّتين وصف، وبعد تصنيفه إلى كلّ صنفٍ منهما على ما صنّف الكفّار، جنسين، فجعل أحدهما مطبوعًا على قلبه مختومًا عليه مأيوسًا من إيمانه، والآخر منافقًا يرائي بإظهار الإيمان في الظّاهر، ويستسرّ النّفاق في الباطن، فصيّر الكفّار جنسين كما صيّر المؤمنين في أوّل السّورة جنسين. ثمّ عرّف عباده نعت كلّ صنفٍ منهم وصفتهم وما أعدّ لكلّ فريقٍ منهم من ثوابٍ أو عقابٍ، وذمّ أهل الذّمّ منهم وشكر سعي أهل الطّاعة منهم). [جامع البيان: 1/247-241]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ويقيمون}
إقامتها: أداؤها بحدودها وفروضها والواجب فيها على ما فرضت عليه، كما يقال: أقام القوم سوقهم، إذا لم يعطّلوها من البيع والشّراء فيها، وكما قال الشّاعر:

أقمنا لأهل العراقين سوق الض.......راب فخاموا وولّوا جميعا.

- وكما حدّثنا محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {ويقيمون الصّلاة} قال: « الّذين يقيمون الصّلاة بفرضها ».
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، عن بشر بن عمّارٍ، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {ويقيمون الصّلاة} قال: « إقامة الصّلاة: تمام الرّكوع والسّجود والتّلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها ».
- حدّثني يحيى بن أبي طالبٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا جويبرٌ، عن الضّحّاك، في قوله: « {الّذين يقيمون الصّلاة} يعني الصّلاة المفروضة »). [جامع البيان: 1/248-247]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {الصّلاة}.
وأمّا الصّلاة في كلام العرب فإنّها الدّعاء كما قال الأعشى:


لها حارسٌ لا يبرح الدّهر بيتها.......وإن ذبحت صلّى عليها وزمزما


يعني بذلك: دعا لها، وكقوله الآخر أيضًا:


وقابلها الرّيح في دنّها.......وصلّى على دنّها وارتسم


وأرى أنّ الصّلاة المفروضة سمّيت صلاةً؛ لأنّ المصلّي متعرّضٌ لاستنجاح طلبته من ثواب اللّه بعمله مع ما يسأل ربّه فيها من حاجاته تعرّض الدّاعي بدعائه ربّه استنجاح حاجاته وسؤله). [جامع البيان: 1/248]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وممّا رزقناهم ينفقون}
اختلف المفسّرون في تأويل ذلك، فقال بعضهم بما:
- حدّثنا به ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وممّا رزقناهم ينفقون} قال: « يؤتون الزّكاة احتسابًا لها ».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، عن معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {وممّا رزقناهم ينفقون} قال: « زكاة أموالهم ».
- حدّثني يحيى بن أبي طالبٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبرٌ، عن الضّحّاك: {وممّا رزقناهم ينفقون} قال: « كانت النّفقات قربانا يتقرّبون بها إلى اللّه على قدر ميسورهم وجهدهم، حتّى نزلت فرائض الصّدقات سبع آياتٍ في سورة براءةٍ، ممّا يذكر فيهنّ الصّدقات، هنّ المثبتات النّاسخات ».
- وقال بعضهم بما حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: « {وممّا رزقناهم ينفقون} هي نفقة الرّجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزّكاة ».
وأولى التّأويلات بالآية وأحقّها بصفة القوم أن يكونوا كانوا لجميع اللاّزم لهم في أموالهم، مؤدّين زكاةً كان ذلك أو نفقة من لزمته نفقته من أهلٍ وعيالٍ وغيرهم، ممّن تجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك؛ لأنّ اللّه جلّ ثناؤه عمّ وصفهم، إذ وصفهم بالإنفاق ممّا رزقهم، فمدحهم بذلك من صفتهم، فكان معلومًا أنّهم إذ لم يخصّص مدحهم ووصفهم بنوعٍ من النّفقات المحمود عليها صاحبها دون نوعٍ بخبرٍ ولا غيره أنّهم موصوفون بجميع معاني النّفقات المحمود عليها صاحبها من طيّب ما رزقهم ربّهم من أموالهم وأملاكهم، وذلك الحلال منه الّذي لم يشبه حرامٌ). [جامع البيان: 1/250-249]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ( {الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون (3) }
قوله تعالى: { الّذين يؤمنون }
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ قوله:« الّذين يؤمنون بالغيب فهم المؤمنون من العرب ».
قوله: {بالغيب}
الوجه الأول:
- حدّثنا أحمد بن سنانٍ، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش عن عمارة بن عميرٍ عن عبد الرّحمن بن يزيد قال: «ذكروا أصحاب محمّدٍ وإيمانهم عند عبد اللّه. فقال عبد اللّه: إنّ أمر محمّدٍ كان بيّنًا لمن رآه، والّذي لا إله غيره ما آمن مؤمنٌ أفضل من إيمانٍ بغيبٍ. ثمّ قرأ: الّذين يؤمنون بالغيب إلى قوله: ينفقون ».
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم العسقلانيّ، ثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ عن الرّبيع ابن أنسٍ، عن أبي العالية في قوله: {الّذين يؤمنون بالغيب} قال:« يؤمنون باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنّته وناره ولقائه. ويؤمنون بالحياة بعد الموت، وبالبعث. فهذا غيبٌ كلّه ».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: « أمّا الّذين يؤمنون بالغيب فهم المؤمنون من العرب. أمّا الغيب: فما غاب عن العباد من أمر الجنّة وأمر النّار وما ذكر في القرآن، لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصل كتابٍ أو علمٍ كان عندهم ».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا أبو أحمد الزّبيريّ، عن سفيان عن عاصمٍ عن زرٍّ قال: « الغيب القرآن».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، ثنا عثمان بن الأسود عن عطاء ابن أبي رباحٍ في قول اللّه عزّ وجلّ: {الّذين يؤمنون بالغيب} فقال: «من آمن باللّه، فقد آمن بالغيب».
والوجه الثّالث:
- حدّثنا أبي، ثنا شهاب بن عبّادٍ، ثنا إبراهيم بن حميدٍ، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ: {يؤمنون بالغيب} قال: «بغيب الإسلام».
والوجه الرّابع:
- حدّثنا أبي، ثنا محمّد بن موسى بن نفيعٍ الحرشيّ، ثنا عبد اللّه بن جعفرٍ، عن زيد بن أسلم: {الّذين يؤمنون بالغيب} قال: «بالقدر».
والوجه الخامس:
- حدّثنا أبي ثنا عبد اللّه بن محمّدٍ المسنديّ، ثنا إسحاق بن إدريس، أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاريّ، أخبرني جعفر بن محمودٍ عن جدّته تويلة ابنة أسلم قالت: صلّيت الظّهر أو العصر في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد إيليا فصلّينا سجدتين ثمّ جاءنا من يخبرنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد استقبل البيت الحرام، فتحوّل الرّجال مكان النّساء، والنّساء مكان الرّجال، فصلّينا السّجدتين الباقيتين مستقبلي البيت الحرام. قال إبراهيم: فحدّثني رجالٌ من بني حارثة أنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- حين بلغه ذلك قال: « أولئك قومٌ آمنوا بالغيب» ). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 36- 37]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ويقيمون الصّلاة}
- حدّثنا محمّد بن يحيى، ثنا أبو غسّان محمّد بن عمرٍو زنيجٌ، ثنا سلمة عن محمّد بن إسحاق قال فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٌ مولى، زيد بن ثابتٍ عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «يقول اللّه سبحانه وتعالى وبحمده: {الّذين يقيمون الصّلاة}؛ أي يقيمون الصّلاة بفرضها».
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا عبد الوهّاب- يعني ابن عطاءٍ- الخفّاف، عن سعيدٍ عن قتادة: «{ويقيمون الصّلاة} وإقامة الصّلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها».
- قرأت على محمّد بن الفضل بن موسى، ثنا محمّد بن عليّ بن الحسن بن شقيقٍ، ثنا أبو وهبٍ محمّد بن مزاحمٍ، ثنا بكير بن معروفٍ، عن مقاتل بن حيان، قوله:«{ويقيمون الصّلاة} وإقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطّهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتّشهّد والصّلاة على النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- فهذا إقامتها»). [تفسير القرآن العظيم: 1/37]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وممّا رزقناهم ينفقون}
[الوجه الأول]
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان محمّد بن عمرٍو زنيجٌ، ثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق- قال: فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٌ مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «يقول اللّه سبحانه وبحمده: {وممّا رزقناهم ينفقون} يؤتون الزّكاة احتسابًا لها».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: «{وممّا رزقناهم ينفقون} فهي نفقة الرّجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزّكاة».
الوجه الثّالث:
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد بن زريعٍ ثنا سعيدٌ عن قتادة: «{وممّا رزقناهم ينفقون} فأنفقوا ممّا أعطاكم اللّه، فإنّما هذه الأموال عوارٍ وودائع عندك يا ابن آدم أوشكت أن تفارقها»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 37- 38]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (أخبرنا أبو زكريّا يحيى بن محمّدٍ العنبريّ، ثنا محمّد بن عبد السّلام، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأ أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عميرٍ، عن عبد الرّحمن بن يزيد، قال: ذكروا عند عبد اللّه أصحاب محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم، وإيمانهم قال: فقال عبد اللّه: " إنّ أمر محمّدٍ كان بيّنًا لمن رآه، والّذي لا إله غيره، ما آمن مؤمنٌ أفضل من إيمانٍ بغيبٍ، ثمّ قرأ: {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه} إلى قوله تعالى: {يؤمنون بالغيب} «هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشّيخين، ولم يخرّجاه»). [المستدرك: 2/286]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (3 - قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}.
أخرج جرير عن قتادة {هدى للمتقين} قال: «نعتهم ووصفهم بقوله {الذين يؤمنون بالغيب} الآية».
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير عن ابن عباس في قوله {الذين يؤمنون} قال: «يصدقون {بالغيب}» قال: «بما جاء منه يعني من الله».
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله {الذين يؤمنون بالغيب} قال: «هم المؤمنون من العرب»، قال: و{الأيمان}: التصديق، و{الغيب}: ما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار وما ذكر الله في القرآن، لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصحاب الكتاب أو علم كان عندهم، {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} هم المؤمنون من أهل الكتاب ثم جمع الفريقين فقال {أولئك على هدى} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {الذين يؤمنون بالغيب} قال: «بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه والحياة بعد الموت».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله: {الذين يؤمنون بالغيب} قال: «آمنوا بالبعث بعد الموت والحساب والجنة والنار وصدقوا بموعود الله الذي وعد في هذا القرآن».
وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل: {الذين يؤمنون بالغيب} قال: «ما غاب عنهم من أمر الجنة والنار»، قال: وهل تعرف العرب ذلك، قال: «نعم، أما سمعت أبا سفيان بن الحرث يقول:
وبالغيب آمنا وقد كان قومنا يصلون للأوثان قبل محمد»
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني، وابن منده وأبو نعيم كلاهما في معرفة الصحابة عن تويلة بنت أسلم قال: صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ثم جاءنا من يخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلو البيت الحرام، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: «أولئك قوم آمنوا بالغيب».
وأخرج سفيان بن عيينة وسعيد بن منصور وأحمد بن منيع في مسنده، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وصححه، وابن مردويه عن الحرث بن قيس أنه قال لابن مسعود: عند الله يحتسب ما سبقتمونا به يا أصحاب محمد من رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن مسعود: «عند الله يحتسب إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم ولم تروه إن أمر محمد كان بيننا لمن رآه، والذي لا إله غيره، ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: {ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه} إلى قوله {المفلحون} ».
وأخرج البزار وأبو يعلى والمرهبي في فضل العلم والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب قال: كنت جالسا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيمانا»، قالوا: يا رسول الله الملائكة، قال: «هم كذلك ويحق لهم وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها»، قالوا: يا رسول الله الأنبياء الذين أكرمهم الله برسالاته والنبوة، قال: «هم كذلك ويحق لهم وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها»، قالوا: يا رسول الله الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء، قال: «هم كذلك ويحق لهم وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشهادة مع الأنبياء، بل غيرهم»، قالوا: فمن يا رسول الله، قال: «أقوام في أصلاب الرجال يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ويصدقوني ولم يروني يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا».
وأخرج الحسن بن عروة في حزبه المشهور والبيهقي في الدلائل والأصبهاني في الترغيب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي الخلق أعجب إليكم إيمانا»، قالوا: الملائكة، قال: «وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم»، قالوا: فالأنبياء، قال: «فما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم»، قالوا: فنحن، قال: «وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ألا إن أعجب الخلق إلي إيمانا لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيه».
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: «ما من ماء ما من ماء»، قالوا: لا، قال: «فهل من شن؟»، فجاؤا بالشن فوضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع يده عليه ثم فرق أصابعه فنبع الماء مثل عصا موسى من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا بلال اهتف بالناس بالوضوء»، فأقبلوا يتوضؤن من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت همة ابن مسعود الشرب فلما توضؤا صلى بهم الصبح ثم قعد للناس فقال: «يا أيها الناس من أعجب الخلق إيمانا»، قالوا: الملائكة، قال: «كيف لا تؤمن الملائكة وهم يعاينون الأمر»، قالوا: فالنبيون يا رسول الله، قال: «كيف لا يؤمن النبيون والوحي ينزل عليهم من السماء »، قالوا: فأصحابك يا رسول الله، فقال: «وكيف لا تؤمن أصحابي وهم يرون ما يرون، ولكن أعجب الناس إيمانا قوم يجيئون بعدي يؤمنون بي ولم يروني ويصدقوني ولم يروني أولئك إخواني».
وأخرج الإسماعيلي في معجمه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« أي شيء أعجب إيمانا»، قيل: الملائكة، فقال: «كيف وهم في السماء يرون من الله ما لا ترون»، قيل: فالأنبياء، قال: «كيف وهم يأتيهم الوحي»، قالوا: فنحن، قال: «كيف وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ولكن قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني أولئك أعجب إيمانا وأولئك إخواني وأنتم أصحابي».
وأخرج البزار عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي الخلق أعجب إيمانا؟»، قالوا: الملائكة،، قال: «الملائكة، كيف لا يؤمنون»، قالوا: النبيون، قال: «النبيون يوحى إليهم فكيف لا يؤمنون ولكن أعجب الناس إيمانا قوم يجيئون من بعدكم فيجدون كتابا من الوحي فيؤمنون به ويتبعونه، فهؤلاء أعجب الناس إيمانا».
وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« يا ليتني قد لقيت إخواني»، قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك وأصحابك، قال:« بلى، ولكن قوما يجيئون من بعدكم يؤمنون بي إيمانكم ويصدقوني تصديقكم وينصروني نصركم، فيا ليتني قد لقيت إخواني».
وأخرج ابن عساكر في الأربعين السباعية من طريق أبي هدبة وهو كذاب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليتني قد لقيت إخواني»، فقال له رجل من أصحابه: أولسنا إخوانك قال: «بلى، أنتم أصحابي وإخواني قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ثم قرأ: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة}».
وأخرج أحمد والدارمي والبارودي، وابن قانع معا في معجم الصحابة والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي جمعة الأنصاري قال: قلنا: يا رسول الله هل من قوم أعظم منا آجرا آمنا بك واتبعناك، قال: «ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم الوحي من السماء بل قوم يأتون من بعدي يأتيهم كتاب بين لوحين فيؤمنون به ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجرا».
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي عمر وأحمد والحاكم عن أبي عبد الرحمن الجهني قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع راكبان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنديان أو مذحجيان»،حتى أتيا فإذا رجلان من مذحج، فدنا أحدهما ليبايعه فلما أخذ بيده قال: يا رسول الله أرأيت من آمن بك واتبعك وصدقك فماذا له قال: «طوبى له»، فمسح على يده وانصرف، ثم جاء الآخر حتى أخذ على يده ليبايعه فقال: يا رسول الله أرأيت من آمن بك وصدقك واتبعك ولم يرك قال: «طوبى له، ثم طوبى له»، ثم مسح على يده وانصرف.
وأخرج الطيالسي وأحمد والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى لمن آمن بي ولم يرني سبع مرات».
وأخرج أحمد، وابن حبان عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رجلا قال: يا رسول الله طوبى لمن رآك وآمن بك، قال: «طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني».
وأخرج الطيالسي، وعبد بن حميد عن نافع قال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعينكم هذه قال: نعم، قال: طوبى لكم، فقال ابن عمر: ألا أخبرك بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بلى، قال: سمعته يقول: قال:« طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى لمن آمن بي ولم يرني ثلاث مرات».
وأخرج أحمد وأبو يعلى والطبراني عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى لمن آمن بي ولم يرني سبع مرات».
وأخرج الحاكم عن أبي هريرة مرفوعا: «إن ناسا من أمتي يأتون بعدي يود أحدهم لو اشترى رؤيتي بأهله وماله».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن إسحاق عن ابن عباس في قوله: {ويقيمون الصلاة} قال: «الصلوات الخمس {ومما رزقناهم ينفقون} قال: زكاة أموالهم».
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: «{ويقيمون الصلاة} قال: يقيمونها بفروضها، {ومما رزقناهم ينفقون} قال: يؤدون الزكاة احتسابا لها».
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: «إقامة الصلاة: إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها».
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: {يقيمون الصلاة} قال: «إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها، {ومما رزقناهم ينفقون} قال: أنفقوا في فرائض الله التي افترض الله عليهم في طاعته وسبيله».
وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير في قوله: {ومما رزقناهم ينفقون} قال: «إنما يعني الزكاة خاصة دون سائر النفقات، لا يذكر الصلاة إلا ذكر معها الزكاة فإذا لم يسم الزكاة قال في أثر ذكر الصلاة {ومما رزقناهم ينفقون}».
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: {ومما رزقناهم ينفقون} قال: «هي نفقة الرجل على أهله».
وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: {ومما رزقناهم ينفقون} قال: «كانت النفقات قربانا يتقربون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجهدهم حتى نزلت فرائض الصدقات في سورة براءة، هن الناسخات المبينات».). [الدر المنثور: 1/ 137- 147]

تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون}
قد مضى البيان عن المنعوتين بهذا النّعت، وأيّ أجناس النّاس هم. غير أنّا نذكر ما روي في ذلك عمّن روي عنه في تأويله قول؛
- فحدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} أي يصدّقونك بما جئت به من اللّه جلّ وعزّ، وما جاء به من قبلك من المرسلين، لا يفرّقون بينهم ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربّهم».
- حدّثنا موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب). [جامع البيان: 1/ 250 -251]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وبالآخرة هم يوقنون}
قال أبو جعفرٍ: أمّا الآخرة، فإنّها صفةٌ للدّار، كما قال جلّ ثناؤه: {وإنّ الدّار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} وإنّما وصفت بذلك لمصيرها آخرةً لأولى كانت قبلها كما تقول للرّجل: أنعمت عليك مرّةً بعد أخرى فلم تشكر لي الأولى ولا الآخرة. وإنّما صارت الآخرة آخرةً للأولى، لتقدّم الأولى أمامها، فكذلك الدّار الآخرة سمّيت آخرةً لتقدّم الدّار الأولى أمامها، فصارت التّالية لها آخرةً. وقد يجوز أن تكون سمّيت آخرةً لتأخّرها عن الخلق، كما سمّيت الدّنيا دنيا لدنوّها من الخلق.
وأمّا الّذي وصف اللّه جلّ ثناؤه به المؤمنين، بما أنزل إلى نبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وما أنزل إلى من قبله من المرسلين، من إيقانهم به من أمر الآخرة، فهو إيقانهم بما كان المشركون به جاحدين، من البعث والنّشر والثّواب والعقاب والحساب والميزان، وغير ذلك ممّا أعدّ اللّه لخلقه يوم القيامة.
- كما حدّثنا به، محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{وبالآخرة هم يوقنون} أي بالبعث والقيامة والجنّة والنّار والحساب والميزان، أي لا هؤلاء الّذين يزعمون أنّهم آمنوا بما كان قبلك ويكفرون بما جاءك من ربّك».
وهذا التّأويل من ابن عبّاسٍ قد صرّح عن أنّ السّورة من أوّلها وإن كانت الآيات الّتي في أوّلها من نعت المؤمنين تعريضٌ من اللّه عزّ وجلّ بذمّ الكفّار أهل الكتاب الّذين زعموا أنّهم بما جاءت به رسل اللّه عزّ وجلّ الّذين كانوا قبل محمّدٍ صلوات اللّه عليهم وعليه مصدّقون وهم بمحمّدٍ عليه الصّلاة والسّلام مكذّبون، ولما جاء به من التّنزيل جاحدون، ويدّعون مع جحودهم ذلك أنّهم مهتدون وأنّه لن يدخل الجنّة إلاّ من كان هودًا أو نصارى فأكذب اللّه جلّ ثناؤه ذلك من قيلهم بقوله: {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتّقين الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون}
وأخبر جلّ ثناؤه عباده أنّ هذا الكتاب هدًى لأهل الإيمان بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وبما جاء به المصدّقين بما أنزل إليه وإلى من قبله من رسله من البيّنات والهدى خاصّةً، دون من كذّب بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وبما جاء به، وادّعى أنّه مصدّقٌ بمن قبل محمّدٍ عليه الصّلاة والسّلام من الرّسل وبما جاء به من الكتب. ثمّ أكّد جلّ ثناؤه أمر المؤمنين من العرب ومن أهل الكتاب المصدّقين بمحمّدٍ عليه الصّلاة والسّلام وبما أنزل إليه وإلى من قبله من الرّسل بقوله: {أولئك على هدًى من ربّهم وأولئك هم المفلحون} فأخبر أنّهم هم أهل الهدى والفلاح خاصّةً دون غيرهم، وأنّ غيرهم هم أهل الضّلال والخسار). [جامع البيان: 1/ 251- 253]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4)}
قوله تعالى: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ أبو غسّان محمّد بن عمرٍو زنيجٌ، ثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، قال فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} أي يصدّقونك بما جئت من اللّه، وما جاء به من قبلك من المرسلين، لا يفرّقون بينهم ولا يجحدون بما جاءوهم به من ربّهم».
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد ثنا سعيدٌ عن قتادة قوله: «{والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} فآمنوا بالفرقان وبالكتب الّتي قد خلت قبله من التّوراة والزّبور والإنجيل».
قوله تعالى: {وبالآخرة هم يوقنون}
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ أبو غسّان، محمّد بن عمرٍو ثنا سلمة، عن محمّد ابن إسحاق قال فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{وبالآخرة هم يوقنون} أي بالبعث والقيامة والجنّة والنّار والحساب والميزان. أي هؤلاء الّذين يزعمون أنّهم آمنوا بما كان قبلك ويكفرون بما جاءك من ربّك».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ: «{وبالآخرة هم يوقنون} هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب».). [تفسير القرآن العظيم: 1/38]

تفسير قوله تعالى: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {أولئك على هدًى من ربّهم وأولئك هم المفلحون}.
اختلف أهل التّأويل فيمن عنى اللّه جلّ ثناؤه بقوله: {أولئك على هدًى من ربّهم} فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الصّفتين المتقدّمتين، أعني المؤمنين بالغيب من العرب والمؤمنين بما أنزل إلى محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وإلى من قبله من الرّسل، وإيّاهم جميعًا وصف بأنّهم على هدًى منهم وأنّهم هم المفلحون.
ذكر من قال ذلك من أهل التّأويل:
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: أمّا {الّذين يؤمنون بالغيب}، فهم المؤمنون من العرب، {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك}: المؤمنون من أهل الكتاب. ثمّ جمع الفريقين فقال: {أولئك على هدًى من ربّهم وأولئك هم المفلحون}.
وقال بعضهم: بل عنى بذلك المتّقين الّذين يؤمنون بالغيب؛ وهم الّذين يؤمنون بما أنزل إلى محمّدٍ، وبما أنزل إلى من قبله من الرّسل.
وقال آخرون: بل عنى بذلك الّذين يؤمنون بما أنزل إلى محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وبما أنزل إلى من قبله، وهم مؤمنو أهل الكتاب الّذين صدّقوا بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وبما جاء به، وكانوا مؤمنين من قبل بسائر الأنبياء والكتب.
وعلى هذا التّأويل الآخر، يحتمل أن يكون: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك} في محلّ خفضٍ، ومحلّ رفعٍ؛ فأمّا الرّفع فيه فإنّه يأتيها من وجهين: أحدهما من قبل العطف على ما في {يؤمنون بالغيب} من ذكر الّذين. والثّاني: أن يكون خبرا مبتدأٍ، ويكون: {أولئك على هدًى من ربّهم} رافعها.
وأمّا الخفض فعلى العطف على المتّقين وإذا كانت معطوفةٌ على الّذين اتّجه لها وجهان من المعنى، أحدهما: أن تكون هي والّذين الأولى من صفة المتّقين، وذلك على تأويل من رأى أنّ الآيات الأربع بعد {الم} نزلت في صنفٍ واحدٍ من أصناف المؤمنين.
والوجه الثّاني: أن تكون الّذين الثّانية معطوفةً في الإعراب على المتّقين بمعنى الخفض، وهم في المعنى صنفٌ غير الصّنف الأوّل.
وذلك على مذهب من رأى أنّ الّذين نزلت فيهم الآيتان الأولتان من المؤمنين بعد قوله {الم} غير الّذين نزلت فيهم الآيتان الآخرتان اللّتان تليان الأولتين.
وقد يحتمل أن تكون الّذين الثّانية مرفوعةً في هذا الوجه بمعنى الائتناف، إذ كانت مبتدأً بها بعد تمام آيةٍ وانقضاء قصّةٍ. وقد يجوز الرّفع فيها أيضًا بنيّة الائتناف إذ كانت في مبتدأ آيةٍ وإن كانت من صفة المتّقين.
فالرّفع إذًا يصحّ فيها من أربعة أوجهٍ، والخفض من وجهين.
وأولى التّأويلات عندي بقوله: {أولئك على هدًى من ربّهم} ما ذكرت من قول ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ، وأن تكون أولئك إشارةً إلى الفريقين، أعني المتّقين والّذين يؤمنون بما أنزل إليك، وتكون أولئك مرفوعةً بالعائد من ذكرهم في قوله: {على هدًى من ربّهم} وأن تكون الّذين الثّانية معطوفةً على ما قبل من الكلام على ما قد بيّنّاه.
وإنّما رأينا أنّ ذلك أولى التّأويلات بالآية، لأنّ اللّه جلّ ثناؤه نعت الفريقين بنعتهم المحمود ثمّ أثنى عليهم؛ فلم يكن عزّ وجلّ ليخصّ أحد الفريقين بالثّناء مع تساويهما فيما استحقّا به الثّناء من الصّفات، كما غير جائزٍ في عدله أن يتساويا فيما يستحقّان به الجزاء من الأعمال فيخصّ أحدهما بالجزاء دون الآخر ويحرم الآخر جزاء عمله، فكذلك سبيل الثّناء بالأعمال؛ لأنّ الثّناء أحد أقسام الجزاء.
وأمّا معنى قوله: {أولئك على هدًى من ربّهم} فإنّ معنى ذلك أنّهم على نورٍ من ربّهم وبرهانٍ واستقامةٍ وسدادٍ بتسديد اللّه إيّاهم وتوفيقه لهم.
- كما حدّثني ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{أولئك على هدًى من ربّهم} أي على نورٍ من ربّهم، واستقامةٍ على ما جاءهم».). [جامع البيان: 1/ 253- 256]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون}
وتأويل قوله: {وأولئك هم المفلحون} أي أولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند اللّه تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم باللّه وكتبه ورسله، من الفوز بالثّواب، والخلود في الجنان، والنّجاة ممّا أعدّ اللّه تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب.
- كما حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثنا ابن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وأولئك هم المفلحون} أي الّذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شرّ ما منه هربوا.
ومن الدّلالة على أنّ أحد معاني الفلاح إدراك الطّلبة والظّفر بالحاجة قول لبيد بن ربيعة:

اعقلي إن كنت لمّا تعقلي ....... ولقد أفلح من كان عقل

يعني ظفر بحاجته وأصاب خيرًا. ومنه قول الرّاجز:

عدمت أمًّا ولدت رياحا ....... جاءت به مفركحًا فركاحا.
تحسب أن قد ولدت نجاحا ...... أشهد لا يزيدها فلاحا
يعني خيرًا وقربًا من حاجتها.
والفلاح: مصدرٌ من قولك: أفلح فلانٌ يفلح إفلاحًا، وفلاحًا، وفلحًا. والفلاح أيضًا البقاء، ومنه قول لبيدٍ:

نحلّ بلادًا كلّها حلّ قبلنا ....... ونرجو الفلاح بعد عادٍ وحمير

يريد البقاء. ومنه أيضًا قول عبيدٍ:

أفلح بما شئت فقد يدرك بالضّ ....... عف وقد يخدع الأريب

يريد: عش وابق بما شئت. وكذلك قول نابغة بني ذبيان:

وكلّ فتًى ستشعبه شعوبٌ ....... وإن أثرى وإن لاقى فلاحا

أي نجاحًا بحاجته وبقاءً). [جامع البيان: 1/ 256- 258]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({أولئك على هدًى من ربّهم وأولئك هم المفلحون (5)}
قوله: {أولئك على هدى من ربهم}
[الوجه الأول]
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان محمّد بن عمرٍو، وثنا سلمة عن محمّد ابن إسحاق قال: فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ: «{أولئك على هدًى من ربّهم} أي على نورٍ من ربّهم، واستقامةٍ على ما جاءهم».
والوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي، ثنا أبو هارون البكّاء، ثنا ابن لهيعة، عن عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: {أولئك على هدًى من ربّهم} قال: «على بيّنةٍ من ربّهم».
قوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون}
- حدّثنا أبي، ثنا يحيى بن عثمان بن صالحٍ المصريّ، ثنا أبي ثنا ابن لهيعة، حدّثني عبيد اللّه بن المغيرة، عن أبي الهيثم- واسمه سليمان بن عبدٍ- عن عبد اللّه بن عمرٍو، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وقيل له يا رسول اللّه: إنّا نقرأ من القرآن فنكاد أن - أو كما قال: فقال:«- ألا أخبركم عن أهل الجنّة وأهل النّار؟»
قالوا: بلى يا رسول اللّه. فقال: «{الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتّقين- إلى قوله- المفلحون} هؤلاء أهل الجنة»، قالوا: إنا نرجو أن نكون هؤلاء. ثمّ قال: «{إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم- إلى قوله- عظيمٌ} هؤلاء أهل النّار»، لسنا هم يا رسول اللّه؟ قال: «أجل».
- حدّثنا عصام بن روّاد بن الجرّاح العسقلانيّ، ثنا آدم بن أبي إياسٍ، ثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية قال: «هذه الأربع الآيات من فاتحة السّورة- في المؤمنين».
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ أبو غسّان محمّد بن عمرٍو زنيجٌ ثنا سلمة عن محمّد بن إسحاق قال فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ: « {وأولئك هم المفلحون} أي الّذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: « {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب ثمّ جمع الفريقين».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 39- 40]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {أولئك على هدًى من ربّهم وأولئك هم المفلحون}
- أخبرنا موسى بن هارون الطّوسيّ فيما كتب إليّ، ثنا الحسين بن محمّدٍ المرّوذيّ، ثنا شيبان بن عبد الرّحمن عن قتادة: {أولئك على هدًى من ربّهم وأولئك هم المفلحون} قال: «قومٌ استحقّوا الهدى والفلاح بحقٍّ، فأحقّه اللّه لهم، وهذا نعت أهل الإيمان».). [تفسير القرآن العظيم: 1/40]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : ( قوله تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}.
أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: «{والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} أي يصدقونك بما جئت به من الله وما جاء به من قبلك المرسلين لا يفرقون بينهم ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربهم، {وبالآخرة هم يوقنون} أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان أي لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك ويكفرون بما جاءك من ربك».
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} قال: «هو الفرقان الذي فرق الله به بين الحق والباطل، {وما أنزل من قبلك} أي الكتب التي خلت قبله، {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} قال: استحقوا الهدى والفلاح بحق فاحقه الله عليهم، وهذا نعت أهل الإيمان ثم نعت المشركين فقال {إن الذين كفروا سواء عليهم}». البقرة الآية 6 الآيتين.
وأخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند والحاكم والبيهقي في الدعوات عن أبي بن كعب قال: كنت عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: يا نبي الله إن لي أخا وبه وجع قال: «وما وجعه»، قال: به لمم قال: «فائتني به»، فوضعه بين فعوذه النّبيّ صلى الله عليه وسلم بفاتحة الكتاب، وأربع آيات من أول سورة البقرة، وهاتين الآيتين {وإلهكم إله واحد} [البقرة الآية 163] وآية الكرسي، وثلاث آيات من آخر سورة البقرة، وآية من آل عمران {شهد الله أنه لا إله إلا هو} [آل عمران 18]، وآية من الأعراف {إن ربكم الله} [الأعراف الآية 54]، وآخر سورة المؤمنين {فتعالى الله الملك الحق} [المؤمنون الآية 116]، وآية من سورة الجن {وأنه تعالى جد ربنا} [الجن الآية 3]، وعشر آيات من أول الصافات، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر، و{قل هو الله أحد} و(المعوذتين) فقام الرجل كأنه لم يشك قط.
وأخرج ابن السني في عمل اليوم والليلة من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل عن أبيه، مثله سواء.
وأخرج الدارمي، وابن الضريس عن ابن مسعود قال: «من قرأ أربع آيات من أول سورة البقرة، وآية الكرسي، وآيتين بعد آية الكرسي، وثلاثا من آخر سورة البقرة لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه في أهله ولا ماله ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق».
وأخرج الدارمي، وابن المنذر والطبراني عن ابن مسعود قال: «من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح، أربع من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث خواتيمها، أولها {لله ما في السموات} [البقرة الآية 284]».
وأخرج سعيد بن منصور والدارمي والبيهقي في شعب الإيمان عن المغيرة بين سبيع وكان من أصحاب عبد الله قال: «من قرأ عشر آيات من البقرة عند منامه لم ينس القرآن، أربع آيات من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث من آخرها».
وأخرج الطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة في قبره».
وأخرج الطبراني في الكبير عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج قال: قال لي أبي: «يا بني إذا وضعتني في لحدي فقل: بسم الله وعلى ملة رسول الله، ثم سن علي التراب سنا ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك».
وأخرج ابن النجار في تاريخه من طريق محمد بن علي المطلبي عن خطاب بن سنان عن قيس بن الربيع عن ثابت بن ميمون عن محمد بن سيرين قال: نزلنا يسيرى فاتانا أهل ذلك المنزل فقالوا: ارحلوا فإنه لم ينزل عندنا هذا المنزل أحد إلا اتخذ متاعه، فرحل أصحابي وتخلفت للحديث الذي حدثني ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ في ليلة ثلاثا وثلاثين آية لم يضره في تلك الليلة سبع ضار ولا لص».
طار وعوفي في نفسه وأهله وماله حتى يصبح، فلما أمسينا حتى رأيتهم قد جاءوا أكثر من ثلاثين مرة مخترطين سيوفهم فما يصلون إلي فلما أصبحت رحلت فلقيني شيخ منهم فقال: يا هذا إنسي أم جني قلت: بل إنسي قال: فما بالك، لقد أتيناك أكثر من سبعين مرة كل ذلك يحال بيننا وبينك بسور من حديد، فذكرت له الحديث والثلاث وثلاثون آية أربع آيات من أول البقرة إلى قوله: {المفلحون} وآية الكرسي وآيتان بعدها إلى قوله: {خالدون} [البقرة الآية 257]، والثلاث آيات من آخر البقرة {لله ما في السموات وما في الأرض} [البقرة الآية 284]، وثلاث آيات من الأعراف {إن ربكم الله} إلى قوله: {من المحسنين} [الأعراف الآية 54 - 57]، وآخر بني إسرائيل {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} [الإسراء الآية 110] إلى آخرها، وعشر آيات من أول الصافات إلى قوله {لازب}، وآيتان من الرحمن {يا معشر الجن والإنس} إلى قوله: {فلا تنتصران} [الرحمن الآية 33 - 34]، ومن آخر الحشر {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل} [الحشر الآية 21] إلى آخر السورة، وآيتان من {قل أوحي إلي} إلى {وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة} إلى قوله {شططا} [الجن الآية 1 - 4]، فذكرت هذا الحديث لشعيب بن حرب فقال لي: كنا نسميها آيات الحرب ويقال: إن فيها شفاء من كل داء، فعد علي الجنون والجذام والبرص وغير ذلك، قال محمد بن علي: فقرأتها على شيخ لنا قد فلج حتى أذهب الله عنه ذلك.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: «من قرأ عشر من سورة البقرة أول النهار لا يقربه شيطان حتى يمسي وإن قرأها حين يمسي لم يقربه حتى يصبح ولا يرى شيئا يكرهه في أهله وماله وإن قرأها على مجنون أفاق، أربع آيات من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث آيات من آخرها».). [الدر المنثور: 1/ 147- 152]


رد مع اقتباس