عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 14 محرم 1440هـ/24-09-2018م, 05:41 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وأنكحوا الأيامى منكم والصّالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم اللّه من فضله واللّه واسعٌ عليمٌ (32) وليستعفف الّذين لا يجدون نكاحًا حتّى يغنيهم اللّه من فضله والّذين يبتغون الكتاب ممّا ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا وآتوهم من مال اللّه الّذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصّنًا لتبتغوا عرض الحياة الدّنيا ومن يكرهّنّ فإنّ اللّه من بعد إكراههنّ غفورٌ رحيمٌ (33) ولقد أنزلنا إليكم آياتٍ مبيّناتٍ ومثلا من الّذين خلوا من قبلكم وموعظةً للمتّقين (34)}
اشتملت هذه الآيات الكريمات المبينة على جملٍ من الأحكام المحكمة، والأوامر المبرمة
...
ولـمّا فصّل تعالى هذه الأحكام وبيّنها قال: {ولقد أنزلنا إليكم آياتٍ مبيّناتٍ} يعني: القرآن فيه آياتٌ واضحاتٌ مفسّراتٌ، {ومثلا من الّذين خلوا من قبلكم} أي: خبرًا عن الأمم الماضية، وما حلّ بهم في مخالفتهم أوامر اللّه تعالى، كما قال تعالى: {فجعلناهم سلفًا ومثلا للآخرين} [الزّخرف: 56]
{وموعظةً} أي: زاجرًا عن ارتكاب المآثم والمحارم {للمتّقين} أي: لمن اتّقى اللّه وخافه.
قال عليّ بن أبي طالبٍ، رضي اللّه عنه، في صفة القرآن: فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه اللّه، ومن ابتغى الهدى من غيره أضلّه اللّه). [تفسير ابن كثير: 6/ 57]

تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({اللّه نور السّموات والأرض مثل نوره كمشكاةٍ فيها مصباحٌ المصباح في زجاجةٍ الزّجاجة كأنّها كوكبٌ درّيٌّ يوقد من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نارٌ نورٌ على نورٍ يهدي اللّه لنوره من يشاء ويضرب اللّه الأمثال للنّاس واللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ (35)}
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {اللّه نور السّموات والأرض} يقول: هادي أهل السموات والأرض.
وقال ابن جريج: قال مجاهدٌ وابن عباس في قوله: {اللّه نور السّموات والأرض} يدبّر الأمر فيهما، نجومهما وشمسهما وقمرهما.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا سليمان بن عمر بن خالدٍ الرقّي، حدّثنا وهب بن راشدٍ، عن فرقد، عن أنس بن مالكٍ قال: إنّ إلهي يقول: نوري هداي.
واختار هذا القول ابن جريرٍ، رحمه اللّه.
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعبٍ في قول الله تعالى: {اللّه نور السّموات والأرض} قال: هو المؤمن الّذي جعل [اللّه] الإيمان والقرآن في صدره، فضرب اللّه مثله فقال: {اللّه نور السّموات والأرض} فبدأ بنور نفسه، ثمّ ذكر نور المؤمن فقال: مثل نور من آمن به. قال: فكان أبي بن كعبٍ يقرؤها: "مثل نور من آمن به فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره.
وهكذا قال سعيد بن جبير، وقيس بن سعدٍ، عن ابن عبّاسٍ أنّه قرأها كذلك: "نور من آمن بالله".
وقرأ بعضهم:"اللّه نوّر السّموات والأرض" ".
وعن الضحاك: "اللّه نوّر السّموات والأرض ".
وقال السدي في قوله: {اللّه نور السّموات والأرض}: فبنوره أضاءت السموات والأرض.
وفي الحديث الّذي رواه محمّد بن إسحاق في السّيرة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال في دعائه يوم آذاه أهل الطّائف: "أعوذ بنور وجهك الّذي أشرقت له الظّلمات، وصلح عليه أمر الدّنيا والآخرة، أن يحلّ بي غضبك أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتّى ترضى، ولا حول ولا قوّة إلّا بك ".
وفي الصّحيحين، عن ابن عبّاسٍ: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه سلّم إذا قام من اللّيل يقول: "اللّهمّ لك الحمد، أنت قيّم السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهنّ" الحديث.
وعن ابن مسعودٍ، رضي اللّه عنه، قال: إنّ ربّكم ليس عنده ليلٌ ولا نهارٌ، نور العرش من نور وجهه.
وقوله: {مثل نوره} في هذا الضّمير قولان:
أحدهما: أنّه عائدٌ إلى اللّه، عزّ وجلّ، أي: مثل هداه في قلب المؤمن، قاله ابن عبّاسٍ {كمشكاةٍ}.
والثّاني: أنّ الضّمير عائدٌ إلى المؤمن الّذي دلّ عليه سياق الكلام: تقديره: مثل نور المؤمن الّذي في قلبه، كمشكاةٍ. فشبّه قلب المؤمن وما هو مفطورٌ عليه من الهدى، وما يتلقّاه من القرآن المطابق لما هو مفطورٌ عليه، كما قال تعالى: {أفمن كان على بيّنةٍ من ربّه ويتلوه شاهدٌ منه} [هودٍ: 17]، فشبّه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزّجاج الشّفّاف الجوهريّ، وما يستهديه من القرآن والشّرع بالزّيت الجيّد الصّافي المشرق المعتدل، الّذي لا كدر فيه ولا انحراف.
فقوله: {كمشكاةٍ}: قال ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، ومحمّد بن كعبٍ، وغير واحدٍ: هو موضع الفتيلة من القنديل. هذا هو المشهور؛ ولهذا قال بعده: {فيها مصباحٌ}، وهو الذّبالة الّتي تضيء.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ [في] قوله: {اللّه نور السّموات والأرض مثل نوره كمشكاةٍ فيها مصباحٌ}: وذلك أنّ اليهود قالوا لمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: كيف يخلص نور اللّه من دون السّماء؟ فضرب اللّه مثل ذلك لنوره، فقال: {اللّه نور السّموات والأرض مثل نوره}. والمشكاة: كوّة في البيت -قال: وهو مثلٌ ضربه اللّه لطاعته. فسمّى اللّه طاعته نورًا، ثمّ سماها أنواعًا شتّى.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ: الكوّة بلغة الحبشة. وزاد غيره فقال: المشكاة: الكوّة الّتي لا منفذ لها. وعن مجاهدٍ: المشكاة: الحدائد الّتي يعلّق بها القنديل.
والقول الأوّل أولى، وهو: أنّ المشكاة هي موضع الفتيلة من القنديل؛ ولهذا قال: {فيها مصباحٌ} وهو النور الذي في الذّبالة.
قال أبيّ بن كعبٍ: المصباح: النّور، وهو القرآن والإيمان الّذي في صدره.
وقال السّدّي: هو السّراج.
{المصباح في زجاجةٍ} أي: هذا الضّوء مشرقٌ في زجاجةٍ صافيةٍ.
قال أبيّ بن كعبٍ وغير واحدٍ: وهي نظير قلب المؤمن. {الزّجاجة كأنّها كوكبٌ درّيٌّ}: قرأ بعضهم بضمّ الدّال من غير همزةٍ، من الدّرّ، أي: كأنّها كوكبٌ من درّ.
وقرأ آخرون: "درّيء" و"درّيء" بكسر الدّال وضمّها مع الهمز، من الدرء وهو الدّفع؛ وذلك أنّ النّجم إذا رمي به يكون أشدّ استنارةً من سائر الأحوال، والعرب تسمّي ما لا يعرف من الكواكب دراريّ.
قال أبيّ بن كعبٍ: كوكبٌ مضيءٌ. وقال قتادة: مضيءٌ مبينٌ ضخمٌ. {يوقد من شجرةٍ مباركةٍ} أي: يستمدّ من زيت زيتون شجرةٍ مباركةٍ {زيتونةٍ} بدلٌ أو عطف بيانٍ {لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} أي: ليست في شرقيّ بقعتها فلا تصل إليها الشّمس من أوّل النّهار، ولا في غربيّها فيتقلّص عنها الفيء قبل الغروب، بل هي في مكانٍ وسطٍ، تفرعه الشّمس من أوّل النّهار إلى آخره، فيجيء زيتها معتدلًا صافيًا مشرقًا.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن عمّارٍ قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن سعدٍ، أخبرنا عمرو بن أبي قيسٍ، عن سماك بن حربٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: شجرةٌ بالصّحراء، لا يظلّها جبلٌ ولا شجرٌ ولا كهفٌ، ولا يواريها شيءٌ، وهو أجود لزيتها.
وقال يحيى بن سعيدٍ القطّان، عن عمران بن حدير، عن عكرمة، في قوله: {لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: هي بصحراء، وذلك أصفى لزينتها.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو نعيم، حدّثنا عمر بن فرّوخ، عن حبيب بن الزّبير، عن عكرمة -وسأله رجلٌ عن: {زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال تلك [زيتونةٌ] بأرض فلاةٍ، إذا أشرقت الشّمس أشرقت عليها، وإذا غربت غربت عليها فذاك أصفى ما يكون من الزّيت.
وقال مجاهدٌ في قوله: {[زيتونةٍ] لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: ليست بشرقيّةٍ، لا تصيبها الشّمس إذا غربت، ولا غربيّةٍ لا تصيبها الشّمس إذا طلعت، [ولكنّها شرقيّةٌ وغربيّةٌ، تصيبها إذا طلعت] وإذا غربت.
وقال سعيد بن جبير في قوله {زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ يكاد زيتها يضيء} قال: هو أجود الزّيت. قال: إذا طلعت الشّمس أصابتها من صوب المشرق، فإذا أخذت في الغروب أصابتها الشّمس، فالشّمس تصيبها بالغداة والعشيّ، فتلك لا تعدّ شرقيّةً ولا غربيّةً.
وقال السّدّيّ [في] قوله: {زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} يقول: ليست بشرقية يحوزها المشرق، ولا غربيّةٍ يحوزها المغرب دون المشرق، ولكنّها على رأس جبلٍ، أو في صحراء، تصيبها الشّمس النهار كلّه.
وقيل: المراد بقوله: {زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} أنّها في وسط الشّجر، وليست باديةً للمشرق ولا للمغرب.
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، عن أبي بن كعبٍ، في قول اللّه تعالى: {زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: فهي خضراء ناعمةٌ، لا تصيبها الشّمس على أيّ حالٍ كانت، لا إذا طلعت ولا إذا غربت. قال: فكذلك هذا المؤمن، قد أجير من أن يصيبه شيءٌ من الفتن، وقد ابتلي بها فيثبّته اللّه فيها، فهو بين أربع خلالٍ: إن قال صدق، وإن حكم عدل، وإن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، فهو في سائر النّاس كالرّجل الحيّ يمشي في قبور الأموات.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن الحسين، حدّثنا مسدّد قال: حدّثنا أبو عوانة، عن أبي بشرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: {زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: هي وسط الشّجر، لا تصيبها الشّمس شرقًا ولا غربًا.
وقال عطيّة العوفيّ: {لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: هي شجرةٌ في موضعٍ من الشّجر، يرى ظلّ ثمرها في ورقها، وهذه من الشّجر لا تطلع عليها الشّمس ولا تغرب.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن عمّارٍ، حدّثنا عبد الرّحمن الدّشتكي، حدّثنا عمرو بن أبي قيسٍ، عن عطاءٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما، في قوله تعالى: {لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} ليست شرقيّةً ليس فيها غربٌ، ولا غربيّةً ليس فيها شرقٌ، ولكنّها شرقيّةٌ غربيّةٌ.
وقال محمّد بن كعبٍ القرظي: {لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: هي القبلية.
وقال زيد بن أسلم: {لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: الشّام.
وقال الحسن البصريّ: لو كانت هذه الشّجرة في الأرض لكانت شرقيّةً أو غربيّةً، ولكنّه مثلٌ ضربه اللّه لنوره.
وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {توقد من شجرةٍ مباركةٍ} قال: رجلٌ صالحٌ {زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: لا يهوديٍّ ولا نصرانيٍّ.
وأولى هذه الأقوال القول الأوّل، وهو أنّها في مستوًى من الأرض، في مكانٍ فسيحٍ بارزٍ ظاهرٍ ضاحٍ للشّمس، تفرعه من أوّل النّهار إلى آخره، ليكون ذلك أصفى لزينتها وألطف، كما قال غير واحدٍ ممّن تقدّم؛ ولهذا قال: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نارٌ} قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: يعني: لضوء إشراق الزّيت.
وقوله: {نورٌ على نورٍ} قال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: يعني بذلك إيمان العبد وعمله.
وقال مجاهدٌ، والسّدّيّ: يعني نور النّار ونور الزّيت.
وقال أبيّ بن كعبٍ: {نورٌ على نورٍ} فهو يتقلّب في خمسةٍ من النّور، فكلامه نورٌ، وعمله نورٌ، ومدخله نورٌ، ومخرجه نورٌ، ومصيره إلى النّور يوم القيامة إلى الجنّة.
وقال شمر بن عطية: جاء ابن عبّاسٍ إلى كعب الأحبار فقال: حدّثني عن قول اللّه: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نارٌ} قال: يكاد محمّدٌ يبيّن للنّاس، وإن لم يتكلّم، أنّه نبيٌّ، كما يكاد ذلك الزّيت أن يضيء.
وقال السّدّي في قوله: {نورٌ على نورٍ} قال: نور النّار ونور الزّيت، حين اجتمعا أضاءا، ولا يضيء واحدٌ بغير صاحبه [كذلك نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا، فلا يكون واحدٌ منهما إلّا بصاحبه]
وقوله: {يهدي اللّه لنوره من يشاء} أي: يرشد اللّه إلى هدايته من يختاره، كما جاء في الحديث الّذي رواه الإمام أحمد:
حدّثنا معاوية بن عمرٍو، حدّثنا إبراهيم بن محمّدٍ الفزاريّ، حدّثنا الأوزاعيّ، حدّثني ربيعة بن يزيد، عن عبد اللّه [بن] الدّيلميّ، عن عبد اللّه بن عمرٍو، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "إنّ اللّه خلق خلقه في ظلمةٍ، ثمّ ألقى عليهم من نوره يومئذٍ، فمن أصاب يومئذٍ من نوره اهتدى، ومن أخطأه ضلّ. فلذلك أقول: جفّ القلم على علم اللّه عزّ وجلّ"
طريقٌ أخرى عنه: قال البزّار: حدّثنا أيّوب بن سويد، عن يحيى بن أبي عمرٍو الشّيباني، عن أبيه، عن عبد اللّه بن عمر: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "إنّ اللّه خلق خلقه في ظلمةٍ، فألقى عليهم نورًا من نوره، فمن أصابه من ذلك النّور اهتدى، ومن أخطأه ضلّ. [ورواه البزّار، عن عبد اللّه بن عمرٍو من طريقٍ آخر، بلفظه وحروفه] .
وقوله تعالى: {ويضرب اللّه الأمثال للنّاس واللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ} لمّا ذكر تعالى هذا مثلًا لنور هداه في قلب المؤمن، ختم الآية بقوله: {ويضرب اللّه الأمثال للنّاس واللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ} أي: هو أعلم بمن يستحقّ الهداية ممّن يستحقّ الإضلال.
قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو النّضر: حدّثنا أبو معاوية -يعني شيبان -، عن ليثٍ، عن عمرو بن مرّة، عن أبي البختري، عن أبي سعيدٍ الخدريّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "القلوب أربعةٌ: قلبٌ أجرد فيه مثل السّراج يزهر، وقلبٌ أغلف مربوطٌ على غلافه، وقلبٌ منكوسٌ، وقلبٌ مصفح: فأمّا القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره. وأمّا القلب الأغلف فقلب الكافر. وأمّا القلب المنكوس فقلب [المنافق] عرف ثمّ أنكر. وأمّا القلب المصفح فقلبٌ فيه إيمانٌ ونفاقٌ، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدّها الماء الطّيّب، ومثل النّفاق فيه كمثل القرحة يمدّها القيح والدّم، فأيّ المدّتين غلبت على الأخرى غلبت عليه". إسناده جيد ولم يخرجوه). [تفسير ابن كثير: 6/ 57-61]

تفسير قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({في بيوتٍ أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبّح له فيها بالغدوّ والآصال (36) رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر اللّه وإقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة يخافون يومًا تتقلّب فيه القلوب والأبصار (37) ليجزيهم اللّه أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله واللّه يرزق من يشاء بغير حسابٍ (38)}
لمّا ضرب اللّه تعالى [مثل] قلب المؤمن، وما فيه من الهدى والعلم، بالمصباح في الزّجاجة الصّافية المتوقّد من زيتٍ طيّبٍ، وذلك كالقنديل، ذكر محلّها وهي المساجد، الّتي هي أحبّ البقاع إلى اللّه تعالى من الأرض، وهي بيوته الّتي يعبد فيها ويوحّد، فقال: {في بيوتٍ أذن اللّه أن ترفع} أي: أمر اللّه تعالى برفعها، أي: بتطهيرها من الدّنس واللّغو، والأفعال والأقوال الّتي لا تليق فيها، كما قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في هذه الآية الكريمة: {في بيوتٍ أذن اللّه أن ترفع} قال: نهى اللّه سبحانه عن اللّغو فيها. وكذا قال عكرمة، وأبو صالحٍ، والضّحّاك، ونافع بن جبيرٍ، وأبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة وسفيان بن حسينٍ، وغيرهم من علماء المفسّرين.
وقال قتادة: هي هذه المساجد، أمر اللّه، سبحانه، ببنائها ورفعها، وأمر بعمارتها وتطهيرها. وقد ذكر لنا أنّ كعبًا كان يقول: إنّ في التّوراة مكتوبًا: " ألا إنّ بيوتي في الأرض المساجد، وإنّه من توضّأ فأحسن وضوءه، ثمّ زارني في بيتي أكرمته، وحقّ على المزور كرامة الزّائر". رواه عبد الرّحمن بن أبي حاتمٍ في تفسيره.
وقد وردت أحاديث كثيرةٌ في بناء المساجد، واحترامها وتوقيرها، وتطييبها وتبخيرها. وذلك له محلٌّ مفردٌ يذكر فيه، وقد كتبت في ذلك جزءًا على حدة، وللّه الحمد والمنّة. ونحن بعون اللّه تعالى نذكر هاهنا طرفًا من ذلك، إن شاء اللّه تعالى، وبه الثّقة وعليه التّكلان:
فعن أمير المؤمنين عثمان بن عفّان، رضي اللّه عنه، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "من بنى مسجدًا يبتغي به وجه اللّه، بنى اللّه له مثله في الجنّة". أخرجاه في الصّحيحين.
وروى ابن ماجه، عن عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من بنى مسجدًا يذكر فيه اسم اللّه، بنى اللّه له بيتًا في الجنّة".
وللنّسائيّ عن عمرو بن عبسة مثله. والأحاديث في هذا كثيرةٌ جدًّا.
وعن عائشة رضي اللّه عنها، قالت: أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيّب. رواه أحمد وأهل السّنن إلّا النّسائيّ. ولأحمد وأبي داود، عن سمرة بن جندب نحوه.
وقال البخاريّ: قال عمر: ابن للنّاس ما يكنّهم، وإيّاك أن تحمّر أو تصفّر فتفتن النّاس.
وروى ابن ماجه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: "ما ساء عمل قومٍ قطّ إلّا زخرفوا مساجدهم". وفي إسناده ضعفٌ.
وروى أبو داود عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما أمرت بتشييد المساجد". قال ابن عبّاسٍ: لتزخرفنّها كما زخرفت اليهود والنّصارى
وعن أنسٍ رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا تقوم السّاعة حتّى يتباهى النّاس في المساجد". رواه الإمام أحمد وأهل السّنن إلّا التّرمذيّ
وعن بريدة أنّ رجلا أنشد في المسجد، فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا وجدت، إنّما بنيت المساجد لما بنيت له". رواه مسلمٌ.
وعن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه قال: نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، عن البيع والابتياع، وعن تناشد الأشعار في المساجد. رواه أحمد وأهل السّنن، وقال التّرمذيّ: حسنٌ.
وعن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه سلّم: قال: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح اللّه تجارتك. وإذا رأيتم من ينشد ضالّةً في المسجد، فقولوا: لا ردّ اللّه عليك". رواه التّرمذيّ، وقال: حسنٌ غريبٌ.
وقد روى ابن ماجه وغيره، من حديث ابن عمر مرفوعًا، قال: "خصالٌ لا تنبغي في المسجد: لا يتّخذ طريقًا، ولا يشهر فيه سلاحٌ، ولا ينبض فيه بقوسٍ، ولا ينثر فيه نبلٌ، ولا يمرّ فيه بلحمٍ نيء: ولا يضرب فيه حدٌّ، ولا يقتص فيه من أحدٍ، ولا يتّخذ سوقًا".
وعن واثلة بن الأسقع، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "جنّبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم، وشراءكم وبيعكم، وخصوماتكم ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم وسلّ سيوفكم، واتّخذوا على أبوابها المطاهر، وجمّروها في الجمع".
ورواه ابن ماجه أيضًا وفي إسنادهما ضعفٌ.
أمّا أنّه "لا يتّخذ طريقًا" فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلّا لحاجةٍ إذا وجد مندوحةً عنه. وفي الأثر: "إنّ الملائكة لتتعجّب من الرّجل يمرّ بالمسجد لا يصلّي فيه".
وأمّا أنّه "لا يشهر فيه بسلاحٍ. ولا ينبض فيه بقوسٍ، ولا ينثر فيه نبلٌ. فلما يخشى من إصابة بعض النّاس به، لكثرة المصلّين فيه؛ ولهذا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا مرّ أحدٌ بسهامٍ أن يقبض على نصالها؛ لئلّا يؤذي أحدًا، كما ثبت في الصّحيح.
وأما النّهي عن المرور باللّحم النّيّء فيه، فلما يخشى من تقاطر الدّم منه، كما نهيت الحائض عن المرور فيه إذا خافت التّلويث.
وأمّا أنّه "لا يضرب فيه حدٌّ ولا يقتصّ"، فلما يخشى من إيجاد نجاسةٍ فيه من المضروب أو المقطوع.
وأمّا أنّه "لا يتّخذ سوقًا"، فلما تقدّم من النّهي عن البيع والشّراء فيه، فإنّه إنّما بني لذكر اللّه والصّلاة كما قال النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، لذلك الأعرابيّ الّذي بال في طائفة المسجد: "إنّ المساجد لم تبن لهذا، إنّما بنيت لذكر اللّه والصّلاة فيها". ثمّ أمر بسجل من ماءٍ، فأهريق على بوله.
وفي الحديث الثّاني: "جنّبوا مساجدكم صبيانكم"، وذلك لأنّهم يلعبون فيه ولا يناسبهم، وقد كان عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، إذا رأى صبيانًا يلعبون في المسجد، ضربهم بالمخفقة -وهي الدّرّة- وكان يعسّ المسجد بعد العشاء، فلا يترك فيه أحدًا.
"ومجانينكم" يعني: لأجل ضعف عقولهم، وسخر النّاس بهم، فيؤدّي إلى اللّعب فيها، ولما يخشى من تقذيرهم المسجد، ونحو ذلك.
"وبيعكم وشراءكم" كما تقدّم.
"وخصوماتكم" يعني: التّحاكم والحكم فيه؛ ولهذا نصّ كثيرٌ من العلماء على أنّ الحاكم لا ينتصب لفصل الأقضية في المسجد، بل يكون في موضعٍ غيره؛ لما فيه من كثرة الحكومات والتّشاجر والعياط الّذي لا يناسبه؛ ولهذا قال بعده: "ورفع أصواتكم".
وقال البخاريّ: حدّثنا عليّ بن عبد اللّه، حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، حدّثنا الجعيد بن عبد الرّحمن قال: حدّثني يزيد بن خصيفة، عن السّائب بن يزيد الكنديّ قال: كنت قائمًا في المسجد، فحصبني رجلٌ، فنظرت فإذا عمر بن الخطّاب، فقال: اذهب فأتني بهذين. فجئته بهما، فقال: من أنتما؟ أو: من أين أنتما؟ قالا من أهل الطّائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما: ترفعان أصواتكما في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقال النّسائيّ: حدّثنا سويد بن نصرٍ، عن عبد اللّه بن المبارك، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوفٍ قال: سمع عمر صوت رجلٍ في المسجد فقال: أتدري أين أنت؟ وهذا أيضًا صحيحٌ.
وقوله: "وإقامة حدودكم، وسلّ سيوفكم": تقدّما.
وقوله: "واتّخذوا على أبوابها المطاهر" يعني: المراحيض الّتي يستعان بها على الوضوء وقضاء الحاجة. وقد كانت قريبًا من مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم آبارٌ يستقون منها، فيشربون ويتطهرون، ويتوضؤون وغير ذلك.
وقوله: "وجمّروها في الجمع" يعني: بخّروها في أيّام الجمع لكثرة اجتماع النّاس يومئذٍ.
وقد قال الحافظ أبو يعلى الموصليّ: حدّثنا عبيد اللّه، حدّثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ، عن عبد اللّه بن عمر، عن نافعٍ عن ابن عمر؛ أنّ عمر كان يجمّر مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كلّ جمعةٍ. إسناده حسنٌ لا بأس به واللّه أعلم.
وقد ثبت في الصّحيحين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "صلاة الرّجل في الجماعة تضعّف على صلاته في بيته وفي سوقه، خمسًا وعشرين ضعفًا. وذلك أنّه إذا توضّأ فأحسن وضوءه ثمّ خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلّا الصّلاة، لم يخط خطوة إلّا رفع له بها درجةٌ، وحطّ عنه بها خطيئةٌ، فإذا صلّى لم تزل الملائكة تصلّي عليه ما دام في مصلاه: اللّهمّ صلّ عليه، اللّهمّ ارحمه، ولا يزال في صلاةٍ ما انتظر الصّلاة"
وعند الدّارقطنيّ مرفوعًا: "لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد".
وفي السّنن: "بشّر المشّائين إلى المساجد في الظّلم بالنّور التّامّ يوم القيامة".
والمستحبّ لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى، وأن يقول كما ثبت في صحيح البخاريّ عن عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه كان إذا دخل المسجد قال:أعوذ باللّه العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشّيطان الرّجيم" [قال: أقطّ؟ قال: نعم]. قال: فإذا قال ذلك قال الشّيطان: حفظ منّي سائر اليوم.
وروى مسلمٌ بسنده عن أبي حميدٍ -أو: أبي أسيد -قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك".
ورواه النّسائيّ عنهما، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم [مثله] .
وعن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا دخل أحدكم المسجد، فليسلّم على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وليقل: اللّهمّ افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليسلّم على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وليقل: اللّهمّ اعصمني من الشّيطان الرّجيم".
ورواه ابن ماجه، وابن خزيمة وابن حبّان في صحيحيهما.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدّثنا ليث بن أبي سليمٍ، عن عبد اللّه بن حسنٍ. عن أمّه فاطمة بنت حسينٍ، عن جدّتها فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا دخل المسجد صلّى على محمّدٍ وسلّم، ثمّ قال:"اللّهمّ، اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك". وإذا خرج صلّى على محمّدٍ وسلّم ثمّ قال: "اللّهمّ، اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك".
ورواه التّرمذيّ وابن ماجه، وقال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ وإسناده ليس بمتّصلٍ؛ لأنّ فاطمة بنت الحسين الصّغرى لم تدرك فاطمة الكبرى.
فهذا الّذي ذكرناه، مع ما تركناه من الأحاديث الواردة في ذلك لحال الطّول. كلّه داخلٌ في قوله تعالى: {في بيوتٍ أذن اللّه أن ترفع}.
وقوله: {ويذكر فيها اسمه} أي: اسم الله، كقوله: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كلّ مسجدٍ} [الأعراف: 31]، وقوله {وأقيموا وجوهكم عند كلّ مسجدٍ وادعوه مخلصين له الدّين} [الأعراف: 29]، وقوله {وأنّ المساجد للّه فلا تدعوا مع اللّه أحدًا} [الجنّ: 18].
قال ابن عبّاسٍ: {ويذكر فيها اسمه} يعني: يتلى فيها كتابه.
وقوله: {يسبّح له فيها بالغدوّ والآصال} أي: في البكرات والعشيّات. والآصال: جمع أصيل، وهو آخر النّهار.
وقال سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ: كلّ تسبيحٍ في القرآن هو الصّلاة.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: يعني بالغدوّ: صلاة الغداة، ويعني بالآصال: صلاة العصر، وهما أوّل ما افترض اللّه من الصّلاة، فأحبّ أن يذكرهما وأن يذكّر بهما عباده.
وكذا قال الحسن، والضّحّاك: {يسبّح له فيها بالغدوّ والآصال} يعني: الصّلاة.
ومن قرأ من القرأة " يسبّح له فيها بالغدوّ والآصال" -بفتح الباء من "يسبح" على أنّه مبنيٌّ لما لم يسمّ فاعله -وقف على قوله: {والآصال} وقفًا تامًا، وابتدأ بقوله: {رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر اللّه} وكأنّه مفسّرٌ للفاعل المحذوف، كما قال الشّاعر:
ليبك يزيد، ضارعٌ لخصومة = ومختبطٌ ممّا تطيح الطّوائح...
كأنّه قال: من يبكيه؟ قال: هذا يبكيه. وكأنّه قيل: من يسبّح له فيها؟ قال: رجالٌ.
وأمّا على قراءة من قرأ: {يسبّح} -بكسر الباء -فجعله فعلًا وفاعله: {رجال} فلا يحسن الوقف إلّا على الفاعل؛ لأنّه تمام الكلام.
فقوله: {رجال} فيه إشعارٌ بهممهم السّامية، ونيّاتهم وعزائمهم العالية، الّتي بها صاروا عمّارا للمساجد، الّتي هي بيوت اللّه في أرضه، ومواطن عبادته وشكره، وتوحيده وتنزيهه، كما قال تعالى: {من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه} [الأحزاب: 23].
فأمّا النّساء فصلاتهن في بيوتهنّ أفضل لهنّ؛ لما رواه أبو داود، عن عبد اللّه بن مسعودٍ، رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها".
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن غيلان، حدّثنا رشدين، حدّثني عمرٌو، عن أبي السّمح، عن السّائب مولى أمّ سلمة عن أمّ سلمة -رضي اللّه عنها، -عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "خير مساجد النّساء [قعر] بيوتهنّ".
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدّثنا هارون، أخبرني عبد اللّه بن وهبٍ، حدّثنا داود بن قيسٍ، عن عبد اللّه بن سويد الأنصاريّ، عن عمّته أمّ حميدٍ -امرأة أبي حميدٍ السّاعديّ -أنّها جاءت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت: يا رسول اللّه، إنّي أحبّ الصّلاة معك قال: "قد علمت أنّك تحبّين الصّلاة معي، وصلاتك في بيتك خيرٌ من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خيرٌ من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خيرٌ من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خيرٌ من صلاتك في مسجدي". قال: فأمرت فبني لها مسجدٌ في أقصى بيتٍ من بيوتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتّى لقيت الله، عز وجل. لم يخرجوه.
هذا ويجوز لها شهود جماعة الرّجال، بشرط أن لا تؤذي أحدًا من الرّجال بظهور زينةٍ ولا ريح طيبٍ كما ثبت في الصّحيحين عن عبد اللّه بن عمر أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا تمنعوا إماء اللّه مساجد اللّه".
رواه البخاريّ ومسلمٌ، ولأحمد وأبي داود: "وبيوتهنّ خيرٌ لهنّ" وفي روايةٍ: "وليخرجن وهنّ تفلات" أي: لا ريح لهنّ.
وقد ثبت في صحيح مسلمٍ، عن زينب -امرأة ابن مسعودٍ -قالت: قال لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا شهدت إحداكنّ المسجد فلا تمسّ طيبًا".
وفي الصّحيحين عن عائشة، رضي اللّه عنها، أنّها قالت: كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ثمّ يرجعن متلفّعاتٍ بمروطهن، ما يعرفن من الغلس.
وفي الصّحيحين أيضًا عنها أنّها قالت: لو أدرك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما أحدث النّساء لمنعهنّ المساجد، كما منعت نساء بني إسرائيل.
وقوله: {رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر اللّه}، كقوله {يا أيّها الّذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر اللّه ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} [المنافقون: 9]، وقال تعالى {يا أيّها الّذين آمنوا إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه وذروا البيع ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون} [الجمعة: 9]
يقول تعالى: لا تشغلهم الدّنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وريحها، عن ذكر ربّهم الّذي هو خالقهم ورازقهم، والّذين يعلمون أنّ الّذي عنده هو خيرٌ لهم وأنفع ممّا بأيديهم؛ لأنّ ما عندهم ينفد وما عند اللّه باقٍ؛ ولهذا قال: {لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر اللّه وإقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة} أي: يقدّمون طاعته ومراده ومحبّته على مرادهم ومحبّتهم.
قال هشيم: عن سيّار: [قال] حدّثت عن ابن مسعودٍ أنّه رأى قومًا من أهل السّوق، حيث نودي بالصّلاة، تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصّلاة، فقال عبد اللّه: هؤلاء من الّذين ذكر اللّه في كتابه: {رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر اللّه}.
وهكذا روى عمرو بن دينارٍ القهرمانيّ، عن سالمٍ، عن عبد اللّه بن عمر، رضي اللّه عنهما، أنّه كان في السّوق فأقيمت الصّلاة، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر: فيهم نزلت: {رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر اللّه}. رواه ابن أبي حاتمٍ، وابن جريرٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن بكرٍ الصّنعانيّ، حدّثنا أبو سعيدٍ مولى بني هاشمٍ حدّثنا عبد اللّه بن بجير، حدّثنا أبو عبد ربٍّ قال: قال أبو الدّرداء، رضي اللّه عنه: إنّي قمت على هذا الدّرج أبايع عليه، أربح كلّ يومٍ ثلاثمائة دينارٍ، أشهد الصّلاة في كلّ يومٍ في المسجد، أما إنّي لا أقول: "إنّ ذلك ليس بحلالٍ" ولكنّي أحبّ أن أكون من الّذين قال اللّه: {رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر اللّه}.
وقال عمرو بن دينارٍ الأعور: كنت مع سالم بن عبد اللّه ونحن نريد المسجد، فمررنا بسوق المدينة وقد قاموا إلى الصّلاة وخمّروا متاعهم، فنظر سالمٌ إلى أمتعتهم ليس معها أحدٌ، فتلا سالمٌ هذه الآية: {رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر اللّه} ثمّ قال: هم هؤلاء.
وكذا قال سعيد بن أبي الحسن، والضّحّاك: لا تلهيهم التّجارة والبيع أن يأتوا الصّلاة في وقتها.
وقال مطرٌ الورّاق: كانوا يبيعون ويشترون، ولكن كان أحدهم إذا سمع النّداء وميزانه في يده خفضه، وأقبل إلى الصلاة.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ {لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر اللّه} يقول: عن الصّلاة المكتوبة. وكذا قال الرّبيع بن أنسٍ ومقاتل بن حيّان.
وقال السّدّي: عن الصّلاة في جماعةٍ.
وعن مقاتل بن حيّان: لا يلهيهم ذلك عن حضور الصّلاة، وأن يقيموها كما أمرهم اللّه، وأن يحافظوا على مواقيتها، وما استحفظهم اللّه فيها.
وقوله: {يخافون يومًا تتقلّب فيه القلوب والأبصار} أي: يوم القيامة الّذي تتقلّب فيه القلوب والأبصار، أي: من شدّة الفزع وعظمة الأهوال، كما قال تعالى {وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين} [غافرٍ: 18]، وقال تعالى: {إنّما يؤخّرهم ليومٍ تشخص فيه الأبصار} [إبراهيم: 42]، وقال تعالى: {ويطعمون الطّعام على حبّه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا إنّما نطعمكم لوجه اللّه لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا إنّا نخاف من ربّنا يومًا عبوسًا قمطريرًا فوقاهم اللّه شرّ ذلك اليوم ولقّاهم نضرةً وسرورًا وجزاهم بما صبروا جنّةً وحريرًا} [الإنسان: 8-12].
وقال هاهنا {ليجزيهم اللّه أحسن ما عملوا} أي: هؤلاء من الّذين يتقبّل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيّئاتهم.
وقوله: {ويزيدهم من فضله} أي: يتقبّل منهم الحسن ويضاعفه لهم، كما قال تعالى: {إنّ اللّه لا يظلم مثقال ذرّةٍ وإن تك حسنةً يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا} [النّساء: 40]، وقال تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160]، وقال {من ذا الّذي يقرض اللّه قرضًا حسنًا فيضاعفه له أضعافًا كثيرةً} [البقرة: 245]، وقال {واللّه يضاعف لمن يشاء} [البقرة: 261]كما قال هاهنا: {واللّه يرزق من يشاء بغير حسابٍ}.
وعن ابن مسعودٍ: أنّه جيء بلبنٍ فعرضه على جلسائه واحدًا واحدًا، فكلّهم لم يشربه لأنّه كان صائمًا، فتناوله ابن مسعودٍ وكان مفطرًا فشربه، ثمّ تلا قوله تعالى {يخافون يومًا تتقلّب فيه القلوب والأبصار}، رواه النّسائيّ، وابن أبي حاتمٍ، من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عنه.
وقال [ابن أبي حاتمٍ] أيضًا: حدّثنا أبي، حدّثنا سويد بن سعيدٍ، حدّثنا عليّ بن مسهر عن عبد الرّحمن بن إسحاق، عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا جمع اللّه الأوّلين والآخرين يوم القيامة، جاء منادٍ فنادى بصوتٍ يسمع الخلائق: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم، ليقم الّذين لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر اللّه. فيقومون، وهم قليلٌ، ثمّ يحاسب سائر الخلائق".
وروى الطّبرانيّ، من حديث بقيّة، عن إسماعيل بن عبد اللّه الكنديّ، عن الأعمش، عن أبي وائلٍ، عن ابن مسعودٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله: {ليوفّيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} [فاطرٍ: 30] قال: {أجورهم} يدخلهم الجنّة {، ويزيدهم من فضله}، الشّفاعة لمن وجبت له الشّفاعة، لمن صنع لهم المعروف في الدّنيا). [تفسير ابن كثير: 6/ 62-70]

رد مع اقتباس