الموضوع: سورة الممتحنة
عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 4 ربيع الثاني 1434هـ/14-02-2013م, 01:09 AM
الصورة الرمزية أسماء الشامسي
أسماء الشامسي أسماء الشامسي غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Apr 2011
الدولة: مكة المكرمة
المشاركات: 559
افتراضي


قال الله تعالى : {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ... (10) }


قال محمد بن كثيرٍ العَبْدي (ت:223هـ) عن همّام بن يحيى البصري قال(ومن سورة الممتحنةوعن قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا أتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر} يعني بذلك كفار نساء العرب إذا أبين أن يسلمن أن يخلى عنهن .
وعن قوله عز وجل: {وسئلوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} فكن إذا فررن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعن إلى الكفار الذين بينهم وبين أصحاب رسول الله العهد فتزوجن وبعثن بمهورهن إلى أزواجهن من المسلمين فإذا فررن من الكفار الذين بينهم وبين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم العهد فتزوجن وبعثن بمهورهن إلى أزواجهن من الكفار فكان هذا بين أصحاب رسول الله وبين أهل العهد من الكفار .
وعن قوله عز وجل: {ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم} فهذا حكمه بين أهل الهدى وأهل الضلالة،.).[الناسخ والمنسوخ لقتادة: 1/48-50]
قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيُّ (ت: 320 هـ): (الآية الثانية: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن...} الآية [10 / الممتحنة / 60] فنسخت بقوله تعالى: {فلا ترجعوهن إلى الكفار...} الآية [10 / الممتحنة / 60] وقيل نسخت بقوله تعالى: {براءة من الله ورسوله...} [1 / براءة / 9]) [الناسخ والمنسوخ لابن حزم: 59-60]
قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): (باب ذكر الآية الثّانية من هذه السّورة
قال اللّه جلّ وعزّ {يا أيّها الّذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجراتٍ فامتحنوهنّ اللّه أعلم بإيمانهنّ فإن علمتموهنّ مؤمناتٍ فلا ترجعوهنّ إلى الكفّار} [الممتحنة: 10] فنسخ اللّه تعالى بهذا على قول جماعةٍ من العلماء ما كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عاهد عليه قريشًا: أنّه إذا جاءه أحدٌ منهم مسلمًا ردّه إليهم، فنقض اللّه تعالى هذا في النّساء ونسخه وأمر المؤمنين إذا جاءتهم امرأةٌ مسلمةٌ مهاجرةً امتحنوها فإن كانت مؤمنةً على الحقيقة لم يردّوها إليهم، واحتجّ من قال هذا: بأنّ القرآن ينسخ السّنّة
ومنهم من قال: وهذا كلّه منسوخٌ في الرّجال والنّساء ولا يجوز للإمام أن يهادن الكفّار على أنّه من جاء منهم مسلمًا ردّه إليهم؛ لأنّه لا يجوز عند أحدٍ من العلماء أن يقيم مسلمٌ بأرض الشّرك تجري عليه أحكام أهل الشّرك واختلفوا في التّجارة إلى أرض الشّرك
قال أبو جعفرٍ: وسنذكر ذلك بعد ذكر الحديث الّذي فيه خبر صلح النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وما في ذلك من النّسخ، والأحكام والفوائد
فمن ذلك ما قرئ على أحمد بن شعيب بن عليٍّ، عن سعيد بن عبد الرّحمن، قال: حدّثنا سفيان، عن الزّهريّ قال: وثبّتني معمرٌ بعد، عن الزّهريّ، عن عروة بن الزّبير: أنّ مسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم يزيد أحدهما على صاحبه قالا: " خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عام الحديبية في بضع عشرة مائةٍ من أصحابه فلمّا أتى ذا الحليفة قلّد الهدي وأشعره وأحرم منها ثمّ بعث عينًا له من خزاعة وسار النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتّى إذا
كان -وذكر كلمةً - قال أبو جعفرٍ: الصّواب حتّى إذا كان بغدير الأشطاط أتى عينه فقال: إنّ قريشًا جمعوا لك جموعًا وجمعوا لك الأحابيش وإنّهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((أشيروا عليّ أترون أن نميل على ذراريّ هؤلاء القوم الّذين أعانوا علينا فإن نجوا يكون اللّه تعالى والصّواب: يكن قد قطع عنقًا من الكفّار، وإلّا تركتهم محروبين موتورين))، فقال أبو بكرٍ: يا رسول اللّه إنّما خرجت لهذا الوجه عامدًا لهذا البيت لا تريد قتال أحدٍ فتوجّه له فمن صدّنا عنه قاتلناه، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:((امضوا على اسم اللّه))
قال أبو جعفرٍ: أحسب أنّ أبا عبد الرّحمن اختصر هذا الحديث لمّا فيه والّذي فيه يحتاج إلى تفسيره والحكمة فيه أو يكون جاء بما يقدّر أنّه يحتاج إليه منه؛ لأنّ عبد الرّزّاق رواه عن معمرٍ، عن الزّهريّ، عن عروة، عن المسور ومروان بتمامه، فذكر نحو هذا ثمّ قال:
فراحوا يعني: حتّى إذا كانوا ببعض الطّريق قال: النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((إنّ خالد بن الوليد بالغميم في خيلٍ لقريشٍ
طليعةً فخذوا ذات اليمين)) ، فواللّه ما شعر بهم خالدٌ حتّى إذا هو بغبرة الجيش فانطلق يركض نذيرًا لقريشٍ، ثمّ سار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى إذا كان بالثّنيّة الّتي يهبط عليهم منها بركت به راحلته فقال النّاس: حل حل فألحّت، فقالوا: خلأت القصواء
خلأت، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ((ما خلأت القصواء وما ذلك لها بخلقٍ، ولكن حبسها حابس الفيل))
ثمّ قال: ((والّذي نفسي بيده لا يسألوني خطّةً يعظّمون فيها حرمات اللّه إلّا أعطيتهم إيّاها)) ، ثمّ زجرها فوثبت به قال: فعدل عنهم حتّى نزل أقصى الحديبية على ثمدٍ قليل الماء إنّما تبرّضه النّاس تبرّضًا فلم يلبثه النّاس
أن نزحوه فشكي إلى رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم العطش فانتزع سهمًا من كنانته ثمّ أمرهم أن يجعلوه فيه فواللّه ما زال يجيش لهم بالرّيّ حتّى صدروا عنه، فبينا هم كذلك إذا جاء بديل بن ورقاء الخزاعيّ في نفرٍ من قومه خزاعة وكان عيبة نصح رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم من أهل تهامة فقال: إنّي تركت كعب بن لؤيٍّ لإعداد مياه الحديبية
معهم العود المطافيل وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت، فقال رسول اللّه: ((إنّا لم نجئ لقتال أحدٍ ولكنّا جئنا معتمرين، وإنّ قريشًا نهكتهم الحرب فأضرّت بهم فإن شاءوا هادنتهم مدّةً ويخلّوا بيني وبين النّاس فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه النّاس فعلوا، وإلّا فقد جمّوا وإن أبوا فوالّذي نفسي بيده لأقاتلنّهم على أمري هذا حتّى تنفرد سالفتي أو لينفذنّ اللّه عزّ وجلّ أمره))
فقال بديلٌ: سأبلّغهم ما تقول، فانطلق حتّى أتى قريشًا فقال: إنّا قد
جئناكم من عند هذا الرّجل وسمعناه يقول قولًا إن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدّثنا عنه بشيءٍ، وقال ذوو الرّأي منهم: هات ما سمعته يقول قال: سمعته يقول: كذا وكذا، فحدّثهم بما قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم، فقال عروة بن مسعودٍ الثّقفيّ: أي قومي ألستم بالولد؟ قالوا: بلى، قال: ألست بالوالد؟ قالوا: بلى قال: فهل تتّهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أنّي استنفرت أهل عكاظٍ عليكم جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإنّ هذا قد عرض عليكم خطّة رشدٍ فاقبلوها ودعوني آته، قالوا: ائته، فأتاه فجعل يكلّم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نحوًا من قوله لبديلٍ، فقال عروة عند ذلك: أي محمّد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت أنّ أحدًا من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإنّ تكن الأخرى فواللّه إنّي لأرى وجوهًا وأرى أوباشًا من النّاس خلقاء أن يفرّوا ويدعوك، فقال أبو بكرٍ رضي اللّه عنه: امصص بظر اللّات، أنحن نفرّ وندعه، فقال: من ذا؟
فقالوا: أبو بكرٍ، فقال: أما والّذي نفسي بيده لولا يدٌ لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، قال: وجعل يكلّم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فكلّما كلّمه أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائمٌ على رأس النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومعه السّيف وعلى رأسه المغفر، فكلّما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم ضرب يده بنعل السّيف وقال: أخّر يدك عن لحية رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم فرفع عروة رأسه وقال: من هذا؟ فقالوا المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر أو
لست أسعى في غدرتك، وكان المغيرة قد صحب قومًا في الجاهليّة فقتلهم وأخذ أموالهم ثمّ جاء فأسلم فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((أمّا الإسلام فأقبل، وأمّا المال فلست منه في شيءٍ)) ، ثمّ إنّ عروة جعل يرمق صحابة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعينيه قال: فواللّه ما يتنخّم رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم نخامةً إلّا وقعت في يد رجلٍ منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدّون النّظر إليه تعظيمًا له، قال: فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قومي واللّه لقد وفدت على الملوك ووفدت على كسرى وقيصر والنّجاشيّ، واللّه إن رأيت ملكًا قطّ يعظّمه أصحابه ما
يعظّم أصحاب محمّدٍ محمّدًا، واللّه إن ينتخم نخامةً إلّا وقعت في كفّ رجلٍ منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النّظر إليه تعظيمًا له، وإنّه قد عرض عليكم خطّة رشدٍ فاقبلوها منه، فقال رجلٌ من بني كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته،
فلمّا أشرف على النّبيّ وأصحابه قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((هذا فلانٌ من قومٍ يعظّمون البدن فابعثوها له)) فبعثت له، واستقبله القوم يلبّون فلمّا رأى ذلك قال: سبحان اللّه ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت، فقال رجلٌ منهم يقال له: مكرز بن حفصٍ دعوني آته، قالوا: ائته، فلمّا أشرف عليهم قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: " هذا مكرزٌ وهو رجلٌ فاجرٌ فجعل يكلّم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فبينا هو يكلّمه إذ جاء سهيل بن عمرٍ وفقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابًا، فدعا الكاتب فقال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: ((اكتب بسم اللّه الرّحمن الرّحيم))، فقال سهيلٌ: أمّا الرّحمن فواللّه ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللّهمّ، كما كنت تكتب، فقال المسلمون: واللّه ما نكتبها إلّا بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:((اكتب باسمك اللّهمّ))، ثمّ قال: ((هذا ما قاضى عليه محمّدٌ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم))، فقال سهيلٌ: واللّه لو كنّا نعلم أنّك رسوله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب
من محمّد بن عبد اللّه، فقال: قال الزّهريّ: وذلك قوله: لا يسألونني خطّةً يعظّمون فيها حرمات اللّه عزّ وجلّ إلّا أعطيتهم إيّاها فقال النّبيّ: ((أن تخلّوا بيننا وبين البيت نطوف به)) ، فقال سهيل بن عمرٍ و: واللّه لا تتحدّث العرب أنّا أخذنا ضغطةً ولكن لك من العام المقبل، فكتب، فقال سهيلٌ: وعلى أنّه لا يأتيك منّا رجلٌ وإن كان على دينك إلّا رددته إلينا، فقال المسلمون: سبحان اللّه كيف يردّ إلى المشركين وقد جاء مسلمًا، فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرٍ وهو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكّة حتّى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيلٌ: هذا يا محمّد أوّل ما نقاضيك عليه أن تردّه إليّ، فقال النّبيّ: ((إنّا لم نقض الكتاب بعد)) ، قال: فواللّه إذن لا أصالحك على شيءٍ أبدًا، قال النّبيّ : ((فأجزه لي))، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: ((بلى فافعل))، قال: ما أنا بفاعلٍ، فقال مكرزٌ: بلى، قد أجزناه لك، فقال أبو جندلٍ: أي معاشر المسلمين أأردّ إلى المشركين وقد جئت مسلمًا، ألا ترون ماذا لقيت - وكان قد عذّب عذابًا شديدًا في اللّه
فقال عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه: واللّه ما شككت منذ أسلمت إلّا يومئذٍ فأتيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقلت: ألست نبيّ اللّه حقًّا؟ قال: «بلى»، قلت: ألسنا على الحقّ، وعدوّنا على الباطل؟ قال: «بلى»، قلت: فلم نعطي الدّنيّة في ديننا إذن، قال: «إنّي رسول ولست أعصيه وهو ناصري»، قلت: أوليس كنت قد وعدتنا أنّا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: " بلى، أفأخبرتك أنّك تأتيه العام؟ قال: لا، قال: «فإنّك تأتيه وتطوف به»، قال: فأتيت أبا بكرٍ فقلت: يا أبا بكرٍ أليس هذا نبيّ اللّه حقًّا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدّنيّة في ديننا إذن؟ قال: أيّها الرّجل إنّه رسول اللّه وليس يعصي ربّه وهو ناصره فاستمسك بغرزه حتّى تموت فواللّه إنّه لعلى الحقّ، قلت: أو ليس كان يحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونطوف به؟، قال: بلى أفأخبرك أنّك تأتيه العام؟ قال: لا، قال: فإنّك آتيه وتطوف به قال الزّهريّ: قال عمر: فعملت لذلك أعمالًا فلمّا فرغ من قضيّة الكتاب قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: ((قوموا فانحروا ثمّ احلقوا))
قال: فواللّه ما قام رجلٌ منهم حتّى قال ذلك ثلاث مرّاتٍ، فلمّا لم يقم منهم أحدٌ، قام فدخل على أمّ سلمة فذكر لها ما لقي من النّاس، فقالت أمّ سلمة: يا نبيّ اللّه أتحبّ ذلك اخرج ثمّ لا تكلّم أحدًا منهم حتّى تنحر وتحلق، فخرج فنحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلمّا رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتّى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا ثمّ جاءه نسوةٌ مؤمناتٌ فأنزل اللّه عزّ وجلّ {يا أيّها الّذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجراتٌ فامتحنوهنّ اللّه أعلم بإيمانهنّ} [الممتحنة: 10] حتّى بلغ {بعصم الكوافر} [الممتحنة: 10] فطلّق عمر يومئذٍ امرأتين كانا له في الشّرك فتزوّج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أميّة ثمّ رجع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة فجاءه أبو بصيرٍ قال أبو جعفرٍ: وعتبة بن أسد بن حارثة الثّقفيّ رجلٌ من قريشٍ وهو مسلمٌ،فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الّذي جعلت لنا، فدفعه النّبيّ إلى الرّجلين فخرجا به حتّى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمرٍ لهم، قال أبو بصيرٍ لأحد الرّجلين: واللّه إنّي لأرى سيفك يا فلان جيّدًا، فاستلّه الآخر فقال: أجل واللّه إنّه لجيّدٌ لقد جرّبت به ثمّ جرّبت، فقال أبو بصيرٍ: أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه به حتّى برد وفرّ الأخر حتّى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:((لقد رأي هذا ذعرًا)) ، فلمّا انتهى إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: قتل واللّه صاحبي وإنّي لمقتولٌ، فجاء أبو بصيرٍ فقال: يا نبيّ اللّه قد واللّه أوفى اللّه ذمّتك قد رددتني إليهم ثمّ أنجاني اللّه منهم فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((ويل أمّه مسعر حربٍ لو كان له أحدٌ)) ، فلمّا سمع ذلك
علم أنّه سيردّه إليهم فخرج حتّى أتى سيف البحر قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيلٍ قال: فلحق بأبي بصيرٍ فجعل لايخرج من قريشٍ رجلٌ قد أسلم إلّا لحق بأبي بصيرٍ حتّى اجتمعت منهم عصابةٌ، قال: فواللّه ما يسمعون بعيرٍ لقريشٍ إلى الشّام إلّا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريشٌ إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يناشدونه باللّه والرّحم إلّا أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمنٌ، فأرسل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إليهم فأنزل اللّه عزّ وجلّ {وهو الّذي كفّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكّة} [الفتح: 24] حتّى بلغ {حميّة الجاهليّة} [الفتح: 26]، وكانت حميّتهم أنّهم لم يقرّوا أنّه نبيّ اللّه ولم يقرّوا ببسم اللّه الرّحمن الرّحيم والأحكام وحالوا بينه وبين البيت "
قال أبو جعفرٍ: في هذا الحديث من النّاسخ والمنسوخ والآداب والأحكام من الحجّ والجهاد وغيرهما ومن التّفسير وغيره نيفٌ وثلاثون موضعًا نذكر منها موضعًا موضعًا إنّ شاء اللّه.
فمن ذلك الوقوف على أنّ أصحاب رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم الّذين كانوا بالحديبية بضع عشرة مائةٍ وهم الّذين أنزل اللّه عزّ وجلّ فيهم {لقد
رضي اللّه عن المؤمنين} [الفتح: 18] وإنّ البضع يقع لأربعٍ
قال جابر بن عبد اللّه: كنّا ألفًا وأربعمائةٍ وإنّ المائة تعد عدد الواحدة
وفيه أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم سنّ لمن أراد العمرة من المدينة وأهلّ من ذي الحليفة سنة ستٍّ ثمّ أقام الأمر على ذلك
كما روى مالكٌ، عن نافعٍ، عن ابن عمر، أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
قال: «يهلّ أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشّام من الجحفة» وذكر الحديث
وفيه أنّ الإحرام من الميقات أفضل من الإحرام من بلد الرّجل؛ لأنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم منه أحرم بعمرةٍ في هذا الوقت
ومنه أيضًا أنّه ليس معنى قول اللّه تعالى {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه} [البقرة: 196] أن يحرم الإنسان من دويرة أهله ولو كان كذا لكان رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم أولى النّاس بالعمل به فإن قيل فقد قال عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه: «إتمام العمرة أن تحرم من دويرة أهلك» قيل: هذا يتأوّل على أنّه
خاصٌ لمن كان بين الميقات ومكّة
كما روي عن، ابن عبّاسٍ، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((من كان أهله دون الميقات فمهلّه من حيث كان أهله)) كما يهلّ أهل مكّة من مكّة
وفيه أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم أشعر البدن فكانت هذه سنّةً على خلاف ما يقول الكوفيّون: أنّه لا يجوز إشعار البدن
وقرئ على أحمد بن شعيبٍ، عن العبّاس بن عبد العظيم، قال: حدّثنا عثمان بن عمر، قال: حدّثنا مالك بن أنسٍ، عن عبد اللّه بن أبي بكرٍ، عن عروة، عن عائشة، رضي اللّه عنها قالت: قلّد رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم هديه بيديه وأشعره ثمّ لم يحرّم شيئًا كان اللّه تعالى أحلّه له وبعث بالهدي مع أبي "
قال أبو جعفرٍ: فدلّ هذا الحديث على خلاف ما يقول الكوفيّون لأنّهم زعموا: أنّ الإشعار منسوخٌ بنهي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن المثلة، ونهي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن المثلة إنّما كان في وقعة أحدٍ وقيل في وقعة خيبر، وحجّ أبو بكرٍ رضي اللّه عنه بالنّاس بعد ذلك فكان الإشعار بعد، ومحالٌ أن ينسخ الأوّل الآخر وقد كان الإشعار أيضًا في حجّة الوداع
وفيه أيضًا سنّة التّقليد
وفيه أنّ الإشعار والتّقليد قبل الإحرام
وفيه السّنّة في التّوجيه بعينٍ إلى العدوّ
وفيه التّوجيه برجلٍ واحدٍ فدلّ هذا على أنّه يجوز للرّجل أن يسافر وحده في حال الضّرورة
وفيه أنّه يجوز للواحد في حال الضّرورة أن يهجم على الجماعة كما قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب:
«من يعرف لنا خبر القوم» ؟ فقال الزّبير: أنا، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((لكلّ نبيٍّ حواريّ وحواريّي الزّبير))
وفيه: الدّليل على صحّة خبر الواحد ولولا أنّه مقبولٌ ما وجّه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بواحدٍ ليخبره بخبر القوم
وفيه: مشاورة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أصحابه
فقال الحسن: فعل ذلك لتستنّ به أمّته، وما شاور قومٌ إلّا هدوا لأرشد الأمور
وقال سفيان الثّوريّ: بلغني أنّ المشورة نصف العقل
وحدّثني أحمد بن عاصمٍ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن سعيد بن الحكم بن محمّدٍ قال حدّثني أبي، قال: حدّثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينارٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قول اللّه تعالى {وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 159] قال: «أبو بكرٍ وعمر رضي اللّه عنهما»
وفيه: مشورة أمّ سلمة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يخرج إلى النّاس فينحر ويحلق، لأنّها رأت أنّهم لا يخالفون فعله، فدلّ هذا على أنّ الحديث في أمر النّساء ليس في المشورة وإنّما هو في الولاية
وفيه: السّنّة على أنّ النّحر قبل الحلق لقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((انحروا، ثمّ احلقوا))
وفيه: أنّ من قلّد وأشعر فلم يحرم على خلاف ما يقول بعض الفقهاء وفيه: إباحة سبي ذراريّ المشركين إذا خرج المشركون فأعانوا مشركين آخرين، لقول النّبيّ: ((أترون أنّ نميل على ذراريّ هؤلاء الّذين أعانوهم فنصيبهم))
وفيه: إجازة قتال المحرم من صدّه عن البيت ومنعه من نسكه لقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((أو ترون أن نؤمّ البيت فمن صدّنا عنه قاتلناه)) وفيه: قول النّبيّ عليه السّلام: ((والّذي نفسي بيده لا يسألونني خطّةً يعظّمون بها حرمات اللّه إلّا أعطيتهم إيّاها)) ، ولم يقل إن شاء اللّه قال أبو جعفرٍ: ففي هذا أجوبةٌ
منها: أن يكون هذا شيئًا قد علم أنّه كذا فلا يحتاج أن يستثني فيه؛ لأنّ الإنسان إنّما أمر بالاستثناء فيما يخاف أن يمنع منه، فيجوز أن يكون الاستثناء حذفًا لعلم السّامع، أو لم يكن يذكره المحدّث، أو جرى على وجه النّسيان.
وفيه: إعطاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم السّهم لأصحابه حتّى جعلوه في الماء فكان ذلك من علامات نبوّته صلّى الله عليه وسلّم وازديادهم بصيرةً
وفيه: إجازة مهادنة المشركين بلا مالٍ يؤخذ منهم إذا كان ثمّ ضعفٌ
وفيه: أنّ محمّد بن إسحاق قال: «هادنهم عشر سنين»، فعمل بذلك جماعةٌ من الفقهاء، وقالوا: لا تجوز المهادنة أكثر من عشر سنين إذا كان ثمّ خوفٌ ومنهم من قال: ذلك إلى الإمام يفعل ما فيه صلاح المسلمين
وفيه: إجازة مهادنة المشركين على ما فيه ضعفٌ على المسلمين ممّا ليس فيه معصيةٌ للّه عزّ وجلّ إذا احتيج إلى ذلك،؛ لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لمّا كتب عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم امتنعوا من ذلك وأبوا أن يكتبوا إلّا: باسمك اللّهمّ فأجابهم إلى ذلك؛ لأنّ هذا كلّه للّه عزّ وجلّ، وكذا لمّا قالوا: لا تكتب إلّا ما قاضى عليه محمّد بن عبد اللّه فأجابهم إلى ذلك رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وهو محمّد بن عبد اللّه
وفيه: من المشكل أنّه قاضاهم على أنّه: من جاءه منهم مسلمًا ردّه إليهم حتّى نفر جماعةٌ من الصّحابة من هذا منهم عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه حتّى ثبّته أبو بكرٍ رضي اللّه عنهما، وتكلّم العلماء في هذا الفعل فمنهم من قال: فعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هذا لقلّة أصحابه وكثرة المشركين وأنّه أراد أن يشتغل بغير قريشٍ حتّى يفرغ لهم، وأن يقوّي أصحابه
ومن أصحّ ما قيل فيه: وهو مذهب محمّد بن إسحاق أنّه كثر الإسلام بعد ذلك حتّى إنّه كان لا يخاطب أحدًا يعقل الإسلام إلّا أسلم فمعنى هذا أنّ اللّه عزّ وجلّ علم أنّ منهم من سيسلم وأنّ في هذا الصّلاح، ولم يكن في ردّه من أسلم إليهم إلّا أحد أمرين:
إمّا أن يفتن فيقول بلسانه ما ليس بقلبه فالوزر ساقطٌ عنه.
وإمّا أن يعذّب في اللّه فيثاب، على أنّهم إنّما كان يجيء
أهاليهم وأقربائهم فهم مشفقون عليهم، والدّليل على أنّ اللّه عزّ وجلّ علم أنّ في ذلك الصّلاح إحمادهم العاقبة بأن سأل الكفّار المسلمين أن يحوزوا إليهم كلّ من أسلم
فيه قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((إنّي رسول اللّه لا أعصيه)) فدلّ على أنّ هذا كان عن أمر اللّه عزّ وجلّ
وفيه تبيين فضل أبي بكرٍ رضي اللّه عنه وأنّه أعلم النّاس بعد رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم بأحكام اللّه عزّ وجلّ وشرائع نبيّه صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنّه أجاب عمر بمثل جوّاب رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وثبّته وإنّما كان ذلك من عمر كراهةً لإعطاء الدّنيّة في الإسلام
وفيه: هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبد اللّه، وكان في هذا الرّدّ على من زعم من الفقهاء أنّه لا يجوز أن يكتب: هذا ما شهد عليه الشّهود، قال:؛ لأنّ هذا يكون نفيًا
قال أبو جعفرٍ: هذا إغفالٌ، قال اللّه عزّ وجلّ {هذا ما توعدون ليوم الحساب} [ص: 53]
وفيه: إجازة صلح الإمام لواحدٍ من المشركين عن جميعهم،؛ لأنّ سهيل بن عمرٍ وهو الّذي صالح
وفيه: استحباب الفأل لقول رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم لمّا جاء سهيلٌ: «قد سهل لكم من أمركم»
وفيه: إجازة قيام النّاس على رأس الإمام بالسّيوف إذا كان ذلك ترهيبًا للعدوّ ومخافةً للغدر،؛ لأنّ في الحديث أنّ المغيرة بن شعبة كان قائمًا على رأس النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم متقلّدًا سيفه فكلّما أهوى عروة بيده إلى لحية النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضربه المغيرة بنعل - سيفه، وقال له أخّر عن لحية رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم فنزع يده
وفيه: خبر المغيرة أنّه لمّا خرج مع قومٍ من المشركين فقتلهم وأخذ مالهم، ثمّ جاء إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مسلمًا فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أمّا إسلامك فأقبله، وأمّا المال فلست منه في شيءٍ "،؛ لأنّ المشركين وإن كانت أموالهم مغنومةً عند القهر فلا يحلّ أخذها عند الأمن، وإذا كان الإنسان مصاحبًا لهم فقد أمن كلّ واحدٍ منهم صاحبه، فسفك الدّماء وأخذ المال عند ذلك غدرٌ، والغدر محظورٌ، وأموال الأبرار والفجار لهم يستوون في ذلك لا يؤخذ منها شيءٌ إلّا بالحقّ
وفيه: طهارة النّخامة؛ لأنّ أصحاب رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم كان إذا تنخّم: منهم من يأخذ النّخامة فيحكّ بها جلده، على خلاف ما قال إبراهيم النّخعيّ: أنّ النّخامة إذا سقطت في ماءٍ هريق.
وفيه: من قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((فإنّك تأتيه)) ، فدلّ هذا على أنّه: من حلف على فعلٍ ولم يوجب وقتًا أنّ وقته أيّام حياته
وفيه: أنّ من أحرم بحجٍّ أو عمرةٍ فحصره عدوٌّ حلّ من إحرامه ونحر هديه مكانه،؛ لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كذا فعل لمّا حصر يوم الحديبية حلّ، ونحر في الحلّ وأمر أصحابه بذلك
وفيه: أنّ أبا بصيرٍ لمّا سلّمه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى الرّجلين فقتل أحدهما وهو ممّن دخل في الصّلح فلم يطالبه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم به لمّا لم يطالب به أولياؤه، فكان الحكم فكذا في نظير هذا
وفيه: أنّه وقع الصّلح على أن يردّ إليهم من جاء منهم فلمّا اعتزل أبو بصيرٍ بسيف البحر واجتمع إليه كلّ من أسلم لم يأمر بردهم فدلّ هذا على
أنّه ليس على الإمام إن صالح على مثل هذا في قول من يقول: ليس بمنسوخٍ فليس عليه أن يردّ من لم يكن عنده
وفيه: ولا يأتيك منّا رجلٌ وإن كان على دينك إلّا رددته إلينا وكان هذا ليس فيه ذكر النّساء فلا نسخ على هذه الرّواية
وفي رواية عقيلٍ: ولا يأتيك منّا أحدٌ وإن كان على دينك إلّا رددته إلينا، وأحدٌ محيطٌ بالرّجال والنّساء، ثمّ أنزل اللّه عزّ وجلّ نسخ هذا في النّساء
وكان فيه دليلٌ أنّه من شرط شرطًا ليس في كتاب اللّه عزّ وجلّ فهو باطلٌ
كما روي عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((كلّ شرطٍ ليس في كتاب اللّه عزّ وجلّ فهو باطلٌ))
وفيه: أنّ المسلمين لمّا اجتمعوا بسيف البحر وضيّقوا على قريشٍ سألوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يضمّهم إليه فأنزل اللّه عزّ وجلّ {وهو الّذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكّة من بعد أن أظفركم عليهم} [الفتح: 24] وقد روي في نزول هذه الآية غير هذا
كما حدّثنا أحمد بن محمّدٍ الأزديّ، قال: حدّثنا محمّد بن بحر بن مطرٍ، قال: حدّثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا حمّاد بن سلمة، عن ثابتٍ البنانيّ، عن أنس بن مالكٍ،: " أنّ ثمانين رجلًا من أهل مكّة هبطوا على رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من التّنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم فأخذهم رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم فأعتقهم فأنزل اللّه عزّ وجلّ {وهو الّذي كفّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكّة من بعد أن أظفركم عليهم} [الفتح: 24] "
قال أبو جعفرٍ: وهذا إسنادٌ مستقيمٌ وهو أولى من الأوّل من غير جهةٍ وذلك أنّ في هذا الحديث: هبطوا من التّنعيم والتّنعيم من بطن مكّة، وأبو بصيرٍ كان بسيف البحر، وسيف البحر ليس من بطن مكّة
وأيضًا فإنّ في هذا الحديث الظّفر بهم، وليس في ذلك ظفرٌ وفي الحديث الأوّل ما دلّ على أنّه من جالس إمامًا أو عالمًا فرأى إنسانًا قد ألحقه مكروهًا فينبغي له أن يغيره ويصون الإمام أو العالم عن الكلام فيه؛ لأنّ عروة بن مسعودٍ لمّا أخذ بلحية النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضرب المغيرة بن شعبة يده بنعل
السّيف وقال: أخّر يدك عن لحية رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم
وفيه: استعمال الحلم من أدب رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم كما أمره اللّه جلّ وعزّ في كتابه فقال جلّ ثناؤه {ادفع بالّتي هي أحسن فإذا الّذي بينك وبينه عداوةٌ كأنّه وليّ حميمٌ} [فصلت: 34]، {وما يلقاها إلّا الّذين صبروا وما يلقاها إلّا ذو حظٍّ عظيمٍ} [فصلت: 35]
قال أبو جعفرٍ: ومن حسن ما قيل في هذه الآية ما قاله ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما
كما حدّثنا بكر بن سهلٍ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنه، {ادفع بالّتي هي أحسن} [فصلت: 34] قال: " أمر اللّه عزّ وجلّ المؤمنين بالصّبر عند الجزع، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم اللّه من الشّيطان وخضع لهم عدوّهم {كأنّه وليّ حميمٌ وما يلقاها إلّا الّذين صبروا وما يلقاها إلّا ذو حظٍّ عظيمٍ} [فصلت: 35] قال: الّذين أعدّ اللّه لهم الجنّة "
وفي الآية الّتي قصدت لذكرها {وآتوهم ما أنفقوا} [الممتحنة: 10] فللشّافعيّ فيها قولان
أحدهما أنّ هذا منسوخٌ، قال: الشّافعيّ رحمه اللّه وإذا جاءتنا المرأة الحرّة من أهل الهدنة مسلمةً مهاجرةً من أهل الحرب إلى الإمام في دار الإسلام أو دار الحرب فمن طلبها من وليٍّ سوى زوجها منع منها بلا عوضٍ، وإذا طلبها زوجها لنفسه أو غيره بوكالته ففيه قولان
أحدهما يعطى العوض، والقول ما قال اللّه عزّ وجلّ، وفيه قولٌ آخر وهو ألا يعطى الزّوج المشرك الّذي جاءت زوجته مسلمةً العوض وإن شرط الإمام ردّ النّساء كان الشّرط منتقضًا، ومن قال هذا قال: إنّ شرط رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم لأهل الحديبية إذا فيه: أن يردّ من جاء منهم، وكان النّساء منهم كان شرطًا صحيحًا ففسخه اللّه جلّ وعزّ وردّ العوض من فسخ من فسخه منهم، فلمّا قضى اللّه جلّ وعزّ ثمّ رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن لا يردّ النّساء كان شرط من شرط ردّ النّساء مفسوخًا وليس عليه عوضٌ؛ لأنّ الشّرط المفسوخ باطلٌ ولا عوض للباطل
قال أبو جعفرٍ: وهذا القول عنده أشبه القولين ألا يعطى عوضًا
وقد تكلّم على أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم صالحهم على ردّ النّساء، ثمّ إنّ اللّه جلّ وعزّ نسخ ذلك فكان في هذا نسخ السّنّة بالقرآن ومذهبه غير هذا؛ لأنّ مذهبه أن لا ينسخ القرآن إلّا قرآنٌ ولا ينسخ السّنّة إلّا سنّةٌ، فقال بعض أصحابه: لمّا أنزل اللّه عزّ وجلّ الآية لم يردّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم النّساء فنسخت السّنّة السّنّة وثبت أنّه لا يجوز أن يشترط الإمام ردّ النّساء بحكم اللّه عزّ وجلّ ثمّ بحكم رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم
واختلف العلماء في صلح الإمام للمشركين على أن يردّ إليهم من جاء منهم مسلمًا، فقال قومٌ: لا يجوز هذا وهو منسوخٌ
واحتجّوا بحديث إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن قيس بن أبي حازمٍ، عن خالد بن الوليد، أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم بعثه إلى قومٍ من خثعمٍ
فاعتصموا بالسّجود فقتلهم فوداهم رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم بنصف الدّية وقال: ((أنا بريءٌ من كلّ مسلمٍ أقام مع مشركٍ في دار الحرب لا تراءى نارهما))
قالوا: فهذا ناسخٌ لردّ المسلمين إلى المشركين إذ كان رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم قد برئ ممّن أقام معهم في دار الحرب
قال أبو جعفرٍ: وهذا قول الكوفيّين
ومذهب مالكٍ، والشّافعيّ رحمهما اللّه أنّ هذا الحكم غير منسوخٍ قال الشّافعيّ: وليس لأحدٍ أن يعقد هذا العقد إلّا الخليفة أو رجلٌ بأمره؛ لأنّه يلي الأموال كلّها فمن عقد غير الخليفة هذا العقد فهو مردودٌ
قال أبو جعفرٍ: وفي هذه الآية {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} [الممتحنة: 10] ففي هذا قولان
أحدهما: أنّه منسوخٌ منه كما قال اللّه عزّ وجلّ {والمحصنات من الّذين أوتوا
الكتاب من قبلكم} [المائدة: 5] ولو كان إلى ظاهر الآية لم تحلّ كافرةٌ بوجهٍ
وقال قومٌ: هي محكمةٌ إلّا أنّها مخصوصةٌ لمن كان من غير أهل الكتاب فإذا أسلم وثنيّ أو مجوسيّ ولم تسلم امرأته فرّق بينهما
قال أبو جعفر: وهذا قول بعض أهل العلم
ومنهم من قال: ينتظر بها تمام العدّة
فممّن قال: يفرّق بينهما ولا ينتظر تمام العدّة مالك بن أنسٍ، وهو قول الحسن، وطاوسٍ، ومجاهدٍ، وعطاءٍ، وعكرمة، وقتادة، والحكم وقال الزّهريّ: ينتظر بها العدّة،
وهو قول الشّافعيّ، وأحمد رحمهما اللّه وقال أصحاب الرّأي: ينتظر بها ثلاث حيضٍ إذا كانا جميعًا في دار الحرب أو في دار الإسلام، فإن كان أحدهما في دار الحرب والآخر في دار الإسلام انقطعت العصمة بينهما
قال أبو جعفرٍ: وهذا الاختلاف في المدخول بها، فإن كانت غير مدخولٍ بها فلا نعلم اختلافًا في انقطاع العصمة بينهما، وكذا يقول مالكٌ في المرأة ترتد وزوجها مسلمٌ: انقطعت العصمة بينهما وحجّته {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} [الممتحنة: 10] وهو قول الحسن البصريّ والحسن بن صالحٍ، ومذهب
الشّافعيّ وأحمد: أنّه ينتظر بها تمام العدّة
فإن كان الزّوجان نصرانيّين فأسلمت الزّوجة ففيه أيضًا اختلافٌ، فمذهب مالكٍ والشّافعيّ وأحمد وهو قول مجاهدٍ: الوقوف إلى تمام العدّة ومن العلماء من قال: انفسخ النّكاح بينهما
قال يزيد بن علقمة: أسلم جدّي ولم تسلم جدّتي ففرّق بينهما عمر رضي اللّه عنه، وهو قول طاوسٍ وجماعةٍ غيره، منهم عطاءٌ، والحسن، وعكرمة، وقالوا: لا سبيل عليها إلّا بخطبةٍ، واحتجّ بعضهم بقوله جلّ وعزّ {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} [الممتحنة: 10] وهذا الاحتجاج غلطٌ لأنّ الكوافر لا يكون إلّا للنّساء ولا يجمع كافرٌ على كوافر. الحجّة فيه {ولا تنكحوا المشركين حتّى يؤمنوا} [البقرة: 221]
ومن العلماء من قال: يستتاب فإن تاب وإلّا وقعت الفرقة
ومنهم من قال: «لا يزول النّكاح إذا كانا في دار الهجرة» وهذا قول النّخعيّ ومنهم من قال: يزول النّكاح باختلاف الدّارين ومنهم من قال: تخيّر فإن شاءت أقامت معه، وإن شاءت فارقته. فإن أسلم الزّوج فهي زوجته بحالها لأنّها كتابيّةٌ، فإن أسلما جميعًا فهما على نكاحهما لا اختلاف في ذلك ).[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 3/77-105]
قَالَ هِبَةُ اللهِ بنُ سَلامَةَ بنِ نَصْرٍ المُقْرِي (ت: 410 هـ): (الآية الثّانية قوله تعالى {يا أيّها الّذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفّار} نزلت في سبيعة بنت الحارث وذلك أن زوجها عبد الله بن النباش لحق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو قافل إلى المدينه قال يا محمّد أغدرت لم يحفظن كتابك حتّى غدرت قال النّبي (صلى الله عليه وسلم) فبم ذلك قال لحقتك المرأة وقبلتها وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما شرط لقريش أن ما جاءه من عندهم رده إليهم ومن جاءهم من عنده لم يردوه إليه فكان هذا شرطا شديدا صعبا على المسلمين ولكن لطاعتهم لله ولرسوله ثبتوا على ما أمضاه من ذلك فلمّا قفل راجعا بعد بيعة الرضوان إذ بامرأة من قريش يقال لها سبيعة بنت الحارث تقول يا رسول الله جئتك مؤمنة باللّه مصدقة بما جئت به قال النّبي (صلى الله عليه وسلم) وما أخرجك أغيرة على زوجك أو عداوة لبيت أهلك ومحبة للقدوم إلى المدينة قالت والّذي بعثك بالحقّ نبيا ما خرجت إلّا مؤمنة باللّه مصدقة بما جئت به فقال النّبي (صلى الله عليه وسلم) نعم ما جئت به ونعم ما صدقت فأنزل الله تعالى {يا أيّها الّذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن} فسماها الله مؤمنة وأثبت لها الهجرة ثمّ قال {فامتحنوهنّ} وامتحانها أن تحلف باللّه ما أخرجها غيرة على زوج ولا عداوة لبيت أحماء فإذا حلفت فقد امتحنت وهو تأويل قول الله تعالى {الله أعلم بإيمانهن} والعلم ههنا أن يحلف وكذلك كل حالف ومحلوف له أن كان محقا أو مبطلًا فعلى المحلوف له أن يقبله وقد روي عن النّبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال من حلف له فلم يصدق لم يرد عليّ الحوض وقوله تعالى / فإن علمتموهنّ مؤمناتٍ إذا حلفن لكم فلا ترجعوهنّ إلى الكفّار / أي بين الكفّار قد انقطعت عصمتها عن زوجها {لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهنّ} أي لا تحل لزوجها الكافر ولا هو حل لها وقوله تعالى {وآتوهم ما أنفقوا} يقول إذا أردتم نكاحها فادفعوا إلى زوجها الكافر مقدار ما ساق إليها من المهر فإن لم تريدوا نكاحها فلا شيء عليكم وهو معنى قوله تعالى {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهنّ أجورهنّ ولا تمسكوا بعصم الكوافر} هذا محكم ثمّ قال {ذلكم حكم الله يحكم بينكم} أي في الوقت والحال {والله عليم} بأمره {حكيم} بصنعه وتدبيره نسخها قوله تعالى {براءة من الله ورسوله} إلى آخر القصّة).[الناسخ والمنسوخ لابن سلامة: 177-179]
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن}
قال قوم: هذا ناسخ لما كان النبي عليه السلام كتب للمشركين؛ إذ هادنهم على أن يرد عليهم من جاء إليه من عندهم مسلما، وكان النبي عليه السلام فعل ذلك بالحديبية مع أهل مكة؛ إذ صدوه عن البيت، فعاقدهم على أن من جاء إليه من عندهم مسلما رده إليهم، فلما ختم الكتاب الذي فيه العهد جاءته سبيعة بنت الحارث مسلمة وجاء زوجها وقال يا محمد:
ردها علي، فإن ذلك في شرطنا عليك، وهذه طينة كتابنا لم تجف، فنزلت: {فلا ترجعوهن إلى الكفار}، فنسخ ما عقد لهم، فلم يردها إليه وأعطاه مهره الذي كان دفع إليها.
وهذا وشبهه يدل على أن القرآن ينسخ السنة.
ثم نسخ الله هذا الحكم في رد المهر لأن السبب الذي أوجبه قد زال فنسخ بزوال العلة فلا يرد إليهم مهر ولا غيره.
ولا يجوز أن نهادنهم على أن من جاء من عندهم مسلما رددناه إليهم.
وقد قال ابن الماجشون في الرسول يأتينا برسالة من عند المشركين، وبيننا وبينهم عهد، فيسلم، أنه لا يرد إليهم لأنهم يقتلونه.
وعن ابن القاسم أنه يرد إليهم
قوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر}:
قيل هو عام في كل كافرة لكنه مخصص بإباحة إمساك الكتابيات زوجات، فالآية في الكوافر غير الكتابيات.
وقيل: هو منسوخ بإباحة إمساك الكتابية زوجة، فنسخ بقوله: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب}، والأول أولى وأحسن، فيكون الحكم فيمن كانت له امرأة بمكة ممن هاجر مسلما إلى المدينة وهي كافرة بمكة فإن العصمة منقطعة بينهما، فإن كانت كتابية فإن العصمة تبقى بينهما.
قوله تعالى: {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا}:
هذا حكم أمر الله به المؤمنين في وقت المهادنة، فلما زالت تلك المهادنة زال هذا الحكم وبقي رسمه متلوا، فهو منسوخ بزوال العلة التي من أجلها وجب الحكم
) [الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه: 431-437]
قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْن
ُ
الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ): (
ذكر الآية الثّالثة والرّابعة:

قوله تعالى: {إذا جاءكم المؤمنات مهاجراتٍ فامتحنوهنّ} الآية وقوله: {وإن فاتكم شيءٌ من أزواجكم إلى الكفّار فعاقبتم} الآية. كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد صالح مشركي مكّة عام الحديبية على أنّ من أتاه من
أهل مكّة ردّه إليهم ومن أتى أهل مكّة من أصحابه فهو لهم وكتبوا بذلك
الكتاب فجاءت امرأةٌ بعد الفراغ من الكتاب، وفي تلك المرأة ثلاثة أقوال: أحدها: أمّ كلثومٍ بنت عقبة.
والثّاني: سبيعة بنت الحارث.
والثّالث: أميمة بنت بشر فنزلت: {فامتحنوهنّ} وفيما كان يمتحنهنّ به ثلاثة أقوال:
أحدها: الإقرار بالإسلام.
والثّاني: الاستحلاف لهنّ: ما خرجن من بغض زوجٍ ولا رغبةً عن أرضٍ ولا التماس دنيا وما خرجن إلا حبًّا للّه ولرسوله.
والثّالث: الشّروط المذكورة في قوله: {إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} فإذا أقررن بذلك لم يردّهنّ إليهم. واختلف العلماء، هل دخل ردّ النّساء إليهم في عقد الهدنة لفظاً أو عموماً؟
فقالت طائفةٌ: قد كان شرط ردّهنّ في عقد الهدنة بلفظٍ صريحٍ فنسخ اللّه تعالى ردّهنّ من العقد وأبقاه في الرجال.
وقال طائفة لم يشرطه صريحًا بل كان ظاهر العموم اشتمال العقد عليهنّ مع الرجال فبين الله عز وجل خروجهنّ عن عمومه، وفرّق بينهنّ وبين الرجال، لأمرين:
أحدهما: أنّهنّ ذوات فروجٍ تحرمن عليهم.
والثّاني: أنّهنّ أرقّ قلوبًا وأسرع تقلّبًا.
فأمّا المقيمة على شركها فمردودةٌ عليهم، وقال القاضي أبو يعلى: "إنّما لم يردّ النّساء عليهم لأنّ النّسخ جائزٌ بعد التّمكّن من الفعل، وإن لم يقع
الفعل. فأمّا قوله: {وآتوهم} يعني: أزواجهنّ الكفّار، {ما أنفقوا} يعني: المهر، وهذا إذا تزوّجها مسلمٌ، فإن لم يتزوّجها أحدٌ، فليس لزوجها الكافر شيءٌ، والأجور: المهور {ولا تمسكوا بعصم الكوافر}
وقد زعم بعضهم: أنّه منسوخٌ بقوله: {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب} وليس هذا بشيءٍ، لأنّ المراد بالكوافر (الوثنيات) ثم لوقلنا إنّها عامّةٌ كانت إباحة الكتابيّات تخصيصًا لها لا نسخًا كما بيّنّا في قوله: {ولا تنكحوا المشركات} وقوله: {واسألوا ما أنفقتم} أي: إن لحقت امرأةٌ منكم بأهل العهد من الكفّار مرتدّةً فسألوهم ما أنفقتم من المهر إذا لم (يدفعوها) إليكم {وليسألوا} يعني: المشركين الذّين لحقت أزواجهم بكم مؤمناتٍ إذا تزوّجن منكم، من تزوجهن ما أنفقوا وهوالمهر، والمعنى: عليكم أن تغرموا لهم الصّدقات كما يغرمون لكم: {وإن فاتكم شيءٌ من أزواجكم إلى الكفّار فعاقبتم} أي: أصبتموهم في القتال بعقوبةٍ حتّى
غنمتم {فآتوا الّذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا} أي: أعطوا الأزواج من رأس الغنيمة ما أنفقوا من المهر.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: بنا عمر بن عبيد اللّه، قال: أبنا ابن شاذان، قال: أبنا إسحاق بن أحمد، قال: بنا عبد اللّه بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: أبنا عبد الوهّاب عن سعيدٍ عن قتادة، قال: كنّ إذا فررن من المشركين الّذين بينهم وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عهدٌ، إلى أصحاب نبيّ اللّه فتزوّجوهنّ، بعثوا بصداقهنّ إلى أزواجهنّ من المشركين الّذين بينهم وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عهدٌ، فإذا فررن من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلى كفار ليس بينهم وبين نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عهدٌ، فتزوّجوهنّ فأصاب المسلمون غنيمةً أعطي زوجها من جميع الغنيمة ثمّ اقتسموا بعد ذلك، ثمّ نسخ هذا الحكم، ونبذ إلى كلّ ذي عهدٍ عهده وأمر بقتال المشركين كافة.
قال أحمد: وبنا أسود بن عامر، قال: بنا إسرائيل عن المغيرة عن إبراهيم في قوله: {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} قال: هؤلاء قومٌ كان بينهم وبين المسلمين صلحٌ (فإذا خرجت امرأةٌ من المسلمين إليهم أعطوا زوجها ما أنفق، وإذا خرجت امرأة من المشركين إلى المسلمين أعطوا زوجها ما أنفق) قال القاضي أبو يعلى: وهذه الأحكام من أداء المهر وأخذه من الكفّار وتعويض الزّوج من الغنيمة أو من صداقٍ، قد وجب ردّه على أهل الحرب منسوخةٌ عند جماعةٍ من أهل العلم، وقد نصّ أحمد بن حنبلٍ على هذا وكذلك قال مقاتل بن سليمان: "كلّ هؤلاء الآيات نسختها آية السيف"). [نواسخ القرآن: 485-491]
قالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنِ الْجَوْزِيِّ (ت:597هـ): (الثالثة والرابعة: {إذا جاءكم المؤمنات مهاجراتٍ فامتحنوهنّ}
الآية وقوله {وإن فاتكم شيءٌ من أزواجكم إلى الكفّار فعاقبتم} الآية دل على أن الأحكام المذكورة في الآية من أداء المهر وأخذه من الكفّار وتعويض الزّوج من الغنيمة أو من صداقٍ قد وجب رده على أهل الحرب منسوخ وقد نص أحمد على هذا قال مقاتل كل هذه الآيات نسخت بآية السيف). [المصَفَّى بأكُفِّ أهلِ الرسوخ: 57]
قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ): (قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن..} إلى قوله عز وجل: {.. وآتوهم ما أنفقوا} الآية [الممتحنة: 10]، وذلك أن سبيعة بنت الحارث من قريش جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله، جئتك مؤمنة بالله مصدقة لما جئت به، فقال صلى الله عليه وسلم: ((نعم ما جئت به، ونعم ما صدقت به))، فجاء زوجها فقال: يا محمد، أرددها علي، فإن ذلك من شرطنا عليك، وهذه طينة كتابنا لم تجف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شرط لهم عام الحديبية ذلك فنزلت: {فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا} الآية [الممتحنة: 10] فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم مهره الذي كان أعطاها، ثم نسخ ذلك فلا يرد إلى الكفار مهر ولا غيره، ولا يجوز لنا أن نرد من جاءنا مسلما إلى الكفار، ولا يجوز المصالحة على ذلك)، وإنما كان هذا في قضية مخصوصة زال حكمها بزوالها.
قوله عز وجل: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} الآية [الممتحنة: 10] قيل: الآية في غير الكتابيات. وقيل: هو منسوخ بقوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} الآية [المائدة: 5].
وقوله عز وجل: {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} الآية [الممتحنة: 10] هذا الحكم زال بزوال المهادنة) [جمال القراء:1/380]

روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس