عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 17 جمادى الآخرة 1435هـ/17-04-2014م, 06:44 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى يا أيّها الّذين آمنوا ليبلونّكم اللّه بشيءٍ من الصّيد أي ليختبركم ليرى طاعتكم من معصيتكم وصبركم من عجزكم عن الصيد، وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة، وشائعا عند الجميع منهم مستعما جدا، فابتلاهم الله فيه مع الإحرام أو الحرم كما ابتلى بني إسرائيل في أن لا يعتدوا في السبت، ومن تحتمل أن تكون للتبعيض، فالمعنى من صيد البر دون البحر، ذهب إليه الطبري وغيره، ويحتمل أن يكون التبعيض في حالة الحرمة إذ قد يزول الإحرام ويفارق الحرم، فصيد بعض هذه الأحوال بعض الصيد على العموم، ويجوز أن تكون لبيان الجنس، قال الزجّاج وهذا كما تقول لأمتحننك بشيء من الورق، وكما قال تعالى فاجتنبوا الرّجس من الأوثان [الحج: 30] وقوله بشيءٍ يقتضي تبعيضا ما وقد قال كثير من الفقهاء إن الباء في قوله تعالى: وامسحوا برؤسكم [المائدة: 6] أعطت تبعيضا ما، وقرأ ابن وثاب والنخعي «يناله» بالياء منقوطة من تحت، وقال مجاهد الأيدي تنال الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر، والرماح تنال كبار الصيد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والظاهر أن الله تعالى خص الأيدي بالذكر لأنها عظم المتصرف في الاصطياد، وهي آلة الآلات وفيها تدخل الجوارح والحبالات، وما عمل باليد من فخاخ وشباك، وخص الرماح بالذكر لأنها عظم ما يجرح به الصيد وفيها يدخل السهم ونحوه، واحتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ لا للمثير بهذه الآية، لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئا، وقوله تعالى ليعلم معناه ليستمر علمه عليه وهو موجود إذ علم تعالى ذلك في الأزل. وقرأ الزهري «ليعلم الله» بضم الياء وكسر اللام أي ليعلم عباده، وبالغيب قال الطبري معناه في الدنيا حيث لا يرى العبد ربه فهو غائب عنه، والظاهر أن المعنى بالغيب من الناس أي في الخلوة فمن خاف الله انتهى عن الصيد من ذات نفسه، وقد خفي له لو صاد، ثم توعد تعالى من اعتدى بعد هذا النهي الذي يأتي وهو الذي أراد بقوله ليبلونّكم وأشار إليه قوله ذلك والعذاب الأليم هو عذاب الآخرة). [المحرر الوجيز: 3/252-253]

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: يا أيّها الّذين آمنوا لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرمٌ ومن قتله منكم متعمّداً فجزاءٌ مثل ما قتل من النّعم يحكم به ذوا عدلٍ منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفّارةٌ طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً ليذوق وبال أمره عفا اللّه عمّا سلف ومن عاد فينتقم اللّه منه واللّه عزيزٌ ذو انتقامٍ (95)
الخطاب لجميع المؤمنين، وهذا النهي هو الابتلاء الذي أعلم به قوله قبل ليبلونّكم [المائدة: 94] والصّيد مصدر عومل معاملة الأسماء فأوقع على الحيوان المصيد، ولفظ الصيد هنا عام ومعناه الخصوص فيما عدا الحيوان الذي أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله في الحرم، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خمس فواسق يقتلن في الحرم الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور» ووقف مع ظاهر هذا الحديث سفيان الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه فلم يبيحوا للمحرم قتل شيء سوى ما ذكر، وقاس مالك رحمه الله على الكلب العقور كل ما كلب على الناس وعقرهم ورآه داخلا في اللفظ فقال للمحرم أن يقتل الأسد والنمر والفهد والذئب وكل السباع العادية مبتدئا بها، فأما الهر والثعلب والضبع فلا يقتلها المحرم وإن قتلها فدى، وقال أصحاب الرأي إن بدأ السبع المحرم فله أن يقتله، وإن ابتدأه المحرم فعليه قيمته، وقال مجاهد والنخعي لا يقتل المحرم من السباع إلا ما عدا عليه، وقال ابن عمر ما حل بك من السباع فحلّ به، وأما فراخ السبع الصغار قبل أن تفرس فقال مالك في المدونة لا ينبغي للمحرم قتلها، قال أشهب في كتاب محمد: فإن فعل فعليه الجزاء، وقال أيضا أشهب وابن القاسم لا جزاء عليه، وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر المحرمين بقتل الحيات، وأجمع الناس على إباحة قتلها، وثبت عن عمر رضي الله عنه إباحة قتل الزنبور لأنه في حكم العقرب، وقال مالك: يطعم قاتله شيئا، وكذلك قال مالك فيمن قتل البرغوث والذباب والنمل ونحوه، وقال أصحاب الرأي لا شيء على قاتل هذه كلها، وأما سباع الطير فقال مالك لا يقتلها المحرم وإن فعل فدى، وقال ابن القاسم في كتاب محمد: وأحب إليّ أن لا يقتل الغراب والحدأة حتى يؤذياه، ولكن إن فعل فلا شيء عليه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وذوات السموم كلها في حكم الحية كالأفعى والرتيلاء وما عدا ما ذكرناه فهو مما نهى الله عن قتله في الحرمة بالبلد أو الحال، وفرض الجزاء على من قتله وحرمٌ جمع حرام وهو الذي يدخل في الحرام أو في الإحرام، وحرام، يقال للذكر والأنثى والاثنين والجميع، واختلف العلماء في معنى قوله متعمّداً فقال مجاهد وابن جريج والحسن وابن زيد: معناه متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه، فهذا هو الذي يكفر وكذلك الخطأ المحض يكفر وأما إن قتله متعمدا ذاكرا لإحرامه فهذا أجلّ وأعظم من أن يكفر. قال مجاهد: قد حل ولا رخصة له، وقاله ابن جريج، وحكى المهدوي وغيره أنه بطل حجه، وقال ابن زيد: هذا يوكل إلى نقمة الله، وقال جماعة من أهل العلم منهم ابن عباس ومالك وعطاء وسعيد ابن جبير والزهري وطاوس وغيرهم، المتعمد هو القاصد للقتل الذاكر لإحرامه، وهو يكفر وكذلك الناسي والقاتل خطأ يكفران.
قال الزهري: نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في قتله خطأ أنهما يكفران، وقال بعض الناس لا يلزم القاتل خطأ كفارة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «فجزاء مثل ما» بإضافة الجزاء إلى مثل وخفض مثل، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «فجزاء» بالرفع «مثل» بالرفع أيضا فأما القراءة الأولى ومعناها فعليه جزاء مثل ما قتل أي قضاؤه وغرمه، ودخلت لفظة «مثل» هنا كما تقول أنا أكرم مثلك وأنت تقصد بقولك أنا أكرمك، ونظير هذا قوله تعالى: أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في النّاس كمن مثله في الظّلمات [الأنعام: 122] التقدير كمن هو في الظلمات.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويحتمل قوله تعالى: فجزاءٌ مثل أن يكون المعنى فعليه أن يجزي مثل ما، ثم وقعت الإضافة إلى المثل الذي يجزي به اتساعا، وأما القراءة الثانية فمعناها فالواجب عليه أو فاللازم له جزاء مثل ما و «مثل» على هذه القراءة صفة لجزاء، أي فجزاء مماثل، وقوله تعالى: من النّعم صفة لجزاء على القراءتين كلتيهما، وقرأ عبد الله بن مسعود «فجزاؤه مثل ما» بإظهار هاء يحتمل أن تعود على الصيد أو على الصائد القاتل، وقرأ أبو عبد الرحمن «فجزاء» بالرفع والتنوين «مثل ما» بالنصب، وقال أبو الفتح «مثل» منصوبة بنفس الجزاء أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل، واختلف العلماء في هذه المماثلة كيف تكون؟! فذهب الجمهور إلى أن الحكمين ينظران إلى مثل الحيوان المقتول في الخلقة وعظم المرأى فيجعلون ذلك من النعم جزاءه، قال الضحاك بن مزاحم والسدي وجماعة من الفقهاء: في النعامة
وحمار الوحش ونحوه بدنة، وفي الوعل والإبل ونحوه بقرة، وفي الظبي ونحوه كبش، وفي الأرنب ونحوه ثنية من الغنم، وفي اليربوع حمل صغير، وما كان من جرادة ونحوها ففيها قبضة طعام، وما كان من طير فيقوم ثمنها طعاما فإن شاء تصدق به وإن شاء صام لكل صاع يوما، وإن أصاب بيض نعام فإنه يحمل الفحل على عدد ما أصاب من بكارة الإبل فما نتج منها أهداه إلى البيت وما فسد منها فلا شيء عليه فيه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: حكم عمر على قبيصة بن جابر في الظبي بشاة، وحكم هو وعبد الرحمن بن عوف، قال قبيصة: فقلت يا أمير المؤمنين إن أمره أهون من أن تدعو من يحكم معك، قال: فضربني بالدرة حتى سابقته عدوا. ثم قال: أقتلت الصيد وأنت محرم ثم تغمض الفتوى؟ وهذه القصة في الموطأ بغير هذه الألفاظ. وكذلك روي أنها نزلت بصاحب لقبيصة، وقبيصة هو راويها والله أعلم. وأما الأرنب واليربوع ونحوها فالحكم فيه عند مالك أن يقوم طعاما، فإن شاء تصدق به وإن شاء صام بدل كلّ مدّ يوما، وكذلك عنده الصيام في كفارة الجزاء إنما هو كله يوم بدل مد، وعند قوم صاع، وعند قوم بدل مدين، وفي حمام الحرم عند مالك شاة في الحمامة، وفي الحمام غيره حكومة وليس كحمام الحرم، وأما بيض النعام وسائر الطير ففي البيضة عند مالك عشر ثمن أمه، قال ابن القاسم: وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ صارخا بعد الكسر فإن استهل ففيه الجزاء كاملا كجزاء كبير ذلك الطير. قال ابن المواز: بحكومة عدلين، وقال ابن وهب: إن كان في بيضة النعامة فما دونها فرخ فعشر ثمن أمه، وإن لم يكن فصيام يوم أو مد لكل مسكين، وذهبت فرقة من أهل العلم منهم النخعي وغيره إلى أن المماثلة إنما هي في القيمة، يقوّم الصيد المقتول ثم يشترى بقيمته من النعم ثم يهدى، ورد الطبري وغيره على هذا القول، والنّعم لفظ يقع على الإبل والبقر والغنم إذا اجتمع هذه الأصناف، فإذا انفرد كل صنف لم يقل «نعم» إلا للإبل وحدها، وقرأ الحسن «من النعم» بسكون العين وهي لغة، والجزاء إنما يجب بقتل الصيد لا بنفس أخذه بحكم لفظ الآية، وذلك في المدونة ظاهر من مسألة الذي اصطاد طائرا فنتف ريشه ثم حبسه حتى نسل ريشه فطار، قال لا جزاء عليه، وقصر القرآن هذه النازلة على حكمين عدلين عالمين بحكم النازلة وبالتقدير فيها، وحكم عمر وعبد الرحمن بن عوف وأمر أبا جرير البجلي أن يأتي رجلين من العدول ليحكما عليه في عنز من الظباء أصابها قال:
فأتيت عبد الرحمن وسعدا فحكما عليّ تيسا أعفر، ودعا ابن عمر ابن صفوان ليحكم معه في جزاء، وعلى هذا جمهور الناس وفقهاء الأمصار، وقال ابن وهب رحمه الله في العتبية: من السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد كما خيره الله في أن يخرج هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما. فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك شاة لأنها أدنى الهدي. فما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام، ثم خير في أن يطعمه أو يصوم مكان كل مد يوما.
وكذلك قال مالك في المدونة: إذا أراد المصيب أن يطعم أو يصوم وإن كان لما أصاب نظير من النعم فإنه يقوم صيده طعاما لا دراهم، قال: وإن قوموه دراهم واشتري بها طعام لرجوت أن يكون واسعا، والأول أصوب، فإن شاء أطعمه وإلا صام مكانه لكل مد يوما، وإن زاد ذلك على شهرين أو ثلاثة، وقال يحيى بن عمر من أصحابنا إنما يقال كم من رجل يشبع من هذا الصيد فيعرف العدد ثم يقال كم من الطعام يشبع هذا
العدد، فإن شاء أخرج ذلك الطعام، وإن شاء صام عدد أمداده.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول حسن أحتاط فيه لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة فبهذا النظر يكثر الطعام، ومن أهل العلم من يرى أن لا يتجاوز في صيام الجزاء شهران، قالوا: لأنها أعلى الكفارات بالصيام، وقوله تعالى: هدياً بالغ الكعبة يقتضي هذا اللفظ أن يشخص بهذا الهدي حتى يبلغ، وذكرت الكعبة لأنها أم الحرم ورأس الحرمة، والحرم كله منحر لهذا الهدي فما وقف به بعرفة من هذا الجزاء فينحر بمنى، وما لم يوقف به فينحر بمكة وفي سائر بقاع الحرم، بشرط أن يدخل من الحل لا بد أن يجمع فيه بين حل وحرم حتى يكون بالغا الكعبة، وقرأ عبد الرحمن الأعرج «هديّا بالغ الكعبة» بكسر الدال وتشديد الياء، وهدياً نصب على الحال من الضمير في به، وقيل على المصدر، وبالغ نكرة في الحقيقة لم تزل الإضافة عنه الشياع، فتقديره بالغا الكعبة حذف تنويه تخفيفا، وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي «أو كفارة» منونا «طعام مساكين» برفع طعام وإضافته إلى جمع المساكين، وقرأ نافع وابن عامر برفع الكفارة دون تنوين وخفض الطعام على الإضافة ومساكين بالجمع، قال أبو علي: إعراب طعام في قراءة من رفعه أنه عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة، ولم يضف الكفارة لأنها ليست للطعام إنما هي لقتل الصيد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا الكلام كله مبني على أن الكفارة هي الطعام وفي هذا نظر، لأن الكفارة هي تغطية الذنب بإعطاء الطعام، فالكفارة غير الطعام لكنها به، فيتجه في رفع الطعام البدل المحض، ويتجه قراءة من أضاف الكفارة إلى الطعام على أنها إضافة تخصيص، إذ كفارة هذا القتل قد تكون كفارة هدي أو كفارة طعام أو كفارة صيام، وقرأ الأعرج وعيسى بن عمر «أو كفارة» بالرفع والتنوين «طعام» بالرفع دون تنوين «مسكين» على الإفراد وهو اسم الجنس، وقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء: القاتل مخير في الرتب الثلاثة وإن كان غنيا، وهذا عندهم مقتضى أو، وقال ابن عباس وجماعة لا ينتقل المكفر من الهدي إلى الطعام إلا إذا لم يجد هديا، وكذلك لا يصوم إلا إذا لم يجد ما يطعم، وقاله إبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان، قالوا: والمعنى أو كفارة طعام إن لم يجد الهدي. ومالك رحمه الله وجماعة معه يرى أن المقوم إنما هو الصيد المقتول بالطعام كما تقدم، وقال العراقيون إنما يقوم الجزاء طعاما، فمن قتل ظبيا قوم الظبي عند مالك وقوم عدله من الكباش أو غير ذلك عند أبي حنيفة وغيره، وحكى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النعم، فإن وجد جزاءه ذبحه فتصدق به، وإن لم يجد قوم الجزاء دراهم ثم قومت الدراهم حنطة ثم صام مكان كل نصف صاع يوما قال: وإنما أريد بذكر الطعام تبيين أمر الصوم، ومن يجد طعاما فإنما يجد جزاء، وأسنده أيضا عن السدي.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويعترض هذا القول بظاهر لفظ الآية فإنه ينافره، والهدي لا يكون إلا في الحرم كما ذكرنا قبل.
واختلف الناس في الطعام فقال جماعة من العلماء: الإطعام والصيام حيث شاء المكفر من البلاد، وقال عطاء بن أبي رباح وغيره «الهدي والإطعام بمكة والصوم حيث شئت»
وقوله تعالى: أو عدل ذلك صياماً قرأ الجمهور بفتح العين ومعناه: نظير الشيء بالموازنة والمقدار المعنوي، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري: «أو عدل» بكسر العين، قال أبو عمرو الداني ورواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعض الناس «العدل» بالفتح قدر الشيء من غير جنسه، وعدله بالكسر قدره من جنسه، نسبها مكي إلى الكسائي وهو وهم والصحيح عن الكسائي: أنهما لغتان في المثل، وهذه المنسوبة عبارة معترضة وإنما مقصد قائلها أن «العدل» بالكسر قدر الشيء موازنة على الحقيقة كعدلي البعير، وعدله قدره من شيء آخر موازنة معنوية، كما يقال في ثمن فرس هذا عدله من الذهب، ولا يتجه هنا كسر العين فيما حفظت، والإشارة بذلك في قوله عدل ذلك يحتمل أن تكون إلى الطعام، وعلى هذا انبنى قول من قال من الفقهاء الأيام التي تصام هي على عدد الأمداد أو الأصوع أو أنصافها حسب الخلاف الذي قد ذكرته في ذلك. ويحتم أن تكون الإشارة ب ذلك إلى الصيد المقتول، وعلى هذا انبنى قول من قال من العلماء:
الصوم في قتل الصيد إنما هو على قدر المقتول، وقال ابن عباس رضي الله عنه إن قتل المحرم ظبيا فعليه شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، وإن قتل أيلا فعليه بقرة، فإن لم يجد فإطعام عشرين مسكينا، فإن لم يجد صام عشرين يوما، وإن قتل نعامة أو حمار وحش فعليه بدنة، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا، فإن لم يجد صام ثلاثين يوما.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد تقدم لابن عباس رضي الله عنه قول غير هذا آنفا حكاهما عنه الطبري مسندين، ولا ينكر أن يكون له في هيئة التكفير قولان، وقال سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى: أو عدل ذلك صياماً قال يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة.
وقوله تعالى: ليذوق وبال أمره الذوق هنا مستعار كما قال تعالى: ذق إنّك أنت العزيز الكريم [الدخان: 49] وكما قال فأذاقها اللّه لباس الجوع [النحل: 112] وكما قال أبو سفيان: ذق عقق وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة السان، وهي في هذا كله مستعارة فيما بوشر بالنفس، والوبال سوء العاقبة، والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بعد أكله، وعبر بأمره عن جميع حاله من قتل وتكفير وحكم عليه ومضي ماله أو تعبه بالصيام، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: عفا اللّه عمّا سلف فقال عطاء بن أبي رباح وجماعة معه: معناه عفا الله عما سلف في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرمة ومن عاد الآن في الإسلام فإن كان مستحيلا فينتقم الله منه في الآخرة ويكفر في ظاهر الحكم، وإن كان عاصيا فالنقمة هي في إلزام الكفارة فقط، قالوا وكلما عاد المحرم فهو مكفر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويخاف المتورعون أن تبقى النقمة مع التكفير، وهذا هو قول الفقهاء مالك ونظائره وأصحابه رحمهم الله، وقال ابن عباس رضي الله عنه: المحرم إذا قتل مرارا ناسيا لإحرامه فإنه يكفر في كل مرة، فأما المتعمد العالم بإحرامه فإنه يكفر أول مرة، وعفا الله عن ذنبه مع التكفير، فإن عاد ثانية فلا يحكم عليه، ويقال له: ينتقم الله منك، كما قال الله، وقال بهذا القول شريح القاضي وإبراهيم النخعي ومجاهد، وقال سعيد بن جبير: رخص في قتل الصيد مرة فمن عاد لم يدعه الله حتى ينتقم منه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا القول منه رضي الله عنه وعظ بالآية، وهو مع ذلك يرى أن يحكم عليه في العودة ويكفر لكنه خشي مع ذلك بقاء النقمة، وقال ابن زيد: معنى الآية عفا اللّه عمّا سلف لكم أيها المؤمنون من قتل الصيد قبل هذا النهي والتحريم، قال وأما من عاد فقتل الصيد وهو عالم بالحرمة متعمد للقتل فهذا لا يحكم عليه، وهو موكول إلى نقمة الله، ومعنى قوله متعمّداً في صدر الآية أي متعمدا للقتل ناسيا للحرمة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد تقدم ذكر هذا الفصل، قال الطبري: وقال قوم: هذه الآية مخصوصة في شخص بعينه وأسند إلى زيد بن المعلى أن رجلا أصاب صيدا وهو محرم فتجوز له عنه ثم عاد فأرسل الله عليه نارا فأحرقته، فذلك قوله تعالى: ومن عاد فينتقم اللّه منه وقوله تعالى: واللّه عزيزٌ ذو انتقامٍ تنبيه على صفتين تقتضي خوف من له بصيرة، ومن خاف ازدجر، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل). [المحرر الوجيز: 3/253-262]

تفسير قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: أحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسّيّارة وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً واتّقوا اللّه الّذي إليه تحشرون (96) جعل اللّه الكعبة البيت الحرام قياماً للنّاس والشّهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أنّ اللّه يعلم ما في السّماوات وما في الأرض وأنّ اللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ (97) اعلموا أنّ اللّه شديد العقاب وأنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (98)
هذا حكم بتحليل صيد البحر وهو كل ما صيد من حيتانه، وهذا التحليل هو للمحرم وللحلال، والصيد هنا أيضا يراد به الصيد، وأضيف إلى البحر لما كان منه بسبب، والبحر الماء الكثير ملحا كان أو عذبا، وكل نهر كبير بحر، واختلف الناس في معنى قوله وطعامه قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وجماعة كثيرة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم هو ما قذف به وما طفا عليه لأن ذلك طعام لا صيد، وسأل رجل ابن عمر عن حيتان طرحها البحر فنهاه عنها ثم قرأ المصحف فقال لنافع الحقه فمره بأكلها فإنها طعام البحر، وهذا التأويل ينظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وجماعة: «طعامه» كل ما ملح منه وبقي، وتلك صنائع تدخله فترده طعاما، وإنما الصيد الغريض، وقال قوم طعامه ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات ونحوه. وكره قوم خنزير الماء، وقال مالك رحمه الله: أنتم تقولون خنزير، ومذهبه إباحته، وقول أبي بكر وعمر هو أرجح الأقوال، وهو مذهب مالك، وقرأ ابن عباس وعبد الله بن الحارث و «طعمه» بضم الطاء وسكون العين دون ألف ومتاعاً نصب على المصدر والمعنى متعكم به متاعا تنتفعون به وتأتدمون، ولكم يريد حاضري البحر ومدنه، وللسّيّارة المسافرين، وقال مجاهد أهل القرى هم المخاطبون، والسيارة أهل الأمصار.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: كأنه يريد أهل قرى البحر وأن السيارة من أهل الأمصار غير تلك القرى يجلبونه إلى الأمصار.
واختلف العلماء في مقتضى قوله وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً فتلقاه بعضهم على العموم من جميع جهاته، فقالوا إن المحرم لا يحل له أن يصيد ولا أن يأمر بصيد ولا أن يأكل صيدا صيد من أجله ولا من غير أجله، ولحم الصيد بأي وجه كان حرام على المحرم، وروي أن عثمان حج وحج معه علي بن أبي طالب فأتي عثمان بلحم صيد صاده حلال فأكل منه ولم يأكل علي، فقال عثمان: والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا، فقال علي: وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً، وروي أن عثمان استعمل على العروض أبا سفيان بن الحارث فصاد يعاقيب فجعلها في حظيرة فمر به عثمان بن عفان فطبخهن وقدمهن إليه، وجاء علي بن أبي طالب فنهاهم عن الأكل، وذكر نحو ما تقدم قال: ثم لما كانوا بمكة أتي عثمان فقيل له هل لك في علي؟ أهدي له تصفيف حمار فهو يأكل منه، فأرسل إليه عثمان فسأله عن أكله التصفيف وقال له: أما أنت فتأكل وأما نحن فتنهانا فقال له علي: إنه صيد عام أول، وأنا حلال، فليس علي بأكله بأس، وصيد ذلك، يعني اليعاقيب وأنا محرم وذبحن وأنا حرام، وروي مثل قول علي عن ابن عباس وابن عمر وطاوس وسعيد بن جبير، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يرى بأسا للمحرم أن يأكل لحم الصيد الذي صاده الحلال لحلال مثله ولنفسه، وسئل أبو هريرة عن هذه النازلة فأفتى بالإباحة، ثم أخبر عمر بن الخطاب فقال له لو أفتيت بغير هذا لأوجعت رأسك بهذه الدرة، وسأل أبو الشعثاء ابن عمر عن هذه المسألة فقال له، كان عمر يأكله، قال: قلت فأنت؟ قال كان عمر خيرا مني، روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ما صيد أو ذبح وأنت حلال فهو لك حلال، وما صيد أو ذبح وأنت حرام فهو عليك حرام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا مثل قول علي بن أبي طالب، وروى عطاء عن كعب قال أقبلت في ناس محرمين فوجدنا لحم حمار وحشي فسألوني عن أكله فأفتيتهم بأكله، فقدمنا على عمر فأخبروه بذلك، فقال، قد أمرته عليكم حتى ترجعوا، وقال بمثل قول عمر بن الخطاب عثمان بن عفان رضي الله عنهما والزبير بن العوام وهو الصحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الحمار الذي صاده أبو قتادة وهو حلال والنبي محرم، قال الطبري وقال آخرون: إنما حرم على المحرم أن يصيد، فأما أن يشتري الصيد من مالك له فيذبحه فيأكله فذلك غير محرم ثم ذكر أن أبا سلمة بن عبد الرحمن، اشترى قطا وهو بالعرج فأكله فعاب ذلك عليه الناس، ومالك رحمه الله يجيز للمحرم أن يأكل ما صاده الحلال وذبحه إذا كان لم يصده من أجل المحرم، فإن صيد من أجله فلا يأكله، وكذلك قال الشافعي، ثم اختلفا إن أكل، فقال مالك: عليه الجزاء وقال الشافعي لا جزاء عليه، وقرأ ابن عباس و «حرّم» بفتح الحاء والراء مشددة «صيد» بنصب الدال «ما دمتم حرما» بفتح الحاء، المعنى وحرم الله عليكم، وحرماً يقع للجميع والواحد كرضى وما أشبهه، والمعنى ما دمتم محرمين، فهي بالمعنى كقراءة الجماعة بضم الحاء والراء، ولا يختلف في أن ما لا زوال له من الماء أنه صيد بحر، وفيما لا زوال له من البر أنه صيد بر، واختلف فيما يكون في أحدهما وقد يعيش ويحيا في الآخر فقال مالك رحمه الله وأبو مجلز وعطاء وسعيد بن جبير وغيرهم كل ما يعيش في البر وله فيه حياة فهو من صيد البر إن قتله المحرم وداه: وذكر أبو مجلز في ذلك الضفادع والسلاحف والسرطان.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومن هذه أنواع لا زوال لها من الماء فهي لا محالة من صيد البحر، وعلى هذا خرج جواب مالك في الضفادع في المدونة، فإنه قال الضفادع من صيد البحر، وروي عن عطاء بن أبي رباح خلاف ما ذكرناه، وهو أنه راعى أكثر عيش الحيوان، سئل عن ابن الماء أصيد بر أم صيد بحر؟
فقال: حيث يكون أكثر فهو منه، وحيث يفرخ فهو منه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصواب في ابن ماء أنه صيد بر طائر يرعى ويأكل الحب، وقوله تعالى: واتّقوا اللّه تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم.
ثم ذكر تعالى بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير). [المحرر الوجيز: 3/262-266]

رد مع اقتباس