عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 16 شعبان 1435هـ/14-06-2014م, 09:14 AM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({واتل عليهم نبأ الّذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشّيطان فكان من الغاوين (175) ولو شئنا لرفعناه بها ولكنّه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الّذين كذّبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلّهم يتفكّرون (176) ساء مثلا القوم الّذين كذّبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون (177)}
قال عبد الرّزّاق، عن سفيان الثّوريّ، عن الأعمش ومنصورٍ، عن أبي الضّحى، عن مسروقٍ، عن عبد اللّه بن مسعودٍ، رضي اللّه عنه، في قوله تعالى: {واتل عليهم نبأ الّذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه} الآية، قال: هو رجلٌ من بني إسرائيل، يقال له: بلعم بن أبر. وكذا رواه شعبة وغير واحدٍ، عن منصورٍ، به.
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن ابن عبّاسٍ [رضي اللّه عنهما] هو صيفيّ بن الرّاهب.
قال قتادة: وقال كعبٌ: كان رجلًا من أهل البلقاء، وكان يعلم الاسم الأكبر، وكان مقيمًا ببيت المقدس مع الجبّارين.
وقال العوفي، عن ابن عبّاسٍ [رضي اللّه عنهما] هو رجلٌ من أهل اليمن، يقال له: بلعم، آتاه اللّه آياته فتركها.
وقال مالك بن دينارٍ: كان من علماء بني إسرائيل، وكان مجاب الدّعوة، يقدّمونه في الشّدائد، بعثه نبيّ اللّه موسى إلى ملك مدين يدعوه إلى اللّه، فأقطعه وأعطاه، فتبع دينه وترك دين موسى، عليه السّلام.
وقال سفيان بن عيينة، عن حصين، عن عمران بن الحارث، عن ابن عبّاسٍ [رضي اللّه عنهما] هو بلعم بن باعر. وكذا قال مجاهدٌ وعكرمة.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني الحارث، حدّثنا عبد العزيز، حدّثنا إسرائيل، عن مغيرة، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ [رضي اللّه عنهما] قال: هو بلعام -وقالت ثقيفٌ: هو أميّة بن أبي الصّلت.
وقال شعبة، عن يعلى بن عطاءٍ، عن نافع بن عاصمٍ، عن عبد اللّه بن عمرٍو [رضي اللّه عنهما] في قوله: {واتل عليهم نبأ الّذي آتيناه آياتنا} قال: هو صاحبكم أميّة بن أبي الصّلت.
وقد روي من غير وجهٍ، عنه وهو صحيحٌ إليه، وكأنّه إنّما أراد أنّ أميّة بن أبي الصّلت يشبهه، فإنّه كان قد اتّصل إليه علمٌ كثيرٌ من علم الشّرائع المتقدّمة، ولكنّه لم ينتفع بعلمه، فإنّه أدرك زمان رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-، وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته، وظهرت لكلّ من له بصيرةٌ، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه، وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم، ورثى أهل بدرٍ من المشركين بمرثاةٍ بليغةٍ، قبّحه اللّه [تعالى] وقد جاء في بعض الأحاديث: "أنّه ممّن آمن لسانه، ولم يؤمن قلبه"؛ فإنّ له أشعارًا ربّانيّةً وحكمًا وفصاحةً، ولكنّه لم يشرح اللّه صدره للإسلام.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا ابن أبي عمر، حدّثنا سفيان عن أبي سعيدٍ الأعور، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {واتل عليهم نبأ الّذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} قال: هو رجلٌ أعطي ثلاث دعواتٍ يستجاب له فيهنّ، وكانت له امرأةٌ له منها ولدٌ، فقالت: اجعل لي منها واحدة. قال: فلك واحدةٌ، فما الّذي تريدين؟ قالت: ادع اللّه أن يجعلني أجمل امرأةٍ في بني إسرائيل. فدعا اللّه، فجعلها أجمل امرأةٍ في بني إسرائيل، فلمّا علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه، وأرادت شيئًا آخر، فدعا اللّه أن يجعلها كلبةً، فصارت كلبةً، فذهبت دعوتان. فجاء بنوها فقالوا: ليس بنا على هذا قرارٌ، قد صارت أمّنا كلبةً يعيّرنا النّاس بها، فادع اللّه أن يردّها إلى الحال الّتي كانت عليها، فدعا اللّه، فعادت كما كانت، فذهبت الدّعوات الثّلاث، وسمّيت البسوس. غريبٌ.
وأمّا المشهور في سببٍ نزول هذه الآية الكريمة، فإنّما هو رجلٌ من المتقدّمين في زمن بني إسرائيل، كما قال ابن مسعودٍ وغيره من السّلف.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: هو رجلٌ من مدينة الجبّارين، يقال له: "بلعام" وكان يعلم اسم اللّه الأكبر.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، وغيره من علماء السّلف: كان رجلًا مجاب الدّعوة، ولا يسأل اللّه شيئًا إلّا أعطاه إيّاه.
وأغرب، بل أبعد، بل أخطأ من قال: كان قد أوتي النّبوّة فانسلخ منها. حكاه ابن جريرٍ، عن بعضهم، ولا يصحّ
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: لما نزل موسى بهم -يعني بالجبّارين -ومن معه، أتاه يعني بلعام -أتاه بنو عمّه وقومه، فقالوا: إنّ موسى رجلٌ حديدٌ، ومعه جنودٌ كثيرةٌ، وإنّه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع اللّه أن يردّ عنّا موسى ومن معه. قال: إنّي إن دعوت اللّه أن يردّ موسى ومن معه، ذهبت دنياي وآخرتي. فلم يزالوا به حتّى دعا عليهم، فسلخه اللّه ما كان عليه، فذلك قوله تعالى: {فانسلخ منها فأتبعه الشّيطان فكان من الغاوين}
وقال السّدّيّ: إنّ اللّه لمّا انقضّت الأربعون سنةً الّتي قال اللّه: {فإنّها محرّمةٌ عليهم أربعين سنةً} [المائدة:26] بعث يوشع بن نونٍ نبيًّا، فدعا بني إسرائيل، فأخبرهم أنّه نبيٌّ، وأنّ اللّه [قد] أمره أن يقاتل الجبّارين، فبايعوه وصدّقوه. وانطلق رجلٌ من بني إسرائيل يقال له: "بلعم" وكان عالمًا، يعلم الاسم الأعظم المكتوم، فكفر -لعنه اللّه -وأتى الجبّارين وقال لهم: لا ترهبوا بني إسرائيل، فإنّي إذا خرجتم تقاتلونهم أدعوا عليهم دعوةً فيهلكون! وكان عندهم فيما شاء من الدّنيا، غير أنّه كان لا يستطيع أن يأتي النّساء، يعظّمهنّ فكان ينكح أتانًا له، وهو الّذي قال اللّه تعالى: {فانسلخ منها}.
وقوله: {فأتبعه الشّيطان}؛ أي: استحوذ عليه وغلبه على أمره، فمهما أمره امتثل وأطاعه؛ ولهذا قال: {فكان من الغاوين}؛ أي: من الهالكين الحائرين البائرين.
وقد ورد في معنى هذه الآية حديثٌ رواه الحافظ أبو يعلى الموصليّ في مسنده حيث قال: حدّثنا محمّد بن مرزوقٍ، حدّثنا محمّد بن بكرٍ، عن الصّلت بن بهرام، حدّثنا الحسن، حدّثنا جندب البجليّ في هذا المسجد؛ أن حذيفة -يعني بن اليمان، رضي اللّه عنه -حدّثه قال: قال رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلم-: «أن ممّا أتخوّف عليكم رجل قرأ القرآن، حتّى إذا رؤيت بهجته عليه وكان ردء الإسلام اعتراه إلى ما شاء اللّه، انسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسّيف، ورماه بالشّرك
». قال: قلت: يا نبيّ اللّه، أيّهما أولى بالشّرك: المرميّ أو الرّامي؟ قال: "بل الرّامي".
هذا إسنادٌ جيّدٌ والصّلت بن بهرام كان من ثقات الكوفيّين، ولم يرم بشيءٍ سوى الإرجاء، وقد وثّقه الإمام أحمد بن حنبلٍ ويحيى بن معينٍ، وغيرهما.
وقوله تعالى: {ولو شئنا لرفعناه بها ولكنّه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه}، يقول تعالى: {ولو شئنا لرفعناه بها}؛ أي: لرفعناه من التّدنّس عن قاذورات الدّنيا بالآيات الّتي آتيناه إيّاها، {ولكنّه أخلد إلى الأرض}؛ أي: مال إلى زينة الدّنيا وزهرتها، وأقبل على لذّاتها ونعيمها، وغرّته كما غرّت غيره من غير أولي البصائر والنّهى.
وقال أبو الزّاهريّة في قوله تعالى: {ولكنّه أخلد إلى الأرض}؛ قال: تراءى له الشّيطان على غلوة من قنطرة بانياس، فسجدت الحمارة للّه، وسجد بلعام للشّيطان. وكذا قال عبد الرّحمن بن جبير بن نفير، وغير واحدٍ.
وقال الإمام أبو جعفر بن جريرٍ، رحمه اللّه: وكان من قصّة هذا الرّجل: ما حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، حدّثنا المعتمر، عن أبيه: أنّه سئل عن هذه الآية: {واتل عليهم نبأ الّذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} فحدّث عن سيّارٍ أنّه كان رجلًا يقال له بلعام، وكان قد أوتي النّبوّة وكان مجاب الدّعوة، قال: وإنّ موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض الّتي فيها بلعام -أو قال: الشّام -قال فرعب النّاس منه رعبًا شديدًا، قال: فأتوا بلعام، فقالوا: ادع اللّه على هذا الرّجل وجيشه! قال: حتّى أوامر ربّي -أو: حتّى أؤامر -قال: فوامر في الدّعاء عليهم، فقيل له: لا تدع عليهم، فإنّهم عبادي، وفيهم نبيّهم. قال: فقال لقومه: إنّي قد آمرت ربّي في الدّعاء عليهم، وإنّي قد نهيت. فأهدوا له هديّةً فقبلها، ثمّ راجعوه فقالوا: ادع عليهم. فقال: حتّى أوامر. فوامر، فلم يحر إليه شيءٌ. فقال: قد وامرت فلم يحر إليّ شيءٌ! فقالوا: لو كره ربّك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك المرّة الأولى. قال: فأخذ يدعو عليهم، فإذا دعا عليهم، جرى على لسانه الدّعاء على قومه، وإذا أراد أن يدعو أن يفتح لقومه دعا أن يفتح لموسى وجيشه -أو نحوًا من ذا إن شاء اللّه. قال ما نراك تدعو إلّا علينا. قال: ما يجري على لساني إلّا هكذا، ولو دعوت عليه أيضًا ما استجيب لي، ولكن سأدلّكم على أمرٍ عسى أن يكون فيه هلاكهم. إنّ اللّه يبغض الزّنا، وإنّهم إن وقعوا بالزّنا هلكوا، ورجوت أن يهلكهم اللّه، فأخرجوا النّساء يستقبلنهم ؛ فإنّهم قومٌ مسافرون، فعسى أن يزنوا فيهلكوا. قال: ففعلوا. قال: فأخرجوا النّساء يستقبلنهم. قال: وكان للملك ابنةٌ، فذكر من عظمها ما اللّه أعلم به! قال: فقال أبوها -أو بلعام-: لا تمكّني نفسك إلّا من موسى! قال: ووقعوا في الزّنا. قال: وأتاها رأس سبطٍ من أسباط بني إسرائيل، قال: فأرادها على نفسه، فقالت: ما أنا بممكّنة نفسي إلّا من موسى. قال: فقال: إنّ منزلتي كذا وكذا، وإنّ من حالي كذا وكذا. قال: فأرسلت إلى أبيها تستأمره، قال: فقال لها: فأمكنيه قال: ويأتيهما رجلٌ من بني هارون ومعه الرّمح فيطعنهما. قال: وأيّده اللّه بقوّةٍ. فانتظمهما جميعًا، ورفعهما على رمحه فرآهما النّاس -أو كما حدّث -قال: وسلّط اللّه عليهم الطّاعون، فمات منهم سبعون ألفًا.
قال أبو المعتمر: فحدّثني سيّار: أنّ بلعامًا ركب حمّارةً له حتّى أتى العلولى -أو قال: طريقًا من العلولى -جعل يضربها ولا تقدم، وقامت عليه فقالت: علام تضربني؟ أما ترى هذا الّذي بين يديك؟ فإذا الشّيطان بين يديه، قال: فنزل وسجد له، قال اللّه تعالى: {واتل عليهم نبأ الّذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} إلى قوله: {لعلّهم يتفكّرون}
قال: فحدّثني بهذا سيّارٌ، ولا أدري لعلّه قد دخل فيه شيءٌ من حديث غيره.
قلت: هو بلعام -ويقال: بلعم -بن باعوراء، ابن أبر. ويقال: ابن باعور بن شهوم بن قوشتم ابن ماب بن لوط بن هاران -ويقال: ابن حران -بن آزر. وكان يسكن قريةً من قرى البلقاء.
قال ابن عساكر: وهو الّذي كان يعرف اسم اللّه الأعظم، فانسلخ من دينه، له ذكرٌ في القرآن. ثمّ أورد من قصّته نحوًا ممّا ذكرنا هاهنا، وأورده عن وهبٍ وغيره، واللّه أعلم.
وقال محمّد بن إسحاق بن يسارٍ عن سالمٍ أبي النّضر؛ أنّه حدّث: أنّ موسى، عليه السّلام، لمّا نزل في أرض بني كنعان من أرض الشّام، أتى قوم بلعام إليه فقالوا له: هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل، قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلّها بني إسرائيل، وإنّا قومك، وليس لنا منزلٌ، وأنت رجلٌ مجاب الدّعوة، فاخرج فادع اللّه عليهم. قال: ويلكم! نبيّ اللّه معه الملائكة والمؤمنون، كيف أذهب أدعو عليهم، وأنا أعلم من اللّه ما أعلم؟! قالوا له: ما لنا من منزلٍ! فلم يزالوا به يرقّقونه ويتضرّعون إليه، حتّى فتنوه فافتتن، فركب حمارةً له متوجّهًا إلى الجبل الّذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل، وهو جبل حسبان، فلمّا سار عليها غير كثيرٍ، ربضت به، فنزل عنها فضربها، حتى إذا أذلقها قامت فركبها. فلم تسر به كثيرًا حتّى ربضت به، فضربها حتّى إذا أذلقها أذن اللّه لها فكلّمته حجّةً عليه، فقالت: ويحك يا بلعم: أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردّني عن وجهي هذا؟ أتذهب إلى نبيّ اللّه والمؤمنين لتدعو عليهم؟ فلم ينزع عنها يضربها، فخلّى اللّه سبيلها حين فعل بها ذلك. فانطلقت به حتّى إذا أشرفت به على رأس حسبان، على عسكر موسى وبني إسرائيل، جعل يدعو عليهم، ولا يدعو عليهم بشرٍّ إلّا صرف اللّه لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخيرٍ إلّا صرف لسانه إلى بني إسرائيل. فقال له قومه: أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنّما تدعو لهم، وتدعو علينا! قال: فهذا ما لا أملك، هذا شيءٌ قد غلب اللّه عليه! قال: واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهبت منّي الآن الدّنيا والآخرة، ولم يبق إلّا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جمّلوا النّساء وأعطوهنّ السّلع، ثمّ أرسلوهنّ إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهنّ فلا تمنع امرأةٌ نفسها من رجلٍ أرادها، فإنّهم إن زنى رجلٌ منهم واحدٌ كفيتموهم، ففعلوا. فلمّا دخل النّساء العسكر، مرّت امرأةٌ من الكنعانيّين اسمها "كسبى ابنة صور، رأس أمّته" برجلٍ من عظماء بني إسرائيل، وهو "زمرى بن شلوم"، رأس سبط بني سمعان بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم السّلام، فقام إليها، فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها، ثمّ أقبل بها حتّى وقف بها على موسى، عليه السّلام، فقال: إنّي أظنّك ستقول هذا حرامٌ عليك؟ قال: أجل، هي حرامٌ عليك، لا تقربها. قال: فواللّه لا نطيعك في هذا. ثمّ دخل بها قبّته فوقع عليها. وأرسل اللّه، عزّ وجلّ، الطّاعون في بني إسرائيل، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون، صاحب أمر موسى، وكان غائبًا حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع، فجاء والطّاعون يجوس في بني إسرائيل، فأخبر الخبر، فأخذ حربته، وكانت من حديدٍ كلّها، ثمّ دخل القبّة وهما متضاجعان، فانتظمهما بحربته، ثمّ خرج بهما رافعهما إلى السّماء، والحربة قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحييه -وكان بكر العيزار -وجعل يقول: اللّهمّ هكذا نفعل بمن يعصيك. ورفع الطّاعون، فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطّاعون فيما بين أن أصاب زمرى المرأة إلى أن قتله فنحاص، فوجدوه قد هلك منهم سبعون ألفًا -والمقلّل لهم يقول: عشرون ألفًا -في ساعةٍ من النّهار. فمن هنالك تعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كلّ ذبيحةٍ ذبحوها القبّة والذّراع واللّحى -لاعتماده بالحربة على خاصرته، وأخذه إيّاها بذراعه، وإسناده إيّاها إلى لحييه -والبكر من كلّ أموالهم وأنفسهم؛ لأنّه كان بكر أبيه العيزار. ففي بلعام بن باعوراء أنزل اللّه: {واتل عليهم نبأ الّذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشّيطان} -إلى قوله: {لعلّهم يتفكّرون}.
وقوله تعالى: {فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} اختلف المفسّرون في معناه فأمّا على سياق ابن إسحاق، عن سالم بن أبي النضر: أن بلعاما اندلع لسانه على صدره -فتشبيهه بالكلب في لهثه في كلتا حالتيه إن زجر وإن ترك. وقيل: معناه: فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه، وعدم انتفاعه بالدّعاء إلى الإيمان وعدم الدّعاء، كالكلب في لهثه في حالتيه، إن حملت عليه وإنّ تركته، هو يلهث في الحالين، فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدّعوة إلى الإيمان ولا عدمه؛ كما قال تعالى: {سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة: 6]، {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّةً فلن يغفر اللّه لهم} [التّوبة: 80] ونحو ذلك.
وقيل: معناه: أنّ قلب الكافر والمنافق والضّالّ، ضعيفٌ فارغٌ من الهدى، فهو كثير الوجيب فعبّر عن هذا بهذا، نقل نحوه عن الحسن البصريّ وغيره.
وقوله تعالى: {فاقصص القصص لعلّهم يتفكّرون} يقول تعالى لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: {فاقصص القصص لعلّهم} أي: لعلّ بني إسرائيل العالمين بحال بلعام، وما جرى له في إضلال اللّه إيّاه وإبعاده من رحمته، بسبب أنّه استعمل نعمة اللّه عليه -في تعليمه الاسم الأعظم الّذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب -في غير طاعة ربّه، بل دعا به على حزب الرّحمن، وشعب الإيمان، أتباع عبده ورسوله في ذلك الزّمان، كليم اللّه موسى بن عمران، [عليه السّلام] ؛ ولهذا قال: {لعلّهم يتفكّرون} أي: فيحذروا أن يكونوا مثله؛ فإنّ اللّه قد أعطاهم علمًا، وميّزهم على من عداهم من الأعراب، وجعل بأيديهم صفة محمّدٍ -صلّى اللّه عليه وسلّم- يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، فهم أحقّ النّاس وأولاهم باتّباعه ومناصرته ومؤازرته، كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به؛ ولهذا من خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يعلم به العباد، أحلّ اللّه به ذلًّا في الدّنيا موصولًا بذلّ الآخرة). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 506-512]

تفسير قوله تعالى: {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ساء مثلا القوم الّذين كذّبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون}؛
يقول تعالى: ساء مثلًا مثل القوم الّذين كذّبوا بآياتنا، أي: ساء مثلهم أن شبّهوا بالكلاب الّتي لا همّة لها إلّا في تحصيل أكلةٍ أو شهوةٍ، فمن خرج عن حيّز العلم والهدى وأقبل على شهوة نفسه، واتّبع هواه، صار شبيهًا بالكلب، وبئس المثل مثله؛ ولهذا ثبت في الصّحيح أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «ليس لنا مثل السّوء، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه
»
وقوله: {وأنفسهم كانوا يظلمون}؛ أي: ما ظلمهم اللّه، ولكن هم ظلموا أنفسهم، بإعراضهم عن اتّباع الهدى، وطاعة المولى، إلى الرّكون إلى دار البلى، والإقبال على تحصيل اللّذّات وموافقة الهوى). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 512]

تفسير قوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({من يهد اللّه فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون (178)}
يقول تعالى: من هداه اللّه فإنّه لا مضلّ له، ومن أضلّه فقد خاب وخسر وضلّ لا محالة، فإنّه تعالى ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن؛ ولهذا جاء في حديث ابن مسعودٍ:
«إنّ الحمد للّه، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضلّ له، ومن يضلل اللّه فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله ».
الحديث بتمامه رواه الإمام أحمد، وأهل السّنن، وغيرهم). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 512-513]


رد مع اقتباس