عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 14 رمضان 1438هـ/8-06-2017م, 09:57 AM
جمهرة علوم العقيدة جمهرة علوم العقيدة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 1,193
افتراضي

بَيَانِ أنَّ أسماءَ اللهِ الحُسْنَى وصفاتِهِ العُلَى مِنْ مُوجِبَاتِ حَمْدِهِ ومقتَضِياتِ مَحَبَّتِهِ.

قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى
: (البابُ الرابعَ عشرَ:
في بَيَانِ أنَّ أسماءَ اللهِ الحُسْنَى وصفاتِهِ العُلَى مِنْ مُوجِبَاتِ حَمْدِهِ ومقتَضِياتِ مَحَبَّتِهِ.

(الحمدُ أوسعُ الصِّفَاتِ وأعمُّ المدائحِ، والطُّرقُ إلى العلمِ بهِ في غايَةِ الكثرةِ، والسبيلُ إلى اعتبارِهِ في ذَرَّاتِ العالمِ وجزْئِيَّاتِهِ وتفاصيلِ الأمرِ والنهيِ واسعةٌ جدًّا؛ لأنَّ جميعَ أسمائِهِ تباركَ وتعالى حمدٌ، وصفاتِهِ حمدٌ، وأفعالَهُ حمدٌ، وأحكامَهُ حمدٌ، وعَدْلَهُ حمدٌ، وانتقامَهُ منْ أعدائِهِ حمدٌ، وفضلَهُ في إحسانِهِ إلى أوليائِهِ حمدٌ، والخلقُ والأمرُ إنَّما قامَ بحمْدِهِ ووُجِدَ بحمدِهِ، وظهرَ بحمْدِهِ، وكانَ الغايَةُ هيَ حمْدَهُ، فحمْدُهُ سببُ ذلكَ وغايَتُهُ ومظهَرُهُ وحامِلُهُ، فحَمْدُهُ رُوحُ كلِّ شيءٍ، وقيامُ كلِّ شيءٍ بحمْدِهِ. وسَرَيَانُ حمْدِهِ في الموجوداتِ، وظهورُ آثارِهِ فيهِ أمرٌ مشهودٌ بالأبصارِ والبصائرِ.
فمن الطُّرُقِ الدالَّةِ على شمولِ معنى الحمدِ وانبساطِهِ على جميعِ المعلوماتِ معرفةُ أسمائِهِ وصفاتِهِ، وإقرارُ العبدِ بأنَّ للعالمِ إلهاً حيًّا جامعاً لكلِّ صفةِ كمالٍ، واسمٍ حَسَنٍ، وثناءٍ جميلٍ، وفعلٍ كريمٍ، وأنَّهُ سُبحانَهُ لهُ القدرةُ التامَّةُ، والمشيئةُ النافذةُ، والعلمُ المحيطُ، والسمعُ الذي وَسِعَ الأصواتَ، والبصرُ الذي أحاطَ بجميعِ المُبْصَرَاتِ، والرحمةُ التي وَسِعَتْ جميعَ المخلوقاتِ، والمُلْكُ الأعلى الذي لا يخرجُ عنهُ ذرَّةٌ من الذرَّاتِ، والغِنَى التامُّ المُطْلَقُ منْ جميعِ الجهاتِ، والحكمةُ البالغةُ المشهودُ آثارُها في الكائناتِ، والعِزَّةُ الغالبةُ بجميعِ الوجوهِ والاعتباراتِ، والكلماتُ التامَّاتُ النافذاتُ التي لا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ ولا فاجرٌ منْ جميعِ البَرِيَّاتِ، واحدٌ لا شريكَ لهُ في رُبُوبيَّتِهِ ولا في إلهيَّتِهِ، ولا شبيهَ لهُ في ذاتِهِ ولا في صفاتِهِ ولا في أفعالِهِ، وليسَ لهُ مَنْ يَشْرَكُهُ في ذرَّةٍ منْ ذرَّاتِ مُلكِهِ، أوْ يخْلُفُهُ في تدبيرِ خلقِهِ، أوْ يحجُبُهُ عنْ دَاعِيهِ ومُؤَمِّلِيهِ وسائلِيهِ، أوْ يتوَسَّطُ بينَهُمْ وبينَهُ بتَلْبِيسٍ أوْ فِرْيَةٍ أوْ كَذِبٍ، كما يكونُ بينَ الرَّعَايَا وبينَ الملوكِ، ولوْ كانَ كذلكَ لفسدَ نظامُ الوجودِ وفسدَ العالمُ بأَسْرِهِ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فلوْ كانَ معَهُ آلهةٌ أُخْرَى كما يقولُ أعداؤُهُ المُبْطِلُونَ لوقعَ من النقصِ في التدبيرِ وفسادِ الأمرِ كُلِّهِ ما لا يثْبُتُ معهُ حالٌ، ولا يصلحُ عليهِ وجودٌ.
ومِنْ أعظمِ نِعَمِهِ علينا، وما استوجبَ حمدَ عبادِهِ لهُ أنْ جعلَنَا عبيداً لهُ خاصَّةً، ولمْ يجْعَلْنَا ربُّنا مُنْقَسِمِينَ بينَ شركاءَ مُتَشَاكِسِينَ، ولمْ يجْعَلْنَا عبيداً لإِلَهٍ نَحَتَتْهُ الأفكارُ، لا يسمعُ أصواتَنا، ولا يُبصِرُ أفعالَنا، ولا يعْلَمُ أحوالَنا، ولا يملِكُ لعابدِيهِ ضرًّا ولا نفعاً ولا مَوْتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ولا تكَلَّمَ قطُّ ولا يتكَلَّمُ ولا يأْمُرُ ولا ينهى ولا تُرْفَعُ إليهِ الأيدِي، ولا تعْرُجُ الملائكةُ والروحُ إليهِ، ولا يَصْعَدُ إليهِ الكلمُ الطيِّبُ، ولا يُرْفَعُ إليهِ العملُ الصالحُ، وأنَّهُ ليسَ داخلَ العالمِ ولا خارجَهُ ولا فوقَهُ، ولا عنْ يمينِهِ ولا عنْ يسارِهِ، ولا خلفَهُ ولا أمامَهُ، ولا مُتَّصِلاً بهِ ولا منفصلاً عنهُ، ولا مُحاذياً لهُ ولا مُبايناً، ولا هوَ مُسْتَوٍ على عرشِهِ ولا هوَ فوقَ عبادِهِ، وحظُّ العرشِ منهُ حظُّ الحشوشِ والأخلِيَةِ، ولا تَنْـزِلُ الملائكةُ منْ عندِهِ بلْ لا ينـزلُ منْ عندِهِ شيءٌ، ولا يصعدُ إليهِ شيءٌ، ولا يَقْرُبُ منهُ شيءٌ، ولا يُحِبُّ ولا يُحَبُّ، ولا يَلْتَذُّ المؤمنونَ بالنظرِ إلى وجهِهِ الكريمِ في دارِ الثوابِ، بلْ ليسَ لهُ وجهٌ يُرى ولا لهُ يدٌ يقبضُ بها السماواتِ وأُخْرَى يَقْبِضُ بها الأرضَ، ولا لَهُ فعلٌ يقومُ بهِ ولا حكمةٌ تقومُ بهِ، ولا كَلَّمَ موسى تكليماً، ولا تجَلَّى للجبلِ فجعَلَهُ دكًّا هشيماً، ولا يجيءُ يومَ القيامةِ لفصلِ القضاءِ، ولا ينـزلُ كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدُّنيا فيقولُ: لا أَسْأَلُ عنْ عبادِي غيْرِي. ولا يفرحُ بتوبةِ عبدِهِ إذا تابَ إليهِ. ويجوزُ في حكمتِهِ تعذيبُ أنبيائِهِ ورُسُلِهِ وملائكتِهِ وأهلِ طاعتِهِ أجمعينَ منْ أهلِ السَّماوَاتِ والأرَضينَ، وتنعيمُ أعدائِهِ من الكُفَّارِ بهِ والمحاربينَ لهُ والمكذِّبينَ لهُ ولرُسُلِهِ، والكلُّ بالنسبةِ إليهِ سَوَاءٌ، ولا فَرْقَ البتَّةَ إلاَّ أنَّهُ أخبرَ أنَّهُ لا يفعلُ ذلكَ، فامتنعَ للخبرِ بأنَّهُ لا يفعَلُهُ، لا لأنَّهُ في نفسِهِ منافٍ لحكمَتِهِ، ومعَ ذلكَ فرِضَاهُ عينُ غضَبِهِ، وغضَبُهُ عينُ رِضَاهُ، ومحبَّتُهُ كراهَتُهُ، وكراهَتُهُ محبَّتُهُ، إنْ هيَ إلاَّ إرادةٌ محضةٌ ومشيئةٌ صِرْفَةٌ يشاءُ بها لا لحكمةٍ ولا لغايَةٍ ولا لأجلِ مصلحةٍ، ومعَ ذلكَ يُعَذِّبُ عبادَهُ على ما لمْ يعلَمُوهُ ولا قُدْرَةَ لهم عليهِ، بلْ يعذِّبُهم على نفسِ فعلِهِ الذي فعَلَهُ هوَ ونسبَهُ إليهم، ويُعَذِّبُهم إذا لمْ يفْعَلُوا فعْلَهُ ويلُومُهم عليهِ، يجُوزُ في حكمَتِهِ أنْ يُعَذِّبَ رجالاً إذْ لمْ يكُونُوا نساءً، ونساءً حيثُ لمْ يكُونُوا رجالاً، وطِوالاً حيثُ لمْ يكُونُوا قِصَاراً، وبالعكسِ، وسُوداً إذْ لمْ يكونوا بيضاً وبالعكسِ، بلْ تعذيبُهُ لهم على مخالفَتِهِ هوَ منْ هذا الجنسِ؛ إذْ لا قدرةَ لهم البتَّةَ على فعلِ ما أُمِرُوا بهِ ولا تركِ ما نُهُوا عنهُ.
فلَهُ الحمدُ والمنَّةُ والثناءُ الحسنُ الجميلُ؛ إذْ لمْ يجْعَلْنَا عبيداً لمَنْ هذا شأْنُهُ فنكونَ مُضَيَّعِينَ ليسَ لنا ربٌّ نقصِدُهُ، ولا صَمَدٌ نتوجَّهُ إليهِ ونعبُدُهُ، ولا إلهٌ نُعَوِّلُ عليهِ، ولا ربٌّ نرجعُ إليهِ، بلْ قلوبُنا تنادي في طُرُقِ الحَيْرَةِ: مَنْ دَلَّنا وجمعَ علَيْنا ربًّا ضائعاً لا هوَ داخلَ العالمِ ولا خارجَهُ، ولا مُبَايِنٌ لهُ ولا مُحَاذٍ لهُ، ولا مُتَّصِلٌ بهِ ولا منفصِلٌ عنهُ، ولا نـزلَ منْ عندِهِ شيءٌ، ولا يصعدُ إليهِ شيءٌ، ولا كلَّمَ أحداً، ولا يُكَلِّمُهُ أحدٌ، ولا ينبغي لأحدٍ أنْ يذْكُرَ صفاتِهِ ولا يعرفُهُ بها، بلْ يذْكُرُها بلسانِهِ فلا يتكلَّمُ بها، وبقَلْبِهِ فلا يعقِلُها، وينبغي أنْ يُعَاقَبَ بالقتلِ أو الضربِ والحبسِ مَنْ ذَكَرَهَا، أوْ أخبرَ عنهُ بها، أوْ أثبتَها لهُ، أوْ نسَبَها إليهِ، أوْ عَرَفَهُ بها، بل التوحيدُ الصِّرْفُ جحدُها، وتعطيلُهُ عنها، ونفيُ قيامِها بهِ، واتِّصَافِهِ بها. وما لمْ تُدْرِكْهُ عقولُنا منْ ذلكَ فالواجبُ نَفْيُهُ وجحدُهُ، وتكفيرُ مَنْ أثبَتَهُ واستحلالُ دمِهِ ومالِهِ، أوْ تبديعُهُ وتضليلُهُ وتفسيقُهُ. وكُلَّما كانَ النفيُ أبلغَ كانَ التوحيدُ أتمَّ، فليسَ كذا وليسَ كذا أبلغَ في التوحيدِ منْ قولِنا: هوَ كذا وهوَ كذا.
فاللهُ العظيمُ أعظمَ حمدٍ وأتَمَّهُ وأكمَلَهُ على ما مَنَّ بهِ منْ معرفتِهِ وتوحيدِهِ، والإقرارِ بصفاتِهِ العُلَى وأسمائِهِ الحسنى، لإقرارِ قلُوبِنا بأنَّهُ اللهُ الذي لا إلهَ إلاَّ هوَ، عالمُ الغيبِ والشهادةِ ربُّ العالمينَ، قيُّومُ السَّماوَاتِ والأرَضينَ، إلهُ الأوَّلِينَ والآخرينَ، ولا يزالُ موصوفاً بصفاتِ الجلالِ، منعوتاً بنعوتِ الكمالِ، مُنَـزَّهاً عنْ أضدادِها من النقائصِ والتشبيهِ والمثالِ.
فهوَ الحيُّ القيُّومُ الذي لكمالِ حياتِهِ وقيُّوميَّتِهِ لا تأخذُهُ سِنَةٌ ولا نومٌ.
مالكُ السَّماوَاتِ والأرضِ الذي لكمالِ ملكِهِ لا يشفعُ عندَهُ أحدٌ إلاَّ بإذنِهِ.
العالمُ بكلِّ شيءٍ الذي لكمالِ علمِهِ يعلمُ ما بينَ أيدِي الخلائقِ وما خلفَهُم؛ فلا تسقطُ ورقةٌ إلاَّ بعلمِهِ، ولا تتحرَّكُ ذرَّةٌ إلاَّ بإذنِهِ، يعلمُ دبيبَ الخواطرِ في القلوبِ حيثُ لا يطَّلِعُ عليها المَلَكُ، ويعلمُ ما سيكونُ منها حيثُ لا يَطَّلِعُ عليهِ القلبُ.
البصيرُ الذي لكمالِ بصَرِهِ يرى تفاصيلَ خلقِ الذَّرَّةِ الصغيرةِ وأعضائِها ولحمِها ودمِها ومُخِّها وعروقِها، ويرَى دبيبَها على الصخرةِ الصمَّاءِ في الليلةِ الظلماءِ، ويرى ما تحتَ الأرَضينَ السبعِ كما يرى ما فوقَ السماواتِ السبعِ.
السميعُ الذي قد استوى في سمْعِهِ سِرُّ القولِ وجهرُهُ، وَسِعَ سمعُهُ الأصواتَ؛ فلا تختلفُ عليهِ أصواتُ الخلقِ، ولا تشتبهُ عليهِ، ولا يشغَلُهُ منها سمعٌ عنْ سمعٍ، ولا تُغْلِطُهُ المسائلُ، ولا يُبْرِمُهُ كثرةُ السائلينَ. قالَتْ عائشةُ: (الحمدُ للهِ الذي وَسِعَ سمعُهُ الأصواتَ، لقَدْ جاءَت المُجَادِلَةُ تشكو إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وإنَّهُ لَيَخْفَى عَلَيَّ بعضُ كلامِها، فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)} [المجادلة: 1]) ([1]).
القديرُ الذي لكمالِ قدرتِهِ يهدي مَنْ يشاءُ ويُضِلُّ مَنْ يشاءُ، ويجعلُ المؤمنَ مؤمناً، والكافرَ كافراً، والبَرَّ بَرًّا، والفاجرَ فاجراً، وهوَ الذي جعلَ إبراهيمَ وآلَهُ أئِمَّةً يدْعُونَ إليهِ ويهْدُونَ بأمْرِهِ، وجعلَ فِرعونَ وقومَهُ أئمَّةً يدْعُونَ إلى النارِ، ولكمالِ قُدْرتِهِ لا يحيطُ أحدٌ بشيءٍ منْ علمِهِ إلاَّ بما شاءَ سُبحانَهُ أنْ يُعَلِّمَهُ إيَّاهُ، ولكمالِ قدرتِهِ خلقَ السماواتِ والأرضَ وما بينَهُما في ستَّةِ أيَّامٍ وما مَسَّهُ منْ لُغُوبٍ، ولا يُعْجِزُهُ أحدٌ منْ خلقِهِ، ولا يفُوتُهُ، بلْ هوَ في قبضَتِهِ أينَ كانَ، فإنْ فرَّ منهُ فإنَّما يطْوِي المراحلَ في يدَيْهِ كما قيلَ:

وكيفَ يفِرُّ المرءُ عنكَ بذنْبِهِ إذا كانَ يطْوِي في يدَيْكَ المَرَاحِلا

ولكمالِ غنَاهُ استحالَ إضافةُ الولدِ والصاحبةِ والشريكِ والظهيرِ والشفيعِ بدُونِ إذنِهِ إليهِ. ولكمالِ عظمَتِهِ وعلُوِّهِ وَسِعَ كرسِيُّهُ السماواتِ والأرضَ، ولمْ تَسَعْهُ أرضُهُ ولا سماوَاتُهُ ولمْ تُحِطْ بهِ مخلوقاتُهُ، بلْ هوَ العالي على كلِّ شيءٍ، وهوَ بكلِّ شيءٍ مُحِيطٌ.
ولا تَنْفَدُ كلماتُهُ ولا تُبَدَّلُ، ولوْ أنَّ البحرَ يمُدُّهُ منْ بعدِهِ سبعةُ أبحرٍ مداداً، وأشجارُ الأرضِ أقلاماً، فكُتِبَ بذلكَ المدادُ وبتلكَ الأقلامِ، لنفِدَ المدادُ وفَنِيَت الأقلامُ، ولمْ تنْفَدْ كلماتُهُ إذْ هيَ غيرُ مخلوقةٍ، ويستحيلُ أنْ يَفْنَى غيرُ المخلوقِ بالمخلوقِ. ولوْ كانَ كلامُهُ مخلوقاً - كما قالَهُ مَنْ لمْ يَقْدِرْهُ حقَّ قدْرِهِ ولا أثنى عليهِ بما هوَ أهلُهُ- لكانَ أحقَّ بالفناءِ منْ هذا المدادِ وهذهِ الأقلامِ؛ لأنَّهُ إذا كانَ مخلوقاً فهوَ نوعٌ منْ أنواعِ مخلوقاتِهِ، ولا يحتملُ المخلوقُ إفناءَ هذا المدادِ وهذهِ الأقلامِ. وهوَ باقٍ غيرُ فانٍ.
وهوَ سُبحانَهُ يُحِبُّ رسلَهُ وعبادَهُ المؤمنينَ ويحبُّونَهُ، بلْ لا شيءَ أحبُّ إليهم منهُ، ولا أشْوَقُ إليهم منْ لقائِهِ، ولا أقرُّ لعُيُونِهِم منْ رؤيَتِهِ ولا أحْظَى عندَهُم منْ قُرْبِهِ.
وأنَّهُ سُبحانَهُ لهُ الحكمةُ البالغةُ في خلقِهِ وأمرِهِ، ولَهُ النعمةُ السابغةُ على خلقِهِ، وكلُّ نعمةٍ منهُ فضلٌ، وكلُّ نقمةٍ منهُ عَدْلٌ، وأنَّهُ أرحمُ بعبادِهِ من الوالدةِ بولدِها، وأنَّهُ أفرحُ بتوبَةِ عبدِهِ منْ واجدِ راحلَتِهِ التي عليها طعامُهُ وشرابُهُ في الأرضِ المُهْلِكَةِ بعدَ فقدِها واليأسِ منها، وأنَّهُ سُبحانَهُ لمْ يُكَلِّفْ عبادَهُ إلاَّ وُسْعَهم وهوَ دُونَ طاقتِهم، فقدْ يُطِيقُونَ الشيءَ ويَضيقُ عليهم، بخلافِ وُسْعِهم فإنَّهُ ما يَسَعُونَهُ ويَسْهُلُ عليهم ويَفْضُلُ قدْرُهم عنهُ كما هوَ الواقعُ، وأنَّهُ سُبحانَهُ لا يُعاقبُ أحداً بغيرِ فعلِهِ ولا يُعاقِبُهُ على فعلِ غيرِهِ، ولا يُعَاقِبُهُ بتركِ ما لا يقْدِرُ على فعلِهِ، ولا على ما لا قُدْرَةَ لهُ على تركِهِ، وأنَّهُ سُبحانَهُ حكيمٌ كريمٌ جَوادٌ ماجدٌ مُحسنٌ ودودٌ صبورٌ شكورٌ يُطاعُ فيَشْكُرُ، ويُعصَى فيَغْفِرُ، لا أحدَ أصبرَُ على أذًى سمِعَهُ منهُ. ولا أحبُّ إليهِ المدحُ منهُ، ولا أحبُّ إليهِ العذرُ منهُ، ولا أحدَ أحبُّ إليهِ الإحسانُ منهُ، فهوَ مُحسِنٌ يحبُّ المحسنينَ، شكورٌ يحبُّ الشاكرينَ، جميلٌ يحبُّ الجمالَ، طيِّبٌ يحبُّ كلَّ طيِّبٍ، نظيفٌ يحبُّ النظافةَ، عليمٌ يحبُّ العلماءَ منْ عبادِهِ، كريمٌ يحبُّ الكرماءَ، قَوِيٌّ والمؤمنُ القويُّ أحبُّ إليهِ من المؤمنِ الضعيفِ، بَرٌّ يحبُّ الأبرارَ، عَدْلٌ يحبُّ أهلَ العَدْلِ، حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يحبُّ أهلَ الحياءِ والسترِ، عَفُوٌّ غفورٌ يحبُّ مَنْ يعفو عنْ عبادِهِ ويغفرُ لهم، صادقٌ يحبُّ الصادقينَ، رفيقٌ يحبُّ الرفقَ، جَوَادٌ يحبُّ الجودَ وأهلَهُ، رحيمٌ يحبُّ الرُّحَمَاءَ، وِتْرٌ يحبُّ الوِترَ.
((ولمَّا جمعَ اللهُ سُبحانَهُ صفاتِ الكمالِ كُلَّها كانَ أحقَّ بالمدحِ منْ كلِّ أحدٍ، ولا يبلغُ أحدٌ أنْ يمدَحَهُ كما ينبغي لهُ، بلْ هوَ كما مدحَ نفسَهُ وأثنى على نفسِهِ))([2]).
و[هُوَ] يحبُّ أسماءَهُ وصفاتِهِ، ويحبُّ المتعبِّدِينَ لهُ بها، ويحبُّ مَنْ يسألُهُ بها ويدْعُوهُ بها، ويحبُّ مَنْ يَعْرِفُها ويعْقِلُها ويُثْني عليهِ بها ويحمدُهُ ويمدَحُهُ بها، كما في الصحيحِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((لا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ , مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَلا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)) ([3]). وفي حديثٍ آخرَ صحيحٍ: ((لا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللهِ، يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَداً وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ)) ([4]).
ولمحبَّتِهِ لأسمائِهِ وصفاتِهِ أمرَ عبادَهُ بمُوجَبِها ومُقْتَضَاهَا، فأمَرَهُم بالعَدْلِ والإحسانِ والبِرِّ والعفوِ والجُودِ والصبرِ والمغفرةِ والرحمةِ والصدقِ والعلمِ والشكرِ والحِلْمِ والأناةِ والتَّثَبُّتِ.
ولمَّا كانَ سُبحانَهُ يُحِبُّ أسماءَهُ وصفاتِهِ كانَ أحبَّ الخلقِ إليهِ مَن اتَّصَفَ بالصِّفَاتِ التي يحبُّها، وأبغضَهم إليهِ مَن اتَّصفَ بالصِّفَاتِ التي يكرَهُها، فإنَّما أبغضَ مَن اتَّصَفَ بالكِبْرِ والعظمةِ والجبروتِ؛ لأنَّ اتِّصَافَهُ بها ظلمٌ؛ إذْ لا تليقُ بهِ هذهِ الصِّفَاتُ ولا تحْسُنُ منهُ، لمُنَافَاتِها لصفاتِ العبيدِ، وخروجِ مَن اتَّصفَ بها مِنْ رِبْقَةِ العبوديَّةِ، ومُفَارَقَتِهِ لمنصِبِهِ ومرتبَتِهِ، وتعدِّيهِ طَوْرَهُ وحَدَّهُ، وهذا بخلافِ ما تقدَّمَ من الصِّفَاتِ كالعلمِ والعَدْلِ والرحمةِ والإحسانِ والصبرِ والشكرِ؛ فإنَّها لا تُنَافِي العبودِيَّةَ، بل اتِّصافُ العبدِ بها منْ كمالِ عبوديَّتِهِ؛ إذ المُتَّصِفُ بها من العبيدِ لمْ يَتَعَدَّ طورَهُ ولمْ يخْرُجْ بها منْ دائرةِ العبوديَّةِ.
والمقصودُ أنَّهُ سُبحانَهُ لكمالِ أسمائِهِ وصفاتِهِ موصوفٌ بكلِّ صفةِ كمالٍ، مُنَـزَّهٌ عنْ كلِّ نقصٍ، لهُ كلُّ ثناءٍ حَسَنٍ ولا يصْدُرُ عنهُ إلاَّ كلُّ فعلٍ جميلٍ، ولا يُسَمَّى إلاَّ بأحسنِ الأسماءِ, ولا يُثْنَى عليهِ إلاَّ بأكملِ الثناءِ، وهوَ المحمودُ المحبوبُ المعظَّمُ ذُو الجلالِ والإكرامِ على كلِّ ما قدَّرَهُ وخلَقَهُ، وعلى كلِّ ما أمرَ بهِ وشرَعَهُ.
ومَنْ كانَ لهُ نصيبٌ منْ معرفةِ أسمائِهِ الحسنى، واستقرَّ ([5]) آثارُها في الخلقِ والأمرِ، رأى الخلقَ والأمرَ مُنْتَظِمَيْنِ بها أكملَ انتظامٍ، ورأى سَرَيانَ آثارِها فيهما، وعَلِمَ - بحسَبِ معرفتِهِ بها - ما يليقُ بكمالِهِ وجلالِهِ أنْ يفعَلَهُ وما لا يليقُ، فاستدلَّ بأسمائِهِ على ما يفعَلُهُ وما لا يفعلُهُ؛ فإنَّهُ لا يفعلُ خلافَ مُوجَبِ حمدِهِ وحكمتِهِ، وكذلكَ يعلمُ ما يليقُ بهِ أنْ يأمرَ بهِ ويُشَرِّعَهُ ممَّا لا يليقُ بهِ، فيعلمُ أنَّهُ لا يأمرُ بخلافِ مُوجَبِ حمدِهِ وحكمتِهِ. فإذا رأى بعضَ الأحكامِ جَوراً وظلماً أوْ سفهاً وعبثاً ومفسدةً أوْ ما لا يُوجِبُ حمداً وثناءً فلْيَعْلَمْ أنَّهُ ليسَ منْ أحكامِهِ ولا دينِهِ، وأنَّهُ بريءٌ منهُ ورسولَهُ؛ فإنَّهُ إنَّما أمرَ بالعَدْلِ لا بالظلمِ، وبالمصلحةِ لا بالمفسدةِ، وبالحكمةِ لا بالعبثِ والسَّفَهِ، وإنَّما بعثَ رسولَهُ بالحنيفِيَّةِ السَّمْحةِ لا بالغِلْظَةِ والشدَّةِ، وبعَثَهُ بالرحمةِ لا بالقسوةِ؛ فإنَّهُ أرحمُ الراحمينَ، ورسولُهُ رحمةٌ مهداةٌ إلى العالمينَ، ودينُهُ كُلُّهُ رحمةٌ، وهوَ نبيُّ الرحمةِ، وأُمَّتُهُ الأُمَّةُ المرحومةُ، وذلكَ كلُّهُ مُوجَبُ أسمائِهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلْيَا وأفعالِهِ الحميدةِ، فلا يُخْبَرُ عنهُ إلاَّ بحمدِهِ، ولا يُثْنَى عليهِ إلاَّ بأحسنِ الثناءِ كما لا يُسَمَّى إلاَّ بأحسنِ الأسماءِ.
وقدْ نَبَّهَ سُبحانَهُ على شمولِ حمدِهِ لخلقِهِ وأمرِهِ بأنْ حَمِدَ نفسَهُ في أوَّلِ الخلقِ وآخرِهِ وعندَ الأمرِ والشرعِ، وحَمِدَ نفسَهُ على ربوبيَّتِهِ للعالمينَ، وحَمِدَ نفسَهُ على تفرُّدِهِ بالإلهيَّةِ، وعلى حياتِهِ، وحَمِدَ نفسَهُ على امتناعِ اتِّصافِهِ بما لا يليقُ بكمالِهِ من اتِّخاذِ الولدِ والشريكِ وموالاةِ أحدٍ منْ خلقِهِ لحاجَتِهِ إليهِ، وحَمِدَ نفسَهُ على عُلُوِّهِ وكبريائِهِ، وحَمِدَ نفسَهُ في الأُولى والآخرةِ، وأخبرَ عنْ سَرَيَانِ حمْدِهِ في العالمِ العلويِّ والسفليِّ.
ونبَّهَ على هذا كلِّهِ في كتابِهِ وحَمِدَ نفسَهُ عليهِ، فتنوَّعَ([6]) حمدُهُ وأسبابُ حمدِهِ، وجمَعَها تارةً وفرَّقَها أُخْرَى؛ ليتعَرَّفَ إلى عبادِهِ ويُعَرِّفَهُم كيفَ يحمدونهُ وكيفَ يُثْنُونَ عليهِ، وليتحبَّبَ إليهم بذلكَ ويُحِبَّهُم إذا عرَفُوهُ وأحبُّوهُ وحَمِدُوهُ.
قالَ تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 2-4] وقالَ تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} [الأنعام: 1] وقالَ تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} [الكهف: 1-2] وقالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)} [سبأ: 1] وقالَ تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} [فاطر: 1] وقالَ: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)} [القصص: 70] وقالَ: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)} [غافر: 65] وقالَ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)} [الروم: 17-18].
وأخبرَ عنْ حَمْدِ خلقِهِ لهُ بعدَ فصْلِهِ بينَهم، والحكمِ لأهلِ طاعتِهِ بثوابِهِ وكرامَتِهِ، والحكمِ لأهلِ معصيتِهِ بعقابِهِ وإهانتِهِ: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} [الزمر: 75].
وأخبرَ عنْ حمْدِ أهلِ الجنَّةِ لهُ وأنَّهُم لمْ يَدْخُلُوها إلاَّ بحمدِهِ، كما أنَّ أهلَ النارِ لمْ يدخلوها إلاَّ بحمدِهِ، فقالَ أهلُ الجنَّةِ: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43] وَ: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)} [يونس: 10]، وقالَ عنْ أهلِ النارِ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)}[القصص: 74-75] وقالَ: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك: 11]، وشهِدُوا على أنفسِهم بالكفرِ والظلمِ وعلِمُوا أنَّهُم كانوا كاذبينَ في الدنيا، مُكَذِّبِينَ بآياتِ ربِّهِم، مُشركينَ بهِ، جاحدينَ لإلهِيَّتِهِ، مُفْتَرِينَ عليهِ، وهذا اعترافٌ منهم بعَدْلِهِ فيهم، وأخذِهِم ببعضِ حقِّهِ عليهم، وأنَّهُ غيرُ ظالمٍ لهم وأنَّهُم إنَّما دخَلُوا النارَ بعَدْلِهِ وحمدِهِ، وإنَّما عُوقِبُوا بأفعالِهم وبما كانُوا قادرينَ على فعلِهِ وتركِهِ، لا كما تقولُ الجَبْرِيَّةُ.
وتفصيلُ هذهِ الحكمةِ ممَّا لا سبيلَ للعقولِ البشريَّةِ إلى الإحاطةِ بهِ ولا إلى التعبيرِ عنهُ، ولكنْ بالجملةِ فكلُّ صفةٍ عُلْيَا واسمٍ حَسَنٍ وثناءٍ جميلٍ، وكلُّ حمدٍ ومدحٍ وتسبيحٍ وتنـزيهٍ وتقديسٍ وجلالٍ وإكرامٍ فهوَ للهِ عزَّ وجلَّ على أكملِ الوجوهِ وأتمِّها وأدْوَمِها، وجميعُ ما يُوصفُ بهِ ويُذكَرُ بهِ ويُخْبَرُ عنهُ بهِ فهوَ محامدُ لهُ وثناءٌ وتسبيحٌ وتقديسٌ، فسُبحانَهُ وبحمدِهِ لا يُحْصِي أحدٌ منْ خلقِهِ ثناءً عليهِ، بلْ هوَ كما أثْنَى على نفسِهِ وفوقَ ما يُثْنِي بهِ عليهِ خلقُهُ، فلهُ الحمدُ أوَّلاً وآخِراً حمداً كثيراً طَيِّباً مُباركاً فيهِ، كما ينبغي لكرمِ وجهِهِ وعزِّ جلالِهِ ورفيعِ مجدِهِ وعلوِّ جَدِّهِ.
فهذا تنبيهٌ على أحدِ نوعَيْ حمدِهِ، وهوَ حمدُ الصِّفَاتِ والأسماءِ.
والنوعُ الثاني: حمدُ النِّعَمِ والآلاءِ، وهذا مشهودٌ للخليقةِ؛ بَرِّها وفاجرِها مُؤمنِها وكافرِها منْ جزيلِ مواهبِهِ، وسَعَةِ عطاياهُ، وكريمِ أيادِيهِ، وجميلِ صنائعِهِ، وحسنِ معاملتِهِ لعبادِهِ، وسَعَةِ رحمَتِهِ لهم، وبِرِّهِ ولُطْفِهِ وحنانِهِ، وإجابَتِهِ لدعواتِ المضْطَرِّينَ، وكشفِ كُرُباتِ المكْرُوبينَ، وإغاثةِ الملهوفينَ، ورحمَتِهِ للعالمينَ، وابتدائِهِ بالنِّعَمِ قبلَ السؤالِ ومِنْ غيرِ استحقاقٍ، بل ابتداءً منهُ بمُجرَّدِ فضلِهِ وكرمِهِ وإحسانِهِ، ودفعِ المِحَنِ والبلايا بعدَ انعقادِ أسبابِها وصرْفِها بعدَ وقوعِها، ولطفِهِ تعالى في ذلكَ بإيصالِهِ إلى مَنْ أرادَهُ بأحسنِ الألطافِ، وتبليغِهِ منْ ذلكَ إلى ما لا تَبْلُغُهُ الآمالُ، وهدايتِهِ خاصَّتَهُ وعبادَهُ إلى سُبُلِ دارِ السلامِ، ومدافعتِهِ عنهم أحسنَ الدفاعِ، وحمايتِهم عنْ مراتعِ الآثامِ، وَحَبَّبَ إليهم الإيمانَ وزيَّنَهُ في قلوبِهم، وكرَّهَ إليهم الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ وجعَلَهُم من الراشدينَ وكتبَ في قلوبِهم الإيمانَ، وأيَّدَهُم بروحٍ منهُ، وسمَّاهُم المسلمينَ قبلَ أنْ يخلُقَهم، وذكَرَهُم قبلَ أنْ يذْكُرُوهُ، وأعطَاهُم قبلَ أنْ يسْأَلُوهُ، وتحبَّبَ إليهم بنِعَمِهِ معَ غِنَاهُ عنهم وتبَغُّضِهِم إليهِ بالمعاصي وفقْرِهِم إليهِ، ومعَ هذا كُلِّهِ فاتَّخَذَ لهم دَاراً وأعدَّ لهم فيها منْ كلِّ ما تشتهيهِ الأنفسُ وتَلَذُّ الأعينُ، ومَلأَها منْ جميعِ الخيراتِ وأوْدَعَها من النعيمِ والحَبْرَةِ والسرورِ والبهجةِ ما لا عينٌ رأَتْ، ولا أُذُنٌ سمِعَتْ، ولا خطَرَ على قلبِ بشرٍ، ثُمَّ أرسلَ إليهم الرسلَ يدْعُونَهُم إليها، ثُمَّ يَسَّرَ لهم الأسبابَ التي تُوصِلُهم إليها، وأعانَهُم عليها، ورَضِيَ منهم باليسيرِ في هذهِ المُدَّةِ القصيرةِ جدًّا بالإضافةِ إلى بقاءِ دارِ النعيمِ، وضَمِنَ لهم إنْ أحسَنُوا أنْ يُثِيبَهُم بالحسنةِ عشراً وإنْ أسَاءُوا واستغفرُوهُ أنْ يغفرَ لهم، ووعدَهُم أنْ يمْحُوَ ما جَنَوْهُ من السيِّئاتِ بما يفعلُونَهُ بعدَها من الحسناتِ، وذكَّرَهُم بآلائِهِ وتعرَّفَ إليهم بأسمائِهِ، وأمرَهُم بما أمَرَهُم بهِ رحمةً منهُ بهم وإحساناً، لا حاجةً منهُ إليهم، ونهَاهُم عمَّا نهَاهُم عنهُ حمايَةً وصيانةً لهم، لا بُخْلاً منهُ عليهم، وخاطَبَهُم بألطفِ الخطابِ وأحْلاهُ، ونصَحَهُم بأحسنِ النصائحِ، ووصَّاهم بأكملِ الوصايا، وأمرَهُم بأشرفِ الخصالِ، ونَهَاهُم عنْ أقبحِ الأقوالِ والأعمالِ، وصرَّف لهم الآياتِ، وضربَ لهم الأمثالَ، ووسَّعَ لهم طُرُقَ العلمِ بهِ ومعرفتِهِ، وفتحَ لهمْ أبوابَ الهدايَةِ وعرَّفهم الأسبابَ التي تُدْنِيهم منْ رِضَاهُ وتُبْعِدُهُم عنْ غضبِهِ، ويُخَاطِبُهم بألطفِ الخطابِ ويُسَمِّيهم بأحسنِ أسمائِهِم كقولِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} [المائدة: 1]، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31]، {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53]، {قُلْ لِعِبَادِيَ} [إبراهيم: 31]، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} [البقرة: 186]، فيُخاطبُهم بخطابِ الوِدَادِ والمحبَّةِ والتلطُّفِ كقولِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} [البقرة: 21-22]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)} [فاطر: 3]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} [فاطر: 5]، {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)} [الانفطار: 6-7]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [آل عمرانَ: 102-103]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)} [آل عمرانَ: 118]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)} [الممتحنة: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)} [الأنفال: 24-26]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 73-74]، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} [الكهف: 50].
فتَحْتَ هذا الخطابِ: إنِّي عادَيْتُ إبليسَ وطردْتُهُ منْ سمائِي وباعدْتُهُ منْ قُرْبِي؛ إذْ لمْ يسجُدْ لأبيكم آدمَ، ثُمَّ أنتمْ يا بَنِيهِ تُوالُونَهُ وذُريَّتَهُ منْ دُوني وهمْ أعداءٌ لكم. فَلْيَتَأَمَّل اللبيبُ مواقعَ هذا الخطابِ وشدَّةَ لُصُوقِهِ بالقلوبِ والتباسِهِ بالأرواحِ.
وأكثرُ القرآنِ جاءَ على هذا النمطِ منْ خطابِهِ لعبادِهِ بالتودُّدِ والتَّحَنُّنِ واللُّطْفِ والنصيحةِ البالغةِ، وأعلَمَ سُبحانَهُ عبادَهُ أنَّهُ لا يرْضَى لهم إلاَّ أكرمَ الوسائلِ، وأفضلَ المنازلِ، وأجلَّ العلومِ والمعارفِ، قالَ تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]، وقالَ تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] وقالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 26-28].
ويتنَصَّلُ سُبحانَهُ إلى عبادِهِ منْ مواضعِ الظِّنَّةِ والتُّهَمةِ التي نسبَها إليهِ مَنْ لمْ يعرِفْهُ حقَّ معرفتِهِ، ولا قَدَرَهُ حقَّ قدْرِهِ، مِنْ تكليفِ عبادِهِ ما لا يَقْدِرُونَ عليهِ ولا طاقةَ لهم بفعلِهِ البتَّةَ، وتعذيبِهم أنْ شَكَرُوهُ وآمنوا بهِ، وخلقَ السَّماوَاتِ والأرضَ وما بينَهما لا لحكمةٍ ولا لغايَةٍ، وأنَّهُ لمْ يخْلُقْ خلقَهُ لحاجةٍ منهُ إليهم، ولا ليتكثَّرَ بهم منْ قِلَّةٍ، ولا ليتعَزَّزَ بهم، كما قالَ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)} [الذاريات: 56-57]، فأخبرَ أنَّهُ لمْ يخْلُق الجنَّ والإنسَ لحاجةٍ منهُ إليهم، ولا ليَرْبَحَ عليهم، لكنْ خلَقَهُم جُوداً وإحساناً ليَعْبُدُوهُ فيَرْبَحُوا همْ عليهِ كلَّ الأرباحِ، كقولِهِ: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ} [الإسراء: 7]، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)} [الروم: 44].
ولمَّا أمرَهُم بالوضوءِ وبالغسلِ من الجنابةِ الذي يَحُطُّ عنهم أوزارَهُم ويدخلونَ بهِ عليهِ ويرفعُ بهِ درجاتِهم قالَ تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)} [المائدة: 6]، وقالَ في الأضَاحِيِّ والهدايا: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحجِّ: 37]، وقالَ عَقيبَ أمْرِهم بالصدقةِ ونهيِهم عنْ إخراجِ الردِيءِ من المالِ: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} [البقرة: 267]، يقولُ سُبحانَهُ: إنِّي غنيٌّ عمَّا تُنْفِقُونَ أنْ ينالَنِي منهُ شيءٌ، حميدٌ مُسْتَحِقُّ المحامدِ كلِّها، فإنفاقُكم لا يسدُّ منهُ حاجةً، ولا يُوجِبُ لهُ حمداً، بلْ هوَ الغنيُّ بنفسِهِ الحميدُ بنفسِهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ، وإنفاقُكم إنَّما نفْعُهُ لكُم وعائدتُهُ عليكم.
ومِن المُتَعَيِّنِ على مَنْ لمْ يُباشرْ قلبَهُ حلاوةُ هذا الخطابِ وجلالتُهُ ولطفُ موقعِهِ، وجذبُهُ للقلوبِ والأرواحِ ومخالطتُهُ لها أنْ يُعالِجَ قلبَهُ بالتقوى، وأنْ يَسْتَفْرِغَ منهُ الموادَّ الفاسدةَ التي حالَتْ بينَهُ وبينَ حظِّهِ منْ ذلكَ، ويتعرَّضَ إلى الأسبابِ التي ينالُهُ بها، منْ صدقِ الرغبةِ واللُّجْأِ إلى اللهِ أنْ يُحيِيَ قلبَهُ ويُزكِّيَهُ ويجعلَ فيهِ الإيمانَ والحكمةَ، فالقلبُ الميِّتُ لا يذوقُ طعمَ الإيمانِ ولا يَجِدُ حلاوتَهُ، ولا يتمَتَّعُ بالحياةِ الطيِّبةِ لا في الدُّنيا ولا في الآخرةِ.
ومَنْ أرادَ مُطالعةَ أصولِ النِّعَمِ فليَسُمْ سرحَ الذكرِ في رياضِ القرآنِ، وليتأمَّلْ ما عدَّدَ اللهُ فيهِ منْ نعمِهِ وتعرَّفَ بها إلى عبادِهِ منْ أوَّلِ القرآنِ إلى آخرِهِ حينَ خلقَ أهلَ النارِ وابتلاهم بإبليسَ وحِزْبِهِ وتسليطِ أعدائِهم عليهم وامتحانِهم بالشهواتِ والإراداتِ والهوى لتَعْظُمَ النعمةُ عليهم بمُخالفتِها وبمُحاربَتِها أعداءَ اللهِ على أوليائِهِ وعبادِهِ أتمَّ نعمةٍ وأكملَها في كلِّ ما خلقَهُ منْ محبوبٍ ومكروهٍ، ونعمةٍ ومحنةٍ، وفي كلِّ ما أحدَثَهُ في الأرضِ منْ وقائعِهِ بأعدائِهِ، وإكرامِهِ لأوليائِهِ، وفي كلِّ ما قضَاهُ وقدَّرَهُ، وتفصيلُ ذلكَ لا تَفِي بهِ أقلامُ الدنيا وأوراقُها ولا قُوَى العبادِ، وإنَّما هوَ التنبيهُ والإشارةُ.
ومَن اسْتَقْرَأ الأسماءَ الحسنى وجدَها مدائحَ وثناءً تَقْصُرُ بلاغاتُ الواصفينَ عنْ بلوغِ كُنْهِهَا، وتَعْجِزُ الأوهامُ عن الإحاطةِ بالواحدِ منها، ومعَ ذلكَ فللهِ سُبحانَهُ محامدُ ومدائحُ وأنواعٌ من الثناءِ لمْ تتحرَّكْ بها الخواطرُ، ولا هَجَسَتْ في الضمائرِ، ولا لاحَتْ لمُتَوَسِّمٍ، ولا سَنَحَتْ في الفكرِ. ففي دعاءِ أعرفِ الخلقِ بربِّهِ تعالى وأعلَمِهم بأسمائِهِ وصفاتِهِ ومحامدِهِ: ((أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجِلاءَ حَزَنِي وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي)) ([7])، وفي (الصحيحِ) عنهُ صلى الله عليه وسلم في حديثِ الشفاعةِ لمَّا يسجدُ بينَ يديْ ربِّهِ قالَ: ((فَيَفْتَحُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ بِشَيْءٍ لا أُحْسِنُهُ الآنَ)) ([8])، وكانَ يقولُ في سجودِهِ: ((أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)) ([9])، فلا يُحْصِي أحدٌ منْ خلقِهِ ثناءً عليهِ البتَّةَ، ولهُ أسماءٌ وأوصافٌ وحمدٌ وثناءٌ لا يعلمُهُ ملَكٌ مُقرَّبٌ ولا نبيٌّ مُرسَلٌ، ونسبةُ ما يعلمُ العبادُ منْ ذلكَ إلى ما لا يعلمونهُ كنقرةِ عُصْفُورٍ في بحرٍ) ([10]).
(وهذا القرآنُ المجيدُ عُمْدَتُهُ ومقصودُهُ الإخبارُ عنْ صفاتِ الربِّ سُبحانَهُ وأسمائِهِ وأفعالِهِ وأنواعِ حمدِهِ والثناءِ عليهِ والإنباءِ عنْ عظمَتِهِ وعزَّتِهِ وحكمتِهِ وأنواعِ صنعِهِ والتقدُّمِ إلى عبادِهِ بأمرِهِ ونهيِهِ على ألسنةِ رسُلِهِ، وتصديقِهِم بما أقامَهُ من الشـواهدِ والدلالاتِ على صدْقِهم وبراهينِ ذلكَ ودلائلِهِ وتبْيِينِ مُرادِهِ منْ ذلكَ كلِّهِ… وأنَّ أسماءَهُ تعالى الحسنى وصفاتِهِ العُلْيا هيَ موضعُ الحمدِ) ([11]).
([وأنَّ] لهُ الملكَ التامَّ الذي لا يخرجُ عنهُ شيءٌ من الموجوداتِ؛ أعيانِها وأفعالِها، والحمدُ التامُّ الذي وَسِعَ كلَّ معلومٍ وشَمِلَ كلَّ مقدورٍ، و... لهُ تعالى في كلِّ ما خلقَهُ وشرعَهُ حكمةٌ بالغةٌ ونعمةٌ سابغةٌ لأجلِها خلَقَ وأمَرَ، ويَسْتَحِقُّ أنْ يُثْنَى عليهِ ويُحْمَدَ لأجلِها، كما يُثنَى عليهِ ويُحمدُ لأسمائِهِ الحسنى ولصفاتِهِ العُلْيَا، فهوَ المحمودُ على ذلكَ كلِّهِ أتمَّ حمدٍ وأكملَهُ؛ لِمَا اشتمَلَتْ عليهِ صفاتُهُ من الكمالِ، وأسماؤُهُ من الحُسْنِ، وأفعالُهُ من الحِكَمِ والغاياتِ المُقْتَضِيَةِ لحمدِهِ المطابقةِ لحكمِهِ والموافقةِ لمحابِّهِ؛ فإنَّهُ سُبحانَهُ كاملُ الذاتِ كاملُ الأسماءِ والصِّفَاتِ لا يصدُرُ عنهُ إلاَّ كلُّ فعلٍ كريمٍ مطابقٍ للحكمةِ مُوجِبٍ للحمدِ يترتَّبُ عليهِ منْ محابِّهِ ما فُعِلَ لأجلِهِ)([12])
).[المرتبع الأسنى: ؟؟]


([1]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 76.
([2]) الداءُ والدواءُ (129-130).
([3]) رَواهُ مُسلِمٌ في كتابِ التوبةِ / بابُ غَيْرَةِ اللهِ تعالَى وتحريمِ الفَواحِشِ (6926) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه بلفظٍ مُقارِبٍ، وروى البُخَارِيُّ بعضَهُ في كتابِ التفسيرِ / بابُ {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} (4634).
ورُوِيَ الحديثُ مِن طَرِيقِ وَرَّادٍ كَاتِبِ المُغِيرَةِ عنِ المُغيرةِ مَرفوعًا عندَ البُخَارِيِّ في كتابِ التوحيدِ / بابُ قَوْلِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: ((لاَ شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ)) (7416)، ومُسلمٍ في أَواخِرِ كِتابِ اللِّعَانِ (3743).
([4]) رواه البُخَارِيُّ في كتابِ التوحيدِ / بابُ قولِ اللهِ تعالَى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} (7378) ومُسْلِمٌ في كتاب صِفاتِ المُنافِقِينَ / بابُ " لا أَحَدَ أَصْبَرُ علَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ" (7011).
([5]) هكذا في الأصلِ: ولعلَّ الصوابَ: استقرأ، كما نبه لذلك د. عبد الله المنصور.
([6]) هكذا في الأصلِ، ولَعَلَّ الصَّوَابَ: فَنَوَّعَ.
([7]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 97.
([8]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (9340)، والبُخَارِيُّ في كتابِ التفسيرِ / بابُ {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} (4712)، ومسلمٌ في كتابِ الإيمانِ / بابُ حديثِ الشفاعةِ (479)، والتِّرْمِذِيُّ في كتابِ صفةِ القيامةِ / بابُ ما جاءَ في الشفاعةِ (2434) من طريقِ أبي حَيَّانَ التيميِّ، عن أبي زُرْعَةَ بنِ عمرِو بنِ جَرِيرٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه، ولَفظُهم: "وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي" . وَفي روايةِ البُخَارِيِّ والتِّرْمِذِيِّ: "ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ" بدلَ: "يُلْهِمُنِي".
([9]) سَبَقَ تَخْرِيجُه 117.
([10]) طَرِيقُ الهِجْرَتَيْنِ (129-140).
([11]) طَرِيقُ الهِجْرَتَيْنِ (148).
([12]) طَرِيقُ الهِجْرَتَيْنِ (156).
مُلحَقٌ: وقالَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- في طَرِيق الهِجرتَينِ (324-325): (مِنَ المَعْلُومِ أنَّهُ لا أَحَدَ أَعْظَمُ إحسانًا منه سبحانَهُ وتَعالَى، ولا شيءَ أَكْمَلُ منه ولا أَجْمَلُ، فكُلُّ كَمالٍ وجمالٍ في المخلوقِ مِن آثارِ صُنْعِهِ سُبحانَهُ وتَعالَى، وهو الذي لا يُحَدُّ كَمالُهُ، ولا يُوصَفُ جَلالُه وجَمالُه، ولا يُحصِي أحدٌ مِن خَلْقِه ثَناءً عليه بِجَمِيلِ صفاتِه وعَظِيمِ إحسانِه وبَديعِ أفعالِه، بل هو كما أَثْنَى على نفسِهِ، وإذا كانَ الكمالُ محبوبًا لذاتِهِ ونَفْسِه وَجَبَ أن يكونَ اللهُ سُبحانَهُ هو المحبوبَ لذاتِهِ وصِفاتِهِ، إذ لا شيءَ أَكْمَلُ منه).
وقال -رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- في طريقِ الهجرتينِ (119): (والمقصودُ أنَّ الربَّ تَعالَى أَسْمَاؤُهُ كُلُّها حُسْنَى ليس فيها اسمُ سُوءٍ، وأَوْصَافُهُ كلُّها كمالٌ ليسَ فيها صفةُ نقصٍ، وأفعالُه كُلُّها حكمةٌ ليس فيها فعلٌ خالٍ عن الحكمةِ والمَصلحةِ، وله المَثَلُ الأعلَى في السماواتِ والأرضِ وهو العزيزُ الحكيمُ، موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ، مذكورٌ بنُعوتِ الجلالِ، مُنَزَّهٌ عن الشبيهِ والمثالِ، ومُنزَّهٌ عمَّا يُضَادُّ صِفاتِ كمالِه؛ فمُنزَّهٌ عنِ المَوتِ المُضَادِّ للحياةِ، وعن السِّنَةِ والنومِ والسَّهْوِ والغَفْلَةِ المُضَادِّ للقَيُّومِيَّةِ، وموصوفٌ بالعلمِ مُنَزَّهٌ عن أضدادِه كُلِّها من النسيانِ والذُّهولِ وعُزُوبِ شيءٍ عن عِلمِه، موصوفٌ بالقدرةِ التامةِ مُنزَّهٌ عن ضِدِّهَا مِنَ العَجْزِ واللُّغُوبِ والإعياءِ، مَوْصُوفٌ بالعدلِ مُنَزَّهٌ عن الظلمِ، موصوفٌ بالحكمةِ مُنَزَّهٌ عن العَبَثِ والسَّفَهِ، موصوفٌ بالسَّمْعِ والبَصَرِ مُنَزَّهٌ عَنْ أَضْدَادِهِمَا من الصَّمَمِ والبَكَمِ، مَوصوفٌ بالعُلُوِّ والفَوقِيَّةِ مُنزَّهٌ عن ضِدِّ ذلك، مَوصوفٌ بالغِنَى التامِّ مُنَزَّهٌ عمَّا يُضادُّه بوجهٍ من الوجوهِ، ومُستحِقٌّ للحمدِ كُلِّه، فيستحيلُ أن يكونَ غيرَ مَحمودٍ كما يَسْتَحيلُ أن يكونَ غيرَ قادرٍ ولا خالقٍ ولا حيٍّ، وله الحمدُ كُلُّه واجبٌ له لذاتِه فلا يكونُ إلا محمودًا كما لا يكونُ إلا إلهًا وربًّا وقادرًا).


رد مع اقتباس