عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 15 جمادى الآخرة 1435هـ/15-04-2014م, 06:45 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وما كان لمؤمنٍ أن يقتل مؤمنًا إلا خطأً ومن قتل مؤمنًا خطأً فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ وديةٌ مسلّمةٌ إلى أهله إلا أن يصّدّقوا فإن كان من قومٍ عدوٍّ لكم وهو مؤمنٌ فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ وإن كان من قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ فديةٌ مسلّمةٌ إلى أهله وتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبةً من اللّه وكان اللّه عليمًا حكيمًا (92) ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه جهنّم خالدًا فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا (93)}
يقول تعالى: ليس لمؤمنٍ أن يقتل أخاه المؤمن بوجهٍ من الوجوه، كما ثبت في الصّحيحين، عن ابن مسعودٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لا يحلّ دم امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنّي رسول اللّه إلّا بإحدى ثلاثٍ: النّفس بالنّفس، والثّيّب الزّاني، والتّارك لدينه المفارق للجماعة".
ثمّ إذا وقع شيءٌ من هذه الثّلاث، فليس لأحدٍ من آحاد الرّعيّة أن يقتله، وإنّما ذلك إلى الإمام أو نائبه.
وقوله: {إلا خطأً} قالوا: هو استثناءٌ منقطعٌ، كقول الشّاعر
من البيض لم تظعن بعيدًا ولم تطأ = على الأرض إلّا ريط برد مرحّل.
ولهذا شواهد كثيرةٌ.
واختلف في سبب نزول هذه [الآية] فقال مجاهدٌ وغير واحدٍ: نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهلٍ لأمّه -وهي أسماء بنت مخرّبة - وذلك أنّه قتل رجلًا كان يعذّبه مع أخيه على الإسلام، وهو الحارث بن يزيد العامريّ، فأضمر له عيّاش السّوء، فأسلم ذلك الرّجل وهاجر، وعياشٌ لا يشعر، فلمّا كان يوم الفتح رآه، فظنّ أنّه على دينه، فحمل عليه فقتله. فأنزل اللّه هذه الآية.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: نزلت في أبي الدّرداء؛ لأنّه قتل رجلًا وقد قال كلمة الإسلام حين رفع السّيف، فأهوى به إليه، فقال كلمته، فلمّا ذكر ذلك للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: إنّما قالها متعوّذًا. فقال له: "هل شققت عن قلبه" [وهذه القصّة في الصّحيح لغير أبي الدّرداء].
وقوله: {ومن قتل مؤمنًا خطأً فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ وديةٌ مسلّمةٌ إلى أهله [إلا أن يصّدّقوا]} هذان واجبان في قتل الخطأ، أحدهما: الكفّارة لما ارتكبه من الذّنب العظيم، وإن كان خطأً، ومن شرطها أن تكون عتق رقبةٍ مؤمنةٍ فلا تجزئ الكافرة.
وحكى ابن جريرٍ، عن ابن عبّاسٍ والشّعبيّ وإبراهيم النّخعي والحسن البصريّ أنّهم قالوا: لا يجزئ الصّغير حتّى يكون قاصدًا للإيمان. وروي من طريق عبد الرّزّاق عن معمرٍ، عن قتادة قال: في حرف، أبي: {فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ} لا يجزئ فيها صبيٌّ.
واختار ابن جريرٍ إن كان مولودًا بين أبوين مسلمين أجزأ، وإلّا فلا. والّذي عليه الجمهور: أنّه متى كان مسلمًا صحّ عتقه عن الكفّارة، سواءٌ كان صغيرًا أو كبيرًا.
وقال الإمام أحمد: أنبأنا عبد الرّزّاق، أخبرنا معمرٌ، عن الزّهري، عن عبد اللّه بن عبد اللّه، عن رجلٍ من الأنصار؛ أنّه جاء بأمةٍ سوداء، فقال: يا رسول اللّه، إنّ عليّ رقبةً مؤمنةً، فإن كنت ترى هذه مؤمنةً أعتقتها. فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أتشهدين أن لا إله إلّا اللّه؟ " قالت: نعم. قال: "أتشهدين أني رسول الله؟ " قالت نعم. قال:"أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ " قالت: نعم، قال: "أعتقها".
وهذا إسنادٌ صحيحٌ، وجهالة الصّحابيّ لا تضرّ.
وفي موطّأ [الإمام] مالكٍ ومسندي الشّافعيّ وأحمد، وصحيح مسلمٍ، وسنن أبي داود والنّسائيّ، من طريق هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسارٍ، عن معاوية بن الحكم أنّه لمّا جاء بتلك الجارية السّوداء قال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أين اللّه؟ " قالت: في السّماء. قال: "من أنا" قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعتقها فإنّها مؤمنةٌ".
وقوله: {وديةٌ مسلّمةٌ إلى أهله} هو الواجب الثّاني فيما بين القاتل وأهل القتيل، عوضًا لهم عمّا فاتهم من قريبهم. وهذه الدّية إنّما تجب أخماسًا، كما رواه الإمام أحمد وأهل السّنن، من حديث الحجّاج بن أرطأة، عن زيد بن جبيرٍ، عن خشف بن مالكٍ، عن ابن مسعودٍ قال: قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في دية الخطأ عشرين بنت مخاضٍ، وعشرين بني مخاضٍ ذكورًا، وعشرين بنت لبونٍ، وعشرين جذعة وعشرين حقّة.
لفظ النّسائيّ، وقال التّرمذيّ: لا نعرفه مرفوعًا إلّا من هذا الوجه، وقد روي عن عبد اللّه موقوفًا.
وكذا روي عن [عليٍّ و] طائفةٍ.
وقيل: تجب أرباعًا. وهذه الدّية إنّما تجب على عاقلة القاتل، لا في ماله، قال الشّافعيّ، رحمه اللّه: لم أعلم مخالفًا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قضى بالدّية على العاقلة، وهو أكثر من حديث الخاصّة وهذا الّذي أشار إليه، رحمه اللّه، قد ثبت في غير ما حديثٍ، فمن ذلك ما ثبت في الصّحيحين عن أبي هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجرٍ فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى أنّ دية جنينها غرّة عبدٍ أو أمةٍ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها.
وهذا يقتضي أنّ حكم عمد الخطأ حكم الخطأ المحض في وجوب الدّية، لكنّ هذا تجب فيه الدّية أثلاثًا كالعمد، لشبهه به.
وفي صحيح البخاريّ، عن عبد اللّه بن عمر قال: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا. فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا. فجعل خالدٌ يقتلهم، فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فرفع يديه وقال: "اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالدٌ". وبعث عليًّا فودى قتلاهم وما أتلف من أموالهم، حتّى ميلغة الكلب.
وهذا [الحديث] يؤخذ منه أنّ خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال.
وقوله: {إلا أن يصّدّقوا} أي: فتجب فيه الدّية مسلّمةٌ إلى أهله إلّا أن يتصدقوا بها فلا تجب.
وقوله: {فإن كان من قومٍ عدوٍّ لكم وهو مؤمنٌ فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ} أي: إذا كان القتيل مؤمنًا، ولكن أولياؤه من الكفّار أهل حربٍ، فلا دية لهم، وعلى القاتل تحرير رقبةٍ مؤمنةٍ لا غير.
وقوله: {وإن كان من قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ [فديةٌ مسلّمةٌ إلى أهله وتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ]} الآية، أي: فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمّةٍ أو هدنةٍ، فلهم دية قتيلهم، فإن كان مؤمنًا فديةٌ كاملةٌ، وكذا إن كان كافرًا أيضًا عند طائفةٍ من العلماء. وقيل: يجب في الكافر نصف دية المسلم، وقيل: ثلثها، كما هو مفصّلٌ في [كتاب الأحكام] ويجب أيضًا على القاتل تحرير رقبةٍ مؤمنةٍ.
{فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} أي: لا إفطار بينهما، بل يسرد صومهما إلى آخرهما، فإن أفطر من غير عذرٍ، من مرضٍ أو حيضٍ أو نفاسٍ، استأنف. واختلفوا في السّفر: هل يقطع أم لا؟ على قولين.
وقوله: {توبةً من الله وكان اللّه عليمًا حكيمًا} أي: هذه توبة القاتل خطأً إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين.
واختلفوا فيمن لا يستطيع الصّيام: هل يجب عليه إطعام ستّين مسكينًا، كما في كفّارة الظّهار؟ على قولين؛ أحدهما: نعم. كما هو منصوصٌ عليه في كفّارة الظّهار، وإنّما لم يذكر هاهنا؛ لأنّ هذا مقام تهديدٍ وتخويفٍ وتحذيرٍ، فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام لما فيه من التّسهيل والتّرخيص. القول الثّاني: لا يعدل إلى الإطعام؛ لأنّه لو كان واجبًا لما أخّر بيانه عن وقت الحاجة.
{وكان اللّه عليمًا حكيمًا} قد تقدّم تفسيره غير مرّةٍ). [تفسير القرآن العظيم: 2/372-376]

تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ لمّا بيّن تعالى حكم القتل الخطأ، شرع في بيان حكم القتل العمد، فقال: {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا [فجزاؤه جهنّم خالدًا فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا]} وهذا تهديدٌ شديدٌ ووعيدٌ أكيدٌ لمن تعاطى هذا الذّنب العظيم، الّذي هو مقرونٌ بالشّرك باللّه في غير ما آيةٍ في كتاب اللّه، حيث يقول، سبحانه، في سورة الفرقان: {والّذين لا يدعون مع اللّه إلهًا آخر ولا يقتلون النّفس الّتي حرّم اللّه إلا بالحقّ [ولا يزنون]} الآية [الفرقان: 68] وقال تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم ألا تشركوا به شيئًا} [إلى أن قال:
{ولا تقتلوا النّفس الّتي حرّم اللّه إلا بالحقّ ذلكم وصّاكم به لعلّكم تعقلون} [الأنعام: 151].
والأحاديث في تحريم القتل كثيرةٌ جدًّا. من ذلك ما ثبت في الصّحيحين عن ابن مسعودٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أوّل ما يقضى بين النّاس يوم القيامة في الدّماء" وفي الحديث الآخر الّذي رواه أبو داود، من رواية عمرو بن الوليد بن عبدة المصريّ، عن عبادة بن الصّامت قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا يزال المؤمن معنقا صالحًا ما لم يصب دمًا حرامًا، فإذا أصاب دمًا حرامًا بلّح" وفي حديثٍ آخر: "لزوال الدّنيا أهون عند اللّه من قتل رجلٍ مسلمٍ" وفي الحديث الآخر: "لو أجمع أهل السموات والأرض على قتل رجلٍ مسلمٍ، لأكبّهم اللّه في النّار" وفي الحديث الآخر: "من أعان على قتل مسلمٍ ولو بشطر كلمةٍ، جاء يوم القيامة مكتوبٌ بين عينيه: آيسٌ من رحمة اللّه".
وقد كان ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما، يرى أنّه لا توبة للقاتل عمدًا لمؤمنٍ.
وقال البخاريّ: حدّثنا آدم، حدّثنا شعبة، حدّثنا مغيرة بن النّعمان قال: سمعت ابن جبيرٍ قال: اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت إلى ابن عبّاسٍ فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية: {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه جهنّم [خالدًا]} هي آخر ما نزل وما نسخها شيءٌ.
وكذا رواه هو أيضًا ومسلمٌ والنّسائيّ من طرقٍ، عن شعبة، به ورواه أبو داود، عن أحمد بن حنبلٍ، عن ابن مهديٍّ، عن سفيان الثّوريّ، عن مغيرة بن النّعمان، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه جهنّم خالدًا} فقال: لم ينسخها شيءٌ.
[وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن بشّارٍ حدّثنا ابن أبي عديٍّ حدّثنا شعبة عن أبي بشرٍ عن سعيد بن جبيرٍ قال: قال عبد الرحمن بن أبزة: سئل ابن عبّاسٍ عن قوله: {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه جهنّم خالدًا} فقال: لم ينسخها شيءٌ] وقال في هذه الآية: {والّذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر [ولا يقتلون النّفس الّتي حرّم اللّه إلا بالحقّ ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثامًا]} [الفرقان: 68] قال نزلت في أهل الشّرك.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا جريرٌ، عن منصورٍ، حدّثني سعيد بن جبيرٍ -أو حدّثني الحكم، عن سعيد بن جبيرٍ-قال: سألت ابن عبّاسٍ عن قوله [تعالى] {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه جهنّم} قال: إنّ الرّجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام، ثمّ قتل مؤمنًا متعمّدًا، فجزاؤه جهنّم ولا توبة له. فذكرت ذلك لمجاهدٍ فقال: إلّا من ندم.
حدّثنا ابن حميدٍ، وابن وكيع قالا حدّثنا جريرٌ، عن يحيى الجابر، عن سالم بن أبي الجعد قال: كنّا عند ابن عبّاسٍ بعد ما كف بصره، فأتاه رجلٌ فناداه: يا عبد اللّه بن عبّاسٍ، ما ترى في رجل قتل مؤمنًا متعمّدًا؟ فقال: {جزاؤه جهنّم خالدًا فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا} قال: أفرأيت إن تاب وعمل صالحًا ثمّ اهتدى؟ قال ابن عبّاسٍ: ثكلته أمّه، وأنّى له التّوبة والهدى؟ والّذي نفسي بيده! لقد سمعت نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "ثكلته أمّه، قاتل مؤمنٍ متعمّدًا، جاء يوم القيامة آخذه بيمينه أو بشماله، تشخب أوداجه دمًا في قبل عرش الرّحمن، يلزم قاتله بشماله بيده الأخرى، يقول: سل هذا فيم قتلني" ؟ وايم الّذي نفس عبد اللّه بيده! لقد أنزلت هذه الآية، فما نسختها من آيةٍ حتّى قبض نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم، وما نزل بعدها من برهانٍ.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، سمعت يحيى بن المجبّر يحدّث عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عبّاسٍ؛ أنّ رجلًا أتاه فقال: أرأيت رجلًا قتل رجلًا متعمّدًا؟ فقال: {جزاؤه جهنّم خالدًا فيها [وغضب اللّه عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا]} قال: لقد نزلت في آخر ما نزل، ما نسخها شيءٌ حتّى قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وما نزل وحيٌّ بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. قال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحًا ثمّ اهتدى؟ قال: وأنّى له بالتّوبة. وقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. يقول: "ثكلته أمّه، رجلٌ قتل رجلًا متعمّدًا، يجيء يوم القيامة آخذًا قاتله بيمينه أو بيساره -وآخذًا رأسه بيمينه أو بشماله-تشخب أوداجه دمًا من قبل العرش يقول: يا ربّ، سل عبدك فيم قتلني؟ ".
وقد رواه النّسائيّ عن قتيبة وابن ماجه عن محمّد بن الصّبّاح، عن سفيان بن عيينة، عن عمّارٍ الدّهني، ويحيى الجابر وثابتٍ الثّماليّ عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عبّاسٍ، فذكره وقد روي هذا عن ابن عبّاسٍ من طرقٍ كثيرةٍ.
وممّن ذهب إلى أنّه لا توبة له من السّلف: زيد بن ثابتٍ، وأبو هريرة، وعبد اللّه بن عمر، وأبو سلمة بن عبد الرّحمن، وعبيد بن عمر، والحسن، وقتادة، والضّحّاك بن مزاحمٍ، نقله ابن أبي حاتمٍ.
وفي الباب أحاديث كثيرةٌ: من ذلك ما رواه أبو بكر بن مردويه الحافظ في تفسيره: حدّثنا دعلج بن أحمد، حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن سعيدٍ البوشنجي وحدّثنا عبد اللّه بن جعفرٍ، حدّثنا إبراهيم بن فهدٍ قالا حدّثنا عبيد بن عبيدة، حدّثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي عمرو بن شرحبيل، عن عبد اللّه بن مسعودٍ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "يجيء المقتول متعلّقًا بقاتله يوم القيامة، آخذًا رأسه بيده الأخرى فيقول: يا ربّ، سل هذا فيم قتلني؟ " قال: "فيقول: قتلته لتكون العزّة لك. فيقول: فإنّها لي". قال: "ويجيء آخر متعلّقًا بقاتله فيقول: ربّ، سل هذا فيم قتلني؟ " قال: "فيقول قتلته لتكون العزة لفلانٍ". قال: "فإنّها ليست له بؤ بإثمه". قال: "فيهوي في النّار سبعين خريفًا".
وقد رواه عن النّسائيّ، عن إبراهيم بن المستمرّ العوفي، عن عمرو بن عاصمٍ، عن معتمر بن سليمان، به
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا صفوان بن عيسى، حدّثنا ثور بن يزيد، عن أبي عونٍ، عن أبي إدريس قال: سمعت معاوية، رضي اللّه عنه، يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: "كلّ ذنبٍ عسى اللّه أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمّدًا".
وكذا رواه النّسائيّ، عن محمّد بن المثنّى، عن صفوان بن عيسى، به.
وقال ابن مردويه: حدّثنا عبد اللّه بن جعفرٍ، حدّثنا سمّويه، حدّثنا عبد الأعلى بن مسهر، حدّثنا صدقة بن خالدٍ، حدّثنا خالد بن دهقان، حدّثنا ابن أبي زكريّا قال: سمعت أمّ الدّرداء تقول: سمعت أبا الدّرداء يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "كلّ ذنبٍ عسى اللّه أن يغفره إلّا من مات مشركًا، أو من قتل مؤمنًا متعمّدًا".
وهذا غريبٌ جدًّا من هذا الوجه. والمحفوظ حديث معاوية المتقدّم فاللّه أعلم.
ثمّ روى ابن مردويه من طريق بقيّة بن الوليد، عن نافع بن يزيد، حدّثني ابن جبيرٍ الأنصاريّ، عن داود بن الحصين، عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلم قال: "من قتل مؤمنًا متعمّدًا فقد كفر باللّه عزّ وجلّ".
وهذا حديثٌ منكرٌ أيضًا، وإسناده تكلم فيه جدًّا.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا النّضر، حدّثنا سليمان بن المغيرة، حدّثنا حميدٌ قال: أتاني أبو العالية أنا وصاحبٌ لي، فقال لنا: هلمّا فأنتما أشبّ شيئًا منّي، وأوعى للحديث منّي، فانطلق بنا إلى بشر بن عاصمٍ -فقال له أبو العالية: حدّث هؤلاء حديثك. فقال: حدّثنا عقبة بن مالكٍ اللّيثيّ قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سريّةً، فأغارت على قومٍ، فشدّ من القوم رجلٌ، فاتّبعه رجلٌ من السّريّة شاهرًا سيفه فقال الشّادّ من القوم: إنّي مسلمٌ. فلم ينظر فيما قال، فضربه فقتله، فنمى الحديث إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال فيه قولًا شديدًا، فبلغ القاتل. فبينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يخطب، إذ قال القاتل: واللّه ما قال الّذي قال إلّا تعوّذًا من القتل. قال: فأعرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عنه وعمّن قبله من النّاس، وأخذ في خطبته، ثمّ قال أيضًا: يا رسول اللّه، ما قال الّذي قال إلّا تعوّذًا من القتل، فأعرض عنه وعمّن قبله من النّاس، وأخذ في خطبته، ثمّ لم يصبر، فقال الثّالثة: واللّه يا رسول اللّه ما قال إلّا تعوذا من القتل.
فأقبل عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تعرف المساءة في وجهه، فقال: "إنّ اللّه أبى على من قتل مؤمنًا" ثلاثًا.
ورواه النّسائيّ من حديث سليمان بن المغيرة
والّذي عليه الجمهور من سلف الأمّة وخلفها: أنّ القاتل له توبةٌ فيما بينه وبين ربّه عزّ وجلّ، فإن تاب وأناب وخشع وخضع، وعمل عملًا صالحًا، بدّل اللّه سيّئاته حسناتٍ، وعوّض المقتول من ظلامته وأرضاه عن طلابته.
قال اللّه تعالى: {والّذين لا يدعون مع اللّه إلهًا آخر [ولا يقتلون النّفس الّتي حرّم اللّه إلا بالحقّ ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثامًا * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانًا]. إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحًا [فأولئك يبدّل اللّه سيّئاتهم حسناتٍ وكان اللّه غفورًا رحيمًا]} [الفرقان: 68، 69] وهذا خبرٌ لا يجوز نسخه. وحمله على المشركين، وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظّاهر، ويحتاج حمله إلى دليلٍ، واللّه أعلم.
وقال تعالى: {قل يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله [إنّ اللّه يغفر الذّنوب جميعًا إنّه هو الغفور الرّحيم]} [الزّمر:53] وهذا عامٌّ في جميع الذّنوب، من كفرٍ وشركٍ، وشكٍّ ونفاقٍ، وقتلٍ وفسقٍ، وغير ذلك: كلّ من تاب من أيّ ذلك تاب اللّه عليه.
وقال تعالى: {إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النّساء: 48]. فهذه الآية عامّةٌ في جميع الذّنوب ما عدا الشّرك، وهي مذكورةٌ في هذه السّورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها، لتقوية الرّجاء، واللّه أعلم.
وثبت في الصّحيحين خبر الإسرائيليّ الّذي قتل مائة نفسٍ، ثمّ سأل عالمًا: هل لي من توبةٍ؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التّوبة؟! ثمّ أرشده إلى بلدٍ يعبد اللّه فيه، فهاجر إليه، فمات في الطّريق، فقبضته ملائكة الرّحمة. كما ذكرناه غير مرّةٍ، إن كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمّة التّوبة مقبولةٌ بطريق الأولى والأحرى؛ لأنّ اللّه وضع عنّا الأغلال والآصار الّتي كانت عليهم، وبعث نبيّنا بالحنيفيّة السّمحة. فأمّا الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا [فجزاؤه جهنّم خالدًا فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا]} فقد قال أبو هريرة وجماعةٌ من السّلف: هذا جزاؤه إن جازاه، وقد رواه ابن مردويه مرفوعًا، من طريق محمّد بن جامعٍ العطّار، عن العلاء بن ميمونٍ العنبريّ، عن حجّاجٍ الأسود، عن محمّد بن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعًا، ولكن لا يصحّ ومعنى هذه الصّيغة: أنّ هذا جزاؤه إن جوزي عليه، وكذا كلّ وعيدٍ على ذنبٍ، لكن قد يكون كذلك معارض من أعمالٍ صالحةٍ تمنع وصول ذلك الجزاء إليه، على قولي أصحاب الموازنة أو الإحباط. وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد، واللّه أعلم بالصّواب. وبتقدير دخول القاتل إلى النّار، أمّا على قول ابن عبّاسٍ ومن وافقه أنّه لا توبة له، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحًا ينجو به، فليس يخلد فيها أبدًا، بل الخلود هو المكث الطّويل. وقد تواردت الأحاديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أنّه يخرج من النّار من كان في قلبه أدنى ذرّةٍ من إيمانٍ. وأمّا حديث معاوية: "كلّ ذنبٍ عسى اللّه أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا، أو الرّجل يقتل مؤمنًا متعمّدًا": "عسى" للتّرجّي، فإذا انتفى التّرجّي في هاتين الصّورتين لا ينتفى وقوع ذلك في أحدهما، وهو القتل؛ لما ذكرنا من الأدلّة. وأمّا من مات كافرًا؛ فالنّصّ أنّه لا يغفر له البتّة، وأمّا مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنّه حقٌّ من حقوق الآدميّين وهي لا تسقط بالتّوبة، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه، والمغضوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميّين، فإنّ الإجماع منعقدٌ على أنّها لا تسقط بالتّوبة، ولا بدّ من أدائها إليهم في صحّة التّوبة، فإنّ تعذّر ذلك فلا بدّ من الطّلابة يوم القيامة، لكن لا يلزم من وقوع الطّلابة وقوع المجازاة، وقد يكون للقاتل أعمالٌ صالحةٌ تصرف إلى المقتول أو بعضها، ثمّ يفضل له أجرٌ يدخل به الجنّة، أو يعوض الله المقتول من فضله بمايشاء، من قصور الجنّة ونعيمها، ورفع درجته فيها ونحو ذلك، واللّه أعلم.
ثمّ للقتل العمد أحكامٌ في الدّنيا وأحكامٌ في الآخرة أمّا [في] الدّنيا فتسلّط أولياء المقتول عليه، قال اللّه تعالى: {ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليّه سلطانًا [فلا يسرف في القتل إنّه كان منصورًا]} [الإسراء: 33] ثمّ هم مخيّرون بين أن يقتلوا، أو يعفوا، أو يأخذوا ديةً مغلّظةً أثلاثًا: ثلاثون حقّة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفه كما هو مقرّرٌ في كتب الأحكام.
واختلف الأئمّة: هل تجب عليه كفّارةٌ عتق رقبةٍ، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعامٌ؟ على أحد القولين، كما تقدّم في كفّارة الخطأ، على قولين: فالشّافعيّ وأصحابه وطائفةٌ من العلماء يقولون: نعم، يجب عليه؛ لأنّه إذا وجبت الكفّارة في الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى. وطردوا هذا في كفّارة اليمين الغموس، واعتضدوا بقضاء الصّلوات المتروكة عمدًا، كما أجمعوا على ذلك في الخطأ.
قال أصحاب الإمام أحمد وآخرون: قتل العمد أعظم من أن يكفّر، فلا كفّارة فيه، وكذا اليمين الغموس، ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هاتين الصّورتين وبين الصّلاة المتروكة عمدًا، فإنّهم يقولون: بوجوب قضائها وإن تركت عمدًا.
وقد احتجّ من ذهب إلى وجوب الكفّارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدّثنا عارم بن الفضل، حدّثنا عبد اللّه بن المبارك، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن الغريف بن عيّاشٍ، عن واثلة بن الأسقع قال: أتى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم نفرٌ من بني سليمٍ فقالوا: إنّ صاحبًا لنا قد أوجب. قال: "فليعتق رقبةً، يفدي اللّه بكلّ عضوٍ منها عضوا منه من النار".
وقال أحمد: حدّثنا إبراهيم بن إسحاق، حدّثنا ضمرة بن ربيعة، عن إبراهيم بن أبي عبلة عن الغريف الدّيلميّ قال: أتينا واثلة بن الأسقع اللّيثيّ فقلنا: حدّثنا حديثًا سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: أتينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في صاحبٍ لنا قد أوجب، فقال: "أعتقوا عنه، يعتق اللّه بكلّ عضوٍ منه عضوًا منه من النّار".
وكذا رواه أبو داود والنّسائيّ، من حديث إبراهيم بن أبي عبلة، به ولفظ أبي داود عن الغريف الدّيلميّ قال: أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا: حدّثنا حديثًا ليس فيه زيادةٌ ولا نقصانٌ. فغضب فقال: إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلّقٌ في بيته فيزيد وينقص، قلنا: إنّا أردنا حديثًا سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: أتينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في صاحبٍ لنا قد أوجب -يعني النّار-بالقتل، فقال: "أعتقوا عنه، يعتق اللّه بكلّ عضوٍ منه عضوًا من النّار"). [تفسير القرآن العظيم: 2/376-382]

رد مع اقتباس