عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 29 محرم 1440هـ/9-10-2018م, 08:42 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصّادقين والصّادقات والصّابرين والصّابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدّقين والمتصدّقات والصّائمين والصّائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذّاكرين اللّه كثيرًا والذّاكرات أعدّ اللّه لهم مغفرةً وأجرًا عظيمًا (35)}.
قال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا عبد الواحد بن زيادٍ، حدّثنا عثمان بن حكيمٍ، حدّثنا عبد الرّحمن بن شيبة، سمعت أمّ سلمة زوج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم تقول: قلت للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرّجال؟ قالت: فلم يرعني منه ذات يومٍ إلّا ونداؤه على المنبر، قالت، وأنا أسرّح شعري، فلففت شعري، ثمّ خرجت إلى حجرة من حجر بيتي، فجعلت سمعي عند الجريد، فإذا هو يقول عند المنبر: "يا أيّها النّاس، إنّ اللّه يقول: إنّ المسلمين والمسلّمات والمؤمنين والمؤمنات" إلى آخر الآية.
وهكذا رواه النّسائيّ وابن جريرٍ، من حديث عبد الواحد بن زيادٍ، به مثله.
طريقٌ أخرى عنها: قال النّسائيّ أيضًا: حدّثنا محمّد بن حاتمٍ، حدّثنا سويد، أخبرنا عبد اللّه بن شريك، عن محمّد بن عمرٍو، عن أبي سلمة، عن أمّ سلمة أنّها قالت للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: يا نبيّ اللّه، ما لي أسمع الرّجال يذكرون في القرآن، والنّساء لا يذكرن؟ فأنزل اللّه {إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات}.
وقد رواه ابن جريرٍ، عن أبي كريب، عن أبي معاوية، عن محمّد بن عمرٍو، عن أبي سلمة: أنّ يحيى بن عبد الرّحمن بن حاطبٍ، حدّثه عن أمّ سلمة، رضي اللّه عنها، قالت: قلت: يا رسول اللّه، أيذكر الرّجال في كلّ شيءٍ ولا نذكر؟ فأنزل اللّه: {إنّ المسلمين والمسلمات} الآية
طريقٌ أخرى: قال سفيان الثّوريّ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ قال: قالت أمّ سلمة: يا رسول اللّه، يذكر الرّجال ولا نذكر؟ فأنزل اللّه: {إنّ المسلمين والمسلمات} الآية.
حديثٌ آخر: قال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريب قال: حدّثنا سيّار بن مظاهرٍ العنزي حدّثنا أبو كدينة يحيى بن المهلّب، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ قال: قال النّساء للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ما له يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات؟ فأنزل اللّه: {إنّ المسلمين والمسلمات} الآية.
وحدّثنا بشرٌ حدّثنا يزيد، حدّثنا سعيدٌ ؛ عن قتادة قال: دخل نساءٌ على نساء النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقلن: قد ذكركنّ اللّه في القرآن، ولم نذكر بشيءٍ، أما فينا ما يذكر؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {إنّ المسلمين والمسلمات} الآية.
فقوله: {إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} دليلٌ على أنّ الإيمان غير الإسلام، وهو أخصّ منه، لقوله تعالى: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم} [الحجرات:14]. وفي الصّحيحين: "لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمنٌ". فيسلبه الإيمان، ولا يلزم من ذلك كفره بإجماع المسلمين، فدلّ على أنّه أخصّ منه كما قرّرناه في أوّل شرح البخاريّ.
[وقوله]: {والقانتين والقانتات} القنوت: هو الطّاعة في سكونٍ، {أم من هو قانتٌ آناء اللّيل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه} [الزّمر:9]، وقال تعالى: {وله من في السّموات والأرض كلٌّ له قانتون} [الرّوم:26]، {يا مريم اقنتي لربّك واسجدي واركعي مع الرّاكعين} [آل عمران:43]، {وقوموا للّه قانتين} [البقرة:238]. فالإسلام بعده مرتبةٌ يرتقي إليها، ثمّ القنوت ناشئٌ عنهما.
{والصّادقين والصّادقات}: هذا في الأقوال، فإنّ الصّدق خصلةٌ محمودةٌ؛ ولهذا كان بعض الصّحابة لم تجرّب عليه كذبة لا في الجاهليّة ولا في الإسلام، وهو علامةٌ على الإيمان، كما أنّ الكذب أمارةٌ على النّفاق، ومن صدق نجا، "عليكم بالصّدق؛ فإنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة. وإيّاكم والكذب؛ فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النّار. ولا يزال الرّجل يصدق ويتحرّى الصّدق حتّى يكتب عند اللّه صدّيقًا، ولا يزال الرّجل يكذب ويتحرّى الكذب حتّى يكتب عند اللّه كذّابًا". والأحاديث فيه كثيرةٌ جدًّا.
{والصّابرين والصّابرات}: هذه سجيّة الأثبات، وهي الصّبر على المصائب، والعلم بأنّ المقدور كائنٌ لا محالة، وتلقّي ذلك بالصّبر والثّبات، وإنّما الصّبر عند الصّدمة الأولى، أي: أصعبه في أوّل وهلةٍ، ثمّ ما بعده أسهل منه، وهو صدق السّجيّة وثباتها.
{والخاشعين والخاشعات} الخشوع: السّكون والطّمأنينة، والتّؤدة والوقار والتّواضع. والحامل عليه الخوف من اللّه ومراقبته، [كما في الحديث]: "اعبد اللّه كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك".
{والمتصدّقين والمتصدّقات}: الصّدقة: هي الإحسان إلى النّاس المحاويج الضّعفاء، الّذين لا كسب لهم ولا كاسب، يعطون من فضول الأموال طاعةً للّه، وإحسانًا إلى خلقه، وقد ثبت في الصّحيحين: "سبعةٌ يظلّهم اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه" فذكر منهم: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". وفي الحديث الآخر: "والصّدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النّار".
[وفي التّرمذيّ عن أنس بن مالكٍ، رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: "إن الصّدقة تطفئ غضب الرّبّ وتدفع ميتة السّوء".
وفي الصّحيحين عن عديّ بن حاتمٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: "ما منكم من أحدٍ إلّا سيكلّمه ربّه، ليس بينه وبينه ترجمانٌ، فينظر أيمن منه، فلا يرى إلّا ما قدّم، وينظر أشأم منه، فلا يرى إلّا ما قدّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلّا النّار تلقاء وجهه. فاتّقوا النّار ولو بشقّ تمرةٍ".
وفي حديث أبي ذرٍّ أنّه قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ماذا ينجي العبد من النّار؟ قال: "الإيمان باللّه". قلت: يا نبيّ اللّه، مع الإيمان عملٌ؟ قال: "ترضخ ممّا خوّلك اللّه"، أو "ترضخ ممّا رزقك اللّه"؛ ولهذا لمّا خطب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم العيد قال في خطبته: "يا معشر النّساء تصدّقن ولو من حليّكنّ، فإنّي رأيتكنّ أكثر أهل النّار". وكأنّه حثّهنّ ورغّبهنّ على ما يفدين به أنفسهنّ من النّار، وقال عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه: ذكر لي أنّ الأعمال تتباهى، فتقول الصّدقة: أنا أفضلكم.
وفي الصّحيحين عن أبي هريرة قال: ضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، مثل البخيل والمتصدّق، كمثل رجلين عليهما جبّتان من حديدٍ، أو جنّتان من حديدٍ. قد اضطرّت أيديهما إلى ثديّهما وتراقيهما، فجعل المتصدّق، كلّما تصدّق بصدقةٍ انبسطت عنه، حتّى تغشى أنامله، وتعفو أثره، وجعل البخيل كلّما همّ بصدقةٍ قلصت، وأخذت كلّ حلقةٍ مكانها. قال أبو هريرة: فأنا رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول بإصبعه هكذا في جيبه. فلو رأيته يوسّعها ولا يتّسع. وقد قال تعالى: {ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون} [التّغابن:16] فجود الرّجل يحبّبه إلى أضداده، وبخله يبغّضه إلى أولاده. كما قيل:
ويظهر عيب المرء في النّاس بخله = وتستره عنهم جميعًا سخاؤه...
تغطّ بأثواب السّخاء فإنّني = أرى كلّ عيبٍ والسّخاء غطاؤه]...
والأحاديث في الحثّ عليها كثيرةٌ جدًّا، له موضعٌ بذاته.
{والصّائمين والصّائمات}: في الحديث الّذي رواه ابن ماجه: "والصّوم زكاة البدن" أي: تزكّيه وتطهّره وتنقّيه من الأخلاط الرّديئة طبعًا وشرعًا.
قال سعيد بن جبيرٍ: من صام رمضان وثلاثة أيّامٍ من كلّ شهرٍ، دخل في قوله: {والصّائمين والصّائمات}.
ولمّا كان الصّوم من أكبر العون على كسر الشّهوة -كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "يا معشر الشّباب، من استطاع منكم الباء فليتزوّج، فإنّه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم فإنّه له وجاء" -ناسب أن يذكر بعده: {والحافظين فروجهم والحافظات} أي: عن المحارم والمآثم إلّا عن المباح، كما قال تعالى: {والّذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنّهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} [المؤمنون: 5-7].
وقوله: {والذّاكرين اللّه كثيرًا والذّاكرات} قال ابن أبي حاتمٍ:
حدّثنا أبي، حدّثنا هشام بن عبيد اللّه، حدّثنا محمّد بن جابرٍ، عن عليّ بن الأقمر، عن الأغرّ أبي مسلمٍ، عن أبي سعيدٍ الخدريّ، رضي اللّه عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أيقظ الرّجل امرأته من اللّيل، فصلّيا ركعتين، كتبا تلك اللّيلة من الذّاكرين اللّه كثيرًا والذّاكرات".
وقد رواه أبو داود، والنّسائيّ، وابن ماجه، من حديث الأعمش، [عن عليّ بن الأقمر]، عن الأغرّ أبي مسلمٍ، عن أبي سعيدٍ وأبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، بمثله.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا حسنٌ، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ الخدري، رضي اللّه عنه، أنّه قال: قلت: يا رسول اللّه، أيّ العباد أفضل درجةً عند اللّه يوم القيامة؟ قال: "الذّاكرون اللّه كثيرًا والذّاكرات".
قال: قلت: يا رسول اللّه، ومن الغازي في سبيل اللّه؟ قال: "لو ضرب بسيفه في الكفّار والمشركين حتّى ينكسر ويختضب دمًا لكان الذّاكرون اللّه أفضل منه".
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا عبد الرّحمن بن إبراهيم، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يسير في طريق مكّة، فأتى على جمدان فقال: "هذا جمدان، سيروا فقد سبق المفرّدون". قالوا: وما المفرّدون ؟ قال: "الذّاكرون اللّه كثيرًا ". ثمّ قال: "اللّهمّ اغفر للمحلّقين". قالوا: والمقصّرين؟ قال: "اللّهمّ، اغفر للمحلّقين". قالوا: والمقصّرين؟ قال: "والمقصّرين".
تفرّد به من هذا الوجه، ورواه مسلمٌ دون آخره.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا حجين بن المثنّى، حدّثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن زياد بن أبي زيادٍ -مولى عبد اللّه بن عيّاش بن أبي ربيعة -أنّه بلغه عن معاذ بن جبلٍ، رضي اللّه عنه، أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما عمل آدميٌّ عملًا قطّ أنجى له من عذاب اللّه من ذكر اللّه". وقال معاذٌ: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من تعاطي الذّهب والفضّة، ومن أن تلقوا عدوّكم غدًا فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم"؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: "ذكر اللّه عزّ وجلّ".
وقال الإمام أحمد: حدّثنا حسنٌ، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا زبّان بن فائدٍ، عن سهل بن معاذ بن أنسٍ الجهنيّ، عن أبيه، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أنّ رجلًا سأله فقال: أيّ المجاهدين أعظم أجرًا يا رسول اللّه؟ فقال: "أكثرهم للّه ذكرًا". قال: فأيّ الصّائمين أكثر أجرًا؟ قال: "أكثرهم للّه ذكرًا". ثمّ ذكر الصّلاة والزّكاة والحجّ والصّدقة، كلّ ذلك يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أكثرهم للّه ذكرًا". فقال أبو بكرٍ لعمر، رضي اللّه عنهما: ذهب الذّاكرون بكلّ خيرٍ. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أجل".
وسنذكر بقيّة الأحاديث الواردة في كثرة الذّكر عند قوله تعالى في هذه السّورة: {يا أيّها الّذين آمنوا اذكروا اللّه ذكرًا كثيرًا وسبّحوه بكرةً وأصيلا} الآية [الأحزاب:41، 42]، إن شاء اللّه تعالى.
وقوله: {أعدّ اللّه لهم مغفرةً وأجرًا عظيمًا} أي: هيّأ لهم منه لذنوبهم مغفرة وأجرا عظيما وهو الجنة). [تفسير ابن كثير: 6/ 416-421]

تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضلّ ضلالا مبينًا (36)}.
قال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: قوله: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ} الآية، وذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة، فدخل على زينب بنت جحشٍ الأسديّة فخطبها، فقالت: لست بناكحته، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "بل فانكحيه". قالت: يا رسول اللّه، أؤامر في نفسي. فبينما هما يتحدّثان أنزل اللّه هذه الآية على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسوله أمرًا} الآية، قالت: قد رضيته لي منكحًا يا رسول اللّه؟ قال: "نعم". قالت: إذًا لا أعصي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، قد أنكحته نفسي.
وقال ابن لهيعة، عن ابن أبي عمرة، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم زينب بنت جحشٍ لزيد بن حارثة، فاستنكفت منه، وقالت: أنا خيرٌ منه حسبًا -وكانت امرأةً فيها حدّةٌ -فأنزل اللّه، عزّ وجلّ: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ} الآية كلّها.
وهكذا قال مجاهدٌ، وقتادة، ومقاتل بن حيّان: أنّها نزلت في زينب بنت جحشٍ [الأسديّة] حين خطبها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على مولاه زيد بن حارثة، فامتنعت ثمّ أجابت.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، نزلت في أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت أوّل من هاجر من النّساء -يعني: بعد صلح الحديبية -فوهبت نفسها للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: قد قبلت. فزوّجها زيد بن حارثة -يعني واللّه أعلم بعد فراقه زينب -فسخطت هي وأخوها وقالا إنّما أردنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فزوّجنا عبده. قال: فنزل القرآن: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسوله أمرًا} إلى آخر الآية. قال: وجاء أمرٌ أجمع من هذا: {النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم} قال: فذاك خاصٌّ وهذا جماعٌ.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق، أخبرنا معمر، عن ثابتٍ البناني، عن أنسٍ قال: خطب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم على جليبيب امرأةً من الأنصار إلى أبيها، فقال: حتّى أستأمر أمّها. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: فنعم إذًا. قال: فانطلق الرّجل إلى امرأته، [فذكر ذلك لها]، فقالت: لاها اللّه ذا، ما وجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلّا جليبيبا، وقد منعناها من فلانٍ وفلانٍ؟ قال: والجارية في سترها تسمع. قال: فانطلق الرّجل يريد أن يخبر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك. فقالت الجارية: أتريدون أن تردّوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمره؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه. قال: فكأنّها جلّت عن أبويها، وقالا صدقت. فذهب أبوها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: إن كنت رضيته فقد رضيناه. قال: "فإنّي قد رضيته". قال: فزوّجها، ثمّ فزع أهل المدينة، فركب جليبيب فوجدوه قد قتل، وحوله ناسٌ من المشركين قد قتلهم، قال أنسٌ: فلقد رأيتها [وإنّها] لمن أنفق بيتٍ بالمدينة.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا حمّاد -يعني: ابن سلمة -عن ثابتٍ، عن كنانة بن نعيمٍ العدويّ، عن أبي برزة الأسلميّ أنّ جليبيبًا كان امرأً يدخل على النّساء يمرّ بهنّ ويلاعبهنّ، فقلت لامرأتي: لا يدخلن اليوم عليكم جليبيب، فإنّه إن دخل عليكم لأفعلنّ ولأفعلنّ. قال: وكانت الأنصار إذا كان لأحدهم أيّمٌ لم يزوّجها حتّى يعلم: هل لنبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيها حاجةٌ أم لا؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لرجلٍ من الأنصار: "زوّجني ابنتك". قال: نعم، وكرامةٌ يا رسول اللّه، ونعمة عينٍ. فقال: إنّي لست أريدها لنفسي. قال: فلمن يا رسول اللّه؟ قال: لجليبيب.
فقال: يا رسول اللّه، أشاور أمّها. فأتى أمّها فقال: رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يخطب ابنتك؟ فقالت: نعم ونعمة عينٍ. فقال: إنّه ليس يخطبها لنفسه، إنّما يخطبها لجليبيبٍ. فقالت: أجليبيب إنيه ؟ أجليبيبٌ إنيه ؟ لا لعمر اللّه لا تزوّجه. فلمّا أراد أن يقوم ليأتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيخبره بما قالت أمّها، قالت الجارية: من خطبني إليكم؟ فأخبرتها أمّها. قالت: أتردّون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟! ادفعوني إليه، فإنّه لن يضيّعني. فانطلق أبوها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: شأنك بها. فزوّجها جليبيبًا. قال: فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزاةٍ له، فلمّا أفاء اللّه عليه قال لأصحابه: "هل تفقدون من أحدٍ"؟ قالوا: نفقد فلانًا ونفقد فلانًا. قال: "انظروا هل تفقدون من أحدٍ؟ " قالوا: لا. قال: "لكنّي أفقد جليبيبًا". قال: "فاطلبوه في القتلى". فطلبوه فوجدوه إلى جنب سبعةٍ قد قتلهم ثمّ قتلوه. [قالوا: يا رسول اللّه، ها هو ذا إلى جنب سبعةٍ قد قتلهم ثمّ قتلوه]. فأتاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقام عليه، فقال: قتل سبعةً [وقتلوه]، هذا منّي وأنا منه. مرّتين أو ثلاثًا، ثمّ وضعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على ساعديه [وحفر له، ما له سريرٌ إلّا ساعد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم]. ثمّ وضعه في قبره، ولم يذكر أنّه غسله، رضي اللّه عنه. قال ثابتٌ: فما كان في الأنصار أيّمٌ أنفق منها. وحدّث إسحاق بن عبد اللّه بن أبي طلحة ثابتًا: هل تعلم ما دعا لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ فقال: "اللّهمّ، صبّ عليها [الخير] صبًّا، ولا تجعل عيشها كدًّا" كذا قال، فما كان في الأنصار أيّمٌ أنفق منها.
هكذا أورده الإمام أحمد بطوله، وأخرج منه مسلمٌ والنّسائيّ في الفضائل قصّة قتله. وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ في "الاستيعاب" أنّ الجارية لمّا قالت في خدرها: أتردّون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمره؟ تلت هذه الآية: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}.
وقال ابن جريج [أخبرني عامر بن مصعبٍ، عن طاوسٍ قال: إنّه سأل ابن عبّاسٍ عن ركعتين بعد العصر، فنهاه، وقرأ ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنه: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}].
فهذه الآية عامّةٌ في جميع الأمور، وذلك أنّه إذا حكم اللّه ورسوله بشيءٍ، فليس لأحدٍ مخالفته ولا اختيار لأحدٍ هاهنا، ولا رأي ولا قول، كما قال تعالى: {فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجًا ممّا قضيت ويسلّموا تسليمًا} [النّساء:65] وفي الحديث: "والّذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعًا لما جئت به". ولهذا شدّد في خلاف ذلك، فقال: {ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضلّ ضلالا مبينًا}، كقوله تعالى: {فليحذر الّذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنةٌ أو يصيبهم عذابٌ أليمٌ} [النور:63] ). [تفسير ابن كثير: 6/ 421-423]

رد مع اقتباس