عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 30 جمادى الأولى 1435هـ/31-03-2014م, 03:29 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يا أيّها الّذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم وممّا أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أنّ اللّه غنيٌّ حميدٌ (267) الشّيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء واللّه يعدكم مغفرةً منه وفضلا واللّه واسعٌ عليمٌ (268) يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا وما يذّكّر إلا أولو الألباب (269)}
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق -والمراد به الصّدقة هاهنا؛ قاله ابن عبّاسٍ -من طيّبات ما رزقهم من الأموال الّتي اكتسبوها. قال مجاهدٌ: «يعني التّجارة بتيسيره إيّاها لهم».
وقال عليٌّ والسّدّيّ: «{من طيّبات ما كسبتم} يعني: الذّهب والفضّة، ومن الثّمار والزّروع الّتي أنبتها لهم من الأرض».
قال ابن عبّاسٍ: «أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التّصدّق برذالة المال ودنيه -وهو خبيثه -فإنّ اللّه طيب لا يقبل إلّا طيّبًا، ولهذا قال: {ولا تيمّموا} أي: تقصدوا {الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه} أي: لو أعطيتموه ما أخذتموه، إلّا أن تتغاضوا فيه، فاللّه أغنى عنه منكم، فلا تجعلوا للّه ما تكرهون».
وقيل: معناه: {ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون} أي: لا تعدلوا عن المال الحلال، وتقصدوا إلى الحرام، فتجعلوا نفقتكم منه.
ويذكر هاهنا الحديث الّذي رواه الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن عبيدٍ، حدّثنا أبان بن إسحاق، عن الصّبّاح بن محمّدٍ، عن مرّة الهمداني، عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «إن اللّه قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإنّ اللّه يعطي الدّنيا من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الدّين إلّا لمن أحبّ، فمن أعطاه اللّه الدّين فقد أحبّه، والّذي نفسي بيده، لا يسلم عبدٌّ حتّى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتّى يأمن جاره بوائقه». قالوا: وما بوائقه يا نبيّ اللّه؟. قال: «غشمه وظلمه، ولا يكسب عبدٌ مالًا من حرامٍ فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلّا كان زاده إلى النّار، إنّ اللّه لا يمحو السّيّئ بالسّيّئ، ولكن يمحو السّيّئ بالحسن، إنّ الخبيث لا يمحو الخبيث».
والصّحيح القول الأوّل؛ قال ابن جريرٍ: حدّثني الحسين بن عمرٍو العنقزيّ، حدّثني أبي، عن أسباطٍ، عن السّدّيّ، عن عديّ بن ثابتٍ، عن البراء بن عازبٍ في قول اللّه: {يا أيّها الّذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم وممّا أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون} الآية. قال: «نزلت في الأنصار، كانت الأنصار إذا كان أيّام جذاذ النّخل، أخرجت من حيطانها أقناء البسر، فعلّقوه على حبلٍ بين الأسطوانتين في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعمد الرّجل منهم إلى الحشف، فيدخله مع أقناء البسر، يظنّ أنّ ذلك جائزٌ، فأنزل اللّه فيمن فعل ذلك: {ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون} ».ثمّ رواه ابن جريرٍ، وابن ماجه، وابن مردويه، والحاكم في مستدركه، من طريق السدي، عن عديّ بن ثابتٍ، عن البراء، بنحوه. وقال الحاكم: «صحيحٌ على شرط مسلمٍ ولم يخرّجاه».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا عبيد اللّه، عن إسرائيل، عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، عن البراء: {ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} قال: «نزلت فينا، كنّا أصحاب نخلٍ، وكان الرّجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلّته، فيأتي الرّجل بالقنو فيعلّقه في المسجد، وكان أهل الصّفّة ليس لهم طعامٌ، فكان أحدهم إذا جاع جاء فضربه بعصاه، فيسقط منه البسر والتّمر، فيأكل، وكان أناسٌ ممّن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو فيه الحشف والشّيص، ويأتي بالقنو قد انكسر فيعلّقه، فنزلت: {ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} قال: لو أنّ أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذه إلّا على إغماضٍ وحياء، فكنّا بعد ذلك يجيء الرّجل منّا بصالح ما عنده».
وكذا رواه التّرمذيّ، عن عبد اللّه بن عبد الرّحمن الدّارميّ، عن عبيد اللّه -هو ابن موسى العبسيّ -عن إسرائيل، عن السّدّيّ -وهو إسماعيل بن عبد الرّحمن -عن أبي مالكٍ الغفاريّ -واسمه غزوان -عن البراء، فذكر نحوه.
ثمّ قال: وهذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو الوليد، حدّثنا سليمان بن كثيرٍ، عن الزّهريّ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيفٍ، عن أبيه: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عن لونين من التّمر: الجعرور ولون الحبيق. وكان النّاس يتيمّمون شرار ثمارهم ثمّ يخرجونها في الصّدقة، فنزلت: {ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون}».
ورواه أبو داود من حديث سفيان بن حسينٍ، عن الزّهريّ به. ثمّ قال: أسنده أبو الوليد، عن سليمان بن كثيرٍ، عن الزّهريّ، ولفظه: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الجعرور ولون الحبيق أن يؤخذا في الصّدقة».
وقد روى النّسائيّ هذا الحديث من طريق عبد الجليل بن حميد اليحصبي، عن الزّهريّ، عن أبي أمامة. ولم يقل: عن أبيه، فذكر نحوه. وكذا رواه ابن وهبٍ، عن عبد الجليل.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا يحيى بن المغيرة، حدّثنا جريرٌ، عن عطاء بن السّائب، عن عبد اللّه بن معقل في هذه الآية: {ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون} قال: «كسب المسلم لا يكون خبيثًا، ولكن لا يصّدّق بالحشف، والدّرهم الزّيف، وما لا خير فيه».
وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو سعيدٍ، حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن حمّادٍ -هو ابن أبي سليمان -عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: «أتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بضبٍّ فلم يأكله ولم ينه عنه. قلت: يا رسول اللّه، نطعمه المساكين؟ قال: «لا تطعموهم ممّا لا تأكلون».
ثمّ رواه عن عفّان عن حمّاد بن سلمة، به. فقلت: يا رسول اللّه، ألّا أطعمه المساكين؟ قال: «لا تطعموهم ما لا تأكلون».
وقال الثّوريّ: عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، عن البراء {ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} يقول: «لو كان لرجلٍ على رجلٍ، فأعطاه ذلك لم يأخذه؛ إلّا أن يرى أنّه قد نقصه من حقّه» رواه ابن جريرٍ.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه} يقول: «لو كان لكم على أحدٍ حقٌّ، فجاءكم بحقٍّ دون حقّكم لم تأخذوه بحساب الجيّد حتّى تنقصوه، قال: فذلك قوله: {إلا أن تغمضوا فيه} فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم، وحقّي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه!!» رواه ابن أبي حاتمٍ، وابن جريرٍ، وزاد: وهو قوله: {لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون} [آل عمران:92]. ثمّ روى من طريق العوفيّ وغيره، عن ابن عبّاسٍ نحو ذلك، وكذا ذكر غير واحدٍ.
قوله: {واعلموا أنّ اللّه غنيٌّ حميدٌ} أي: وإن أمركم بالصّدقات وبالطّيّب منها فهو غنيٌّ عنها، وما ذاك إلّا ليساوي الغنيّ الفقير، كقوله: {لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التّقوى منكم} [الحجّ: 37] وهو غنيٌّ عن جميع خلقه، وجميع خلقه فقراء إليه، وهو واسع الفضل لا ينفد ما لديه، فمن تصدّق بصدقةٍ من كسبٍ طيّبٍ، فليعلم أنّ اللّه غنيٌّ واسع العطاء، كريمٌ جوادٌ، سيجزيه بها ويضاعفها له أضعافًا كثيرةً من يقرض غير عديمٍ ولا ظلومٍ، وهو الحميد، أي: المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، لا إله إلّا هو، ولا ربّ سواه). [تفسير ابن كثير: 1/ 696-699]

تفسير قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {الشّيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء واللّه يعدكم مغفرةً منه وفضلا واللّه واسعٌ عليمٌ} قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا هنّاد بن السّري، حدّثنا أبو الأحوص، عن عطاء بن السّائب، عن مرّة الهمداني، عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «إن للشّيطان للمّة بابن آدم، وللملك لمة، فأمّا لمّة الشّيطان فإيعادٌ بالشّرّ وتكذيبٌ بالحقّ، وأمّا لمّة الملك فإيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالحقّ. فمن وجد ذلك فليعلم أنّه من اللّه، فليحمد اللّه، ومن وجد الأخرى فليتعوّذ من الشّيطان». ثمّ قرأ: {الشّيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء واللّه يعدكم مغفرةً منه وفضلا} الآية. وهكذا رواه التّرمذيّ والنّسائيّ في كتابي التّفسير من سننيهما جميعًا، عن هنّاد بن السّري. وأخرجه ابن حبّان في صحيحه، عن أبي يعلى الموصليّ، عن هنّاد، به. وقال التّرمذيّ: حسنٌ غريبٌ، وهو حديث أبي الأحوص -يعني سلّام بن سليمٍ -لا نعرفه مرفوعًا إلّا من حديثه. كذا قال. وقد رواه أبو بكر بن مردويه في تفسيره، عن محمّد بن أحمد، عن محمّد بن عبد اللّه بن رسته، عن هارون الفروي، عن أبي ضمرة عن ابن شهابٍ، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه، عن ابن مسعودٍ، مرفوعًا نحوه. ولكن رواه مسعر، عن عطاء بن السّائب، عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة، عن ابن مسعودٍ. فجعله من قوله، واللّه أعلم.
ومعنى قوله تعالى: {الشّيطان يعدكم الفقر} أي: يخوّفكم الفقر، لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة اللّه، {ويأمركم بالفحشاء} أي: مع نهيه إيّاكم عن الإنفاق خشية الإملاق، يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخلاق، قال اللّه تعالى: {واللّه يعدكم مغفرةً منه} أي: في مقابلة ما أمركم الشّيطان بالفحشاء، {وفضلا} أي: في مقابلة ما خوّفكم الشّيطان من الفقر {واللّه واسعٌ عليمٌ} ). [تفسير ابن كثير: 1/ 699-700]

تفسير قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {يؤتي الحكمة من يشاء} قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: «يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدّمه ومؤخّره، وحلاله وحرامه، وأمثاله».
وروى جويبر، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ مرفوعًا: «الحكمة: القرآن. يعني: تفسيره»، قال ابن عبّاسٍ: «فإنّه قد قرأه البرّ والفاجر». رواه ابن مردويه. وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ: «يعني بالحكمة: الإصابة في القول».
وقال ليث بن أبي سليمٍ، عن مجاهدٍ: «{يؤتي الحكمة من يشاء} ليست بالنّبوّة، ولكنّه العلم والفقه والقرآن». وقال أبو العالية: «الحكمة خشية اللّه، فإنّ خشية اللّه رأس كلّ حكمةٍ». وقد روى ابن مردويه، من طريق بقيّة، عن عثمان بن زفر الجهني، عن أبي عمّارٍ الأسديّ، عن ابن مسعودٍ مرفوعًا: «رأس الحكمة مخافة اللّه». وقال أبو العالية في روايةٍ عنه: «الحكمة: الكتاب والفهم». وقال إبراهيم النخعي: «الحكمة: الفهم». وقال أبو مالكٍ: «الحكمة: السّنّة». وقال ابن وهبٍ، عن مالكٍ، قال زيد بن أسلم: «الحكمة: العقل». قال مالكٌ: «وإنّه ليقع في قلبي أنّ الحكمة هو الفقه في دين اللّه، وأمرٌ يدخله اللّه في القلوب من رحمته وفضله، وممّا يبيّن ذلك، أنّك تجد الرّجل عاقلًا في أمر الدّنيا ذا نظرٍ فيها، وتجد آخر ضعيفًا في أمر دنياه، عالمًا بأمر دينه، بصيرًا به، يؤتيه اللّه إيّاه ويحرمه هذا، فالحكمة: الفقه في دين اللّه». وقال السدي: «الحكمة: النبوة».
والصّحيح أنّ الحكمة -كما قاله الجمهور -لا تختصّ بالنّبوّة، بل هي أعمّ منها، وأعلاها النّبوّة، والرّسالة أخصّ، ولكن لأتباع الأنبياء حظٌّ من الخير على سبيل التبع، كما جاء في بعض الأحاديث: «من حفظ القرآن فقد أدرجت النّبوّة بين كتفيه غير أنّه لا يوحى إليه». رواه وكيع بن الجرّاح في تفسيره، عن إسماعيل بن رافعٍ عن رجلٍ لم يسمّه، عن عبد اللّه بن عمر وقوله.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا وكيع ويزيد قالا حدّثنا إسماعيل -يعني ابن أبي خالدٍ -عن قيسٍ -وهو ابن أبي حازمٍ -عن ابن مسعودٍ قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «لا حسد إلّا في اثنتين: رجلٌ آتاه اللّه مالًا فسلّطه على هلكته في الحقّ، ورجلٌ آتاه اللّه حكمةً فهو يقضي بها ويعلّمها». وهكذا رواه البخاريّ، ومسلمٌ، والنّسائيّ، وابن ماجه -من طرقٍ متعدّدةٍ -عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، به.
وقوله: {وما يذّكّر إلا أولو الألباب} أي: وما ينتفع بالموعظة والتّذكار إلّا من له لبٌّ وعقلٌ يعي به الخطاب ومعنى الكلام). [تفسير ابن كثير: 1/ 700-701]

تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وما أنفقتم من نفقةٍ أو نذرتم من نذرٍ فإنّ اللّه يعلمه وما للظّالمين من أنصارٍ (270) إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لكم ويكفّر عنكم من سيّئاتكم واللّه بما تعملون خبيرٌ (271)}
يخبر تعالى بأنّه عالمٌ بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النّفقات والمنذورات وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده. وتوعّد من لا يعمل بطاعته، بل خالف أمره وكذّب خبره وعبد معه غيره، فقال: {وما للظّالمين من أنصار} أي: يوم القيامة ينقذونهم من عذاب اللّه ونقمته). [تفسير ابن كثير: 1/ 701]

تفسير قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي} أي: إن أظهرتموها فنعم شيءٌ هي.
وقوله: {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لكم} فيه دلالةٌ على أنّ إسرار الصّدقة أفضل من إظهارها؛ لأنّه أبعد عن الرّياء، إلّا أن يترتّب على الإظهار مصلحةٌ راجحةٌ، من اقتداء النّاس به، فيكون أفضل من هذه الحيثيّة، وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصّدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصّدقة».
والأصل أنّ الإسرار أفضل، لهذه الآية، ولما ثبت في الصّحيحين، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «سبعةٌ يظلّهم اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: إمامٌ عادلٌ، وشابٌّ نشأ في عبادة اللّه، ورجلان تحابّا في اللّه اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجلٌ قلبه معلّقٌ بالمسجد إذا خرج منه حتّى يرجع إليه، ورجلٌ ذكر اللّه خاليًا ففاضت عيناه، ورجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمالٍ فقال: إنّي أخاف اللّه، ورجلٌ تصدّق بصدقةٍ فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوّام بن حوشبٍ، عن سليمان بن أبي سليمان، عن أنس بن مالكٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «لمّا خلق اللّه الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرّت، فتعجّبت الملائكة من خلق الجبال، فقالت: يا ربّ، فهل من خلقك شيءٌ أشدّ من الجبال؟ قال: نعم، الحديد. قالت: يا ربّ، فهل من خلقك شيءٌ أشدّ من الحديد؟ قال: نعم، النّار. قالت: يا ربّ، فهل من خلقك شيءٌ أشدّ من النّار؟ قال: نعم، الماء. قالت: يا ربّ، فهل من خلقك شيءٌ أشدّ من الماء؟ قال: نعم، الرّيح. قالت: يا ربّ، فهل من خلقك شيءٌ أشدّ من الرّيح؟ قال: نعم، ابن آدم يتصدّق بيمينه فيخفيها من شماله».
وقد ذكرنا في فضل آية الكرسيّ، عن أبي ذرٍّ قال: «قلت: يا رسول اللّه، أيّ الصّدقة أفضل؟ قال: «سرٌّ إلى فقيرٍ، أو جهدٌ من مقل». رواه أحمد، ورواه ابن أبي حاتمٍ من طريق عليّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن أبي ذرٍّ فذكره. وزاد: «ثمّ نزع بهذه الآية: {إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لكم} الآية».
وفي الحديث المرويّ: «صدقة السّرّ تطفئ غضب الرّبّ، عزّ وجلّ».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا الحسين بن زيادٍ المحاربيّ مؤدّب محاربٍ، أخبرنا موسى بن عميرٍ، عن عامرٍ الشّعبيّ في قوله: {إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لكم} قال: «أنزلت في أبي بكرٍ وعمر، رضي اللّه عنهما، فأمّا عمر فجاء بنصف ماله حتّى دفعه إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «ما خلّفت وراءك لأهلك يا عمر؟». قال: خلّفت لهم نصف مالي، وأمّا أبو بكرٍ فجاء بماله كلّه يكاد أن يخفيه من نفسه، حتّى دفعه إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «ما خلّفت وراءك لأهلك يا أبا بكرٍ؟». فقال: عدة اللّه وعدة رسوله. فبكى عمر، رضي اللّه عنه، وقال: بأبي أنت يا أبا بكرٍ، واللّه ما استبقنا إلى باب خيرٍ قط إلا كنت سابقا.
وهذا الحديث مرويٌّ من وجهٍ آخر، عن عمر، رضي اللّه عنه. وإنّما أوردناه هاهنا لقول الشّعبيّ: «إنّ الآية نزلت في ذلك، ثمّ إنّ الآية عامّةٌ في أنّ إخفاء الصّدقة أفضل، سواءً كانت مفروضةً أو مندوبةً». لكن روى ابن جريرٍ من طريق عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، في تفسير هذه الآية، قال: «جعل اللّه صدقة السّرّ في التّطوّع تفضل علانيتها، فقال: بسبعين ضعفًا. وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها، فقال: بخمسةٍ وعشرين ضعفًا».
وقوله: {ويكفّر عنكم من سيّئاتكم} أي: بدل الصّدقات، ولا سيّما إذا كانت سرًّا يحصل لكم الخير في رفع الدّرجات ويكفّر عنكم السّيّئات، وقد قرئ: "ويكفّر عنكم" بالضّمّ، وقرئ: "ونكفّر" بالجزم، عطفًا على جواب الشّرط، وهو قوله: {فنعمّا هي} كقوله: {فأصّدق وأكن}.
وقوله: {واللّه بما تعملون خبيرٌ} أي: لا يخفى عليه من ذلك شيءٌ، وسيجزيكم عليه سبحانه وبحمده ). [تفسير ابن كثير: 1/ 701-703]


رد مع اقتباس