الموضوع: مسائل في السحر
عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 6 جمادى الأولى 1435هـ/7-03-2014م, 10:17 PM
أروى المطيري أروى المطيري غير متواجد حالياً
فريق تنسيق النصوص
 
تاريخ التسجيل: Sep 2013
المشاركات: 405
افتراضي

الفرق بين خوارق السحرة وآيات الأنبياء وكرامات الأولياء


قالَ مُحْيِي الدِّين يَحْيَى بنُ شَرَفٍ النَّوَوِيُّ (ت:676هـ): (قَالَ المَازِرِيُّ:فَإِنْ قِيلَ: إِذَا جَوَّزَتِ الأشْعَرِيَّةُ خَرْقَالعَادَةِ عَلَى يَدِ السَّاحِرِ، فَبِمَاذَا يَتَمَيَّزُ عَنِ النَّبِيِّ؟ فَالجَوَابُ أَنَّ العَادَةَ تَنْخَرِقُ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ وَالوَلِيِّ وَالسَّاحِرِ، لَكِنَّ النَّبِيَّ يَتَحَدَّى بِهَا الخَلْقَ، وَيَسْتَعْجِزُهُمْ عَنْ مِثْلِهَا، وَيُخْبِرُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَرْقِ العَادَةِ بِهَا لِتَصْدِيقِهِ، فَلَوْ كَانَ كَاذِبًا لَمْ تَنْخَرِقِالعَادَةُ عَلَى يَدَيْهِ، وَلَوْ خَرَقَهَا اللَّهُ عَلَى يَدِ كَاذِبٍ لَخَرَقَهَا عَلَى يَدِالمُعَارِضِينَ لِلأنْبِيَاءِ.
وَأَمَّا الوَلِيُّ وَالسَّاحِرُ فَلا يَتَحَدَّيَانِ الخَلْقَ، وَلا يَسْتَدِلانِ عَلَى نُبُوَّةٍ، وَلَوِادَّعَيَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ تَنْخَرِقِالعَادَةُ لَهَا.
وَأَمَّا الفَرْقُ بَيْنَالوَلِيِّ وَالسَّاحِرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهمَا: وَهُوَ المَشْهُورُ، إِجْمَاعُالمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ السِّحْرَلا يَظْهَرُ إِلا عَلَى فَاسِقٍ، وَالكَرَامَةَلا تَظْهَرُ عَلَى فَاسِقٍ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ عَلَى وَلِيٍّ، وَبِهَذَا جَزَمَ إِمَامُالحَرَمَيْنِ وَأَبُو سَعْدٍالمُتَوَلِّي وَغَيْرُهمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ السِّحْرَ قَدْ يَكُونُ نَاشِئًا بِفِعْلِهَا وَبِمَزْجِهَا وَمُعَانَاةٍ وَعِلاجٍ، وَالكَرَامَةُلا تَفْتَقِر إِلَى ذَلِكَ. وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الأوْقَاتِ يَقَعُ ذَلِكَ اتِّفَاقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَدْعِيَه أَوْ يَشْعُرَ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ). [شرح صحيح مسلم: 14/397-398]
قالَ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الحَلِيمِ ابنُ تَيْمِيَّةَ الحَرَّانِيُّ (ت:728هـ): (وَمِنَ النَّاسِ مَن فرَّقَ بينَ مُعجِزاتِ الأنبياءِ وكَرَاماتِ الأَولياءِ بفروقٍ ضَعيفةٍ، مثلُ قَولِهم: الكَرامةُ يُخْفِيهَا صَاحبُهَا، أَو: الكَرَامَةُ لا يُتَحَدَّى بها، وَمِنَ الكَرَامَاتِ مَا أَظْهرَهَا أَصحَابُها كإِظْهَارِ العَلاءِ بنِ الحَضْرَمِيِّ المشيَ علَى الماءِ وإِظْهارِ عُمَرَ مخاطبةَ سَارِيةَ عَلَى المنبرِ وَإِظهارِ أبي مُسلمٍ لمَّا أُلْقِيَ في النَّارِ أَنَّهَا صارَتْ عَلَيهِ بَرْدًا وَسَلامًا، وهذا بخلافِ من يَدْخُلُهَا بالشَّياطِينِ فإِنَّه قَدْ يُطْفئُها إِلا أَنَّها لا تَصِيرُ عَلَيهِ بردًا وَسَلامًا، وإِطْفَاءُ النَّارِ مَقْدُورٌ للإِنسِ والجِنِّ.
ومنها مَا يتحدَّى بهَا صَاحبُهَا أَنَّ دِينَ الإِسْلامِ حَقٌّ كَمَا فَعَلَ خَالدُ بنُ الوَليدِ لمَّا شَرِبَ السُّمَّ وَكالغُلامِ الَّذِي أَتَى الرَّاهِبَ وَتَرَكَ السَّاحِرَ، وأَمَرَ بقَتْلِ نَفْسِهِ بسَهْمِهِ باسْمِ رَبِّهِ، وَكَانَ قَبلَ ذَلِكَ قَدْ خُرِقَتْ لَهُ العَادَةُ فَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِن قَتْلِهِ، وَمِثْلُ هَذَا كَثيرٌ؛ فَيُقَالُ: المرَاتِبُ ثَلاثَةٌ: آياتُ الأنبياءِ، ثُمَّ كَرامَاتُ الصَّالحينَ، ثُمَّ خَوَارِقُ الكُفَّارِ وَالفُجَّارِ كَالسَّحَرَةِ وَالكُهَّانِ وَمَا يَحْصُلُ لِبعْضِ المشركينَ وَأَهْلِ الكِتَابِ والضُّلاَّلِ مِنَ المسْلِمينَ، أَمَّا الصَّالِحُونَ الَّذين يَدْعُونَ إِلَى طَرِيقِ الأَنبياءِ -لا يَخْرُجُونَ عَنْهَا-فَتِلكَ خَوارِقُهُمْ مِن مُعْجِزَاتِ الأَنبياءِ؛ فَإِنَّهُم يَقُولُونَ: نَحْنُ إِنَّمَا حَصَلَ لَنَا هَذَا باتِّبَاعِ الأَنبياءِ، وَلَو لَمْ نَتَّبِعْهُم لَمْ يَحْصُلْ لَنا هَذَا؛ فَهَؤُلاءِ إِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ جَرَى عَلَى يَدِ أَحَدِهِمْ مَا هُوَ مِن جِنسِ مَا جَرَى لِلأَنبياءِ كَمَا صَارَتِ النَّارُ بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى أَبي مُسْلِمٍ كَمَا صَارَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَكَمَا يُكْثِرُ اللهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ لِكَثيرٍ مِنَ الصَّالِحينَ كَمَا جَرَى فِي بَعْضِ الموَاطِنِ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَوْ إِحْيَاءِ اللهِ مَيْتًا لِبَعْضِ الصَّالِحينَ كَمَا أَحْيَاهُ لِلأَنبياءِ، وَهِيَ أَيْضًا مِن مُعْجِزَاتِهِم بمنزِلَةِ مَا تَقَدَّمَهُم مِنَ الإِرْهَاصِ، وَمَعَ هَذَا فَالأَوْلِياءُ دُونَ الأَنبياءِ والمُرْسَلينَ فَلا تَبْلُغُ كَرَامَاتُ أَحَدٍ قَطُّ مِثْلَ مُعْجِزَاتِ المُرْسَلينَ، كَمَا أَنَّهُمْ لا يَبْلُغُونَ فِي الفَضيلةِ وَالثَّوَابِ إِلَى دَرَجَاتِهِم وَلَكِنَّهُم قَدْ يُشَارِكُونَهُم فِي بَعْضِهَا كَمَا قَدْ يُشَارِكُونَهُم فِي بَعْضِ أَعْمَالِهِمْ.
وَكَرَامَاتُ الصَّالِحينَ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بهِ الرَّسُولُ، لا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الوَلِيَّ مَعْصُومٌ، وَلا عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ.
وَمنْ هُنَا ضَلَّ كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ النَّصَارَى وَغيرِهِم؛ فَإِنَّ الحَوَارِيِّينَ وَغيرَهُم كَانَتْ لَهُمْ كَرَامَاتٌ كَمَا تَكُونُ الكَرَامَاتُ لِصَالِحي هذِهِ الأُمَّةِ فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ عِصْمَتَهُم كَمَا يَسْتَلْزِمُ عِصْمَةَ الأَنْبِياءِ؛ فَصَارُوا يُوجِبُونَ مُوَافَقَتَهُم فِي كُلِّ مَا يَقُولُونَ، وَهَذَا غَلَطٌ؛ فَإِنَّ النَّبيَّ وَجَبَ قَبُولُ كُلِّ مَا يَقُولُ لِكَونِهِ نَبيًّا ادَّعَى النُّبَوَّةَ، وَدَلَّتِ المعجِزَةُ عَلَى صِدْقِهِ، وَالنَّبيُّ مَعْصُومٌ.
وَهُنَا المعجِزَةُ مَا دَلَّتْ عَلَى النُّبُوَّةِ بَلْ عَلَى مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ وَصِحَّةِ دِينِ النَّبِيِّ؛ فَلا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّابِعُ مَعْصُومًا.
وَلَكِنَّ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى الفُرْقَانِ الفَرْقُ بينَ الأَنبياءِ وَأَتْبَاعِهِمِ وَبَينَ مَنْ خَالَفَهُمْ مِن الكُفَّارِ وَالفُجَّارِ كَالسَّحَرَةِ وَالكُهَّانِ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى يَظْهَرَ الفَرْقُ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ وَبَيْنَ مَا يَكُونُ دَلِيلاً عَلَى صِدْقِ صَاحِبِهِ كَمُدَّعِي النُّبُوَّةِ وَبَينَ مَا لا يَكُونُ دَلِيلاً عَلَى صِدْقِ صَاحِبِهِ؛ فَإِنَّ الدَّلِيلَ لا يَكُونُ دَلِيلاً حَتَّى يَكُونَ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَدْلُولِ مَتَى وُجِدَ وُجِدَ المدْلُولُ، وَإلا فَإِذَا وُجِدَ تَارَةً مَعَ وُجُودِ المدْلُولِ وَتَارَةً مَعَ عَدَمِهِ فَلَيْسَ بدَلِيلٍ؛ فَآياتُ الأَنبياءِ وَبَراهِينُهُم لا تُوجَدُ إِلاَّ مَعَ النُّبَوَّةِ، وَلا تُوجَدُ مَعَ مَا يُنَاقِضُ النُّبُوَّةَ، وَمُدَّعِي النُّبُوَّةِ إِمَّا صَادِقٌ وَإِمَّا كَاذِبٌ، وَالكَذِبُ يُنَاقِضُ النُّبُوَّةَ؛ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ مَعَ المنَاقِضِ لَهَا مِثْلُ مَا يُوجَدُ مَعَهَا، وَلَيْسَ هُنَا شَيْءٌ مُخَالِفٌ لَهَا وَلا مُنَاقِضٌ؛ فَإِنَّ الكُفْرَ وَالسِّحْرَ وَالكَهَانَةَ كُلُّ ذَلِكَ يُنَاقِضُ النُّبُوَّةَ، لا يَجْتَمِعُ هُوَ وَالنُّبُوَّةُ.
وَالنَّاسُ رَجُلانِ: رَجُلٌ مُوافِقٌ لَهُمْ، وَرجُلٌ مُخَالِفٌ لَهُم، فَالمخَالِفُ مناقِضٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيُقَالُ: جِنْسُ آياتِ الأَنبياءِ خَارِجَةٌ عَنْ مَقْدُورِ البَشَرِ، بَلْ وَعَنْ مَقْدُورِ جِنسِ الحيَوانِ، وَأَمَّا خَوارِقُ مُخَالِفِيهِمْ كَالسَّحَرَةِ وَالكُهَّانِ فَإنَّهَا مِن جنسِ أَفْعَالِ الحَيوَانِ مِنَ الإِنسِ وَغيرِهِ مِنَ الحيَوَانِ وَالجِنِّ، مِثْلُ قَتْلِ السَّاحِرِ وَتَمْريضِهِ لِغَيرِهِ؛ فَهَذَا أَمْرٌ مَقْدُورٌ مَعْرُوفٌ لِلنَّاسِ بالسِّحْرِ وَغَيرِ السِّحْرِ، وَكَذَلِكَ رُكُوبُ المِكْنَسَةِ أَو الخَابيَةِ وَغيرِ ذَلِكَ حَتَّى تَطِيرَ بهِ، وَطَيَرَانُهُ فِي الهَوَاءِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ هَذَا فِعْلٌ مَقْدُورٌ لِلْحَيَوَانِ، فَإِنَّ الطَّيْرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَالجِنَّ تَفْعَلُ ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ أَنَّ العِفْرِيتَ قَالَ لِسُلَيمَانَ: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِن مَقَامِكَ، وَهَذَا تَصَرُّفٌ فِي أَعْرَاضِ الحَيِّ؛ فَإِنَّ المَوْتَ وَالمرَضَ وَالحرَكَةَ أَعْرَاضٌ، وَالحَيَوَانُ يَقْبَلُ فِي العَادَةِ مِثْلَ هَذِهِ الأَعْرَاضِ، لَيْسَ فِي هَذَا قَلْبُ جِنْسٍ إِلَى جِنْسٍ، وَلا فِي هَذَا مَا يَخْتَصُّ الرَّبُّ بالقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَلا مَا تَخْتَصُّ بهِ المَلائِكَةُ، وَكَذَلِكَ إِحْضَارُ مَا يُحْضَرُ مِن طَعَامٍ أَوْ نَفَقَةٍ أَوْ ثِيَابٍ أَوْ غَيرِ ذَلِكَ مِنَ الغَيْبِ، وَهذَا إِنَّما هُوَ نَقْلُ مَالٍ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَهَذَا تَفْعَلُهُ الإِنْسُ وَالجِنُّ لَكِنِ الجِنُّ تَفْعَلُهُ وَالنَّاسُ لا يُبْصِرُونَ ذَلِكَ، وَهذَا بِخَلافِ كَوْنِ الماءِ القَلِيلِ نَفْسِهِ يَفِيضُ حَتَّى يَصِيرَ كَثِيرًا بأَنْ يَنْبُعَ مِن بَينِ الأَصَابِعِ مِنْ غَيرِ زِيادَةٍ يُزَادُهَا؛ فَهَذَا لا يَقْدِرُ عَلَيهِ إِنْسِيٌّ وَلا جِنِّيٌّ). [النبوات:4-5]
قالَ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الحَلِيمِ ابنُ تَيْمِيَّةَ الحَرَّانِيُّ (ت:728هـ): (وَالآياتُ الخَارِقَةُ جِنسَانِ: جِنْسٌ فِي نَوْعِ العِلْمِ، وَجِنْسٌ فِي نَوْعِ القُدْرَةِ؛ فَمَا اخْتَصَّ بهِ النَّبِيُّ مِنَ العِلْمِ خَارِجٌ عَن قُدْرَةِ الإِنْسِ وَالجِنِّ، ومَا اخْتَصَّ بهِ مِنَ المقْدُورَاتِ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَةِ الإِنْسِ وَالجِنِّ). [النبوات:6]
قالَ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الحَلِيمِ ابنُ تَيْمِيَّةَ الحَرَّانِيُّ (ت:728هـ): (وَكَوْنُ الآيَةِ خَارِقَةً للعَادَةِ أَوْ غَيرَ خَارِقَةٍ هُوَ وَصْفٌ لَم يَصِفْهُ القُرْآنُ وَالحَدِيثُ وَلا السَّلَفُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيرِ هَذَا المَوْضِعِ أَنَّ هَذَا وَصْفٌ لا يَنضَبِطُ، وَهُوَ عَدِيمُ التَّأْثِيرِ؛ فَإِنَّ نَفْسَ النُّبَوَّةِ مُعْتَادَةٌ لِلأَنبياءِ خَارِقَةٌ للعَادَةِ بالنِّسْبَةِ إِلَى غَيرِهِمْ، إِنَّ كَوْنَ الشَّخْصِ يُخْبِرُهُ اللهُ بالغَيْبِ خَبَرًا مَعْصُومًا هَذَا مُخْتَصٌّ بهِم وَلَيْسَ هَذَا مَوْجُودًا لِغَيرِهِمْ، فَضْلاً عَنْ كَوْنِهِ مُعْتَادًا؛ فَآيَةُ النَّبيِّ لا بُدَّ أَنْ تَكُونَ خَارِقَةً للعَادَةِ، بمَعْنَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُعْتَادَةً لِلآدَمِيِّينَ، وَذَلِكَ لأَنَّهَا حِينَئِذٍ لا تَكُونُ مُخْتَصَّةً بالنَّبيِّ، بَلْ مُشْتَرِكَةً، وَبهَذَا احْتَجُّوا عَلَى أَنَّهُ لا بُدَّ أَنْ تَكُونَ خَارِقَةً لِلْعَادَةِ، لَكِنْ لَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ خَارِقٍ آيَةٌ، فَالكَهَانَةُ وَالسِّحْرُ هُو مُعْتَادٌ للسَّحَرَةِ وَالكُهَّانِ، وَهُوَ خَارِقٌ بالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا أَنَّ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الطِّبِّ وَالنُّجُومِ وَالفِقْهِ وَالنَّحْوِ هُوَ مُعْتَادٌ لِنُظَرَائِهِمْ، وَهُوَ خَارِقٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا إِذَا أَخْبَرَ الحَاسِبُ بِوَقْتِ الكُسُوفِ وَالخُسُوفِ تَعَجَّبَ النَّاسُ إِذَا كَانُوا لا يَعْرِفُونَ طَرِيقَهُ). [النبوات:13]
قالَ عَلِيُّ بنُ عَلِيِّ بنِ مُحَمَّدٍ ابنُ أَبي العِزِّ الحَنَفِيُّ (ت:792هـ): (وَالطَّرِيقَةُ المَشْهُورَةُ عِنْدَ أَهْلِ الكَلامِ وَالنَّظَرِ، تَقْرِيرُ نُبُوَّةِ الأنْبِيَاءِ بِالمُعْجِزَاتِ، لَكِنْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لا يَعْرِفُ نُبُوَّةَ الأنْبِيَاءِ إِلا بِالمُعْجِزَاتِ، وَقَرَّرُوا ذَلِكَ بِطُرُقٍ مُضْطَرِبَةٍ، وَالتَزَمَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِنْكَارَ خَرْقِ العَادَاتِ لِغَيْرِ الأنْبِيَاءِ، حَتَّى أَنْكَرُوا كَرَامَاتِ الأوْلِيَاءِ وَالسِّحْرَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَلا رَيْبَ أَنَّ المُعْجِزَاتِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّ الدَّلِيلَ غَيْرُ مَحْصُورٍ فِي المُعْجِزَاتِ، فَإِنَّ النُّبُوَّةَ إِنَّمَا يَدَّعِيهَا أَصْدَقُ الصَّادِقِينَ أَوْ أَكْذَبُ الكَاذِبِينَ، وَلا يَلْتَبِسُ هَذَا بِهَذَا إِلا عَلَى أَجْهَلِ الجَاهِلِينَ. بَلْ قَرَائِنُ أَحْوَالِهِمَا تُعْرِبُ عَنْهُمَا، وَتُعَرِّفُ بِهِمَا، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالكَاذِبِ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ فِيمَا دُونَ دَعْوَى النُّبُوَّةِ، فَكَيْفَ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ؟!
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ حَسَّانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:

لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ.....كَانَتْ بَدِيهَتُهُ تَأْتِيكَ بِالخَبَرِ
وَمَا مِنْ أَحَدٍ ادَّعَى النُّبُوَّةَ مِنَ الكَذَّابِينَ إِلا وَقَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الجَهْلِ وَالكَذِبِ وَالفُجُورِ وَاسْتِحْوَاذِ الشَّيَاطِينِ عَلَيْهِ - مَا ظَهَرَ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ لا بُدَّ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِأُمُورٍ وَيَأْمُرَهُمْ بِأُمُورٍ، وَلا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَ أُمُورًا [ يُبَيِّنُ بِهَا صِدْقَهُ ]. وَالكَاذِبُ يَظْهَرُ فِي نَفْسِ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُخْبِرُ عَنْهُ وَمَا يَفْعَلُهُ مَا يَبِينُ بِهِ كَذِبُهُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَالصَّادِقُ ضِدُّهُ، بَلْ كُلُّ شَخْصَيْنِ ادَّعَيَا أَمْرًا: أَحَدُهُمَا صَادِقٌ وَالآخَرُ كَاذِبٌ لا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ صِدْقُ هَذَا وَكَذِبُ هَذَا، وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ، إِذِ الصِّدْقُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْبِرِّ، وَالكَذِبُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْفُجُورِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالكَذِبَ؛ فَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا».
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (226)} [الشعراء: 221-226].
فَالكُهَّانُ وَنَحْوُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا أَحْيَانًا يُخْبِرُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الغَيْبِيَّاتِ، وَيَكُونُ صِدْقًا، فَمَعَهُمْ مِنَ الكَذِبِ وَالفُجُورِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِي يُخْبِرُونَ بِهِ لَيْسَ عَنْ مَلَكٍ، وَلَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابْنِ صَيَّادٍ: قَدْ خَبَّأْتُ لَكَ خَبِيئًا، فَقَالَ: هُوَ الدُّخُّ . قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ». يَعْنِي: إِنَّمَا أَنْتَ كَاهِنٌ.
وَقَدْ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ. وَقَالَ: أَرَى عَرْشًا عَلَى المَاءِ، وَذَلِكَ هُوَ عَرْشُ الشَّيْطَانِ. وَبَيَّنَ أَنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ، وَالغَاوِي: الَّذِي يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَشَهْوَتَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُضِرًّا لَهُ فِي العَاقِبَةِ.
فَمَنْ عَرَفَ الرَّسُولَ وَصِدْقَهُ وَوَفَاءَهُ وَمُطَابَقَةَ قَوْلِهِ لِعَمَلِهِ - عَلِمَ عِلْمًا يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ بِشَاعِرٍ وَلا كَاهِنٍ.
وَالنَّاسُ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالكَاذِبِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الأدِلَّةِ، حَتَّى فِي المُدَّعِي لِلصِّنَاعَاتِ وَالمَقَالاتِ، كَمَنْ يَدَّعِي الفِلاحَةَ وَالنِّسَاجَةَ وَالكِتَابَةَ، وَعِلْمَ النَّحْوِ وَالطِّبِّ وَالفِقْهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَالنُّبُوَّةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عُلُومٍ وَأَعْمَالٍ لا بُدَّ أَنْ يَتَّصِفَ الرَّسُولُ بِهَا، وَهِيَ أَشْرَفُ العُلُومِ وَأَشْرَفُ الأعْمَالِ. فَكَيْفَ يَشْتَبِهُ الصَّادِقُ فِيهَا بِالكَاذِبِ؟ وَلا رَيْبَ أَنَّ المُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الوَاحِدِ وَالاثْنَيْنِ وَالثَّلاثَةِ: قَدْ يَقْتَرِنُ بِهِ مِنَ القَرَائِنِ مَا يَحْصُلُ مَعَهُ العِلْمُ الضَّرُورِيُّ، كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ رِضَى الرَّجُلِ وَحُبَّهُ وَبُغْضَهُ وَفَرَحَهُ وَحُزْنَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا فِي نَفْسِهِ، بِأُمُورٍ تَظْهَرُ عَلَى وَجْهِهِ، قَدْ لا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} ثُمَّ قَالَ: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ}[محمد: 30].
وَقَدْ قِيلَ: مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلا أَظْهَرَهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ.
فَإِذَا كَانَ صِدْقُ المُخْبِرِ وَكَذِبُهُ يُعْلَمُ بِمَا يَقْتَرِنُ مِنَ القَرَائِنِ، فَكَيْفَ بِدَعْوَى المُدَّعِي أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، كَيْفَ يَخْفَى صِدْقُ هَذَا مِنْ كَذِبِهِ؟ وَكَيْفَ لا يَتَمَيَّزُ الصَّادِقُ فِي ذَلِكَ مِنَ الكَاذِبِ بِوُجُوهٍ مِنَ الأدِلَّةِ؟
وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَعْلَمُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ الصَّادِقُ البَارُّ، قَالَ لَهَا لَمَّا جَاءَهُ الوَحْيُ:(( إِنِّي قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي)).فَقَالَتْ: كَلاّ وَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ.
فَهُوَ لَمْ يَخَفْ مِنْ تَعَمُّدِ الكَذِبِ، فَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، وَإِنَّمَا خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَضَ لَهُ عَارِضُ سُوءٍ، وَهُوَ المَقَامُ الثَّانِي، فَذَكَرَتْ خَدِيجَةُ مَا يَنْفِي هَذَا، وَهُوَ مَا كَانَ مَجْبُولاً عَلَيْهِ مِنْ مَكَارِمِ الأخْلاقِ وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ سُنَّةِ اللَّهِ أَنَّ مَنْ جَبَلَهُ عَلَى الأخْلاقِ المَحْمُودَةِ وَنَزَّهَهُ عَنِ الأخْلاقِ المَذْمُومَةِ فَإِنَّهُ لا يُخْزِيهِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ النَّجَاشِيُّ لَمَّا اسْتَخْبَرَهُمْ عَمَّا يُخْبِرُ بِهِ وَاسْتَقْرَأَهُمُ القُرْآنَ فَقَرَؤُوا عَلَيْهِ: إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَكَذَلِكَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، لَمَّا أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا رَآهُ، وَكَانَ وَرَقَةُ قَدْ تَنَصَّرَ، وَكَانَ يَكْتُبُ الإِنْجِيلَ بِالعَرَبِيَّةِ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: أَيْ عَمِّ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ مَا يَقُولُ، فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا رَأَى فَقَالَ: هَذَا هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى).
[شرح الطحاوية:1/179]


رد مع اقتباس