عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 14 رمضان 1438هـ/8-06-2017م, 09:59 AM
جمهرة علوم العقيدة جمهرة علوم العقيدة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 1,193
افتراضي

بيانِ دلالةِ أسماءِ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى وكمالِهِ المُقَدَّسِ على معْنَى شهادةِ: أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وأنَّ محمَّداً رسولُ اللهِ

قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى
: (البابُ الثاني عشرَ:
في بيانِ دلالةِ أسماءِ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى وكمالِهِ المُقَدَّسِ على معْنَى شهادةِ: أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وأنَّ محمَّداً رسولُ اللهِ.

(اعْلَمْ أنَّ اللهَ سُبحانَهُ في الحقيقةِ هوَ الدَّالُّ على نفسِهِ بآياتِهِ. فهوَ الدليلُ لعبادِهِ في الحقيقةِ بما نصَبَهُ لهم من الدلالاتِ والآياتِ. وقدْ أوْدَعَ في الفِطَرِ التي لمْ تتنَجَّسْ بالتعطيلِ والجحودِ: أنَّهُ سُبحانَهُ الكاملُ في أسمائِهِ وصفاتِهِ، وأنَّهُ الموصوفُ بكلِّ كمالٍ، المُنَـزَّهُ عنْ كلِّ عيبٍ ونقصٍ. فالكمالُ كلُّهُ، والجمالُ والجلالُ والبهاءُ، والعزةُ والعظمةُ والكبرياءُ كلُّهُ منْ لوازمِ ذاتِهِ. يستحيلُ أنْ يكونَ على غيرِ ذلكَ. فالحياةُ كلُّها لهُ، والعلمُ كلُّهُ لهُ، والقدرةُ كلُّها لهُ. والسمعُ والبصرُ والإرادةُ والمشيئةُ والرحمةُ والغِنَى والجُودُ والإحسانُ والبرُّ كلُّهُ خالصٌ(1) لهُ قائمٌ بهِ.
وما خَفِيَ على الخلقِ منْ كمالِهِ أعظمُ وأعظمُ ممَّا عرفُوهُ منهُ، بلْ لا نِسْبَةَ لما عرَفُوهُ منْ ذلكَ إلى ما لمْ يعْرِفُوهُ.
ومنْ كمالِهِ المُقَدَّسِ: اطِّلاَعُهُ على كلِّ شيءٍ، وشهادَتُهُ عليهِ، بحيثُ لا يَغِيبُ عنهُ وَجْهٌ منْ وُجُوهِ تفاصيلِهِ، ولا ذرَّةٌ منْ ذرَّاتِهِ باطناً وظاهراً.
ومَنْ هذا شَأْنُهُ: كيفَ يَلِيقُ بالعبادِ أنْ يُشركوا بهِ، وأنْ يعبدُوا معهُ غيرَهُ؟ وأنْ يجعَلُوا معَهُ إلهاً آخرَ؟ وكيفَ يليقُ بكمالِهِ أنْ يُقِرَّ مَنْ يكْذِبُ عليهِ أعظمَ الكذبِ، ويُخْبِرُ عنهُ بخلافِ ما الأمرُ عليهِ. ثمَّ ينصُرُهُ على ذلكَ ويُؤَيِّدُهُ، ويُعْلِي كَلِمَتَهُ، ويرفعُ شأنَهُ، ويُجيبُ دعوتَهُ، ويُهْلِكُ عدوَّهُ، ويُظْهِرُ على يدَيْهِ من الآياتِ والبراهينِ والأدِلَّةِ ما تَعْجِزُ عنْ مثلِهِ قُوَى البشرِ، وهوَ - معَ ذلكَ - كاذبٌ عليهِ مُفْتَرٍ، ساعٍ في الأرضِ بالفسادِ؟! (2)
ومعلومٌ أنَّ شهادَتَهُ سُبحانَهُ على كلِّ شيءٍ، وقدرَتَهُ على كلِّ شيءٍ، وحكمتَهُ وعزَّتَهُ وكمالَهُ المُقَدَّسَ يأْبَى ذلكَ كلَّ الإباءِ. ومَنْ ظَنَّ ذلكَ بهِ، وجوَّزَهُ عليهِ فهوَ منْ أبعدِ الخلقِ منْ معرفَتِهِ. وإنْ عَرَفَ منهُ بعضَ صفاتِهِ كصفةِ القدرةِ وصفةِ المشيئةِ.
والقرآنُ مملوءٌ مِنْ هذهِ الطريقِ، وهيَ طريقُ الخاصَّةِ، بلْ خاصَّةُ الخاصَّةِ هم الذينَ يستدِلُّونَ باللهِ على أفعالِهِ. وما يليقُ بهِ أنْ يفعلَهُ وما لا يفعلُهُ.
وإذا تدبَّرْتَ القرآنَ رأيتَهُ يُنَادِي على ذلكَ فيُبْدِيهِ ويُعِيدُهُ لمَنْ لهُ فَهْمٌ وقلبٌ واعٍ عن اللهِ. قالَ اللهُ تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} [الحاقَّة: 44-47]، أفلا تَرَاهُ كيفَ أخبرَ سُبحانَهُ أنَّ كمالَهُ وحكمتَهُ وقدرتَهُ تَأْبَى أنْ يُقِرَّ مَنْ تَقَوَّلَ عليهِ بعضَ الأقاويلِ؟ بلْ لا بدَّ أنْ يجعلَهُ عبرةً لعبادِهِ، كما جَرَتْ بذلكَ سُنَّتُهُ في المُتَقَوِّلينَ عليهِ.
وقالَ تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24]. ها هنا انتهى جوابُ الشرطِ، ثمَّ أخبرَ خبراً جازماً غيرَ مُعَلَّقٍ أنَّهُ: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ}.
وقالَ تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، فأخبرَ أنَّ مَنْ نفى عنهُ الإرسالَ والكلامَ لمْ يَقْدِرْهُ حقَّ قدْرِهِ. ولا عرَفَهُ كما ينبغي، ولا عَظَّمَهُ كما يَسْتَحِقُّ. فكيفَ مَنْ ظنَّ أنَّهُ ينْصُرُ الكاذبَ المُفْتَرِيَ عليهِ ويؤيِّدُهُ، ويُظْهِرُ على يدَيْهِ الآياتِ والأدلَّةَ؟!
وهذا في القرآنِ كثيرٌ جدًّا؛ يستَدِلُّ بكمالِهِ المُقَدَّسِ، وأوصافِهِ وجلالِهِ على صدقِ رُسُلِهِ، وعلى وعدِهِ ووعيدِهِ، ويدعو عبادَهُ إلى ذلكَ، كما يستدلُّ بأسمائِهِ على صِدْقِ رُسُلِهِ، وعلى وعدِهِ ووعيدِهِ، ويدعو عبادَهُ إلى ذلكَ كما يستدلُّ بأسمائِهِ وصفاتِهِ على وحدانيَّتِهِ، وعلى بُطْلانِ الشركِ كما في قولِهِ: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} [الحشر: 22-23]. وأضعافُ أضعافِ ذلكَ في القرآنِ.
ويستدلُّ سُبحانَهُ بأسمائِهِ وصفاتِهِ على بُطْلانِ ما نُسِبَ إليهِ من الأحكامِ والشرائعِ الباطلةِ، وأنَّ كمالَهُ المُقَدَّسَ يمنعُ منْ شرْعِها كقولِهِ: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)} [الأعراف: 28]، وقولِهِ عَقِيبَ ما نهى عنهُ وحرَّمَهُ من الشركِ والظلمِ والفواحشِ والقولِ عليهِ بلا علمٍ: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)}[الإسراء: 38]، فأعْلَمَكَ أنَّ ما كانَ سيِّئَةً في نفسِهِ فهوَ يكرهُهُ. وكمالُهُ يَأْبَى أنْ يجعَلَهُ شرعاً لهُ وديناً. فهوَ سُبحانَهُ يَدُلُّ عبادَهُ بأسمائِهِ وصفاتِهِ على ما يفعَلُهُ ويأمرُ بهِ، وما يُحِبُّهُ ويُبغِضُهُ، ويُثِيبُ عليهِ ويُعاقِبُ عليهِ.
(([فَـ]يستدلُّ [العبدُ المُوفَّقُ] بصفاتِ اللهِ تعالى وكمالِهِ على ما يفعَلُهُ، لحُسْنِ اعتبارِهِ وصحَّةِ نظرِهِ، وهوَ اعتبارُ الخواصِّ واستدلالُهُم. فإنَّهُمْ يستدلُّونَ بأسماءِ اللهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، وأنَّهُ يفعلُ كذا ولا يفعلُ كذا. فَيَفْعَلُ ما هوَ مُوجَبُ حكمتِهِ وعلْمِهِ وغناهُ وحَمْدِهِ، ولا يفعلُ ما يُناقضُ ذلكَ. وقدْ ذكرَ سُبحانَهُ [ذلكَ] في كتابِهِ. فقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فُصِّلَتْ: 53]، ثمَّ قالَ: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فُصِّلَتْ: 53]، فمخلوقاتُهُ دالَّةٌ على ذاتِهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ. وأسماؤُهُ وصفاتُهُ دالَّةٌ على ما يفعَلُهُ ويأمرُ بهِ، وما لا يفعلُهُ ولا يأمرُ بهِ.
مثالُ ذلكَ: أنَّ اسمَهُ ((الحميدَ)) سُبحانَهُ يدلُّ على أنَّهُ لا يأمرُ بالفحشاءِ والمنكرِ. واسمَهُ ((الحكيمَ)) يدلُّ على أنَّهُ لا يخلقُ شيئاً عبثاً. واسمَهُ ((الغنيَّ)) يدلُّ على أنَّهُ لمْ يتَّخِذْ صاحبةً ولا ولداً. واسمَهُ ((المَلِكَ)) يدلُّ على ما يستلزمُ حقيقةَ ملكِهِ: منْ قدْرَتِهِ، وتدبيرِهِ، وعطائِهِ ومنعِهِ، وثوابِهِ وعقابِهِ، وبثِّ رسُلِهِ في أقطارِ مملكَتِهِ، وإعلامِ عبيدِهِ بمراسيمِهِ وعهودِهِ إليهمْ، واستوائِهِ على سريرِ مملكتِهِ الذي هوَ عرشُهُ المجيدُ. فمتى قامَ بالعبدِ تعظيمُ الحقِّ جلَّ جلالُهُ، وحَسُنَ النظرُ في الشواهدِ والتبصُّرُ والاعتبارُ بها، صَارَت الصِّفَاتُ والنعوتُ مشهودةً لقلبِهِ قِبْلةً لهُ)) ([3]).
ولكنَّ هذهِ الطريقَ لا يَصِلُ إليها إلاَّ خاصَّةُ الخاصَّةِ. فلذلكَ كانتْ طريقةَ الجمهورِ الدلالاتُ بالآياتِ المشاهدةِ؛ فإنَّها أوسعُ وأسهلُ تناوُلاً، واللهُ سُبحانَهُ يُفَضِّلُ بعضَ خلْقِهِ على بعضٍ، ويرفعُ درجاتٍ مَنْ يشاءُ وهوَ العليمُ الحكيمُ.
فالقرآنُ العظيمُ قد اجتمعَ فيهِ ما لمْ يجتمعْ في غيرِهِ؛ فإنَّهُ هوَ الدعوةُ والحُجَّةُ، وهوَ الدليلُ والمدلولُ عليهِ، وهوَ الشاهدُ والمشهودُ لهُ، وهوَ الحُكْمُ والدليلُ، وهوَ الدعوى والبيِّنَةُ، قالَ اللهُ تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} [هود:17] أيْ: مِنْ ربِّهِ. وهوَ القرآنُ. وقالَ تعالى لمَنْ طلبَ آيَةً تدلُّ على صدقِ رسولِهِ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)} [العنكبوت: 51-52] فأخبرَ سُبحانَهُ أنَّ الكتابَ الذي أنزلَهُ على رسولِهِ يكـفي عنْ كلِّ آيَةٍ، ففيهِ الحُجَّةُ والدلالةُ على أنَّهُ من اللهِ، وأنَّ اللهَ سُبحانَهُ أرسلَ بهِ رسولَهُ، وفيهِ بيانُ ما يُوجِبُ لمَن اتَّبَعَهُ السعادةَ، ويُنْجِيهِ من العذابِ. ثمَّ قالَ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [العنكبوت: 52]، فإذا كانَ اللهُ سُبحانَهُ عالماً بجميعِ الأشياءِ؛ كانتْ شهادَتُهُ أصدقَ شهادةٍ وأعدَلَها؛ فإنَّها شهادةٌ بعِلْمٍ تامٍّ محيطٍ بالمشهودِ بهِ. فيكونُ الشاهدُ بهِ أعدلَ الشُّهَدَاءِ وأصدَقَهُم.
وهوَ سُبحانَهُ يذكرُ عِلْمَهُ عندَ شهادتِهِ، وقدرتَهُ وملكَهُ عندَ مُجازاتِهِ، وحكمتَهُ عندَ خلقِهِ وأمرِهِ، ورحمتَهُ عندَ ذكرِ إرسالِ رسولِهِ، وحلمَهُ عندَ ذكرِ ذنوبِ عبادِهِ ومعاصِيهم،
وسمعَهُ عندَ ذكرِ دعائِهم ومسألتِهم، وعزَّتَهُ وعلمَهُ عندَ قضائِهِ وقدرِهِ.
فتأمَّلْ ورودَ أسمائِهِ الحسنى في كتابِهِ، وارتباطَها بالخلقِ والأمرِ، والثوابِ والعقابِ.

[فصلٌ]:
ومنْ هذا قولُهُ تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)} [الرعد: 43]، فاستشهدَ على رسالتِهِ بشهادةِ اللهِ لهُ.
ولا بدَّ أنْ تُعْلَمَ هذهِ الشهادةُ، وتقومَ بها الحُجَّةُ على المكذِّبينَ لهُ، وكذلكَ قولُهُ: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19] وكذلكَ قولُهُ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)} [النساء: 166] وكذلكَ قولُـهُ: {يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)} [يس: 1-3] وقولُهُ: {تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)} [البقرة: 252] وقولُهُ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقونَ: 1] وقولُهُ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29]. فهذا كلُّهُ شهادةٌ منهُ لرسولِهِ قدْ أظهرَها وبيَّنَها، وبيَّنَ صحَّتَها غايَةَ البيانِ بحيثُ قطعَ العذرَ بينَهُ وبينَ عبادِهِ وأقامَ الحُجَّةَ عليهم، فكوْنُهُ سُبحانَهُ شاهداً لرسُولِهِ معلومٌ بسائرِ أنواعِ الأدِلَّةِ: عَقْلِيِّها ونَقْليِّها وفِطْرِيِّها وضَرُورِيِّها ونظرِيِّها.
ومَنْ نظرَ في ذلكَ وتأمَّلَهُ عَلِمَ أنَّ اللهَ سُبحانَهُ شَهِدَ لرسولِهِ أصدقَ الشهادةِ وأعدلَها وأظهرَها، وصدَّقَهُ بسائرِ أنواعِ التصديقِ:
- بقولِهِ الذي أقامَ البراهينَ على صدقِهِ فيهِ.
- وبفِعْلِهِ وإقرارِهِ.
- وبما فطرَ عليهِ عبادَهُ من الإقرارِ بكمالِهِ وتنـزيهِهِ عن القبائحِ وعمَّا لا يليقُ بهِ.
وفي كلِّ وقتٍ يُحْدِثُ من الآياتِ الدالَّةِ على صدقِ رسولِهِ ما يُقيمُ بهِ الحُجَّةَ، ويُزيلُ بهِ العذرَ، ويحكُمُ لهُ ولأتباعِهِ بما وعدَهُم بهِ من العزِّ والنجاةِ والظَّفَرِ والتأييدِ.
ويحكُمُ على أعدائِهِ ومكذِّبيهِ بما توَعَّدَهم بهِ من الخزيِ والنَّكالِ والعقوباتِ المُعجَّلَةِ الدالَّةِ على تحقيقِ العقوباتِ المُؤَجَّلَةِ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)} [الفتح: 28]، فيُظْهِرُهُ ظهورَيْنِ:
- ظهوراً بالحُجَّةِ والبيانِ والدلالةِ.
- وظهوراً بالنصرِ والظَّفَرِ والغلبةِ والتأييدِ حتَّى يُظْهِرَهُ على مُخالفيهِ ويكونَ منصوراً.
وقولُهُ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساء: 166]، فما فيهِ من الخبرِ عنْ علمِ اللهِ الذي لا يعلمُهُ غيرُهُ منْ أعظمِ الشهادةِ بأنَّهُ هوَ الذي أنزلَهُ. كما قالَ في الآيَةِ الأخرى {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)} [هود: 13-14]، وليسَ المرادُ مجرَّدَ الإخبارِ بأنَّهُ أنزلَهُ، وهوَ معلومٌ لهُ، كما يعلمُ سائرَ الأشياءِ. فإنَّ كُلَّ شيءٍ معلومٌ لهُ منْ حقٍّ وباطلٍ وإنَّما المعنى: أنزلَهُ مشتملاً على علمِهِ. فنـزولُهُ مشتملاً على علمِهِ: هوَ آيَةُ كونِهِ منْ عندِهِ، وأنَّهُ حقٌّ وصدقٌ.
ونظيرُ هذا قولُهُ: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 6]، ذكرَ ذلكَ سُبحانَهُ تكذيباً وردًّا على مَنْ قالَ: {افْتَرَاهُ} [الفرقان: 4]) ([4])
).[المرتبع الأسنى: ؟؟]


(1) في الأصلِ: خاصٌّ، ولعلَّ الصَّوابَ ما أَثْبَتُّهُ.
(2) وقد جَرَتْ لابنِ القَيِّمِ –رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- مُنَاظَرَةٌ معَ بَعْضِ عُلَمَاءِ أهلِ الكتابِ أَثْبَتَ فِيهَا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ مُسْتَدِلاًّ بأسماءِ اللهِ الحُسْنَى وصِفاتِهِ العُلَى، فأَفْحَمَهُ حتى لم يَحِرْ جَوابًا، وها أنا أَسُوقُهَا لك كما ذَكَرَها في كتابِهِ القَيِّمِ الصَّوَاعِقِ المُرْسَلَةِ (1/327 - 329) حيثُ قالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: (وقَرِيبٌ من هذهِ المَنَاظِرِ ما جَرَى لي مع بعضِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الكتابِ، فإنَّهُ جَمَعَنِي وإياهُ مجلسُ خَلوةٍ، أَفضَى بينَنا الكلامُ إلى أن جَرَى ذِكرُ مَسَبَّةِ النَّصارَى لربِّ العالمينَ، مَسَبَّةً ما سَبَّهُ إياها أحدٌ مِنَ البَشَرِ، فقُلْتُ له: وأنتم بإِنكارِكُمْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ) قد سَبَبْتُمُ الرَّبَّ تَعالَى أَعظَمَ مَسَبَّةٍ. قال: وكيفَ ذلك؟ قُلتُ: لأنَّكُم تَزْعُمونَ أن مُحمدًا مَلِكٌ ظالمٌ ليس برسولٍ صَادِقٍ، وأنه خَرَجَ يَستَعْرِضُ الناسَ بسيفِهِ فيَسْتَبِيحُ أَموالَهُمْ ونِساءَهُمْ وذَرَارِيَّهُم، ولا يَقْتَصِرُ على ذلك حتى يَكْذِبَ على اللهِ، ويقولَ: اللهُ أَمَرَني بهذا وأباحَهُ لي، ولم يَأْمُرْهُ اللهُ ولا أباحَ له ذلكَ، ويقولَ: أُوحِيَ إليَّ ولم يُوحَ إليه شيءٌ. ويَنْسَخُ شَرَائِعَ الأنبياءِ مِن عِندِه، ويُبطِلُ منها ما يشاءُ، ويُبقِي منها ما يشاءُ، ويَنْسِبُ ذلك كُلَّهُ إلى اللهِ، ويَقْتُلُ أولياءَهُ وأتباعَ رُسُلِهِ ويَسْتَرِقُّ نِساءَهُم وذُرِّيَّاتِهِمْ: فإما أن يكونَ اللهُ سُبحانَهُ رَائِيًا لذلك كُلِّهِ عَالمًا به مُطَّلِعًا عليه أو لا؟
فإن قُلْتُم: إن ذلك بغيرِ عِلمِهِ واطِّلاعِهِ نَسَبْتُمُوهُ إلى الجَهْلِ والغَباوَةِ، وذلك من أَقْبَحِ السَّبِّ، وإن كان عالمًا به رائيًا له مُشاهِدًا لِمَا يَفْعَلُه ؛ فإمَّا أن يَقْدِرَ على الأخذِ على يدِهِ ومَنعِه من ذلك أو لا.
فإن قُلتُمْ: إنه غيرُ قادرٍ على مَنْعِهِ والأخذِ على يدِهِ، نَسَبْتُمُوهُ إلى العجزِ والضَّعْفِ.
وإن قُلتُم: بل هو قادرٌ على مَنْعِهِ ولم يَفْعَلْ نَسَبْتُمُوهُ إلى السَّفَهِ والظُّلْمِ والجَوْرِ.
هذا هو مِنْ حِينِ ظَهرَ إلى أن تَوَفَّاهُ رَبُّهُ يُجِيبُ دَعَوَاتِهِ، ويَقْضِي حَاجاتِه، ولا يَسْأَلُه حاجةً إلا قَضاهَا له، ولا يَدْعُوهُ بدَعْوَةٍ إلا أجابَها له، ولا يَقومُ له عدوٌّ إلا ظَفَرَ به، ولا تقومُ له رايةٌ إلا نَصرَها، ولا لواءٌ إلا رَفَعَه، ولا مَن يُناوِئُه ويُعادِيهِ إلا بَتَرَه ووَضَعَه، فكانَ أمرُه مِن حِينِ ظَهَرَ إلى أن تُوفِّيَ يَزْدَادُ على الأيامِ والليالِي ظُهورًا وعُلُوًّا ورِفْعَةً، وأمرُ مُخالِفيهِ لا يَزْدادُ إلا سُفُولاً واضْمِحْلالاً، ومَحَبَّتُهُ في قُلوبِ الخَلْقِ تَزِيدُ على مَمَرِّ الأوقاتِ، ورَبُّهُ تَعالَى يُؤَيِّدُهُ بأَنْواعِ التَّأْييدِ، ويَرْفَعُ ذِكْرَهُ غَايةَ الرَّفْعِ.
هذا وهو عِنْدَكُمْ مِن أَعْظَمِ أَعْدَائِهِ، وأَشَدِّهِم ضررًا على الناسِ!! فأيُّ قَدحٍ في ربِّ العالمينَ، وأيُّ مَسبَّةٍ له، وأيُّ طَعْنٍ فيه أَعْظَمُ من ذلك؟!!.
فأخذَ الكلامُ منه مَأخذًا ظَهَرَ عليه، وقال: حاشَ للهِ، أن نَقُولَ فيه هذه المقالةَ، بل هو نَبِيٌّ صادقٌ، كلُّ مَنِ اتَّبَعَهُ فهو سعيدٌ، وكلُّ مُنصفٍ منا يُقِرُّ بذلك، ويَقُولُ: أَتباعُهُ سُعداءُ في الدارَينِ، قلتُ له: فما يَمْنَعُكَ مِنَ الظَّفَرِ بهذهِ (السعادةِ)؟ فقالَ: وأَتْبَاعُ كُلِّ نَبِيٍّ مِنَ الأنبياءِ كذلك، فأتباعُ مُوسَى أيضًا سُعَداءُ.
قلتُ له: فإذا أقررتَ أنه نبيٌّ صادقٌ فقد كَفَّرَ مَن لم يَتْبَعْهُ واستباحَ دَمَهُ ومَالَهُ وحَكَمَ له بالنارِ، فإنْ صَدَّقْتَهُ في هذا وَجَبَ عليكَ اتِّبَاعُهُ، وإن كَذَّبْتَهُ فيه لم يَكُنْ نَبِيًّا، فكيفَ يكونُ أَتباعُهُ سُعَداءُ؟! فلم يَحِرْ جَوابًا!! وقالَ: حَدِّثْنَا في غيرِ هَذَا).
([3]) مدارجُ السَّالكينَ (3/333-334).
([4]) مَدَارِجُ السَّالِكينَ (3/433 -437)، وقد أطالَ –رَحِمَهُ اللهُ - في تفسيرِ قولِهِ تعالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} الآيةَ، وأَحْسَنَ فيه أيَّمَا إِحسانٍ، فرَاجِعْهُ إن شِئْتَ.


رد مع اقتباس