عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 12 جمادى الآخرة 1435هـ/12-04-2014م, 06:23 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: إنّ اللّه اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33) ذرّيّةً بعضها من بعضٍ واللّه سميعٌ عليمٌ (34) إذ قالت امرأت عمران ربّ إنّي نذرت لك ما في بطني محرّراً فتقبّل منّي إنّك أنت السّميع العليم (35)
لما مضى صدر من محاجة نصارى نجران والرد عليهم وبيان فساد ما هم عليه جاءت هذه الآية معلمة بصورة الأمر الذي قد ضلوا فيه، ومنبئة عن حقيقته كيف كانت، فبدأ تعالى بذكر فضله على هذه الجملة إلى آل عمران منها ثم خص امرأت عمران بالذكر لأن القصد وصف قصة القوم إلى أن يبين أمر عيسى عليه السلام وكيف كان واصطفى معناه: اختار صفو الناس فكان ذلك هؤلاء المذكورين وبقي الكفار كدرا، وآدم هو أبونا عليه السلام اصطفاه الله تعالى بالإيجاد والرسالة إلى بنيه والنبوة والتكليم حسبما ورد في الحديث وحكى الزجاج عن قوم إنّ اللّه اصطفى آدم عليه السلام بالرسالة إلى الملائكة في قوله:
أنبئهم بأسمائهم [البقرة: 33] وهذا ضعيف، ونوح عليه السلام هو أبونا الأصغر في قول الجمهور هو أول نبي بعث إلى الكفار، وانصرف نوح مع عجمته وتعريفه لخفة الاسم، كهود ولوط، وآل إبراهيم
يعني بإبراهيم الخليل عليه السلام، والآل في اللغة، الأهل والقرابة، ويقال للأتباع وأهل الطاعة آل، فمنه آل فرعون، ومنه قول الشاعر وهو أراكة الثقفي في رثاء النبي عليه السلام وهو يعزي نفسه في أخيه عمرو:
[الطويل]
فلا تبك ميتا بعد ميت أجنّه = عليّ وعبّاس وآل أبي بكر
أراد جميع المؤمنين، و «الآل» في هذه الآية يحتمل الوجهين، فإذا قلنا أراد بالآل القرابة والبيتية فالتقدير إنّ اللّه اصطفى هؤلاء على عالمي زمانهم أو على العالمين عاما بأن يقدر محمدا عليه السلام من آل إبراهيم، وإن قلنا أراد بالآل الأتباع فيستقيم دخول أمة محمد في الآل لأنها على ملة إبراهيم، وذهب منذر بن سعيد وغيره إلى أن ذكر آدم يتضمن الإشارة إلى المؤمنين به من بنيه وكذلك ذكر نوح عليه السلام وأن «الآل» الأتباع فعمت الآية جميع مؤمني العالم فكان المعنى، أن الله اصطفى المؤمنين على الكافرين، وخص هؤلاء بالذكر تشريفا لهم ولأن الكلام في قصة بعضهم، وآل عمران أيضا يحتمل من التأويل ما تقدم في آل إبراهيم، وعمران هو رجل من بني إسرائيل من ولد سليمان بن داود فيما حكى الطبري، قال مكي: هو عمران بن ماثال، وقال قتادة في تفسير هذه الآية: ذكر الله تعالى أهل بيتين صالحين ورجلين صالحين، ففضلهم على العالمين فكان محمد من آل إبراهيم، وقال ابن عباس: «اصطفى الله» هذه الجملة بالدين والنبوة والطاعة له). [المحرر الوجيز: 2/197-199]

تفسير قوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: ذرّيّةً نصب على البدل، وقيل على الحال لأن معنى ذرّيّةً بعضها من بعضٍ متشابهين في الدين والحال، وهذا أظهر من البدل، والذرية في عرف الاستعمال تقع لما تناسل من الأولاد سفلا، واشتقاق اللفظة في اللغة يعطي أن تقع على جميع الناس أي كل أحد ذرية لغيره فالناس كلهم ذرية بعضهم لبعض، وهكذا استعملت الذرية في قوله تعالى: أنّا حملنا ذرّيّتهم في الفلك المشحون [يس: 41] أي ذرية هذا الجنس ولا يسوغ أن يقول في والد هذا ذرية لولده وإذ اللفظة من ذر إذا بث فهكذا يجيء معناها، وكذلك إن جعلناها من «ذرى» وكذلك إن جعلت من ذرأ أو من الذر الذي هو صغار النمل، قال أبو الفتح: الذرية يحتمل أن تكون مشتقة من هذه الحروف الأربعة، ثم طول أبو الفتح القول في وزنها على كل اشتقاق من هذه الأربعة الأحرف تطويلا لا يقتضي هذا الإيجاز ذكره وذكرها أبو علي في الأعراف في ترجمة من ظهورهم ذرّيّتهم [الأعراف: 172] قال الزجّاج: أصلها فعلية من الذر، لأن الله أخرج الخلق من صلب آدم كالذر، قال أبو الفتح: هذه نسبة إلى الذر غير أولها كما قالوا في النسبة إلى الحرم: حرمي بكسر الحاء وغير ذلك من تغيير النسب قال الزجّاج: وقيل أصل ذرّيّةً ذرورة، وزنها فعلولة فلما كثرت الراءات أبدلوا من الأخيرة ياء فصارت ذروية ثم أدغمت الواو في الياء فجاءت ذرّيّةً.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فهذا اشتقاق من ذر يذر، أو من ذرى، وإذا كانت من ذرأ فوزنها فعلية كمريقة أصلها ذرئة فألزمت البدل والتخفيف كما فعلوا في البرية في قول من رآها من برأ الله الخلق، وفي كوكب دري، في قول من رآه من- درأ- لأنه يدفع الظلمة بضوئه.
وقرأ جمهور الناس «ذرية» بضم الذال وقرأ زيد بن ثابت والضحاك، «ذرية» بكسر الذال، وقوله تعالى: بعضها من بعضٍ أي في الإيمان والطاعة وإنعام الله عليهم بالنبوة). [المحرر الوجيز: 2/199-200]

تفسير قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (واختلف الناس في العامل في قوله إذ قالت فقال أبو عبيدة معمر: إذ زائدة، وهذا قول مردود، وقال المبرد والأخفش: العامل فعل مضمر تقديره، اذكر إذ وقال الزجاج: العامل معنى الاصطفاء، التقدير: واصطفى آل عمران إذ.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وعلى هذا القول يخرج عمران من الاصطفاء، وقال الطبري ما معناه: إن العامل في إذ قوله سميعٌ وامرأت عمران اسمها حنة بنت قاذوذ فيما ذكر الطبري عن ابن إسحاق، وهي أم مريم بنت عمران، ومعنى قوله: نذرت لك ما في بطني محرّراً أي جعلت نذرا أن يكون هذا الولد الذي في بطني حبيسا على خدمة بيتك محررا من كل خدمة وشغل من أشغال الدنيا، أي عتيقا من ذلك فهو من لفظ الحرية، ونصبه على الحال، قال مكي: فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدره، غلاما محررا، وفي هذا نظر، والبيت الذي نذرته له هو بيت المقدس.
قال ابن إسحاق: كان سبب نذر حنة لأنها كانت قد أمسك عنها الولد حتى أسنت فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائرا يزق فرخا له فتحركت نفسها للولد فدعت الله أن يهب لها ولدا فحملت بمريم وهلك عمران، فلما علمت أن في بطنها جنينا جعلته نذيرة لله، أن يخدم الكنيسة لا ينتفع به في شيء من أمر الدنيا، وقال مجاهد: محرّراً معناه خادما للكنيسة وقال مثله الشعبي وسعيد بن جبير، وكان هذا المعنى من التحرير للكنائس عرفا في الذكور خاصة، وكان فرضا على الأبناء التزام ذلك، فقالت ما في بطني ولم تنص على ذكورته لمكان الإشكال، ولكنها جزمت الدعوة رجاء منها أن يكون ذكرا، وتقبل الشيء وقبوله أخذه حيث يتصور الأخذ والرضى به في كل حال، فمعنى قولها فتقبّل منّي أي ارض عني في ذلك واجعله فعلا مقبولا مجازى به، والسميع، إشارة إلى دعائها العليم إشارة إلى نيتها). [المحرر الوجيز: 2/200-201]

تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: فلمّا وضعتها قالت ربّ إنّي وضعتها أنثى واللّه أعلم بما وضعت وليس الذّكر كالأنثى وإنّي سمّيتها مريم وإنّي أعيذها بك وذرّيّتها من الشّيطان الرّجيم (36) فتقبّلها ربّها بقبولٍ حسنٍ وأنبتها نباتاً حسناً وكفّلها زكريّا كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند اللّه إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حسابٍ (37)
هذه الآية خطاب من الله تعالى لمحمد عليه السلام، والوضع الولادة، وأنث الضمير في وضعتها، حملا على الموجودة ورفعا للفظ ما التي في قولها ما في بطني [آل عمران: 33] وقولها، ربّ إنّي وضعتها أنثى لفظ خبر في ضمنه التحسر والتلهف، وبيّن الله ذلك بقوله: واللّه أعلم بما وضعت. وقرأ جمهور الناس «وضعت» بفتح العين وإسكان التاء، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «وضعت»، بضم التاء وإسكان العين، وهذا أيضا مخرج قولها، ربّ إنّي وضعتها أنثى من معنى الخبر إلى معنى
التلهف، وإنما تلهفت لأنهم كانوا لا يحررون الإناث لخدمة الكنائس ولا يجوز ذلك عندهم، وكانت قد رجت أن يكون ما في بطنها ذكرا فلما وضعت أنثى تلهفت على فوت الأمل وأفزعها أن نذرت ما لا يجوز نذره، وقرأ ابن عباس «وضعت» بكسر التاء على الخطاب من الله لها، وقولها وليس الذّكر كالأنثى تريد في امتناع نذره إذ الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان قاله قتادة والربيع والسدي وعكرمة وغيرهم، وبدأت بذكر الأهم في نفسها وإلا فسياق قصتها يقتضي أن تقول: وليست الأنثى كالذكر فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد، وفي قولها وإنّي سمّيتها مريم سنة تسمية الأطفال قرب الولادة ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم وقد روي عنه عليه السلام أن ذلك في يوم السابع يعق عن المولود ويسمى، قال مالك رحمه الله: ومن مات ولده قبل السابع فلا عقيقة عليه ولا تسمية، قال ابن حبيب: أحب إلي أن يسمى، وأن يسمى السقط لما روي من رجاء شفاعته، ومريم، لا ينصرف لعجمته وتعريفه وتأنيثه، وباقي الآية إعادة، وورد في الحديث عن النبي عليه السلام من رواية أبي هريرة قال: كل مولود من بني آدم له طعنة من الشيطان وبها يستهل إلا ما كان من مريم ابنة عمران وابنها فإن أمها قالت حين وضعتها: وإنّي أعيذها بك وذرّيّتها من الشّيطان الرّجيم فضرب بينهما حجاب فطعن الشيطان في الحجاب، وقد اختلفت ألفاظ الحديث من طرق والمعنى واحد كما ذكرته). [المحرر الوجيز: 2/201-202]


تفسير قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: فتقبّلها إخبار لمحمد عليه السلام بأن الله رضي مريم لخدمة المسجد كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك، والمعنى يقتضي أن الله أوحى إلى زكرياء ومن كان هنالك بأنه تقبلها، ولذلك جعلوها كما نذرت، وقوله بقبولٍ مصدر جاء على غير الصدر، وكذلك قوله نباتاً بعد أنبت، وقوله وأنبتها نباتاً حسناً، عبارة عن حسن النشأة وسرعة الجودة فيها في خلقة وخلق، وقوله تعالى: وكفّلها زكريّا معناه: ضمها إلى إنفاقه وحضنه، والكافل هو المربي الحاضن، قال ابن إسحاق: إن زكرياء كان زوج خالتها لأنه وعمران كانا سلفين على أختين، ولدت امرأة زكرياء يحيى وولدت امرأة عمران مريم، وقال السدي وغيره: إن زكرياء كان زوج ابنة أخرى لعمران، ويعضد هذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم في يحيى وعيسى: ابنا الخالة، قال مكي: وهو زكريا بن آذن، وذكر قتادة وغير واحد من أهل العلم: أنهم كانوا في ذلك الزمان يتشاحون في المحرر عند من يكون من القائمين بأمر المسجد فيتساهمون عليه، وأنهم فعلوا في مريم ذلك، فروي أنهم ألقوا أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة في النهر، وقيل أقلاما بروها من عود كالسهام والقداح، وقيل عصيا لهم، وهذه كلها تقلم، وروي أنهم ألقوا ذلك في نهر الأردن، وروي أنهم ألقوه في عين، وروي أن قلم زكرياء صاعد الجرية، ومضت أقلام الآخرين مع الماء في جريته، وروي أن أقلام القوم عامت على الماء معروضة كما تفعل العيدان وبقي قلم زكرياء مرتكزا واقفا كأنما ركز في طين فكفلها عليه السلام بهذا الاستهام، وحكى الطبري عن ابن إسحاق: أنها لما ترعرعت أصابت بني إسرائيل مجاعة فقال لهم زكرياء: إني قد عجزت عن إنفاق مريم فاقترعوا على من يكفلها ففعلوا فخرج السهم على رجل يقال له جريج فجعل ينفق عليها وحينئذ كان زكرياء يدخل عليها المحراب عند جريج فيجد عندها الرزق.
قال أبو محمد: وهذا الاستهام غير الأول، هذا المراد منه دفعها، والأول المراد منه أخذها، ومضمن هذه الرواية أن زكرياء كفلها من لدن طفولتها دون استهام، لكن أمها هلكت وقد كان أبوها هلك وهي في بطن أمها فضمها زكرياء إلى نفسه لقرابتها من امرأته، وهكذا قال ابن إسحاق، والذي عليه الناس أن زكرياء إنما كفل بالاستهام لتشاحهم حينئذ فيمن يكفل المحرر، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وكفلها زكرياء مفتوحة الفاء، خفيفة «زكرياء» مرفوعا ممدودا، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر، وكفلها مشدد الفاء ممدودا منصوبا في جميع القرآن، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص، «كفّلها» مشددة الفاء مفتوحة، «زكريّا» مقصورا في جميع القرآن، وفي رواية أبي بن كعب، و «أكفلها زكرياء» بفتح الفاء على التعدية بالهمزة، وقرأ مجاهد، «فتقبلها» بسكون اللام على الدعاء «ربّها» بنصب الباء على النداء و «أنبتها» بكسر الباء على الدعاء، و «كفلها» بكسر الفاء وشدها على الدعاء زكرياء منصوبا ممدودا، وروي عن عبد الله بن كثير، وأبي عبد الله المزني، «وكفلها» بكسر الفاء خفيفة وهي لغة يقال: كفل يكفل بضم العين في المضارع، وكفل بكسر العين يكفل بفتحها في المضارع، «زكرياء» اسم أعجمي يمد ويقصر، قال أبو علي: لما عرب صادق العربية في بنائه فهو كالهيجاء تمد وتقصر، قال الزجاج: فأما ترك صرفه فلأن فيه في المد ألفي تأنيث وفي القصر ألف التأنيث، قال أبو علي: ألف زكرياء ألف تأنيث ولا يجوز أن تكون ألف إلحاق، لأنه ليس في الأصول شيء على وزنه، ولا يجوز أن تكون منقلبة، ويقال في لغة زكرى منون معرب، قال أبو علي: هاتان ياء نسب ولو كانتا اللتين في زكريّا لوجب ألا ينصرف الاسم للعجمة والتعريف وإنما حذفت تلك وجلبت ياء النسب، وحكى أبو حاتم، زكرى بغير صرف وهو غلط عند النحاة، ذكره مكي.
وقوله تعالى: كلّما ظرف والعامل فيه وجد، والمحراب المبنى الحسن كالغرف والعلالي ونحوه، ومحراب القصر أشرف ما فيه ولذلك قيل لأشرف ما في المصلى وهو موقف الإمام محراب، وقال الشاعر:
[وضاح اليمن] [السريع]
ربّة محراب إذا جئتها = لم ألقها أو أرتقي سلّما
ومثل قول الآخر: [عدي بن زيد] [الخفيف]
كدمى العاج في المحاريب أو كال = بيض في الرّوض زهره مستنير
وقوله تعالى: وجد عندها رزقاً، معناه طعاما تتغذى به ما لم يعهده ولا عرف كيف جلب إليها، وكانت فيما ذكر الربيع، تحت سبعة أبواب مغلقة وحكى مكي أنها كانت في غرفة يطلع إليها بسلم، وقال ابن عباس: وجد عندها عنبا في مكتل في غير حينه، وقاله ابن جبير ومجاهد، وقال الضحاك ومجاهد أيضا وقتادة: كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، وقال ابن عباس: كان يجد عندها ثمار الجنة: فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، وقال الحسن: كان يجد عندها رزقا من السماء ليس عند الناس ولو أنه علم أن ذلك الرزق من عنده لم يسألها عنه، وقال ابن إسحاق: هذا الدخول الذي ذكر الله تعالى في قوله كلّما دخل عليها إنما هو دخول زكرياء عليها وهي في كفالة جريج أخيرا، وذلك أن جريجا كان يأتيها بطعامها فينميه الله ويكثره، حتى إذا دخل عليها زكرياء عجب من كثرته فقال: يا مريم أنّى لك هذا والذي عليه الناس أقوى مما ذكره ابن إسحاق، وقوله أنّى معناه كيف ومن أين؟ وقولها: هو من عند اللّه، دليل على أنه ليس من جلب بشر، وهكذا تلقى زكرياء المعنى وإلا فليس كان يقنع بهذا الجواب، قال الزجاج: وهذا من الآية التي قال تعالى: وجعلناها وابنها آيةً للعالمين [الأنبياء: 91] وروي أنها لم تلقم ثديا قط، وقولها: إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حسابٍ تقرير لكون ذلك الرزق من عند الله، وذهب الطبري إلى أن ذلك ليس من قول مريم وأنه خبر من الله تعالى لمحمد عليه السلام، والله تعالى لا تنتقص خزائنه، فليس يحسب ما يخرج منها، وقد يعبر بهذه العبارة عن المكثرين من الناس أنهم ينفقون بغير حساب، وذلك مجاز وتشبيه، والحقيقة هي فيما ينتفق من خزائن الله تعالى). [المحرر الوجيز: 2/202-206]

رد مع اقتباس