عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 17 جمادى الآخرة 1435هـ/17-04-2014م, 01:52 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ مدح التّوراة الّتي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران، فقال: {إنّا أنزلنا التّوراة فيها هدًى ونورٌ يحكم بها النّبيّون الّذين أسلموا للّذين هادوا} أي: لا يخرجون عن حكمها ولا يبدّلونها ولا يحرّفونها {والرّبّانيّون والأحبار} أي: وكذلك الرّبّانيّون منهم وهم العباد العلماء، والأحبار وهم العلماء {بما استحفظوا من كتاب اللّه} أي: بما استودعوا من كتاب اللّه الّذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به {وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا النّاس واخشون} أي: لا تخافوا منهم وخافوني {ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} فيه قولان سيأتي بيانهما. سببٌ آخر لنزول هذه الآيات الكريمة.
قال الإمام أحمد: حدّثنا إبراهيم بن العبّاس، حدّثنا عبد الرّحمن بن أبي الزّناد، عن أبيه، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه، عن ابن عبّاسٍ قال: إنّ اللّه أنزل: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} و {فأولئك هم الظّالمون} [المائدة:45] {فأولئك هم الفاسقون} [المائدة:47] قال: قال ابن عبّاسٍ: أنزلها اللّه في الطّائفتين من اليهود، كانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهليّة، حتّى ارتضوا أو اصطلحوا على أنّ كلّ قتيلٍ قتلته العزيزة من الذّليلة فديته خمسون وسقا، وكلّ قتيلٍ قتلته الذّليلة من العزيزة فديته مائة وسقٍ، فكانوا على ذلك حتّى قدم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة، فذلّت الطّائفتان كلتاهما، لمقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ويومئذ لم يظهر، ولم يوطّئهما عليه، وهو في الصّلح، فقتلت الذّليلة من العزيزة قتيلًا فأرسلت العزيزة إلى الذّليلة: أن ابعثوا لنا بمائةٍ وسقٍ، فقالت الذّليلة: وهل كان هذا في حيّين قطّ دينهما واحدٌ، ونسبهما واحدٌ، وبلدهما واحدٌ: دية بعضهم نصف دية بعضٍ. إنّما أعطيناكم هذا ضيمًا منكم لنا، وفرقًا منكم، فأمّا إذ قدم محمّدٌ فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثمّ ارتضوا على أن يجعلوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بينهم، ثمّ ذكرت العزيزة فقالت: واللّه ما محمّدٌ بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلّا ضيمًا منّا وقهرًا لهم، فدسّوا إلى محمّدٍ: من يخبر لكم رأيه، إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه وإن لم يعطكم حذّرتم فلم تحكّموه. فدسّوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ناسًا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلمّا جاءوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أخبر اللّه رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بأمرهم كلّه، وما أرادوا، فأنزل اللّه تعالى: {يا أيّها الرّسول لا يحزنك الّذين يسارعون في الكفر} إلى قوله: {الفاسقون} ففيهم -واللّه-أنزل، وإيّاهم عنى اللّه، عزّ وجلّ.
ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزّناد، عن أبيه، بنحوه.
وقال أبو جعفر بن جريرٍ: حدّثنا هنّاد بن السّريّ وأبو كريب قالا حدّثنا يونس بن بكير، عن محمّد بن إسحاق، حدّثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ؛ أنّ الآيات في "المائدة"، قوله: {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} إلى {المقسطين} إنّما أنزلت في الدّية في بني النّضير وبني قريظة، وذلك أنّ قتلى بني النّضير، كان لهم شرفٌ، تؤدى الدّية كاملةً، وأن قريظة كانوا يودون نصف الدّية فتحاكموا في ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل اللّه ذلك فيهم، فحملهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على الحقّ في ذلك، فجعل الدّية في ذلك سواءً-واللّه أعلم أيّ ذلك كان.
ورواه أحمد، وأبو داود، والنّسائيّ من حديث ابن إسحاق.
ثمّ قال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا عبيد اللّه بن موسى، عن عليّ بن صالحٍ، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: كانت قريظة والنّضير وكانت النّضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجلٌ من قريظة رجلًا من النّضير قتل به، وإذا قتل رجلٌ من النّضير رجلًا من قريظة، ودي مائة وسقٍ تمرٍ. فلمّا بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قتل رجلٌ من النّضير رجلًا من قريظة، فقالوا: ادفعوه إلينا فقالوا: بيننا وبينكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فنزلت: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط}
ورواه أبو داود والنّسائيّ، وابن حبّان، والحاكم في المستدرك، من حديث عبيد الله بن موسى، بنحوه.
وهكذا قال قتادة، ومقاتل بن حيّان، وابن زيدٍ وغير واحدٍ.
وقد روى العوفيّ، وعليّ بن أبي طلحة الوالبيّ، عن ابن عبّاسٍ: أنّ هذه الآيات نزلت في اليهوديّين اللّذين زنيا، كما تقدّمت الأحاديث بذلك. وقد يكون اجتمع هذان السّببان في وقتٍ واحدٍ، فنزلت هذه الآيات في ذلك كلّه، واللّه أعلم.
ولهذا قال بعد ذلك: {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس والعين بالعين} إلى آخرها، وهذا يقوّي أنّ سبب النّزول قضيّة القصاص، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} قال البراء بن عازبٍ، وحذيفة بن اليمان، وابن عبّاسٍ، وأبو مجلزٍ، وأبو رجاء العطاردي، وعكرمة، وعبيد اللّه بن عبد اللّه، والحسن البصريّ، وغيرهم: نزلت في أهل الكتاب -زاد الحسن البصريّ: وهي علينا واجبةٌ.
وقال عبد الرّزّاق عن سفيان الثّوريّ، عن منصورٍ، عن إبراهيم قال: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل، ورضي اللّه لهذه الأمّة بها. رواه ابن جريرٍ.
وقال ابن جريرٍ أيضًا: حدّثنا يعقوب، حدّثنا هشيم، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن سلمة بن كهيل، عن علقمة ومسروقٍ أنّهما سألا ابن مسعودٍ عن الرّشوة فقال: من السّحت: قال: فقالا وفي الحكم؟ قال: ذاك الكفر! ثمّ تلا {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون}
وقال السّدّي: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} يقول: ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمدًا، أو جار وهو يعلم، فهو من الكافرين [به]
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} قال: من جحد ما أنزل اللّه فقد كفر. ومن أقرّ به ولم يحكم فهو ظالمٌ فاسقٌ. رواه ابن جريرٍ.
ثمّ اختار أنّ الآية المراد بها أهل الكتاب، أو من جحد حكم اللّه المنزّل في الكتاب.
وقال عبد الرّزّاق، عن الثّوريّ، عن زكريّا، عن الشّعبيّ: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه} قال: للمسلمين.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن المثنّى، حدّثنا عبد الصّمد، حدّثنا شعبة، عن ابن أبي السّفر، عن الشّعبيّ: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} قال: هذا في المسلمين، {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظّالمون} قال: هذا في اليهود، {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون} قال: هذا في النّصارى.
وكذا رواه هشيم والثّوريّ، عن زكريّا بن أبي زائدة، عن الشّعبيّ.
وقال عبد الرّزّاق أيضًا: أخبرنا معمر، عن ابن طاوسٍ عن أبيه قال: سئل ابن عبّاسٍ عن قوله: {ومن لم يحكم [بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون]} قال: هي به كفرٌ -قال ابن طاوسٍ: وليس كمن كفر باللّه وملائكته وكتبه ورسله.
وقال الثّوريّ، عن ابن جريج عن عطاءٍ أنّه قال: كفرٌ دون كفرٍ، وظلمٌ دون ظلمٍ، وفسقٌ دون فسقٍ. رواه ابن جريرٍ.
وقال وكيع عن سفيان، عن سعيدٍ المكّيّ، عن طاوسٍ: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} قال: ليس بكفرٍ ينقل عن الملّة.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوسٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} قال: ليس بالكفر الّذي يذهبون إليه.
ورواه الحاكم في مستدركه، عن حديث سفيان بن عيينة، وقال: صحيحٌ على شرط الشّيخين ولم يخرّجاه. ). [تفسير القرآن العظيم: 3/117-120]

تفسير قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسّنّ بالسّنّ والجروح قصاصٌ فمن تصدّق به فهو كفّارةٌ له ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظّالمون (45)}
وهذا أيضًا ممّا وبّخت به اليهود وقرّعوا عليه، فإنّ عندهم في نصّ التّوراة: أنّ النّفس بالنّفس. وهم يخالفون ذلك عمدًا وعنادًا، ويقيدون النّضريّ من القرظيّ، ولا يقيدون القرظيّ من النّضريّ، بل يعدلون إلى الدّية، كما خالفوا حكم التّوراة المنصوص عندهم في رجم الزّاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتّحميم والإشهار؛ ولهذا قال هناك: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون} لأنّهم جحدوا حكم اللّه قصدًا منهم وعنادًا وعمدًا، وقال هاهنا: {فأولئك هم الظّالمون} لأنّهم لم ينصفوا المظلوم من الظّالم في الأمر الّذي أمر اللّه بالعدل والتّسوية بين الجميع فيه، فخالفوا وظلموا، وتعدّى بعضهم على بعضٍ.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن آدم، حدّثنا ابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن أبي علي بن يزيد -أخي يونس بن يزيد-عن الزّهريّ، عن أنس بن مالكٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قرأها: {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس والعين بالعين} نصب النّفس ورفع العين.
وكذا رواه أبو داود، والتّرمذيّ والحاكم في مستدركه، من حديث عبد اللّه بن المبارك وقال التّرمذيّ: حسنٌ غريبٌ.
وقال البخاريّ: تفرّد ابن المبارك بهذا الحديث.
وقد استدلّ كثيرٌ ممّن ذهب من الأصوليّين والفقهاء إلى أنّ شرع من قبلنا شرعٌ لنا، إذا حكي مقرّرًا ولم ينسخ، كما هو المشهور عن الجمهور، وكما حكاه الشّيخ أبو إسحاق الاسفرايينيّ عن نصّ الشّافعيّ وأكثر الأصحاب بهذه الآية، حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمّة.
وقال الحسن البصريّ: هي عليهم وعلى النّاس عامّةٌ. رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقد حكى الشّيخ أبو زكريّا النّوويّ في هذه المسألة ثلاثة أوجهٍ ثالثها: أنّ شرع إبراهيم حجّةٌ دون غيره، وصحّح منها عدم الحجّيّة، ونقلها الشّيخ أبو إسحاق الاسفرايينيّ أقوالًا عن الشّافعيّ ورجّح أنّه حجّةٌ عند الجمهور من أصحابنا، فاللّه أعلم.
وقد حكى الإمام أبو نصر بن الصّبّاغ، رحمه اللّه، في كتابه "الشّامل" إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلّت عليه، وقد احتجّ الأئمّة كلّهم على أنّ الرّجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة، وكذا ورد في الحديث الّذي رواه النّسائيّ وغيره: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كتب في كتاب عمرو بن حزمٍ: "أنّ الرّجل يقتل بالمرأة" وفي الحديث الآخر: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" وهذا قول جمهور العلماء.
وعن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ أنّ الرّجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها، إلّا أن يدفع وليّها إلى أوليائه نصف الدّية؛ لأنّ ديتها على النّصف من دية الرّجل، وإليه ذهب أحمد في روايته [عنه] وحكي [هذا] عن الحسن [البصريّ] وعطاءٍ، وعثمان البتّيّ، وروايةً عن أحمد [به] أنّ الرّجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها، بل تجب ديتها.
وهكذا احتجّ أبو حنيفة، رحمه اللّه تعالى، بعموم هذه الآية على أنّه يقتل المسلم بالكافر الذّمّيّ، وعلى قتل الحرّ بالعبد، وقد خالفه الجمهور فيهما، ففي الصّحيحين عن أمير المؤمنين عليٍّ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا يقتل مسلمٌ بكافرٍ" وأمّا العبد فعن السّلف في آثار متعدّدةٍ: أنّهم لم يكونوا يقيدون العبد من الحرّ، ولا يقتلون حرًّا بعبدٍ، وجاء في ذلك أحاديث لا تصحّ، وحكى الشّافعيّ الإجماع على خلاف قول الحنفيّة في ذلك، ولكن لا يلزم من ذلك بطلان قولهم إلّا بدليلٍ مخصّصٍ للآية الكريمة.
ويؤيّد ما قاله ابن الصّبّاغ من الاحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثّابت في ذلك، كما قال الإمام أحمد:
حدّثنا محمّد بن أبي عديّ، حدّثنا حميد، عن أنس بن مالكٍ: أنّ الرّبيع عمّة أنسٍ كسرت ثنيّة جاريةٍ، فطلبوا إلى القوم العفو، فأبوا، فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "القصاص". فقال أخوها أنس بن النّضر: يا رسول اللّه تكسر ثنيّة فلانة؟! فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "يا أنس، كتاب اللّه القصاص". قال: فقال: لا والّذي بعثك بالحقّ، لا تكسر ثنيّة فلانة. قال: فرضي القوم، فعفوا وتركوا القصاص، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ من عباد اللّه من لو أقسم على اللّه لأبّره".
أخرجاه في الصّحيحين وقد رواه محمّد بن عبد اللّه بن المثنّى الأنصاريّ، في الجزء المشهور من حديثه، عن حميدٍ، عن أنس بن مالكٍ؛ أنّ الرّبيع بنت النّضر عمّته لطمت جاريةً فكسرت ثنيّتها فعرضوا عليهم الأرش، فأبوا فطلبوا الأرش والعفو فأبوا، فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأمرهم بالقصاص، فجاء أخوها أنس بن النّضر فقال: يا رسول اللّه أتكسر ثنيّة الرّبيع؟ والّذي بعثك بالحقّ لا تكسر ثنيّتها. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "يا أنس كتاب اللّه القصاص". فعفا القوم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ من عباد اللّه من لو أقسم على اللّه لأبرّه". رواه البخاريّ عن الأنصاريّ. فأمّا الحديث الّذي رواه أبو داود:
حدّثنا أحمد بن حنبلٍ، حدّثنا معاذ بن هشامٍ، حدّثنا أبي، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن عمران بن حصينٍ، أنّ غلامًا لأناسٍ فقراء قطع أذن غلامٍ لأناسٍ أغنياء، فأتى أهله النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا: يا رسول اللّه، إنّا أناسٌ فقراء، فلم يجعل عليه شيئًا. وكذا رواه النّسائيّ عن إسحاق بن راهويه، عن معاذ بن هشامٍ الدّستوائيّ، عن أبيه عن قتادة، به وهذا إسنادٌ قويٌّ رجاله كلّهم ثقاتٌ فإنّه حديثٌ مشكلٌ، اللّهمّ إلّا أن يقال: إن الجاني كان قبل البلوغ، فلا قصاص عليه، ولعلّه تحمّل أرش ما نقص من غلام الأغنياء عن الفقراء، أو استعفاهم عنه.
وقوله تعالى: {والجروح قصاصٌ} قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قال: تقتل النّفس بالنّفس، وتفقأ العين بالعين، ويقطع الأنف بالأنف، وتنزع السّنّ بالسّنّ، وتقتصّ الجراح بالجراح.
فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين [به] فيما بينهم، رجالهم ونساؤهم، إذا كان عمدًا في النّفس وما دون النّفس، ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمدًا، في النّفس وما دون النّفس، رواه ابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ.
قاعدةٌ مهمّةٌ:
الجراح تارةً تكون في مفصل، فيجب فيه القصاص بالإجماع، كقطع اليد والرّجل والكفّ والقدم ونحو ذلك. وأمّا إذا لم تكن الجراح في مفصلٍ بل في عظمٍ، فقال مالكٌ، رحمه اللّه: فيه القصاص إلّا في الفخذ وشبهها؛ لأنّه مخوّفٌ خطرٌ. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجب القصاص في شيءٍ من العظام إلّا في السّنّ. وقال الشّافعيّ: لا يجب القصاص في شيءٍ من العظام مطلقًا، وهو مرويٌّ عن عمر بن الخطّاب، وابن عبّاسٍ. وبه يقول عطاءٌ، والشّعبيّ، والحسن البصريّ، والزّهريّ، وإبراهيم النّخعي، وعمر بن عبد العزيز. وإليه ذهب سفيان الثّوريّ، واللّيث بن سعدٍ. وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
وقد احتجّ أبو حنيفة، رحمه اللّه، بحديث الرّبيع بنت النّضر على مذهبه أنّه لا قصاص في عظمٍ إلّا في السّنّ. وحديث الرّبيع لا حجّة فيه؛ لأنّه ورد بلفظ: "كسرت ثنيّة جاريةٍ" وجائزٌ أن تكون سقطت من غير كسرٍ، فيجب القصاص -والحالة هذه-بالإجماع. وتمّموا الدّلالة. بما رواه ابن ماجه، من طريق أبي بكر بن عيّاش، عن دهثم بن قرّان، عن نمران بن جارية، عن أبيه جارية بن ظفرٍ الحنفيّ؛ أنّ رجلًا ضرب رجلًا على ساعده بالسّيف من غير المفصل، فقطعها، فاستعدى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فأمر له بالدّية، فقال: يا رسول اللّه، أريد القصاص. فقال: "خذ الدّية، بارك اللّه لك فيها". ولم يقض له بالقصاص.
وقال الشّيخ أبو عمر بن عبد البرّ: ليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد، ودهثم بن قرّان العكلي ضعيفٌ أعرابيٌّ، ليس حديثه ممّا يحتجّ به، ونمران بن جارية ضعيفٌ أعرابيٌّ أيضًا، وأبوه جارية بن ظفر مذكورٌ في الصّحابة.
ثمّ قالوا: لا يجوز أن يقتصّ من الجراحة حتّى تندمل جراحه المجنيّ عليه، فإن اقتصّ منه قبل الاندمال ثمّ زاد جرحه، فلا شيء له، والدّليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد: حدّثنا يعقوب، حدّثنا أبي، عن محمّد بن إسحاق، فذكر حديثًا، قال ابن إسحاق: وذكر عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه؛ أنّ رجلًا طعن رجلًا بقرنٍ في ركبته، فجاء إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: أقدني. فقال صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا تعجل حتّى يبرأ جرحك". قال: فأبى الرّجل إلّا أن يستقيد، فأقاده رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منه، قال: فعرج المستقيد وبرأ المستقاد منه، فأتى المستقيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول اللّه، عرجت وبرأ صاحبي. فقال: "قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك اللّه وبطل عرجك". ثمّ نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقتصّ من جرحٍ حتّى يبرأ صاحبه. تفرّد به أحمد.
مسألةٌ:
فلو اقتصّ المجنيّ عليه من الجاني، فمات من القصاص، فلا شيء عليه عند مالكٍ، والشّافعيّ، وأحمد بن حنبلٍ، وهو قول الجمهور من الصّحابة والتّابعين وغيرهم. وقال أبو حنيفة: تجب الدّية في مال المقتصّ. وقال عامرٌ الشّعبيّ، وعطاءٌ، وطاوسٌ، وعمرو بن دينارٍ، والحارث العكلي، وابن أبي ليلى، وحمّاد بن أبي سليمان، والزّهريّ، والثّوريّ: تجب الدّية على عاقلة المقتصّ له. وقال ابن مسعودٍ، وإبراهيم النّخعي، والحكم بن عتيبة وعثمان البتّيّ: يسقط عن المقتصّ له قدر تلك الجراحة، ويجب الباقي في ماله.
وقوله: {فمن تصدّق به فهو كفّارةٌ له} قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {فمن تصدّق به فهو كفّارةٌ له} يقول: فمن عفا عنه، وتصدّق عليه فهو كفّارةٌ للمطلوب، وأجرٌ للطّالب.
وقال سفيان الثّوريّ، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {فمن تصدّق به فهو كفّارةٌ له} قال: كفّارةٌ للجارح، وأجرٌ المجروح على اللّه، عزّ وجلّ. رواه ابن أبي حاتمٍ، ثمّ قال: وروي عن خيثمة بن عبد الرّحمن، ومجاهدٍ، وإبراهيم -في أحد قوليه-وعامرٍ الشّعبيّ، وجابر بن زيدٍ-نحو ذلك الوجه الثّاني، ثمّ قال ابن أبي حاتمٍ:
حدّثنا حمّاد بن زاذان، حدّثنا حرميٌّ -يعني ابن عمارة-حدّثنا شعبة، عن عمارة -يعني ابن أبي حفصة-عن رجلٍ، عن جابر بن عبد اللّه، في قول اللّه، عزّ وجلّ {فمن تصدّق به فهو كفّارةٌ له} قال: للمجروح. وروى عن الحسن البصريّ، وإبراهيم النّخعيّ -في أحد قوليه-وأبي إسحاق الهمدانيّ، نحو ذلك.
وروى ابن جريرٍ، عن عامرٍ الشّعبيّ وقتادة، مثله.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا يونس بن حبيبٍ، حدّثنا أبو داود الطّيالسيّ، حدّثنا شعبة، عن قيسٍ -يعني بن مسلمٍ-قال: سمعت طارق بن شهابٍ يحدّث، عن الهيثم أبي العريان النّخعيّ قال: رأيت عبد اللّه بن عمرٍو عند معاوية أحمر شبيهًا بالموالي، فسألته عن قول اللّه [عزّ وجلّ] {فمن تصدّق به فهو كفّارةٌ له} قال: يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به.
وهكذا رواه سفيان الثّوريّ عن قيس بن مسلمٍ. وكذا رواه ابن جريرٍ من طريق سفيان وشعبة.
وقال ابن مردويه: حدّثني محمّد بن عليٍّ، حدّثنا عبد الرّحيم بن محمّدٍ المجاشعي، حدّثنا محمّد بن أحمد بن الحجّاج المهريّ، حدّثنا يحيى بن سليمان الجعفي، حدّثنا معلّى -يعني ابن هلالٍ -أنّه سمع أبان بن تغلب، عن أبي العريان الهيثم بن الأسود، عن عبد اللّه بن عمرٍو -وعن أبان بن تغلب، عن الشّعبيّ، عن رجلٍ من الأنصار عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله: {فمن تصدّق به فهو كفّارةٌ له} قال: هو الّذي تكسر سنّه، أو تقطع يده، أو يقطع الشّيء منه، أو يجرح في بدنه فيعفو عن ذلك، وقال فيحطّ عنه قدر خطاياه، فإن كان ربع الدّية فربع خطاياه، وإن كان الثّلث فثلث خطاياه، وإن كانت الدّية حطّت عنه خطاياه كذلك.
ثمّ قال ابن جريرٍ: حدّثنا زكريّا بن يحيى بن أبي زائدة، حدّثنا ابن فضيلٍ، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السّفر قال: دفع رجلٌ من قريشٍ رجلًا من الأنصار، فاندقّت ثنيّته، فرفعه الأنصاريّ إلى معاوية، فلمّا ألحّ عليه الرّجل قال: شأنك وصاحبك. قال: وأبو الدّرداء عند معاوية، فقال أبو الدّرداء: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "ما من مسلمٍ يصاب بشيءٍ من جسده، فيهبه، إلّا رفعه اللّه به درجةً، وحطّ عنه به خطيئةً". فقال الأنصاريّ: أنت سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ فقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي، فخلّى سبيل القرشيّ، فقال معاوية: مروا له بمالٍ.
هكذا رواه ابن جريرٍ ورواه الإمام أحمد فقال: حدّثنا وكيع، حدّثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السّفر قال: كسر رجلٌ من قريشٍ سنّ رجلٍ من الأنصار، فاستعدى عليه معاوية، فقال القرشيّ: إنّ هذا دقّ سنّي؟ قال معاوية: إنّا سنرضيه. فألحّ الأنصاريّ، فقال معاوية: شأنك بصاحبك، وأبو الدّرداء جالسٌ، فقال أبو الدّرداء سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "ما من مسلمٍ يصاب بشيءٍ في جسده، فيتصدّق به، إلّا رفعه اللّه به درجةً أو حطّ عنه بها خطيئةً". فقال الأنصاريّ: فإنّي، يعني: قد عفوت.
وهكذا رواه التّرمذيّ من حديث ابن المبارك، وابن ماجه من حديث وكيع، كلاهما عن يونس بن أبي إسحاق، به ثمّ قال التّرمذيّ: غريبٌ لا نعرفه إلّا من هذا الوجه، ولا أعرف لأبي السّفر سماعًا من أبي الدّرداء.
وقال [أبو بكر] بن مردويه: حدّثنا دعلج بن أحمد، حدّثنا محمّد بن عليّ بن زيدٍ، حدّثنا سعيد بن منصورٍ، حدّثنا سفيان، عن عمران بن ظبيان، عن عديّ بن ثابتٍ؛ أنّ رجلًا هتم فمه رجلٌ، على عهد معاوية، رضي اللّه عنه، فأعطي ديةً، فأبى إلّا أن يقتصّ، فأعطي ديتين، فأبى، فأعطي ثلاثًا، فأبى، فحدّث رجلٌ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "من تصدّق بدمٍ فما دونه، فهو كفّارةٌ له من يوم ولد إلى يوم يموت".
وقال الإمام أحمد: حدّثنا سريج بن النّعمان، حدّثنا هشيم، عن المغيرة، عن الشّعبيّ؛ أنّ عبادة بن الصّامت قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "ما من رجلٍ يجرح من جسده جراحة، فيتصدق بها، إلّا كفّر اللّه عنه مثل ما تصدّق به.
ورواه النّسائيّ، عن عليّ بن حجر، عن جرير بن عبد الحميد، ورواه ابن جريرٍ، عن محمود بن خداش، عن هشيم، كلاهما عن المغيرة، به.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ القطّان، عن مجالدٍ، عن عامرٍ، عن المحرّر بن أبي هريرة، عن رجلٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "من أصيب بشيءٍ من جسده، فتركه للّه، كان كفّارةً له".
وقوله: {ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظّالمون} قد تقدّم عن طاوسٍ وعطاءٍ أنّهما قالا كفر دون كفرٍ، وظلمٌ دون ظلم، وفسق دون فسق). [تفسير القرآن العظيم: 3/120-126]

رد مع اقتباس