عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 16 صفر 1440هـ/26-10-2018م, 04:56 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {إنّ الّذين قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنّة الّتي كنتم توعدون (30) نحن أولياؤكم في الحياة الدّنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون (31) نزلًا من غفورٍ رحيمٍ (32)}
يقول تعالى: {إنّ الّذين قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا} أي: أخلصوا العمل للّه، وعملوا بطاعة اللّه تعالى على ما شرع اللّه لهم.
قال الحافظ أبو يعلى الموصليّ: حدّثنا الجرّاح، حدّثنا سلم بن قتيبة أبو قتيبة الشّعيري، حدّثنا سهيل بن أبي حزمٍ، حدّثنا ثابتٌ عن أنس بن مالكٍ قال: قرأ علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هذه الآية: {إنّ الّذين قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا} قد قالها ناسٌ ثمّ كفر أكثرهم، فمن قالها حتّى يموت فقد استقام عليها.
وكذا رواه النّسائيّ في تفسيره، والبزّار وابن جريرٍ، عن عمرو بن عليٍّ الفلّاس، عن سلم بن قتيبة، به. وكذا رواه ابن أبي حاتمٍ، عن أبيه، عن الفلّاس، به. ثمّ قال ابن جريرٍ:
حدّثنا ابن بشّارٍ، حدّثنا عبد الرّحمن، حدّثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد عن سعيد بن نمران قال: قرأت عند أبي بكرٍ الصّدّيق هذه الآية: {إنّ الّذين قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا} قال: هم الّذين لم يشركوا باللّه شيئًا.
ثمّ روي من حديث الأسود بن هلالٍ قال: قال أبو بكرٍ، رضي اللّه عنه: ما تقولون في هذه الآية: {إنّ الّذين قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا}؟ قال: فقالوا: {ربّنا اللّه ثمّ استقاموا} من ذنبٍ. فقال: لقد حملتموها على غير المحمل، {قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا} فلم يلتفتوا إلى إلهٍ غيره.
وكذا قال مجاهدٌ، وعكرمة، والسّدّيّ، وغير واحدٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو عبد اللّه الظّهرانيّ، أخبرنا حفص بن عمر العدنيّ، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة قال: سئل ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما: أيّ آيةٍ في كتاب اللّه أرخص؟ قال قوله: {إنّ الّذين قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا} عليّ شهادة أن لا إله إلّا اللّه.
وقال الزّهريّ: تلا عمر هذه الآية على المنبر، ثمّ قال: استقاموا -واللّه- للّه بطاعته، ولم يروغوا روغان الثّعالب.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا} على أداء فرائضه. وكذا قال قتادة، قال: وكان الحسن يقول: اللّهمّ أنت ربّنا، فارزقنا الاستقامة.
وقال أبو العالية: {ثمّ استقاموا} أخلصوا له العمل والدّين.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا هشيم، حدّثنا يعلى بن عطاءٍ، عن عبد اللّه بن سفيان الثّقفيّ، عن أبيه ؛ أنّ رجلًا قال: يا رسول اللّه مرني بأمرٍ في الإسلام لا أسأل عنه أحدًا بعدك. قال: "قل آمنت باللّه، ثمّ استقم" قلت: فما أتّقي؟ فأومأ إلى لسانه.
ورواه النّسائيّ من حديث شعبة، عن يعلى بن عطاءٍ، به.
ثمّ قال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا إبراهيم بن سعدٍ، حدّثني ابن شهابٍ، عن محمّد بن عبد الرّحمن بن ماعزٍ الغامديّ، عن سفيان بن عبد اللّه الثّقفيّ قال: قلت: يا رسول اللّه، حدّثني بأمرٍ أعتصم به. قال: "قل ربّي اللّه، ثمّ استقم" قلت: يا رسول اللّه ما أكثر ما تخاف عليّ؟ فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بطرف لسان نفسه، ثمّ قال: "هذا".
وهكذا رواه التّرمذيّ وابن ماجه، من حديث الزّهريّ، به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد أخرجه مسلمٌ في صحيحه والنّسائيّ، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن سفيان بن عبد اللّه الثّقفيّ قال: قلت: يا رسول اللّه، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك. قال: "قل آمنت باللّه، ثمّ استقم" وذكر تمام الحديث.
وقوله: {تتنزل عليهم الملائكة} قال مجاهدٌ، والسّدّيّ، وزيد بن أسلم، وابنه: يعني عند الموت قائلين: {ألا تخافوا} قال مجاهدٌ، وعكرمة، وزيد بن أسلم: أي ممّا تقدمون عليه من أمر الآخرة، {ولا تحزنوا} [أي] على ما خلّفتموه من أمر الدّنيا، من ولدٍ وأهلٍ، ومالٍ أو دينٍ، فإنّا نخلفكم فيه، {وأبشروا بالجنّة الّتي كنتم توعدون} فيبشّرونهم بذهاب الشّرّ وحصول الخير.
وهذا كما في حديث البراء، رضي اللّه عنه: "أنّ الملائكة تقول لروح المؤمن: اخرجي أيّتها الرّوح الطّيّبة في الجسد الطّيّب كنت تعمرينه، اخرجي إلى روحٍ وريحانٍ، وربٍّ غير غضبان".
وقيل: إنّ الملائكة تتنزّل عليهم يوم خروجهم من قبورهم. حكاه ابن جريرٍ عن ابن عبّاسٍ، والسّدّيّ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدثنا عبد السّلام بن مطهّرٍ، حدّثنا جعفر بن سليمان: سمعت ثابتًا قرأ سورة "حم السّجدة" حتّى بلغ: {إنّ الّذين قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا تتنزل عليهم الملائكة} فوقف فقال: بلغنا أنّ العبد المؤمن حين يبعثه اللّه من قبره، يتلقّاه الملكان اللّذان كانا معه في الدّنيا، فيقولان له: لا تخف ولا تحزن، {وأبشروا بالجنّة الّتي كنتم توعدون} قال: فيؤمّن اللّه خوفه، ويقرّ عينه فما عظيمةٌ يخشى النّاس يوم القيامة إلّا هي للمؤمن قرّة عينٍ، لما هداه اللّه، ولما كان يعمل له في الدّنيا.
وقال زيد بن أسلم: يبشّرونه عند موته، وفي قبره، وحين يبعث. رواه ابن أبي حاتمٍ.
وهذا القول يجمع الأقوال كلّها، وهو حسنٌ جدًّا، وهو الواقع). [تفسير ابن كثير: 7/ 175-177]

تفسير قوله تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {نحن أولياؤكم في الحياة الدّنيا وفي الآخرة} أي: تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار: نحن كنّا أولياءكم، أي: قرناءكم في الحياة الدّنيا، نسدّدكم ونوفّقكم، ونحفظكم بأمر اللّه، وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور، وعند النّفخة في الصّور، ونؤمّنكم يوم البعث والنّشور، ونجاوز بكم الصّراط المستقيم، ونوصلكم إلى جنّات النّعيم. {ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم} أي: في الجنّة من جميع ما تختارون ممّا تشتهيه النّفوس، وتقرّ به العيون، {ولكم فيها ما تدّعون} أي: مهما طلبتم وجدتم، وحضر بين أيديكم، [أي] كما اخترتم.
{نزلًا من غفورٍ رحيمٍ} أي: ضيافةً وعطاءً وإنعامًا من غفورٍ لذنوبكم، رحيمٍ بكم رءوفٍ، حيث غفر، وستر، ورحم، ولطف.
وقد ذكر ابن أبي حاتمٍ هاهنا حديث "سوق الجنّة" عند قوله تعالى: {ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون نزلًا من غفورٍ رحيمٍ}، فقال:
حدّثنا أبي، حدّثنا هشام بن عمّارٍ، حدّثنا عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين أبي سعيدٍ، حدّثنا الأوزاعيّ، حدّثني حسّان بن عطيّة، عن سعيد بن المسيّب: أنّه لقي أبا هريرة [رضي اللّه عنه] فقال أبو هريرة: نسأل اللّه أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة. فقال سعيد: أو فيها سوقٌ؟ قال: نعم، أخبرني رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم إن أهل الجنة إذا دخلوا فيها، نزلوا بفضل أعمالهم، فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة في أيّام الدّنيا فيزورون اللّه، عزّ وجلّ، ويبرز لهم عرشه، ويتبدّى لهم في روضةٍ من رياض الجنّة، وتوضع لهم منابر من نورٍ، ومنابر من لؤلؤٍ، ومنابر من ياقوتٍ، ومنابر من زبرجدٍ، ومنابر من ذهبٍ، ومنابر من فضّةٍ، ويجلس [فيه] أدناهم وما فيهم دنيءٌ على كثبان المسك والكافور، ما يرون بأنّ أصحاب الكراسيّ بأفضل منهم مجلسًا.
قال أبو هريرة: قلت: يا رسول اللّه، وهل نرى ربّنا [يوم القيامة] ؟ قال: "نعم هل تتمارون في رؤية الشّمس والقمر ليلة البدر؟ " قلنا: لا. قال صلّى اللّه عليه وسلّم: "فكذلك لا تتمارون في رؤية ربّكم تعالى، ولا يبقى في ذلك المجلس أحدٌ إلّا حاضره اللّه محاضرةً، حتّى إنّه ليقول للرّجل منهم: يا فلان بن فلانٍ، أتذكر يوم عملت كذا وكذا؟ -يذكّره ببعض غدراته في الدّنيا-فيقول: أي ربّ، أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه. قال: فبينما هم على ذلك غشيتهم سحابةٌ من فوقهم، فأمطرت عليهم طيبًا لم يجدوا مثل ريحه شيئًا قطّ". قال: ثمّ يقول ربّنا -عزّ وجلّ-: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة، وخذوا ما اشتهيتم". قال: "فنأتي سوقًا قد حفّت به الملائكة، فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان، ولم يخطر على القلوب. قال: فيحمل لنا ما اشتهينا، ليس يباع فيه شيءٌ ولا يشترى، وفي ذلك السّوق يلقى أهل الجنّة بعضهم بعضًا". قال: "فيقبل الرّجل ذو المنزلة الرّفيعة، فيلقى من هو دونه-وما فيهم دنيءٌ فيروّعه ما يرى عليه من اللّباس، فما ينقضي آخر حديثه حتّى يتمثّل عليه أحسن منه؛ وذلك لأنّه لا ينبغي لأحدٍ أن يحزن فيها.
ثمّ ننصرف إلى منازلنا، فيتلقّانا أزواجنا فيقلن: مرحبًا وأهلًا بحبّنا، لقد جئت وإنّ بك من الجمال والطّيب أفضل ممّا فارقتنا عليه. فيقول: إنّا جالسنا اليوم ربّنا الجبّار -عزّ وجلّ- وبحقّنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا به".
وقد رواه التّرمذيّ في "صفة الجنّة" من جامعه، عن محمّد بن إسماعيل، عن هشام بن عمّارٍ، ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمّارٍ، به نحوه. ثمّ قال التّرمذيّ: هذا حديثٌ غريبٌ، لا نعرفه إلّا من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا ابن أبي عدي، عن حميدٍ، عن أنسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من أحبّ لقاء اللّه أحبّ اللّه لقاءه، ومن كره لقاء اللّه كره اللّه لقاءه". قلنا يا رسول اللّه كلّنا نكره الموت؟ قال: "ليس ذلك كراهية الموت، ولكنّ المؤمن إذا حضر جاءه البشير من اللّه بما هو صائرٌ إليه، فليس شيءٌ أحبّ إليه من أن يكون قد لقي اللّه فأحبّ اللّه لقاءه" قال: "وإنّ الفاجر -أو الكافر-إذا حضر جاءه بما هو صائرٌ إليه من الشّرّ -أو: ما يلقى من الشّرّ- فكره لقاء اللّه فكره اللّه لقاءه".
وهذا حديثٌ صحيحٌ، وقد ورد في الصّحيح من غير هذا الوجه). [تفسير ابن كثير: 7/ 177-179]

تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {ومن أحسن قولا ممّن دعا إلى اللّه وعمل صالحًا وقال إنّني من المسلمين (33) ولا تستوي الحسنة ولا السّيّئة ادفع بالّتي هي أحسن فإذا الّذي بينك وبينه عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميمٌ (34) وما يلقّاها إلا الّذين صبروا وما يلقّاها إلا ذو حظٍّ عظيمٍ (35) وإمّا ينزغنّك من الشّيطان نزغٌ فاستعذ باللّه إنّه هو السّميع العليم (36)}
يقول تعالى: {ومن أحسن قولا ممّن دعا إلى اللّه} أي: دعا عباد اللّه إليه، {وعمل صالحًا وقال إنّني من المسلمين} أي: وهو في نفسه مهتدٍ بما يقوله، فنفعه لنفسه ولغيره لازمٌ ومتعدٍ، وليس هو من الّذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكر ويأتونه، بل يأتمر بالخير ويترك الشّرّ، ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى. وهذه عامّةٌ في كلّ من دعا إلى خيرٍ، وهو في نفسه مهتدٍ، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أولى النّاس بذلك، كما قال محمّد بن سيرين، والسّدّيّ، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم.
وقيل: المراد بها المؤذّنون الصّلحاء، كما ثبت في صحيح مسلمٍ: "المؤذّنون أطول النّاس أعناقًا يوم القيامة" وفي السّنن مرفوعًا: "الإمام ضامنٌ، والمؤذّن مؤتمنٌ، فأرشد اللّه الأئمّة، وغفر للمؤذّنين".
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن الحسين، حدّثنا محمّد بن عروبة الهرويّ، حدّثنا غسّان قاضي هراة وقال أبو زرعة: حدّثنا إبراهيم بن طهمان، عن مطرٍ، عن الحسن، عن سعد بن أبي وقّاصٍّ أنّه قال: "سهام المؤذّنين عند اللّه يوم القيامة كسهام المجاهدين، وهو بين الأذان والإقامة كالمتشحّط في سبيل اللّه في دمه".
قال: وقال ابن مسعودٍ: "لو كنت مؤذّنًا ما باليت ألا أحج ولا أعتمر ولا أجاهد".
قال: وقال عمر بن الخطّاب: لو كنت مؤذّنًا لكمل أمري، وما باليت ألّا أنتصب لقيام اللّيل ولا لصيام النّهار، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "اللّهمّ اغفر للمؤذّنين" ثلاثًا، قال: فقلت: يا رسول اللّه، تركتنا، ونحن نجتلد على الأذان بالسّيوف. قال: "كلّا يا عمر، إنّه يأتي على النّاس زمانٌ يتركون الأذان على ضعفائهم، وتلك لحومٌ حرّمها اللّه على النّار، لحوم المؤذّنين".
قال: وقالت عائشة: ولهم هذه الآية: {ومن أحسن قولا ممّن دعا إلى اللّه وعمل صالحًا وقال إنّني من المسلمين} قالت: فهو المؤذّن إذا قال: "حيّ على الصّلاة" فقد دعا إلى اللّه.
وهكذا قال ابن عمر، وعكرمة: إنّها نزلت في المؤذّنين.
وقد ذكر البغويّ عن أبي أمامة الباهليّ، رضي اللّه عنه، أنّه قال في قوله: {وعمل صالحًا} قال: يعني صلاة ركعتين بين الأذان والإقامة.
ثمّ أورد البغويّ حديث "عبد اللّه بن المغفّل" قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "بين كلّ أذانين صلاةٌ". ثمّ قال في الثّالثة: "لمن شاء" وقد أخرجه الجماعة في كتبهم، من حديث عبد اللّه بن بريدة، عنه وحديث الثّوريّ، عن زيدٍ العمّيّ، عن أبي إياسٍ معاوية بن قرّة، عن أنس بن مالكٍ، رضي اللّه عنه، قال الثّوريّ: لا أراه إلّا وقد رفعه إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "الدّعاء لا يردّ بين الأذان والإقامة".
ورواه أبو داود والتّرمذيّ، والنّسائيّ في "اليوم واللّيلة" كلّهم من حديث الثّوريّ، به. وقال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ.
ورواه النّسائيّ أيضًا من حديث سليمان التّيميّ، عن قتادة، عن أنسٍ، به.
والصّحيح أنّ الآية عامّةٌ في المؤذّنين وفي غيرهم، فأمّا حال نزول هذه الآية فإنّه لم يكن الأذان مشروعًا بالكلّيّة؛ لأنّها مكّيّةٌ، والأذان إنّما شرع بالمدينة بعد الهجرة، حين أريه عبد اللّه بن زيد بن عبد ربّه الأنصاريّ في منامه، فقصّه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأمره أن يلقيه على بلالٍ فإنّه أندى صوتًا، كما هو مقرّرٌ في موضعه، فالصّحيح إذًا أنّها عامّةٌ، كما قال عبد الرّزّاق، عن معمرٍ، عن الحسن البصريّ: أنّه تلا هذه الآية: {ومن أحسن قولا ممّن دعا إلى اللّه وعمل صالحًا وقال إنّني من المسلمين} فقال: هذا حبيب اللّه، هذا وليّ اللّه، هذا صفوة اللّه، هذا خيرة اللّه، هذا أحبّ أهل الأرض إلى اللّه، أجاب اللّه في دعوته، ودعا النّاس إلى ما أجاب اللّه فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته، وقال: إنّني من المسلمين، هذا خليفة اللّه). [تفسير ابن كثير: 7/ 179-182]

تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ولا تستوي الحسنة ولا السّيّئة} أي: فرقٌ عظيمٌ بين هذه وهذه، {ادفع بالّتي هي أحسن} أي: من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه، كما قال عمر [رضي اللّه عنه] ما عاقبت من عصى اللّه فيك بمثل أن تطيع اللّه فيه.
وقوله: {فإذا الّذي بينك وبينه عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميمٌ} وهو الصّديق، أي: إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبّتك، والحنوّ عليك، حتّى يصير كأنّه وليٌّ لك حميمٌ أي: قريبٌ إليك من الشّفقة عليك والإحسان إليك.
ثمّ قال: {وما يلقّاها إلا الّذين صبروا} أي: وما يقبل هذه الوصيّة ويعمل بها إلّا من صبر على ذلك، فإنّه يشقّ على النّفوس، {وما يلقّاها إلا ذو حظٍّ عظيمٍ} أي: ذو نصيبٍ وافرٍ من السّعادة في الدّنيا والأخرى.
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في تفسير هذه الآية: أمر اللّه المؤمنين بالصّبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم اللّه من الشّيطان، وخضع لهم عدوّهم كأنّه وليٌّ حميمٌ). [تفسير ابن كثير: 7/ 182]

تفسير قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وإمّا ينزغنّك من الشّيطان نزغٌ فاستعذ باللّه} أي: إنّ شيطان الإنس ربّما ينخدع بالإحسان إليه، فأمّا شيطان الجنّ فإنّه لا حيلة فيه إذا وسوس إلّا الاستعاذة بخالقه الّذي سلّطه عليك، فإذا استعذت باللّه ولجأت إليه، كفّه عنك وردّ كيده. وقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: إذا قام إلى الصّلاة يقول: "أعوذ باللّه السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم من همزه ونفخه ونفثه".
وقد قدّمنا أنّ هذا المقام لا نظير له في القرآن إلّا في "سورة الأعراف" عند قوله: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإمّا ينزغنّك من الشّيطان نزغٌ فاستعذ باللّه إنّه سميعٌ عليمٌ} [الأعراف: 199، 200]، وفي سورة المؤمنين عند قوله: {ادفع بالّتي هي أحسن السّيّئة نحن أعلم بما يصفون وقل ربّ أعوذ بك من همزات الشّياطين وأعوذ بك ربّ أن يحضرون} [المؤمنون: 96 -98].
[لكنّ الّذي ذكر في الأعراف أخفّ على النّفس ممّا ذكر في سورة السّجدة؛ لأنّ الإعراض عن الجاهل وتركه أخفّ على النّفس من الإحسان إلى المسيء فتتلذّذ النّفس من ذلك ولا انتقاد له إلّا بمعالجةٍ ويساعدها الشّيطان في هذه الحال، فتنفعل له وتستعصي على صاحبها، فتحتاج إلى مجاهدةٍ وقوّة إيمانٍ؛ فلهذا أكّد ذلك هاهنا بضمير الفصل والتّعريف باللّام فقال: {فاستعذ باللّه إنّه هو السّميع العليم}]). [تفسير ابن كثير: 7/ 182]

رد مع اقتباس