عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 17 شعبان 1435هـ/15-06-2014م, 03:27 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا أيّها الّذين آمنوا إذا لقيتم الّذين كفروا زحفًا فلا تولّوهم الأدبار (15) ومن يولّهم يومئذٍ دبره إلّا متحرّفًا لقتالٍ أو متحيّزًا إلى فئةٍ فقد باء بغضبٍ من اللّه ومأواه جهنّم وبئس المصير (16) }
يقول تعالى متوعّدًا على الفرار من الزّحف بالنّار لمن فعل ذلك: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا لقيتم الّذين كفروا زحفًا} أي: تقاربتم منهم ودنوتم إليهم، {فلا تولّوهم الأدبار} أي: تفرّوا وتتركوا أصحابكم،
{ومن يولّهم يومئذٍ دبره إلا متحرّفًا لقتالٍ} أي: يفرّ بين يدي قرنه مكيدةً؛ ليريه أنّه [قد] خاف منه فيتبعه، ثمّ يكرّ عليه فيقتله، فلا بأس عليه في ذلك. نصّ عليه سعيد بن جبيرٍ، والسّدّيّ.
وقال الضّحّاك: أن يتقدّم عن أصحابه ليرى غرّةً من العدوّ فيصيبها.
{أو متحيّزًا إلى فئةٍ} أي: فرّ من هاهنا إلى فئةٍ أخرى من المسلمين، يعاونهم ويعاونوه فيجوز له ذلك، حتّى [و] لو كان في سريّةٍ ففرّ إلى أميره أو إلى الإمام الأعظم، دخل في هذه الرّخصة.
قال الإمام أحمد: حدّثنا حسنٌ، حدّثنا زهير، حدّثنا يزيد بن أبي زيادٍ، عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، عن عبد اللّه بن عمر، رضي اللّه عنهما، قال: كنت في سريّةٍ من سرايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فحاص النّاس حيصةً -وكنت فيمن حاص -فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزّحف وبؤنا بالغضب؟ ثمّ قلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا؟ ثمّ قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فإن كانت لنا توبةٌ وإلّا ذهبنا؟ فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: "من القوم؟ " فقلنا: نحن الفرّارون. فقال: "لا بل أنتم العكّارون، أنا فئتكم، وأنا فئة المسلمين" قال: فأتيناه حتّى قبّلنا يده.
وهكذا رواه أبو داود، والتّرمذيّ، وابن ماجه، من طرقٍ عن يزيد بن أبي زيادٍ وقال التّرمذيّ: حسنٌ لا نعرفه إلّا من حديثه.
ورواه ابن أبي حاتمٍ، من حديث يزيد بن أبي زيادٍ به. وزاد في آخره: وقرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هذه الآية: {أو متحيّزًا إلى فئةٍ}
قال أهل العلم: معنى قوله: "العكّارون" أي: العطّافون. وكذلك قال عمر بن الخطّاب. رضي اللّه عنه، في أبي عبيدٍ لمّا قتل على الجسر بأرض فارس، لكثرة الجيش من ناحية المجوس، فقال عمر: لو انحاز إليّ كنت له فئةً. هكذا رواه محمّد بن سيرين، عن عمر
وفي رواية أبي عثمان النّهديّ، عن عمر قال: لمّا قتل أبو عبيدٍ قال عمر: يا أيّها الناس، أنا فئتكم.
وقال مجاهدٌ: قال عمر: أنا فئة كلّ مسلمٍ.
وقال عبد الملك بن عمير، عن عمر: أيّها النّاس، لا تغرّنّكم هذه الآية، فإنّما كانت يوم بدرٍ، وأنا فئةٌ لكلّ مسلمٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا حسّان بن عبد اللّه المصريّ، حدّثنا خلّاد بن سليمان الحضرميّ، حدّثنا نافعٌ: أنّه سأل ابن عمر قلت: إنّا قومٌ لا نثبت عند قتال عدوّنا، ولا ندري من الفئة: إمامنا أو عسكرنا؟ فقال: إنّ الفئة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت إنّ اللّه يقول: {إذا لقيتم الّذين كفروا زحفًا فلا تولّوهم الأدبار} فقال: إنّما نزلت هذه الآية في يوم بدرٍ، لا قبلها ولا بعدها.
وقال الضّحّاك في قوله: {أو متحيّزًا إلى فئةٍ} المتحيّز: الفارّ إلى النّبيّ وأصحابه، وكذلك من فرّ اليوم إلى أميره أو أصحابه.
فأمّا إن كان الفرار لا عن سببٍ من هذه الأسباب، فإنّه حرامٌ وكبيرةٌ من الكبائر، لما رواه البخاريّ ومسلمٌ في صحيحهما عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "اجتنبوا السّبع الموبقات". قيل: يا رسول اللّه، وما هنّ؟ قال: "الشّرك باللّه، والسّحر، وقتل النّفس الّتي حرّم اللّه إلّا بالحقّ، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم، والتّولّي يوم الزّحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات"
ولهذا الحديث شواهد من وجوهٍ أخر؛ ولهذا قال تعالى: {فقد باء} أي: رجع {بغضبٍ من اللّه ومأواه} أي: مصيره ومنقلبه يوم ميعاده: {جهنّم وبئس المصير}
وقال الإمام أحمد: حدّثنا زكريّا بن عديّ، حدّثنا عبيد اللّه بن عمرٍو الرّقّي، عن زيد بن أبي أنيسة، حدّثنا جبلة بن سحيم، عن أبي المثنّى العبديّ، سمعت السّدوسيّ -يعني ابن الخصاصية، وهو بشير بن معبدٍ -قال: أتيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لأبايعه، فاشترط عليّ: "شهادة أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ محمّدًا عبده ورسوله، وأن أقيم الصّلاة، وأن أؤدّي الزّكاة، وأن أحجّ حجّة الإسلام، وأن أصوم شهر رمضان، وأن أجاهد في سبيل اللّه". فقلت: يا رسول اللّه، أمّا اثنتان فواللّه لا أطيقهما: الجهاد، فإنّهم زعموا أنّه من ولّى الدّبر فقد باء بغضبٍ من اللّه، فأخاف إن حضرت ذلك خشعت نفسي وكرهت الموت. والصّدقة، فواللّه ما لي إلّا غنيمةٌ وعشر ذودٍ هنّ رسل أهلي وحمولتهم. فقبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يده، ثمّ حرّك يده، ثمّ قال: "فلا جهاد ولا صدقة، فيم تدخل الجنّة إذًا؟ " فقلت: يا رسول اللّه، أنا أبايعك. فبايعته عليهنّ كلهنّ.
هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه ولم يخرجوه في الكتب الستة.
وقال الحافظ أبو القاسم الطّبرانيّ: حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى بن حمزة، حدّثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النّضر، حدّثنا يزيد بن ربيعة، حدّثنا أبو الأشعث، عن ثوبان، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "ثلاثةٌ لا ينفع معهنّ عملٌ: الشّرك باللّه، وعقوق الوالدين، والفرار من الزّحف".
وهذا أيضًا حديثٌ غريبٌ جدًّا.
وقال الطّبرانيّ أيضًا: حدّثنا العبّاس بن الفضل الأسفاطيّ، حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا حفص بن عمر الشّنّي، حدّثني عمرو بن مرّة قال: سمعت بلال بن يسار بن زيدٍ -مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم -قال: سمعت أبي حدّث عن جدّي قال: قال رسول اللّه: "من قال أستغفر اللّه الّذي لا إله إلّا هو وأتوب إليه، غفر له وإن كان قد فرّ من الزّحف".
وهكذا رواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل، به. وأخرجه التّرمذيّ، عن البخاريّ، عن موسى بن إسماعيل به. وقال: غريبٌ لا نعرفه إلّا من هذا الوجه
قلت: ولا يعرف لزيدٍ مولى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، عنه سواه.
وقد ذهب ذاهبون إلى أنّ الفرار إنّما كان حرامًا على الصّحابة؛ لأنّه -يعني الجهاد -كان فرض عينٍ عليهم. وقيل: على الأنصار خاصّةً؛ لأنّهم بايعوا على السّمع والطّاعة في المنشط والمكره. وقيل: [إنّما] المراد بهذه الآية أهل بدرٍ خاصّةً، يروى هذا عن عمر، وابن عمر، وابن عبّاسٍ، وأبي هريرة، وأبي سعيدٍ، وأبي نضرة، ونافعٍ مولى ابن عمر، وسعيد بن جبيرٍ، والحسن البصريّ، وعكرمة، وقتادة، والضّحّاك، وغيرهم.
وحجّتهم في هذا: أنّه لم تكن عصابةٌ لها شوكةٌ يفيئون إليها سوى عصابتهم تلك، كما قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "اللّهمّ إنّ تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض"؛ ولهذا قال عبد اللّه بن المبارك، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن في قوله: {ومن يولّهم يومئذٍ دبره} قال: ذلك يوم بدرٍ، فأمّا اليوم: فإن انحاز إلى فئةٍ أو مصرٍ -أحسبه قال: فلا بأس عليه.
وقال ابن المبارك أيضًا، عن ابن لهيعة: حدّثني يزيد بن أبي حبيبٍ قال: أوجب اللّه تعالى لمن فرّ يوم بدرٍ النّار، قال: {ومن يولّهم يومئذٍ دبره إلا متحرّفًا لقتالٍ أو متحيّزًا إلى فئةٍ فقد باء بغضبٍ من اللّه} فلمّا كان يوم أحدٍ بعد ذلك قال: {إنّ الّذين تولّوا منكم يوم التقى الجمعان [إنّما استزلّهم الشّيطان ببعض ما كسبوا]} {ولقد عفا اللّه عنهم} [آل عمران: 155]، ثمّ كان يوم حنين بعد ذلك بسبع سنين، قال: {ثمّ ولّيتم مدبرين} [التّوبة: 25] {ثمّ يتوب اللّه من بعد ذلك على من يشاء} [التّوبة: 27].
وفي سنن أبي داود، والنّسائيّ، ومستدرك الحاكم، وتفسير ابن جريرٍ، وابن مردويه، من حديث داود بن أبي هندٍ، عن أبي نضرة، عن أبي سعيدٍ أنّه قال في هذه الآية: {ومن يولّهم يومئذٍ دبره} إنّما أنزلت في أهل بدرٍ وهذا كلّه لا ينفي أن يكون الفرار من الزّحف حرامًا على غير أهل بدرٍ، وإن كان سبب النّزول فيهم، كما دلّ عليه حديث أبي هريرة المتقدّم، من أنّ الفرار من الزّحف من الموبقات، كما هو مذهب الجماهير، واللّه [تعالى] أعلم). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 27-30]

تفسير قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({فلم تقتلوهم ولكنّ اللّه قتلهم وما رميت إذ رميت ولكنّ اللّه رمى وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسنًا إنّ اللّه سميعٌ عليمٌ (17) ذلكم وأنّ اللّه موهن كيد الكافرين (18) }
يبيّن تعالى أنّه خالق أفعال العباد، وأنّه المحمود على جميع ما صدر عنهم من خيرٍ؛ لأنّه هو الّذي وفّقهم لذلك وأعانهم؛ ولهذا قال: {فلم تقتلوهم ولكنّ اللّه قتلهم} أي: ليس بحولكم وقوّتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلّة عددكم، أي: بل هو الّذي أظفركم [بهم ونصركم] عليهم كما قال تعالى: {ولقد نصركم اللّه ببدرٍ وأنتم أذلّةٌ [فاتّقوا اللّه لعلّكم تشكرون]} [آل عمران: 123]. وقال تعالى: {لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرةٍ ويوم حنينٍ إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثمّ ولّيتم مدبرين} [التّوبة: 25] يعلم -تبارك وتعالى-أنّ النّصر ليس عن كثرة العدد، ولا بلبس اللّأمة والعدد، وإنّما النّصر من عند اللّه تعالى كما قال: {كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن اللّه واللّه مع الصّابرين} [البقرة: 249].
ثمّ قال لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم أيضًا في شأن القبضة من التّراب، الّتي حصب بها وجوه المشركين يوم بدرٍ، حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرّعه واستكانته، فرماهم بها وقال: " شاهت الوجوه ". ثمّ أمر الصّحابة أن يصدقوا الحملة إثرها، ففعلوا، فأوصل اللّه تلك الحصباء إلى أعين المشركين، فلم يبق أحدٌ منهم إلّا ناله منها ما شغله عن حاله؛ ولهذا قال [تعالى] {ومارميت إذ رميت} أي: هو الّذي بلّغ ذلك إليهم، وكبتهم بها لا أنت.
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: رفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يديه -يعني يوم بدرٍ -فقال: " يا ربّ إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض أبدًا". فقال له جبريل: "خذ قبضةً من التّراب، فارم بها في وجوههم" فأخذ قبضةً من التّراب، فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين أحدٌ إلّا أصاب عينيه ومنخريه وفمه ترابٌ من تلك القبضة، فولّوا مدبرين.
وقال السّدّيّ: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لعليٍّ، رضي اللّه عنه، يوم بدر: "أعطني حصبا من الأرض". فناوله حصبًا عليه ترابٌ، فرمى به في وجوه القوم، فلم يبق مشركٌ إلّا دخل في عينيه من ذلك التّراب شيءٌ، ثمّ ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، وأنزل اللّه: {فلم تقتلوهم ولكنّ اللّه قتلهم وما رميت إذ رميت ولكنّ اللّه رمى}
وقال أبو معشرٍ المدنيّ، عن محمّد بن قيس ومحمّد بن كعبٍ القرظي قالا لمّا دنا القوم بعضهم من بعضٍ، أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبضةً من ترابٍ، فرمى بها في وجوه القوم، وقال: "شاهت الوجوه". فدخلت في أعينهم كلّهم، وأقبل أصحاب رسول اللّه [صلّى اللّه عليه وسلّم] يقتلونهم ويأسرونهم، وكانت هزيمتهم في رمية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل اللّه: {وما رميت إذ رميت ولكنّ اللّه رمى}
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: في قوله [تعالى] {وما رميت إذ رميت ولكنّ اللّه رمى} قال: هذا يوم بدرٍ، أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثلاث حصياتٍ فرمى بحصاةٍ [في] ميمنة القوم، وحصاةٍ في ميسرة القوم، وحصاةٍ بين أظهرهم، وقال: "شاهت الوجوه"، فانهزموا.
وقد روي في هذه القصّة عن عروة بن الزّبير، ومجاهدٍ وعكرمة، وقتادة وغير واحدٍ من الأئمّة: أنّها نزلت في رمية النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم بدرٍ، وإن كان قد فعل ذلك يوم حنينٍ أيضًا.
وقال أبو جعفر بن جريرٍ: حدّثنا أحمد بن منصورٍ، حدّثنا يعقوب بن محمّدٍ، حدّثنا عبد العزيز بن عمران، حدّثنا موسى بن يعقوب بن عبد اللّه بن زمعة، عن يزيد بن عبد اللّه، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، عن حكيم بن حزامٍ قال: لمّا كان يوم بدرٍ، سمعنا صوتًا وقع من السّماء، كأنّه صوت حصاةٍ وقعت في طستٍ، ورمى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تلك الرّمية، فانهزمنا
غريبٌ من هذا الوجه. وهاهنا قولان آخران غريبان جدًّا.
أحدهما: قال ابن جريرٍ: حدّثني محمّد بن عوفٍ الطّائيّ، حدّثنا أبو المغيرة، حدّثنا صفوان بن عمرٍو، حدّثنا عبد الرّحمن بن جبيرٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم ابن أبي الحقيق بخيبر، دعا بقوسٍ، فأتى بقوسٍ طويلةٍ، وقال: "جيئوني غيرها". فجاؤوا بقوسٍ كبداء، فرمى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم الحصن، فأقبل السّهم يهوي حتّى قتل ابن أبي الحقيق، وهو في فراشه، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وما رميت إذ رميت ولكنّ اللّه رمى}
وهذا غريبٌ، وإسناده جيّدٌ إلى عبد الرّحمن بن جبير بن نفيرٍ، ولعلّه اشتبه عليه، أو أنّه أراد أنّ الآية تعمّ هذا كلّه، وإلّا فسياق الآية في سورة الأنفال في قصّة بدرٍ لا محالة، وهذا ممّا لا يخفى على أئمّة العلم، والله أعلم.
والثّاني: روى ابن جريرٍ أيضًا، والحاكم في مستدركه، بإسنادٍ صحيحٍ إلى سعيد بن المسيّب والزّهريّ أنّهما قالا أنزلت في رمية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم أحدٍ أبي بن خلفٍ بالحربة وهو في لأمته، فخدشه في ترقوته، فجعل يتدأدأ عن فرسه مرارًا، حتّى كانت وفاته [بها] بعد أيّامٍ، قاسى فيها العذاب الأليم، موصولًا بعذاب البرزخ، المتّصل بعذاب الآخرة
وهذا القول عن هذين الإمامين غريبٌ أيضًا جدًّا، ولعلّهما أرادا أنّ الآية تتناوله بعمومها، لا أنّها نزلت فيه خاصّةً كما تقدّم، واللّه أعلم.
وقال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن جعفر بن الزّبير، عن عروة بن الزّبير في قوله: {وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسنًا} أي: ليعرّف المؤمنين من نعمته عليهم، من إظهارهم على عدوّهم مع كثرة عدوّهم، وقلّة عددهم، ليعرفوا بذلك حقّه، ويشكروا بذلك نعمته.
وهكذا فسّر ذلك ابن جريرٍ أيضًا. وفي الحديث: "وكلّ بلاءٍ حسنٌ أبلانا".
وقوله: {إنّ اللّه سميعٌ عليمٌ} أي: سميع الدّعاء، عليمٌ بمن يستحقّ النّصر والغلب). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 30-32]

تفسير قوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله {ذلكم وأنّ اللّه موهن كيد الكافرين} هذه بشارةٌ أخرى مع ما حصل من النّصر: أنّه أعلمهم تعالى بأنّه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل، مصغّرًا أمرهم، وأنّهم كلّ ما لهم في تبارٍ ودمارٍ، وللّه الحمد والمنّة). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 32]

تفسير قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خيرٌ لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وأنّ اللّه مع المؤمنين (19) }
يقول تعالى للكفّار {إن تستفتحوا} أي: تستنصروا وتستقضوا اللّه وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين، فقد جاءكم ما سألتم، كما قال محمّد بن إسحاق وغيره، عن الزّهريّ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صغير؛ أنّ أبا جهلٍ قال يوم بدرٍ: اللّهمّ أقطعنا للرّحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة -وكان ذلك استفتاحًا منه -فنزلت: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} إلى آخر الآية.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد -يعني ابن هارون -أخبرنا محمّد بن إسحاق، حدّثني الزّهريّ، عن عبد اللّه بن ثعلبة: أنّ أبا جهلٍ قال حين التقى القوم: اللّهمّ، أقطعنا للرّحم، وآتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة، فكان المستفتح.
وأخرجه النّسائيّ في التّفسير من حديث، صالح بن كيسان، عن الزّهريّ، به وكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق الزّهريّ، به وقال: صحيحٌ على شرط الشّيخين، ولم يخرجاه. وروي [نحو] هذا عن ابن عبّاسٍ، ومجاهدٍ، والضّحّاك، وقتادة، ويزيد بن رومان، وغير واحدٍ.
وقال السّدّي: كان المشركون حين خرجوا من مكّة إلى بدر، أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا اللّه وقالوا: اللّهمّ انصر أعلى الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين. فقال اللّه: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} يقول: قد نصرت ما قلتم، وهو محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: هو قوله تعالى إخبارًا عنهم: {وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك [فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ]} [الأنفال: 32].
وقوله: {وإن تنتهوا} أي: عمّا أنتم فيه من الكفر باللّه والتّكذيب لرسوله، {فهو خيرٌ لكم} أي: في الدّنيا والآخرة. [وقوله] {وإن تعودوا نعد} كقوله {وإن عدتم عدنا} [الإسراء: 8] معناه: وإن عدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والضّلالة، نعد لكم بمثل هذه الواقعة.
وقال السّدّيّ: {وإن تعودوا} أي: إلى الاستفتاح {نعد} إلى الفتح لمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، والنّصر له، وتظفيره على أعدائه، والأوّل أقوى.
{ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت} أي: ولو جمعتم من الجموع ما عسى أن تجمعوا، فإنّ من كان اللّه معه فلا غالب له، فإنّ اللّه مع المؤمنين، وهم الحزب النّبويّ، والجناب المصطفويّ). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 32-33]


رد مع اقتباس