عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 14 محرم 1440هـ/24-09-2018م, 05:34 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وأنكحوا الأيامى منكم والصّالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم اللّه من فضله واللّه واسعٌ عليمٌ (32) وليستعفف الّذين لا يجدون نكاحًا حتّى يغنيهم اللّه من فضله والّذين يبتغون الكتاب ممّا ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا وآتوهم من مال اللّه الّذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصّنًا لتبتغوا عرض الحياة الدّنيا ومن يكرهّنّ فإنّ اللّه من بعد إكراههنّ غفورٌ رحيمٌ (33) ولقد أنزلنا إليكم آياتٍ مبيّناتٍ ومثلا من الّذين خلوا من قبلكم وموعظةً للمتّقين (34)}
اشتملت هذه الآيات الكريمات المبينة على جملٍ من الأحكام المحكمة، والأوامر المبرمة، فقوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصّالحين من عبادكم وإمائكم}: هذا أمرٌ بالتّزويج. وقد ذهب طائفةٌ من العلماء إلى وجوبه، على كلّ من قدر عليه. واحتجّوا بظاهر قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: "يا معشر الشّباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج، فإنّه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم فإنّه له وجاءٌ". أخرجاه من حديث ابن مسعودٍ.
وجاء في السّنن -من غير وجهٍ -أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم قال: "تزوّجوا، توالدوا، تناسلوا، فإنّي مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة" وفي روايةٍ: "حتّى بالسّقط".
الأيامى: جمع أيّم، ويقال ذلك للمرأة الّتي لا زوج لها، وللرّجل الّذي لا زوجة له. وسواءٌ كان قد تزوّج ثمّ فارق، أو لم يتزوّج واحدٌ منهما، حكاه الجوهريّ عن أهل اللّغة، يقال: رجلٌ أيّمٌ وامرأةٌ أيّمٌ أيضًا.
وقوله تعالى: {إن يكونوا فقراء يغنهم اللّه من فضله واللّه واسعٌ عليمٌ}، قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: رغّبهم اللّه في التّزويج، وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى، فقال: {إن يكونوا فقراء يغنهم اللّه من فضله}.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا محمود بن خالدٍ الأزرق، حدّثنا عمر بن عبد الواحد، عن سعيدٍ -يعني: ابن عبد العزيز -قال: بلغني أنّ أبا بكرٍ الصّدّيق، رضي اللّه عنه، قال: أطيعوا اللّه فيما أمركم به من النّكاح، ينجز [لكم] ما وعدكم من الغنى، قال: {إن يكونوا فقراء يغنهم اللّه من فضله}.
وعن ابن مسعودٍ: التمسوا الغنى في النّكاح، يقول اللّه تعالى: {إن يكونوا فقراء يغنهم اللّه من فضله} رواه ابن جريرٍ، وذكر البغويّ عن عمر بنحوه.
وعن اللّيث، عن محمّد بن عجلان، عن سعيدٍ المقبري، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ثلاثةٌ حقٌّ على اللّه عونهم: النّاكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل اللّه". رواه الإمام أحمد، والتّرمذيّ، والنّسائيّ، وابن ماجه
وقد زوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك الرّجل الّذي لم يجد إلّا إزاره، ولم يقدر على خاتمٍ من حديدٍ، ومع هذا فزوّجه بتلك المرأة، وجعل صداقها عليه أن يعلّمها ما يحفظه من القرآن.
والمعهود من كرم اللّه تعالى ولطفه أن يرزقه [وإيّاها] ما فيه كفايةٌ له ولها. فأمّا ما يورده كثيرٌ من النّاس على أنّه حديث: "تزوّجوا فقراء يغنكم اللّه"، فلا أصل له، ولم أره بإسنادٍ قويٍّ ولا ضعيفٍ إلى الآن، وفي القرآن غنيّةٌ عنه، وكذا هذا الحديث الّذي أوردناه. وللّه الحمد). [تفسير ابن كثير: 6/ 51-52]

تفسير قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {وليستعفف الّذين لا يجدون نكاحًا حتّى يغنيهم اللّه من فضله}. هذا أمرٌ من اللّه تعالى لمن لا يجد تزويجًا [بالتّعفّف] عن الحرام، كما قال -عليه الصّلاة والسّلام -: "يا معشر الشّباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج، فإنّه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصّوم فإنّه له وجاء".
وهذه الآية مطلقةٌ، والّتي في سورة النّساء أخصّ منها، وهي قوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات}، إلى أن قال: {ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خيرٌ لكم} [النّساء: 25] أي صبركم عن تزويج الإماء خيرٌ؛ لأنّ الولد يجيء رقيقًا، {واللّه غفورٌ رحيمٌ}.
قال عكرمة في قوله: {وليستعفف الّذين لا يجدون نكاحًا} قال: هو الرّجل يرى المرأة فكأنّه يشتهي، فإن كانت له امرأةٌ فليذهب إليها وليقض حاجته منها، وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السموات [والأرض] حتّى يغنيه اللّه.
وقوله: {والّذين يبتغون الكتاب ممّا ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا} هذا أمرٌ من اللّه تعالى للسّادة إذا طلب منهم عبيدهم الكتابة أن يكاتبوا، بشرط أن يكون للعبد حيلةٌ وكسبٌ يؤدّي إلى سيّده المال الّذي شارطه على أدائه. وقد ذهب كثيرٌ من العلماء إلى أنّ هذا الأمر أمر إرشادٍ واستحبابٍ، لا أمر تحتّمٍ وإيجابٍ، بل السّيّد مخيّرٌ، إذا طلب منه عبده الكتابة إن شاء كاتبه، وإن شاء لم يكاتبه.
وقال الثّوريّ، عن جابرٍ، عن الشّعبيّ: إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه.
وقال ابن وهبٍ، عن إسماعيل بن عيّاشٍ، عن رجلٍ، عن عطاء بن أبي رباح: إن يشأ يكاتبه وإن لم يشأ لم يكاتبه، وكذا قال مقاتل بن حيّان، والحسن البصريّ.
وذهب آخرون إلى أنّه يجب على السّيّد إذا طلب منه عبده ذلك، أن يجيبه إلى ما طلب؛ أخذًا بظاهر هذا الأمر:
قال البخاريّ: وقال روحٌ، عن ابن جريج قلت لعطاءٍ: [أواجبٌ عليّ إذا علمت له مالًا أن أكاتبه؟ قال: ما أراه إلّا واجبًا. وقال عمرو بن دينارٍ: قلت لعطاءٍ]، أتأثره عن أحدٍ؟ قال: لا. ثمّ أخبرني أنّ موسى بن أنسٍ أخبره، أنّ سيرين سأل أنسًا المكاتبة -وكان كثير المال، فأبى.
فانطلق إلى عمر بن الخطّاب فقال: كاتبه. فأبى، فضربه بالدّرّة، ويتلو عمر، رضي اللّه عنه: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا}، فكاتبه
هكذا ذكره البخاريّ تعليقًا. ورواه عبد الرّزّاق: أخبرنا ابن جريجٍ قال: قلت لعطاءٍ: أواجبٌ عليّ إذا علمت له مالًا أن أكاتبه؟ قال: ما أراه إلّا واجبًا. وقال عمرو بن دينارٍ، قال: قلت لعطاءٍ: أتأثره عن أحدٍ؟ قال: لا
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن بشّار، حدّثنا محمّد بن بكرٍ، حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، عن أنس بن مالكٍ: أنّ سيرين أراد أن يكاتبه، فتلكّأ عليه، فقال له عمر: لتكاتبنّه. إسنادٌ صحيحٌ.
وقال سعيد بن منصورٍ: حدّثنا هشيم بن جويبر، عن الضّحّاك قال: هي عزمة.
وهذا هو القول القديم من قولي الشّافعيّ، رحمه اللّه، وذهب في الجديد إلى أنّه لا يجب؛ لقوله عليه الصّلاة والسّلام: لا يحلّ مال امرئٍ مسلمٍ إلّا بطيبٍ من نفسه".
وقال ابن وهبٍ: قال مالكٌ: الأمر عندنا أن ليس على سيّد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك، ولم أسمع أحدًا من الأئمّة أكره أحدًا على أن يكاتب عبده. قال مالكٌ: وإنّما ذلك أمرٌ من اللّه، وإذنٌ منه للنّاس، وليس بواجبٍ.
وكذا قال الثّوريّ، وأبو حنيفة، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم. واختار ابن جريرٍ قول الوجوب لظاهر الآية.
وقوله: {إن علمتم فيهم خيرًا}، قال بعضهم: أمانةً. وقال بعضهم: صدقًا. [وقال بعضهم: مالًا] وقال بعضهم: حيلةً وكسبًا.
وروى أبو داود في كتاب المراسيل، عن يحيى بن أبي كثيرٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا} قال: "إن علمتم فيهم حرفةً، ولا ترسلوهم كلا على النّاس".
وقوله: {وآتوهم من مال اللّه الّذي آتاكم} اختلف المفسّرون فيه، فقال قائلون: معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها، ثمّ قال بعضهم: مقدار الرّبع. وقيل: الثّلث. وقيل: النّصف. وقيل: جزءٌ من الكتابة من غير واحدٍ.
وقال آخرون: بل المراد من قوله: {وآتوهم من مال اللّه الّذي آتاكم} هو النّصيب الّذي فرض اللّه لهم من أموال الزّكوات. وهذا قول الحسن، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، وأبيه، ومقاتل بن حيّان. واختاره ابن جريرٍ.
وقال إبراهيم النّخعيّ في قوله: {وآتوهم من مال اللّه الّذي آتاكم} قال: حثّ النّاس عليه مولاه وغيره. وكذلك قال بريدة بن الحصيب الأسلميّ، وقتادة.
وقال ابن عبّاسٍ: أمر اللّه المؤمنين أن يعينوا في الرّقاب. وقد تقدّم في الحديث، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "ثلاثةٌ حقٌّ على اللّه عونهم": فذكر منهم المكاتب يريد الأداء، والقول الأوّل أشهر.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن إسماعيل، حدّثنا وكيع، عن ابن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، عن عمر؛ أنّه كاتب عبدًا له، يكنّى أبا أميّة، فجاء بنجمه حين حلّ، فقال: يا أبا أميّة، اذهب فاستعن به في مكاتبتك. قال: يا أمير المؤمنين، لو تركته حتّى يكون من آخر نجمٍ؟ قال: أخاف ألّا أدرك ذلك. ثمّ قرأ: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا وآتوهم من مال اللّه الّذي آتاكم} قال عكرمة: كان أوّل نجمٍ أدّي في الإسلام.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن سالمٍ الأفطس، عن سعيد بن جبيرٍ قال: كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئًا من أوّل نجومه، مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته. ولكنّه إذا كان في آخر مكاتبته، وضع عنه ما أحبّ.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {وآتوهم من مال اللّه الّذي آتاكم} قال: يعني: ضعوا عنهم من مكاتبتهم. وكذلك قال مجاهدٌ، وعطاءٌ، والقاسم بن أبي بزّة، وعبد الكريم بن مالكٍ الجزريّ، والسّدّيّ.
وقال محمّد بن سيرين في قوله: {وآتوهم من مال اللّه الّذي آتاكم}: كان يعجبهم أن يدع الرّجل لمكاتبه طائفةً من مكاتبته.
وقال ابن أبي حاتمٍ: أخبرنا الفضل بن شاذان المقرئ، أخبرنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، عن ابن جريج، أخبرني عطاء بن السّائب: أنّ عبد اللّه بن جندبٍ أخبره، عن عليٍّ، رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "ربع الكتابة".
وهذا حديثٌ غريبٌ، ورفعه منكرٌ، والأشبه أنّه موقوفٌ على عليٍّ، رضي اللّه عنه، كما رواه عنه أبو عبد الرّحمن السّلميّ، رحمه اللّه.
وقوله: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصّنًا لتبتغوا عرض الحياة الدّنيا} الآية: كان أهل الجاهليّة إذا كان لأحدهم أمةٌ، أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبةً يأخذها منها كلّ وقتٍ. فلمّا جاء الإسلام، نهى اللّه المسلمين عن ذلك.
وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة -فيما ذكره غير واحدٍ من المفسّرين، من السّلف والخلف -في شأن عبد اللّه بن أبيّ بن سلولٍ [المنافق] فإنّه كان له إماءٌ، فكان يكرههنّ على البغاء طلبًا لخراجهن، ورغبةً في أولادهنّ، ورئاسةً منه فيما يزعم [قبحه الله ولعنه]
[ذكر الآثار الواردة في ذلك]
قال الحافظ أبو بكرٍ أحمد بن عمرٍو بن عبد الخالق البزّار، رحمه اللّه، في مسنده: حدّثنا أحمد بن داود الواسطيّ، حدّثنا أبو عمرٍو اللّخميّ -يعني: محمّد بن الحجّاج -حدّثنا محمّد ابن إسحاق، عن الزّهريّ قال: كانت جاريةٌ لعبد الله بن أبي ابن سلولٍ، يقال لها: معاذة، يكرهها على الزّنى، فلمّا جاء الإسلام نزلت: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} إلى قوله: {فإنّ اللّه من بعد إكراههنّ غفورٌ رحيمٌ}
وقال الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابرٍ في هذه الآية: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} قال: نزلت في أمةٍ لعبد اللّه بن أبيّ بن سلولٍ يقال لها: مسيكة، كان يكرهها على الفجور -وكانت لا بأس بها -فتأبى. فأنزل اللّه، عزّ وجلّ، هذه الآية إلى قوله {ومن يكرههنّ فإنّ اللّه من بعد إكراههنّ غفورٌ رحيمٌ}.
وروى النّسائيّ، من حديث ابن جريج، عن أبي الزّبير، عن جابر نحوه
وقال الحافظ أبو بكرٍ البزّار: حدّثنا عمرو بن عليٍّ، حدّثنا عليّ بن سعيدٍ، حدّثنا الأعمش، حدّثني أبو سفيان، عن جابرٍ قال: كان لعبد الله بن أبيٍّ ابن سلول جاريةٌ يقال لها: مسيكة، وكان يكرهها على البغاء، فأنزل اللّه: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء}، إلى قوله: {ومن يكرههنّ فإنّ اللّه من بعد إكراههنّ غفورٌ رحيمٌ}.
صرّح الأعمش بالسّماع من أبي سفيان طلحة بن نافعٍ، فدلّ على بطلان قول من قال: "لم يسمع منه، إنّما هو صحيفةٌ" حكاه البزّار.
قال أبو داود الطّيالسيّ، عن سليمان بن معاذٍ، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ؛ أنّ جاريةً لعبد اللّه بن أبيٍّ كانت تزني في الجاهليّة، فولدت أولادًا من الزّنى، فقال لها: ما لك لا تزنين؟ قالت لا واللّه لا أزني. فضربها، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصّنًا}
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن الزّهريّ: أنّ رجلًا من قريشٍ أسر يوم بدرٍ، وكان عند عبد اللّه بن أبيّ أسيرًا، وكانت لعبد اللّه بن أبيّ جاريةٌ يقال لها: معاذة، وكان القرشيّ الأسير يريدها على نفسها، وكانت مسلمةً. وكانت تمتنع منه لإسلامها، وكان عبد اللّه بن أبيٍّ يكرهها على ذلك ويضربها، رجاء أن تحمل للقرشيّ، فيطلب فداء ولده، فقال تبارك وتعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصّنًا}
وقال السّدّيّ: أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد اللّه بن أبيّ بن سلولٍ رأس المنافقين، وكانت له جاريةٌ تدعى معاذة، وكان إذا نزل به ضيفٌ أرسلها إليه ليواقعها، إرادة الثّواب منه والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكرٍ، رضي اللّه عنه فشكت إليه ذلك، فذكره أبو بكرٍ للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فأمره بقبضها. فصاح عبد اللّه بن أبيٍّ: من يعذرني من محمّدٍ، يغلبنا على مملوكتنا؟ فأنزل اللّه فيهم هذا.
وقال مقاتل بن حيّان: بلغنا -واللّه أعلم -أنّ هذه الآية نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما، إحداهما اسمها مسيكة، وكانت للأنصاريّ، وكانت أميمة أمّ مسيكة لعبد اللّه بن أبيٍّ، وكانت معاذة وأروى بتلك المنزلة، فأتت مسيكة وأمّها النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فذكرتا ذلك له، فأنزل اللّه في ذلك {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} يعني: الزّنى.
وقوله: {إن أردن تحصّنًا} هذا خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له. وقوله: {لتبتغوا عرض [الحياة] الدّنيا} أي: من خراجهن ومهورهنّ وأولادهنّ. وقد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، عن كسب الحجّام، ومهر البغيّ وحلوان الكاهن -وفي روايةٍ: "مهر البغيّ خبيثٌ، وكسب الحجّام خبيثٌ، وثمن الكلب خبيثٌ"
وقوله: {ومن يكرههنّ فإنّ اللّه من بعد إكراههنّ غفورٌ رحيمٌ} [أي: لهنّ، كما تقدّم في الحديث عن جابرٍ.
وقال ابن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: فإن فعلتم فإنّ اللّه لهن غفور رحيم] وإثمهن على من أكرههن: وكذا قال مجاهدٌ، وعطاءٌ الخراسانيّ، والأعمش، وقتادة.
وقال أبو عبيدٍ: حدّثني إسحاق الأزرق، عن عوف، عن الحسن في هذه الآية: {فإنّ اللّه من بعد إكراههنّ غفورٌ رحيمٌ} قال: لهنّ واللّه. لهنّ واللّه.
وعن الزّهريّ قال: غفورٌ لهنّ ما أكرهن عليه.
وعن زيد بن أسلم قال: غفورٌ رحيمٌ للمكرهات.
حكاهنّ ابن المنذر في تفسيره بأسانيده.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا يحيى بن عبد اللّه، حدّثني ابن لهيعة، حدّثني عطاءٌ، عن سعيد بن جبير قال: في قراءة عبد اللّه بن مسعودٍ: "فإنّ اللّه من بعد إكراههنّ لهنّ غفورٌ رّحيمٌ" وإثمهنّ على من أكرههنّ.
وفي الحديث المرفوع، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال: "رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان، وما استكرهوا عليه"). [تفسير ابن كثير: 6/ 52-56]

رد مع اقتباس