عرض مشاركة واحدة
  #54  
قديم 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 01:43 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

فضل حفظ القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فضل حفظ القرآن
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل الذي يقرأ القرآن، وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ، وهو يتعاهده، وهو عليه شديد فله أجران». رواه البخاري في صحيحه.
والمراد بحفظ القرآن في النصوص يشمل معنيين لا يتمّ الحفظ إلا بهما:
المعنى الأول: حفظ حدوده وأمانته ورعايتها.
المعنى الثاني: حفظ ألفاظه واستظهارها عن ظهر قلب.
والمعنى الأوّل أجلّ من الثاني، بل هو شرط الانتفاع به.
وقد قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}
فقال: {استحفظوا} أي أمروا بحفظه، ولم يقل: بما حَفِظوا، فإنهم لم يحفظوه حقّاً، وإن كان عندهم مكتوباً، وكان أكبر إثمهم في عدم حفظ حدوده وأداء أمانته، وتغييرهم فيه.
وكانت الآية قد نزلت في كتم اليهود لآية الرجم وهي مكتوبة عندهم في التوراة يعرفونها، ومنهم من يحفظ ألفاظها ويعرف موضعها، لكنّهم لم يحفظوا أمانة الله فيها، ولم يرعوا حدوده بالحكم بها.
ففي صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب، قال: مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمَّما مجلودا، فدعاهم صلى الله عليه وسلم، فقال: «هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟»، قالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم، فقال: «أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم» قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم، والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه» فأمر به فرُجِمَ، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} إلى قوله {إن أوتيتم هذا فخذوه}، يقول: ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}).
قال ابن عاشور: (الاستحفاظ: الاستئمان، واستحفاظ الكتاب أمانة فهمه حق الفهم بما دلت عليه آياته. استعير الاستحفاظ الذي هو طلب الحفظ لمعنى الأمر بإجادة الفهم والتبليغ للأمة على ما هو عليه.. ويدخل في الاستحفاظ بالكتاب الأمر بحفظ ألفاظه من التغيير والكتمان)ا.هـ.
ومما يبيّن إرادة هذا المعنى قول الله تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}
فهم حُمّلوا أمانة حفظ التوراة حفظَ رعاية وصيانة وعمل بما فيها وحُكم بها بينهم؛ فلم يحفظوا أمانة الله فيها.
وإذا أطلق لفظ الحفظ في النصوص فإنّ أولى ما يُحمل عليه حفظ الأمانة والصيانة وأداء الحق وعدم تضييعه، قال الله تعالى: {واحفظوا أيمانكم}، {والحافظين فروجهم والحافظات}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: {احفظ الله يحفظك}، وقال لوفد عبد القيس لمّا أوصاهم بوصايا: «احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم» ، وقال: «لله تسعة وتسعون اسما من حفظها دخل الجنة » كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ، ومن المعلوم أنه ليس المراد مجرد حفظ ألفاظها دون الإيمان بها والتعبّد لله تعالى بمقتضاها.
وكتب عُمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأمصار في عهده: « إن أهم أمركم عندي الصلاة. فمن حفظها وحافظ عليها، حفظ دينه. ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع ». رواه مالك في الموطّأ.
فذكر الحفظ وذكر مقابله وهو الإضاعة.

وقال عنترة بن شداد العبسي:
ولقد حفظتُ وَصَاة عمّي بالضحّى .. إذ تقلص الشفتان عن وضح الفمِ
فحفظ الوصاة لمّا ضبط نصّها وعهدها، ولو أنه خالف مقتضى الوصيّة لم يكن حافظاً لها، ولو عرفها.

وهذا يدلّك على أنّ المراد الأعظم من حفظ القرآن حفظ أمانته وحدوده وأداء حقّه، وأنّ حفظ ألفاظه من تمام حفظه، لكن لا يعدّ في الشريعة حافظاً للقرآن من ضيّع حدوده ولو استظهر ألفاظه عن ظهر قلب.

وبذلك تعرف أن معنى الحفظ ينتقض بأحد أمرين:
1. بتضييع النصّ وعدم ضبطه.
2. وبتضييع أمانته وعهده.
وكان من السلف من يعبّر عن معنيي الحفظ بالوعي، وهو في معنى العقل والتبصّر والتذكّر والاهتداء بالقرآن، ومن ذلك قول أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه: «اقرءوا القرآن ولا تغرَّنكم هذه المصاحف المعلقة، فإن الله لن يعذب قلباً وعى القرآن» رواه الدارمي من طريق حريز بن عثمان عن شرحبيل بن مسلم عنه، وهذا إسناد صحيح.
وقال أبو وائل شقيق بن سلمة: جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد الله [وهو ابن مسعود]، فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف تقرأ هذا الحرف؟ ألفا تجده أم ياء {من ماء غير آسن}، أو (من ماء غير ياسن)؟
قال: فقال عبد الله:
« وكل القرآن قد أحصيت غير هذا؟ »
قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة.
فقال عبد الله: « هذّا كهذّ الشعر، إنَّ أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع » رواه مسلم.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن ذي الخويصرة: « إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ». رواه البخاري ومسلم.
فهؤلاء لمّا خالفوا هدى القرآن وضلّوا عن اتّباع ما أمرهم الله به فيه من سنّة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن اتّباع المهاجرين والأنصار بإحسان؛ لم يكونوا حافظين للقرآن؛ بل ضيّعوا أمانته، وخالفوه أشدّ المخالفة؛ فقاتلوا من أُمروا باتّباعهم بإحسان، وابتغوا تفريق جماعتهم، وكسر شوكتهم، والتغلّب عليهم، ولكنّ الله ردّ كيدهم في نحورهم، وأخزاهم، ولو أنّهم حفظوا القرآن لرعوا حدوده وأدّوا حقّ الله تعالى فيه.


وقد شاع في القرون المتأخّرة استعمال حفظ القرآن مقصوراً على المعنى الثاني، ولم يكن هذا الاستعمال شائعاً في القرون الأولى، وإنما كان الشائع التعبير عنه بـ"جمع القرآن" و"استظهاره"، ونحو ذلك مما يدلّ على استيعاب حفظ ألفاظه عن ظهر قلب.
ولشيوع هذا الاستعمال المتأخّر غلب على كثير من الأذهان، وعلّق عليه بعضهم كثيراً من أحاديث فضائل القرآن، وهي متعلّقة بنوعي الحفظ جميعاً). [بيان فضل القرآن:120 - 125]

رد مع اقتباس