عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 06:23 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولـمّا توجّه تلقاء مدين} أي: أخذ طريقًا سالكًا مهيعا فرح بذلك، {قال عسى ربّي أن يهديني سواء السّبيل} أي: إلى الطّريق الأقوم. ففعل اللّه به ذلك، وهداه إلى الصّراط المستقيم في الدّنيا والآخرة، فجعل هاديًا مهديًّا). [تفسير ابن كثير: 6/ 226]

تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولـمّا ورد ماء مدين} أي: ولـمّا وصل إلى مدين وورد ماءها، وكان لها بئرٌ ترده رعاء الشّاء {وجد عليه أمّةً من النّاس} أي: جماعةً {يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان} أي: تكفكفان غنمهما أن ترد مع غنم أولئك الرّعاء لئلّا يؤذيا. فلمّا رآهما موسى، عليه السّلام، رقّ لهما ورحمهما، {قال ما خطبكما} أي: ما خبركما لا تردان مع هؤلاء؟ {قالتا لا نسقي حتّى يصدر الرّعاء} أي: لا يحصل لنا سقيٌ إلّا بعد فراغ هؤلاء، {وأبونا شيخٌ كبيرٌ} أي: فهذا الحال الملجئ لنا إلى ما ترى). [تفسير ابن كثير: 6/ 226]

تفسير قوله تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (قال اللّه تعالى: {فسقى لهما} قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدّثنا عبد اللّه، أنبأنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن عمرو بن ميمونٍ الأودي، عن عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، أن موسى، عليه السّلام، لـمّا ورد ماء مدين، وجد عليه أمّةً من النّاس يسقون، قال: فلمّا فرغوا أعادوا الصّخرة على البئر، ولا يطيق رفعها إلّا عشرة رجالٍ، فإذا هو بامرأتين تذودان، قال: ما خطبكما؟ فحدّثتاه، فأتى الحجر فرفعه، ثمّ لم يستق إلّا ذنوبًا واحدًا حتّى رويت الغنم. إسنادٌ صحيحٌ.
وقوله: {ثمّ تولّى إلى الظّلّ فقال ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خيرٍ فقيرٌ} قال ابن عبّاسٍ: سار موسى من مصر إلى مدين، ليس له طعامٌ إلّا البقل وورق الشّجر، وكان حافيًا فما وصل مدين حتّى سقطت نعل قدمه. وجلس في الظّلّ وهو صفوة اللّه من خلقه، وإنّ بطنه لاصقٌ بظهره من الجوع، وإنّ خضرة البقل لترى من داخل جوفه وإنّه لمحتاجٌ إلى شقّ تمرةٍ.
وقوله: {إلى الظّلّ} قال ابن عبّاسٍ، وابن مسعودٍ، والسّدّيّ: جلس تحت شجرةٍ.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني الحسين بن عمرٍو العنقزيّ، حدّثنا أبي، حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمونٍ، عن عبد اللّه -هو ابن مسعودٍ -قال: حثثت على جملٍ ليلتين، حتّى صبّحت مدين، فسألت عن الشّجرة الّتي أوى إليها موسى، فإذا شجرةٌ خضراء ترفّ، فأهوى إليها جملي -وكان جائعًا- فأخذها جملي فعالجها ساعةً، ثمّ لفظها، فدعوت اللّه لموسى، عليه السّلام، ثمّ انصرفت.
وفي روايةٍ عن ابن مسعودٍ: أنّه ذهب إلى الشّجرة الّتي كلّم اللّه منها لموسى، كما سيأتي واللّه أعلم.
وقال السّدّيّ: كانت من شجر السّمر.
وقال عطاء بن السّائب: لـمّا قال موسى {ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خيرٍ فقيرٌ}، أسمع المرأة). [تفسير ابن كثير: 6/ 226-227]

تفسير قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({فجاءته إحداهما تمشي على استحياءٍ قالت إنّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلمّا جاءه وقصّ عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظّالمين (25) قالت إحداهما يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين (26) قال إنّي أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حججٍ فإن أتممت عشرًا فمن عندك وما أريد أن أشقّ عليك ستجدني إن شاء اللّه من الصّالحين (27) قال ذلك بيني وبينك أيّما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ واللّه على ما نقول وكيلٌ (28) }
لـمّا رجعت المرأتان سراعًا بالغنم إلى أبيهما، أنكر حالهما ومجيئهما سريعا، فسألهما عن خبرهما، فقصّتا عليه ما فعل موسى، عليه السّلام. فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها قال اللّه تعالى: {فجاءته إحداهما تمشي على استحياءٍ} أي: مشي الحرائر، كما روي عن أمير المؤمنين عمر رضي اللّه عنه، أنّه قال: كانت مستترة بكمّ درعها.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا [أبي، حدّثنا] أبو نعيمٍ، حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمر بن ميمونٍ قال: قال عمر رضي اللّه عنه: جاءت تمشي على استحياءٍ، قائلةً بثوبها على وجهها، ليست بسلفعٍ خرّاجة ولاجّةً. هذا إسنادٌ صحيحٌ.
قال الجوهريّ: السّلفع من الرّجال: الجسور، ومن النّساء: الجريئة السّليطة، ومن النّوق: الشّديدة.
{قالت إنّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا}، وهذا تأدّبٌ في العبارة، لم تطلبه طلبًا مطلقًا لئلّا يوهم ريبةً، بل قالت: {إنّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا} يعني: ليثيبك ويكافئك على سقيك لغنمنا، {فلمّا جاءه وقصّ عليه القصص} أي: ذكر له ما كان من أمره، وما جرى له من السّبب الّذي خرج من أجله من بلده، {قال لا تخف نجوت من القوم الظّالمين}. يقول: طب نفسًا وقرّ عينًا، فقد خرجت من مملكتهم فلا حكم لهم في بلادنا. ولهذا قال: {نجوت من القوم الظّالمين}.
وقد اختلف المفسّرون في هذا الرّجل: من هو؟ على أقوالٍ: أحدها أنّه شعيبٌ النّبيّ عليه السّلام الّذي أرسل إلى أهل مدين. وهذا هو المشهور عند كثيرين، وقد قاله الحسن البصريّ وغير واحدٍ. ورواه ابن أبي حاتمٍ.
حدّثنا أبي، حدّثنا عبد العزيز الأويسيّ، حدّثنا مالك بن أنسٍ؛ أنّه بلغه أنّ شعيبًا هو الّذي قصّ عليه موسى القصص قال: {لا تخف نجوت من القوم الظّالمين}.
وقد روى الطّبرانيّ عن سلمة بن سعدٍ العنزيّ أنّه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "مرحبًا بقوم شعيبٍ وأختان موسى، هديت".
وقال آخرون: بل كان ابن أخي شعيبٍ. وقيل: رجلٌ مؤمنٌ من قوم شعيبٍ. وقال آخرون: كان شعيبٌ قبل زمان موسى، عليه السّلام، بمدّةٍ طويلةٍ؛ لأنّه قال لقومه: {وما قوم لوطٍ منكم ببعيدٍ} [هودٍ: 95]. وقد كان هلاك قوم لوطٍ في زمن الخليل، عليه السّلام بنصّ القرآن، وقد علم أنّه كان بين موسى والخليل، عليهما السّلام، مدّةٌ طويلة تزيد على أربعمائة سنة، كما ذكره غير واحدٍ. وما قيل: إنّ شعيبًا عاش مدّةً طويلةً، إنّما هو -واللّه أعلم -احترازٌ من هذا الإشكال، ثمّ من المقوّي لكونه ليس بشعيبٍ أنّه لو كان إيّاه لأوشك أن ينصّ على اسمه في القرآن هاهنا. وما جاء في بعض الأحاديث من التّصريح بذكره في قصّة موسى لم يصحّ إسناده، كما سنذكره قريبًا إن شاء اللّه. ثمّ من الموجود في كتب بني إسرائيل أنّ هذا الرّجل اسمه: "ثبرون"، واللّه أعلم.
وقال أبو عبيدة بن عبد اللّه بن مسعودٍ: وأثرون وهو ابن أخي شعيبٍ عليه السّلام.
وعن أبي حمزة عن ابن عبّاسٍ: الّذي استأجر موسى يثرى صاحب مدين. رواه ابن جريرٍ، ثمّ قال: الصّواب أنّ هذا لا يدرك إلّا بخبرٍ، ولا خبر تجب به الحجّة في ذلك). [تفسير ابن كثير: 6/ 227-229]

تفسير قوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {قالت إحداهما يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين} أي: قالت إحدى ابنتي هذا الرّجل. قيل: هي الّتي ذهبت وراء موسى، عليه السّلام، قالت لأبيها: {يا أبت استأجره} أي: لرعية هذه الغنم.
قال عمر، وابن عبّاسٍ، وشريح القاضي، وأبو مالكٍ، وقتادة، ومحمّد بن إسحاق، وغير واحدٍ: لمّا قالت: {إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين} قال لها أبوها: وما علمك بذلك؟ قالت: إنّه رفع الصّخرة الّتي لا يطيق حملها إلّا عشرة رجالٍ، وإنّه لمّا جئت معه تقدمت أمامه، فقال لي: كوني من ورائي، فإذا اجتنبت الطّريق فاحذفي [لي] بحصاةٍ أعلم بها كيف الطّريق لأتهدّى إليه.
قال سفيان الثّوريّ، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد اللّه -هو ابن مسعودٍ- قال: أفرس النّاس ثلاثةٌ: أبو بكرٍ حين تفرّس في عمر، وصاحب يوسف حين قال: {أكرمي مثواه} [يوسف: 21]، وصاحبة موسى حين قالت: {يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين}). [تفسير ابن كثير: 6/ 229]

تفسير قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (قال: {إنّي أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين} أي: طلب إليه هذا الرّجل الشّيخ الكبير أن يرعى عنه ويزوّجه إحدى ابنتيه هاتين.
قال شعيبٌ الجبائيّ: وهما صفورا، وليّا.
وقال محمّد بن إسحاق: صفورا وشرقا، ويقال: ليا. وقد استدلّ أصحاب أبي حنيفة [رحمه اللّه تعالى] بهذه الآية على صحّة البيع فيما إذا قال: "بعتك أحد هذين العبدين بمائةٍ. فقال: اشتريت" أنه يصح، والله أعلم.
وقوله: {على أن تأجرني ثماني حججٍ فإن أتممت عشرًا فمن عندك} أي: على أن ترعى عليّ ثماني سنين، فإن تبرّعت بزيادة سنتين فهو إليك، وإلّا ففي ثمانٍ كفايةٌ، {وما أريد أن أشقّ عليك ستجدني إن شاء اللّه من الصّالحين} أي: لا أشاقّك، ولا أؤاذيك، ولا أماريك.
وقد استدلّوا بهذه الآية الكريمة لمذهب الأوزاعيّ، فيما إذا قال: "بعتك هذا بعشرةٍ نقدًا، أو بعشرين نسيئةً" أنّه يصحّ، ويختار المشتري بأيّهما أخذه صحّ. وحمل الحديث المرويّ في سنن أبي داود: "من باع بيعتين في بيعةٍ، فله أوكسهما أو الرّبا " على هذا المذهب. وفي الاستدلال بهذه الآية وهذا الحديث على هذا المذهب نظرٌ، ليس هذا موضع بسطه لطوله. واللّه أعلم.
ثمّ قد استدلّ أصحاب الإمام أحمد ومن تبعهم، في صحّة استئجار الأجير بالطّعمة والكسوة بهذه الآية، واستأنسوا في ذلك بما رواه أبو عبد اللّه محمّد بن يزيد بن ماجة في كتابه السّنن، حيث قال: "باب استئجار الأجير على طعام بطنه": حدّثنا محمّد بن المصفّى الحمصي، حدّثنا بقيّة بن الوليد، عن مسلمة بن عليٍّ، عن سعيد بن أبي أيّوب، عن الحارث بن يزيد، عن عليّ بن رباح قال: سمعت عتبة بن النّدّر يقول: كنّا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقرأ {طسم}، حتّى إذا بلغ قصّة موسى قال: "إنّ موسى أجّر نفسه ثماني سنين أو: عشر سنين على عفّة فرجه وطعام بطنه.
وهذا الحديث من هذا الوجه ضعيفٌ، لأنّ مسلمة بن عليٍّ وهو الخشني الدّمشقيّ البلاطيّ ضعيف الرّواية عند الأئمّة، ولكن قد روي من وجهٍ آخر، وفيه نظرٌ أيضًا.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا صفوان، حدّثنا الوليد، حدّثنا عبد اللّه بن لهيعة، عن الحارث بن يزيد الحضرميّ، عن عليّ بن رباح اللخمي قال: سمعت عتبة بن الندر السّلميّ -صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم- يحدّث أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنّ موسى آجر نفسه بعفّة فرجه، وطعمة بطنه"). [تفسير ابن كثير: 6/ 229-230]

تفسير قوله تعالى: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى إخبارًا عن موسى، عليه السّلام: {قال ذلك بيني وبينك أيّما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ واللّه على ما نقول وكيلٌ}، يقول: إنّ موسى قال لصهره: الأمر على ما قلت من أنّك استأجرتني على ثمان سنين، فإن أتممت عشرًا فمن عندي، فأنا متى فعلت أقلّهما [فقد] برئت من العهد، وخرجت من الشّرط؛ ولهذا قال: {أيّما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ} أي: فلا حرج عليّ مع أنّ الكامل -وإن كان مباحًا لكنّه فاضلٌ من جهةٍ أخرى، بدليلٍ من خارجٍ. كما قال [اللّه] تعالى: {فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه} [البقرة: 203].
وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لحمزة بن عمرٍو الأسلميّ، رضي اللّه عنه، وكان كثير الصّيام، وسأله عن الصّوم في السّفر -فقال: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر" مع أنّ فعل الصّيام راجحٌ من دليلٍ آخر.
هذا وقد دلّ الدّليل على أنّ موسى عليه السّلام، إنّما فعل أكمل الأجلين وأتمّهما؛ قال البخاريّ:
حدّثنا محمّد بن عبد الرّحيم، حدّثنا سعيد بن سليمان، حدّثنا مروان بن شجاع، عن سالمٍ الأفطس، عن سعيد بن جبيرٍ قال: سألني يهوديٌّ من أهل الحيرة: أيّ الأجلين قضى موسى؟ فقلت: لا أدري حتّى أقدم على حبر العرب فأسأله. فقدمت فسألت ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنه، فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إنّ رسول اللّه إذا قال فعل. هكذا رواه البخاريّ وهكذا رواه حكيم بن جبيرٍ وغيره، عن سعيد بن جبيرٍ. ووقع في "حديث الفتون"، من رواية القاسم بن أبي أيّوب، عن سعيد بن جبيرٍ؛ أنّ الّذي سأله رجلٌ من أهل النّصرانيّة. والأوّل أشبه، واللّه أعلم، وقد روي من حديث ابن عبّاسٍ مرفوعًا، قال ابن جريرٍ:
حدّثنا أحمد بن محمّدٍ الطّوسيّ، حدّثنا الحميديّ، حدّثنا سفيان، حدّثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "سألت جبريل: أيّ الأجلين قضى موسى قال: أكملهما وأتمّهما".
ورواه ابن أبي حاتمٍ، عن أبيه، عن الحميديّ، عن سفيان -وهو ابن عيينة -حدّثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب -وكان من أسناني أو أصغر منّي -فذكره.
قلت: وإبراهيم هذا ليس بمعروفٍ.
ورواه البزّار عن أحمد بن أبانٍ القرشيّ، عن سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن أعين، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فذكره. ثمّ قال: لا نعرفه مرفوعًا عن ابن عبّاسٍ إلّا من هذا الوجه.
وقال ابن أبي حاتمٍ: قرئ على يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهبٍ، أنبأنا عمرو بن الحارث، عن يحيى بن ميمونٍ الحضرميّ، عن يوسف بن تيرح: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سئل: أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: "لا علم لي". فسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جبريل، فقال جبريل: لا علم لي، فسأل جبريل ملكًا فوقه فقال: لا علم لي. فسأل ذلك الملك ربّه -عزّ وجلّ -عمّا سأله عنه جبريل عمّا سأله عنه محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال الرّبّ سبحانه وتعالى: "قضى أبرّهما وأبقاهما -أو قال: أزكاهما".
وهذا مرسلٌ، وقد جاء مرسلًا من وجهٍ آخر، وقال سنيد: حدّثنا حجّاجٌ، عن ابن جريج قال: قال مجاهدٌ: إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم سأل جبريل: "أيّ الأجلين قضى موسى؟ " فقال: سوف أسأل إسرافيل. فسأله فقال: سوف أسأل الرّبّ عزّ وجلّ. فسأله فقال: "أبرّهما وأوفاهما".
طريقٌ أخرى مرسلةٌ أيضًا: قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن وكيعٍ، حدّثنا أبي، حدّثنا أبو معشر، عن محمّد بن كعبٍ القرظي قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: "أوفاهما وأتمّهما".
فهذه طرقٌ متعاضدةٌ، ثمّ قد روي [هذا] مرفوعًا من رواية أبي ذرٍّ، رضي اللّه عنه، قال الحافظ أبو بكرٍ البزّار، حدّثنا أبو عبيد اللّه يحيى بن محمّد بن السّكن، حدّثنا إسحاق بن إدريس، حدّثنا عوبد بن أبي عمران الجوني، عن أبيه، عن عبد اللّه بن الصّامت، عن أبي ذرٍّ: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم سئل: أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: "أوفاهما وأبرّهما"، قال: "وإن سئلت أيّ المرأتين تزوّج؟ فقل الصّغرى منهما".
ثمّ قال البزّار: لا نعلم يروى عن أبي ذرٍّ إلّا بهذا الإسناد.
وقد رواه ابن أبي حاتمٍ من حديث عوبد بن أبي عمران -وهو ضعيفٌ -ثمّ قد روي أيضًا نحوه من حديث عتبة بن النّدّر بزيادةٍ غريبةٍ جدًّا، فقال أبو بكرٍ البزّار: حدّثنا عمر بن الخطّاب السّجستانيّ، حدّثنا يحيى بن بكير، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا الحارث بن يزيد عن عليّ بن رباحٍ اللّخميّ قال: سمعت عتبة بن النّدّر يقول: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل: أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: "أبرّهما وأوفاهما". ثمّ قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ موسى، عليه السّلام، لمّا أراد فراق شعيبٍ عليه السّلام، أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به. فأعطاها ما ولدت غنمه في ذلك العام من قالب لون. قال: فما مرّت شاةٌ إلّا ضرب موسى جنبها بعصاه، فولدت قوالب ألوانٍ كلّها، وولدت ثنتين وثلاثًا كلّ شاةٍ ليس فيها فشوش ولا ضبوب، ولا كميشة تفوّت الكفّ، ولا ثعول". وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا افتتحتم الشّام فإنّكم ستجدون بقايا منها، وهي السامرية".
هكذا أورده البزّار. وقد رواه ابن أبي حاتمٍ بأبسط من هذا فقال:
حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكير، حدّثني عبد اللّه بن لهيعة (ح) وحدّثنا أبو زرعة، حدّثنا صفوان، حدّثنا الوليد، حدّثنا عبد اللّه بن لهيعة، عن الحارث بن يزيد الحضرميّ، عن عليّ بن رباحٍ اللّخميّ قال: سمعت عتبة بن النّدّر السّلميّ -صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم -يحدّث أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنّ موسى، عليه السّلام آجر نفسه بعفّة فرجه وطعمة بطنه. فلمّا وفى الأجل -قيل: يا رسول اللّه، أيّ الأجلين؟ قال -أبرّهما وأوفاهما. فلمّا أراد فراق شعيبٍ أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به، فأعطاها ما ولدت من غنمه من قالب لون من ولد ذلك العام، وكانت غنمه سوداء حسناء، فانطلق موسى، عليه السّلام إلى عصاه فسمّاها من طرفها، ثمّ وضعها في أدنى الحوض، ثمّ أوردها فسقاها، ووقف موسى بإزاء الحوض فلم تصدر منها شاةٌ إلّا ضرب جنبها شاةً شاةً قال: "فأتأمت وأثلثت، ووضعت كلّها قوالب ألوانٍ، إلّا شاةً أو شاتين ليس فيها فشوشٌ. قال يحيى: ولا ضبونٌ. وقال صفوان: ولا ضبوب. قال أبو زرعة: الصّواب ضبوب -ولا عزوز ولا ثعول، ولا كميشةٌ تفوّت الكفّ"، قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "فلو افتتحتم الشّام وجدتم بقايا تلك الغنم وهي السّامريّة".
وحدّثنا أبو زرعة، حدّثنا صفوان قال: سمعت الوليد قال: فسألت ابن لهيعة: ما الفشوش؟ قال: الّتي تفشّ بلبنها واسعة الشّخب. قلت: فما الضّبوب؟ قال: الطّويلة الضّرع تجرّه. قلت: فما العزوز؟ قال: ضيّقة الشّخب. قال فما الثعول؟ قال: الّتي ليس لها ضرعٌ إلّا كهيئة حلمتين. قلت: فما الكميشة؟ قال: الّتي تفوّت الكفّ، كميشة الضّرع، صغيرٌ لا يدركه الكفّ.
مدار هذا الحديث على عبد اللّه بن لهيعة المصريّ -وفي حفظه سوءٌ -وأخشى أن يكون رفعه خطأً، واللّه أعلم. وينبغي أن يروى ليس فيها فشوشٌ ولا عزوزٌ، ولا ضبوبٌ ولا ثعول ولا كميشةٌ، لتذكر كلّ صفةٍ ناقصةٍ مع ما يقابلها من الصّفات النّاقصة. وقد روى ابن جريرٍ من كلام أنس بن مالكٍ -موقوفًا عليه -ما يقارب بعضه بإسنادٍ جيّدٍ، فقال: حدّثنا محمّد بن المثنّى، حدّثنا معاذ بن هشامٍ، حدّثنا أبي، عن قتادة، حدّثنا أنس بن مالكٍ، رضي اللّه عنه، قال: لمّا دعا نبيّ اللّه موسى، عليه السّلام، صاحبه إلى الأجل الّذي كان بينهما، قال له صاحبه: كلّ شاةٍ ولدت على غير لونها فذلك ولدها لك. فعمد فرفع حبالًا على الماء، فلمّا رأت الخيال فزعت فجالت جولةً، فولدن كلّهنّ بلقًا إلّا شاةً واحدةً، فذهب بأولادهن ذلك العام). [تفسير ابن كثير: 6/ 230-233]

رد مع اقتباس