عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 20 شعبان 1435هـ/18-06-2014م, 11:02 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي باب آداب المعلم

آداب المعلم
قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (باب آداب المعلم
هذا الباب واسع جدل وقد جمعت فيه نفائس كثيرةً لا يحتمل هذا الكتاب عشرها فأذكر فيه إن شاء اللّه تعالى نبذًا منه.
فمن آدابه أدبه في نفسه وذلك في أمورٍ:
منها أن يقصد بتعليمه وجه اللّه تعالى ولا يقصد توصّلًا إلى غرضٍ دنيويٍّ كتحصيل مالٍ أو جاهٍ أو شهرةٍ أو سمعةٍ أو تميّزٍ عن الاشباه أو تكثر بالمشتغلين عليه المختلفين إليه أو نحو ذلك.
ولا يشين علمه وتعليمه بشيء من الطّمع في رفقٍ تحصّل

له من مشتغلٍ عليه من خدمةٍ أو مالٍ أو نحوهما وإن قلّ ولو كان على صورة الهديّة الّتي لولا اشتغاله عليه لما أهداها إليه.
ودليل هذا كله ما سبق في باب ذمّ من أراد بعلمه غير اللّه تعالى من الآيات والأحاديث.
وقد صحّ عن الشّافعيّ رحمه اللّه تعالى أنّه قال:
« وددت أنّ الخلق تعلّموا هذا العلم على أن لا ينسب إليّ حرفٌ منه ».
وقال رحمه اللّه تعالى:
« ما ناظرت أحدًا قطّ على الغلبة ووددت إذا ناظرت أحدًا أن يظهر الحقّ على يديه ».
وقال:
« ما كلّمت أحدًا قطّ إلّا وددت أن يوفّق ويسدّد ويعان ويكون عليه رعايةٌ من اللّه وحفظٌ »
وعن أبي يوسف رحمه اللّه تعالى قال: « يا قوم أريدوا بعلمكم اللّه فإنّي لم أجلس مجلسًا قطّ أنوي فيه أن أتواضع إلّا لم أقم حتّى أعلوهم ولم أجلس مجلسًا قطّ أنوي فيه أن أعلوهم إلّا لم أقم حتّى أفتضح »
ومنها أن يتخلّق بالمحاسن الّتي ورد الشّرع بها وحثّ عليها والخلال الحميدة والشّيم المرضية الّتي أرشد إليها من التّزهّد في الدّنيا والتّقلّل منها وعدم المبالاة بفواتها والسّخاء والجود ومكارم الأخلاق وطلاقة الوجه من غير خروجٍ إلى حدّ الخلاعة والحلم والصبر والتنزه عن دنئ الاكتساب وملازمة الورع والخشوع والسّكينة والوقار والتّواضع والخضوع واجتناب الضّحك والإكثار من المزح وملازمة الآداب الشّرعيّة الظّاهرة والخفيّة كالتّنظيف بإزالة الأوساخ وتنظيف الإبط وإزالة الرّوائح الكريهة واجتناب الرّوائح المكروهة وتسريح اللّحية.
ومنها الحذر من الحسد والرّياء والإعجاب واحتقار النّاس وإن كانوا دونه بدرجاتٍ وهذه أدواءٌ وأمراضٌ يبتلى بها كثيرون من أصحاب الأنفس الخسيسات

وطريقه في نفي الحسد أن يعلم أنّ حكمة اللّه تعالى اقتضت جعل هذا الفضل في هذا الإنسان فلا يعترض ولا يكره ما اقتضته الحكمة ولم يذم اللّه احترازًا من المعاصي
وطريقه في نفي الرّياء أن يعلم أنّ الخلق لا ينفعونه ولا يضرّونه حقيقةً فلا يتشاغل بمراعاتهم فيتعب نفسه ويضر دينه ويحبط عمله ويرتكب سخط الله تعالى ويفوّت رضاه
وطريقه في نفي الإعجاب أن يعلم أنّ العلم فضلٌ من اللّه تعالى ومعه عارية فان لله ما اخذو له ما أعطى وكل شيء عنده بأجلٍ مسمًّى فينبغي أن لا يعجب بشيء لم يخترعه وليس مالكًا له ولا على يقينٍ من دوامه
وطريقه في نفي الاحتقار التأدب بما ادبنا اللّه تعالى {فلا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} وقال تعالى {إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم} فربّما كان هذا الّذي يراه دونه أتقى للّه تعالى وأطهر
قلبًا وأخلص نيّةً وأزكى عملًا ثمّ إنّه لا يعلم ماذا يختم له به ففي الصّحيح إنّ أحدكم يعمل بعمل أهل الجنّة الحديث نسأل اللّه العافية من كلّ داءٍ
ومنها استعماله أحاديث التّسبيح والتّهليل ونحوهما من الأذكار والدّعوات وسائر الآداب الشّرعيّات.
ومنها دوام مراقبته للّه تعالى في علانيته وسرّه محافظًا على قراءة القرآن ونوافل الصلوات والصوم وغيرهما معوّلًا على اللّه تعالى في كلّ أمره معتمدًا عليه مفوّضًا في كلّ الأحوال أمره إليه

ومنها وهو من أهمّها أن لا يذلّ العلم ولا يذهب به إلى مكان ينتسب إلى من يتعلّمه منه وإن كان المتعلّم كبير القدر بل يصون العلم عن ذلك كما صانه السّلف.
وأخبارهم في هذا كثيرةٌ مشهورةٌ مع الخلفاء وغيرهم.
فإن دعت إليه ضرورةٌ أو اقتضت مصلحةٌ راجحةٌ على مفسدة ابتذاله رجونا أنّه لا بأس به ما دامت الحالة هذه.
وعلى هذا يحمل ما جاء عن بعض السّلف في هذا

ومنها أنّه إذا فعل فعلًا صحيحًا جائزًا في نفس الأمر ولكنّ ظاهره أنّه حرامٌ أو مكروهٌ أو مخلٌّ بالمروءة ونحو ذلك فينبغي له أن يخبر أصحابه ومن يراه يفعل ذلك بحقيقة ذلك الفعل لينتفعوا ولئلّا يأثموا بظنّهم الباطل ولئلّا ينفروا عنه ويمتنع الانتفاع بعمله.
ومن هذا الحديث الصّحيح إنّها صفيّة
فصلّ ومن آدابه أدبه في درسه واشتغاله:
فينبغي أن لا يزال مجتهدا في الاشتغال بالعلم قراءة واقراءا ومطالعةً وتعليقًا ومباحثةً ومذاكرةً وتصنيفًا.
ولا يستنكف من التّعلّم ممّن هو دونه في سنٍّ أو نسبٍ أو شهرةٍ أو دينٍ أو في علمٍ آخر بل يحرص على الفائدة ممّن كانت عنده وإن كان دونه في جميع هذا.
ولا يستحيى من السّؤال عمّا لم يعلم فقد روينا عن عمر وابنه رضي اللّه عنهما قالا من رقّ وجهه رقّ علمه

وعن مجاهدٍ لا يتعلّم العلم مستحٍ ولا مستكبرٌ.
وفي الصّحيح عن عائشة رضي اللّه عنها قالت نعم النّساء نساء الأنصار لم يمنعهنّ الحياء أن يتفقّهن في الدّين

وقال سعيد بن جبيرٍ: لا يزال الرّجل عالمًا ما تعلّم فإذا ترك العلم وظنّ أنّه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون، وينبغي أن لا يمنعه ارتفاع منصبه وشهرته من استفادة ما لا يعرفه فقد كان كثيرون من السّلف يستفيدون من تلامذتهم ما ليس عندهم.
وقد ثبت في الصّحيح رواية جماعةٍ من الصّحابة عن التّابعين وروى جماعاتٌ من التّابعين عن تابعي التّابعين.
وهذا عمرو بن شعيبٍ ليس تابعيًّا وروى عنه أكثر من سبعين من التّابعين: وثبت في الصّحيحين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ لم يكن الذين كفروا على أبيّ بن كعبٍ رضي اللّه عنه وقال:
« أمرني اللّه أن أقرأ عليك » فاستنبط العلماء من هذا فوائد
منها بيان التّواضع وأنّ الفاضل لا يمتنع من القراءة على المفضول.
وينبغي أن تكون ملازمة الاشتغال بالعلم هي مطلوبه ورأس ما له فلا يشتغل بغيره فإن اضطرّ إلى غيره في وقتٍ فعل ذلك الغير بعد تحصيل وظيفته من العلم.
وينبغي أن يعتني بالتّصنيف إذا تأهل له فبه يطّلع على حقائق العلم ودقائقه ويثبت معه لأنّه يضطرّه إلى كثرة التّفتيش والمطالعة والتّحقيق والمراجعة والاطّلاع على مختلف كلام الأئمّة ومتّفقه وواضحه من مشكله: وصحيحه من ضعيفه.
وجزله من ركيكه وما لا اعتراض عليه من غيره وبه يتّصف المحقّق بصفة
المجتهد وليحذر كلّ الحذر أن يشرع في تصنيف ما لم يتأهّل له فإنّ ذلك يضرّه في دينه وعلمه وعرضه وليحذر أيضًا من إخراج تصنيفه من يده إلّا بعد تهذيبه وترداد نظره فيه وتكريره.
وليحرص على إيضاح العبارة وإيجازها فلا يوضّح إيضاحًا ينتهي إلى الرّكاكة ولا يوجز إيجازًا يفضي إلى المحق والاستغلاق.
وينبغي أن يكون اعتناؤه من التّصنيف بما لم يسبق إليه أكثر.

والمراد بهذا أن لا يكون هناك مصنّفٌ يغني عن مصنّفه في جميع أساليبه فإن أغنى عن بعضها فليصنّف من جنسه ما يزيد زياداتٍ يحتفل بها مع ضمّ ما فاته من إلا ساليب وليكن تصنيفه فيما يعمّ الانتفاع به ويكثر الاحتياج إليه.
وليعتن بعلم المذهب فإنّه من أعظم الأنواع نفعًا وبه يتسلّط المتمكّن على المعظم من باقي العلوم

ومن آدابه آداب تعليمه
اعلم أنّ التّعليم هو الأصل الّذي به قوام الدّين وبه يؤمن إمحاق العلم فهو من أهمّ أمور الدّين وأعظم العبادات وآكد فروض الكفايات.
قال اللّه تعالى {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا تكتمونه} وقال تعالى {إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا} الآية: وفي الصّحيح من طرقٍ أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
« ليبلّغ الشّاهد منكم الغائب »
والأحاديث بمعناه كثيرةٌ والإجماع منعقدٌ عليه.
ويجب على المعلّم أن يقصد بتعليمه وجه الله تعالى لما سبق والايجعله وسيلةً إلى غرضٍ دنيويٍّ فيستحضر المعلّم في ذهنه كون التعليم آكد العبادات ليكون ذلك حاثًّا له على تصحيح النّيّة ومحرّضًا له على صيانته من مكدّراته ومن مكروهاته مخافة فوات هذا الفضل العظيم والخير الجسيم.
قالوا وينبغي أن لا يمتنع من تعليم أحدٍ لكونه غير صحيح النّيّة فإنّه يرجى له حسن النّيّة وربّما عسر في كثيرٍ من المبتدئين بالاشتغال تصحيح النّيّة لضعف نفوسهم وقلّة أنسهم بموجبات تصحيح النّيّة فالامتناع من تعليمهم يؤدّي إلى تفويت كثيرٍ من العلم مع انه يرجي ببركة العلم تصحيحها إذا أنس بالعلم.
وقد قالوا طلبنا العلم لغير اللّه فأبى أن يكون إلّا للّه.
معناه كانت عاقبته أن صار للّه: وينبغي أن يؤدّب المتعلّم على التّدريج بالآداب السّنّيّة والشم المرضية ورياضة نفسه بالآداب والدّقائق الخفيّة وتعوّده الصّيانة في جميع أموره الكامنة والجليّة

فأوّل ذلك أن يحرّضه بأقواله وأحواله المتكرّرات على الإخلاص والصّدق وحسن النّيّات.
ومراقبة اللّه تعالى في جميع اللّحظات.
وأن يكون دائمًا على ذلك حتّى الممات.
ويعرّفه أنّ بذلك تنفتح عليه أبواب المعارف.
وينشرح صدره وتتفجر من قبله ينابيع الحكم واللّطائف.
ويبارك له في حاله وعلمه ويوفّق للإصابة في قوله وفعله وحكمه.
ويزهّده في الدّنيا ويصرفه عن التّعلّق بها والرّكون إليها والاغترار بها.
ويذكّره أنّها فانيةٌ والآخرة آتيةٌ باقيةٌ والتّأهّب للباقي والإعراض عن القاني هو طريق الحازمين.
ودأب عباد اللّه الصّالحين.
وينبغي أن يرغّبه في العلم ويذكّره بفضائله وفضائل العلماء وأنّهم ورثة الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم.
ولا رتبة في الوجود أعلى من هذه. وينبغي أن يحنو عليه ويعتني بمصالحه كاعتنائه بمصالح نفسه وولده ويجريه مجرى ولده في الشّفقة عليه والاهتمام بمصالحه والصبر عل جفائه وسوء أدبه.
ويعذره في سوء أدبٍ وجفوةٍ تعرض منه في بعض الأحيان فإنّ الإنسان معرّضٌ للنّقائص.
وينبغي أن يحبّ له ما يحبّ لنفسه من الخير ويكره له ما يكرهه لنفسه من
الشّرّ.
ففي الصّحيحين
« لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه » وعن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما قال: « أكرم النّاس عليّ جليسي الّذي يتخطّى النّاس حتّى يجلس إليّ لو استطعت ألّا يقع الذّباب على وجهه لفعلت »
وفي روايةٍ إنّ الذّباب يقع عليه فيؤذيني.
وينبغي أن يكون سمحا ببذل ما حصّله من العلم سهلًا بإلقائه إلى مبتغيه متلطّفًا في إفادته طالبيه مع رفقٍ ونصيحةٍ وإرشادٍ إلى المهمّات.
وتحريضٍ على حفظ ما يبذله لهم من الفوائد النّفيسات.
ولا يدّخر عنهم من أنواع العلم شيئًا يحتاجون إليه إذا كان الطّالب أهلًا لذلك.
ولا يلق إليه شيئًا لم يتأهّل له لئلّا يفسد عليه حاله فلو سأله المتعلّم عن ذلك لم يجبه ويعرّفه أنّ ذلك يضرّه ولا ينفعه وأنّه لم يمنعه ذلك شحًّا بل شفقةً ولطفًا.
وينبغي أن لا يتعظّم على المتعلّمين بل يلين لهم ويتواضع فقد أمر بالتّواضع لآحاد النّاس.
قال اللّه تعالى {واخفض جناحك للمؤمنين}

وعن عياض بن حماد رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « إنّ اللّه أوحى إليّ أن تواضعوا » رواه مسلمٌ
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: « ما نقصت صدقةٌ من مالٍ وما زاد اللّه عبدًا بعفوٍ إلّا عزًّا وما تواضع أحدٌ للّه إلّا رفعه اللّه »رواه مسلمٌ
فهذا في التّواضع لمطلق النّاس فكيف بهؤلاء الّذين هم كأولاده مع ما هم عليه من الملازمة لطلب العلم.
ومع ما لهم عليه من حقّ الصّحبة وتردّدهم إليه واعتمادهم عليه.
وفي الحديث عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:
« لينوا لمن تعلّمون ولمن تتعلّمون منه »
وعن الفضيل بن عياضٍ رحمه اللّه إنّ اللّه عز وجل يحب العلم المتواضع ويبغض العلم الجبّار ومن تواضع للّه تعالى ورّثه الحكمة. وينبغي أن يكون حريصًا على تعليمهم مهتمًّا به مؤثرًا له على حوائج نفسه ومصالحه ما لم تكن ضرورةٌ ويرحّب بهم عند إقبالهم إليه لحديث أبي سعيدٍ السّابق.
ويظهر لهم البشر وطلاقة الوجه ويحسن إليهم بعلمه وما له وجاهه بحسب التّيسير.
ولا يخاطب الفاضل منهم باسمه بل بكنيته ونحوها.
ففي الحديث عن عائشة رضي اللّه عنها كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يكنّي أصحابه إكرامًا لهم وتسنيةً لأمورهم وينبغي أن يتفقّدهم ويسأل عمّن غاب منهم.
وينبغي أن يكون باذلًا وسعه في تفهيمهم وتقريب الفائدة إلى أذهانهم حريصًا على هدايتهم ويفهّم كلّ واحدٍ بحسب فهمه وحفظه فلا يعطيه ما لا يحتمله ولا يقصّر به عمّا يحتمله بلا مشقّةٍ ويخاطب كلّ واحدٍ على قدر درجته وبحسب فهمه وهمّته فيكتفي بالإشارة لمن يفهمها فهمًا محققا ويوضع العبارة لغيره ويكرّرها لمن لا يحفظها إلّا بتكرارٍ ويذكر الأحكام موضّحةً بالأمثلة من غير دليلٍ لمن لا ينحفظ له الدّليل فإن
جهل دليل بعضها ذكره له.
ويذكر الدّلائل لمحتملها ويذكر هذا ما بيّنّا على هذه المسألة وما يشبهها وحكمه حكمها وما يقاربها.
وهو مخالف لها ويذكر ما يرد عليها وجوابه إن أمكنه.
ويبيّن الدّليل الضّعيف لئلّا يغترّ به فيقول استدلّوا بكذا وهو ضعيفٌ لكذا.
ويبيّن الدّليل المعتمد ليعتمد.
ويبيّن له ما يتعلّق بها من الأصول والأمثال والأشعار واللّغات وينبّههم على غلط من غلط فيها من المصنّفين.
فيقول مثلا هذا هو الصواب ولما ما ذكره فلانٌ فغلطٌ أو فضعيفٌ قاصدًا النّصيحة لئلّا يغترّ به لا لتنقّصٍ للمصنّف.
ويبيّن له على التّدريج قواعد المذهب الّتي لا تنخرم غالبًا
كقولنا إذا اجتمع سببٌ ومباشرةٌ قدّمنا المباشرة.
وإذا اجتمع أصلٌ وظاهرٌ ففي المسألة غالبًا قولان.
وإذا اجتمع قولان قديمٌ وجديدٌ فالعمل غالبًا بالجديد إلّا في مسائل معدودةٍ سنذكرها قريبًا إن شاء اللّه تعالى.
وأنّ من قبض شيئًا لغرضه لا يقبل قوله في الرّدّ إلى المالك.
ومن قبضه لغرض المالك قبل قوله في الرّدّ إلى المالك لا إلى غيره.
وأنّ الحدود تسقط بالشّبهة.
وأنّ الأمين إذا فرّط ضمن.
وأنّ العدالة والكفاية شرطٌ في الولايات.
وأنّ فرض الكفاية إذا فعله من حصل به المطلوب سقط الحرج عن الباقين وإلّا أثموا كلّهم بالشّرط الّذي قدّمناه.
وأنّ من ملك إنشاء عقدٍ ملك الإقرار به.
وأنّ النّكاح والنّسب مبنيّان على الاحتياط.
وأنّ الرّخص لا تباح بالمعاصي.
وأنّ الاعتبار في الإيمان باللّه أو العتاق أو الطّلاق أو غيرها بنية الحالف إلا أن كان يكون المستحلف قاضيًا فاستحلفها للّه تعالى لدعوى اقتضته فإنّ الاعتبار بنيّة القاضي أو نائبه إن كان الحالف يوافقه في الاعتقاد فإن خالفه كحنفيٍّ استحلف شافعيًّا في شفعة الجوار ففيمن تعتبر بيته وجهان.
وأنّ اليمين الّتي يستحلف بها القاضي لا تكون إلّا باللّه تعالى وصفاته.
وأنّ الضّمان يجب في مال المتلف بغير حقٍّ سواءٌ كان مكلّفًا أو غيره بشرط كونه من أهل الضّمان في حقّ المتلف عليه.
فقولنا من أهل الضّمان احترازٌ من إتلاف المسلم مال حربيٍّ ونفسه وعكسه.
وقولنا في حقّه احترازٌ من إتلاف العبد مال سيّده إلّا أن يكون المتلف قاتلًا خطأً أو شبه عمدٍ فإنّ الدّية على عاقلته.
وأنّ السّيّد لا يثبت له مالٌ في ذمّة عبده ابتداءً، وفي ثبوته دوامًا وجهان.
وأنّ أصل الجمادات الطّهارة إلّا الخمر وكلّ نبيذٍ مسكرٍ. وأنّ الحيوان على الطّهارة إلّا الكلب والخنزير وفرع أحدهما

ويبيّن له جملًا ممّا يحتاج إليه وينضبط له من أصول الفقه وترتيب الأدلّة من الكتاب والسّنّة والإجماع والقياس واستصحاب الحال عند من يقول به
ويبيّن له أنواع الأقيسة ودرجاتها وكيفيّة استثمار الأدلّة.
ويبيّن حدّ الأمر والنّهي والعموم والخصوص والمجمل والمبيّن والنّاسخ والمنسوخ.
وأنّ صيغة الأمر على وجوهٍ.
وأنّه عند تجرّده يحمل على الوجوب عند جماهير الفقهاء.
وأنّ اللّفظ يحمل على عمومه وحقيقته حتى يرد دليل تخصيصٍ ومجاز.
وأنّ أقسام الحكم الشّرعيّ خمسةٌ الوجوب والنّدب والتّحريم والكراهة والإباحة.
وينقسم باعتبارٍ آخر إلى صحيحٍ وفاسدٍ.
فالواجب ما يذمّ تاركه شرعًا على بعض الوجوه احترازًا من الواجب الموسّع والمخيّر

وقيل ما يستحقّ العقاب تاركه فهذان أصحّ ما قيل فيه.
والمندوب ما رجّح فعله شرعًا وجاز تركه. والمحرّم ما يذمّ فاعله شرعًا.
والمكروه ما نهى عنه الشّرع نهيًا غير جازمٍ.
والمباح ما جاء الشّرع بأنّه لا فرق بين فعله وتركه في حقّ المكلّف.
والصّحيح من العقود ما ترتّب أثره عليه.
ومن العبادات ما أسقط القضاء.
والباطل والفاسد خلاف الصّحيح

ويبيّن له جملًا من أسماء المشهورين من الصّحابة رضي اللّه عن جميعهم فمن بعدهم من العلماء الأخيار وأنسابهم وكناهم وأعصارهم وطرف حكاياتهم.
ونوادرهم وضبط المشكل من أنسابهم وصفابهم وتمييز المشتبه من ذلك.
وجملًا من الألفاظ اللّغويّة والعرفيّة المتكرّرة في الفقه ضبطًا لمشكلها وخفيّ معانيها فيقول هي مفتوحةٌ أو مضمومةٌ أو مكسورة مخففة أو مشددة
مهموزةٌ أو لا عربيّةٌ أو عجميّةٌ أو معرّبةٌ وهي الّتي أصلها عجميٌّ وتكلّمت بها العرب.
مصروفةٌ أو غيرها.
مشتقّةٌ أم لا.
مشتركةٌ أم لا.
مترادفةٌ أم لا.
وأنّ المهموز والمشدّد يخفّفان أم لا.
وأنّ فيها لغةً أخرى أم لا.

ويبيّن ما ينضبط من قواعد التّصريف كقولنا ما كان على فعل بفتح الفاء وكسر العين فمضارعه يفعل بفتح العين إلّا أحرفًا جاء فيهنّ الفتح والكسر من الصّحيح والمعتلّ.
فالصّحيح دون عشرة أحرف كنعم وبئس وحسب والمعتل كوتر ووبق وورم ووري الزّند وغيرهنّ.
وأمّا ما كان من الأسماء والأفعال على فعل بكسر العين جاز فيه أيضًا إسكانها مع فتح الفاء وكسرها فإن

كان الثّاني أو الثّالث حرف حلقٍ جاز فيه وجهٌ رابعٌ فعلٌ بكسر الفاء والعين.
وإذا وقعت مسألةٌ غريبةٌ لطيفة أو مما يسئل عنها في المعايات نبّهه عليها وعرّفه حالها في كلّ ذلك.
ويكون تعليمه إيّاهم كلّ ذلك تدريجًا شيئًا فشيئًا لتجتمع لهم مع طول الزّمان جملٌ كثيراتٌ

وينبغي أن يحرّضهم على الاشتغال في كلّ وقتٍ ويطالبهم في أوقاتٍ بإعادة محفوظاتهم ويسألهم عمّا ذكره لهم من المهمات فمن وجده حافظه مراعيًا له أكرمه وأثنى عليه وأشاع ذلك ما لم يخف فساد حاله بإعجابٍ ونحوه.
ومن وجده مقصّرًا عنّفه إلّا أن يخاف تنفيره ويعيده حتّى يحفظه حفظًا راسخًا وينصفهم في البحث فيعترف بفائدةٍ يقولها بعضهم وإن كان صغيرًا ولا يحسد أحدًا منهم لكثرة تحصيله فالحسد حرام للاجانب وهنا أشد فانه بمنزلة الولد وفضيلته يعود إلى معلّمه منها نصيبٌ وافرٌ فإنّه مربّيه وله في تعليمه وتخريجه في الآخرة الثّواب الجزيل وفي الدّنيا الدّعاء المستمرّ والثّناء الجميل

وينبغي أن يقدّم في تعليمهم إذا ازدحموا إلا سبق فالاسبق ولا يقدّمه في أكثر من درسٍ إلّا برضا الباقين وإذا ذكر لهم درسًا تحرّى تفهيمهم بأيسر الطّرق ويذكره مترسّلًا مبيّنًا واضحًا.
ويكرّر ما يشكل من معانيه وألفاظه إلّا إذا وثق بأن جميع الحاضرين يفهمونه بدون ذلك وإذا لم يكمل البيان إلّا بالتّصريح بعبارةٍ يستحى في العادة من ذكرها فليذكرها بصريح اسمها ولا يمنعه الحياء ومراعاة الادب من ذلك فإنّ إيضاحها أهمّ من ذلك.
وإنّما تستحبّ الكناية في مثل هذا إذا علم بها المقصود علمًا جليًّا وعلى هذا التّفصيل يحمل ما ورد في الأحاديث من التّصريح في وقتٍ والكناية في وقتٍ.
ويؤخّر ما ينبغي تأخيره ويقدّم ما ينبغي تقديمه ويقف في موضع الوقف.
ويصل في موضع الوصل وإذا وصل موضع الدّرس صلّى ركعتين فان كان مسجدا تأكد الحدث على الصّلاة ويقعد مستقبلًا القبلة على طهارةٍ متربّعًا إن شاء وإن شاء محتبيًا وغير ذلك.
ويجلس بوقارٍ وثيابه نظيفةٌ بيضٌ.
ولا يعتني بفاخر الثّياب ولا يقتصر على خلقٍ ينسب صاحبه إلى قلّة المروءة.
ويحسّن خلقه مع جلسائه ويوقّر فاضلهم بعلمٍ أو سنٍّ أو شرفٍ أو صلاحٍ ونحو ذلك.
ويتلطّف بالباقين ويرفع مجلس الفضلاء ويكرمهم بالقيام لهم على سبيل الاحترام.
وقد ينكر القيام من لا تحقيق عنده.
وقد جمعت جزءًا فيه الترخيص فيه ودلائله والجواب عن ما يوهم كراهته

وينبغي أن يصون يديه عن العبث.
وعينيه عن تفريق النّظر بلا حاجةٍ.

ويلتفت إلى الحاضرين التفاتًا قصدًا بحسب الحاجة للخطاب.
ويجلس في موضعٍ يبرز فيه وجهه لكلّهم.
ويقدّم على الدّرس تلاوة ما تيسّر من القرآن ثمّ يبسمل ويحمد اللّه تعالى ويصلّي ويسلّم على
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وعلى آله ثم يدعو للعلماء الماضيين من مشايخه ووالديه والحاضرين وسائر المسلمين.
ويقول:
« حسبنا اللّه ونعم الوكيل ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم اللّهمّ إنّي أعوذ بك من أن أضلّ أو أضلّ أو أزلّ أو أزلّ أو أظلم أو أظلم وأجهل أو يجهل عليّ ».
فإن ذكر دروسًا قدّم أهمها فيقدم التفسير ثم الحديث ثم الاصولين ثمّ المذهب ثمّ الخلاف ثمّ الجدل ولا يذكر الدّرس وبه ما يزعجه كمرضٍ أو جوعٍ أو مدافعة الحدث أو شدّة فرحٍ وغم ولا يطوّل مجلسه تطويلًا يملّهم أو يمنعهم فهم بعض الدّروس أو ضبطه لأنّ المقصود إفادتهم وضبطهم فإذا صاروا إلى هذه الحالة فاته المقصود.
وليكن مجلسه واسعًا ولا يرفع صوته زيادةً على الحاجة ولا يخفضه خفضًا يمنع بعضهم كمال فهمه.
ويصون مجلسه من اللّغط والحاضرين عن سوء الأدب في المباحثة وإذا ظهر من أحدهم شيء من مبادئ ذلك تلطّف في دفعه قبل انتشاره ويذكّرهم أنّ اجتماعنا ينبغي أن يكون للّه تعالى فلا يليق بنا المنافسة والمشاحنة بل شأننا الرّفق والصّفاء واستفادة بعضنا من بعضٍ واجتماع قلوبنا على ظهور الحقّ، وحصول الفائدة.

وإذا سأل سائلٌ عن أعجوبةٍ فلا يسخرون منه وإذا سئل عن شيء لا يعرفه أو عرض في الدّرس ما لا يعرفه فليقل لا أعرفه أو لا أتحقّقه ولا يستنكف عن ذلك.
فمن علم العالم أن يقول فيما لا يعلم لا أعلم أو اللّه أعلم.
فقد قال ابن مسعودٍ رضي اللّه عنه يا أيّها النّاس من علم شيئًا فليقل به ومن لم يعلم فليقل اللّه أعلم فإنّ من العلم أن يقول لما لا يعلم اللّه أعلم.
قال اللّه تعالى لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم: (قل ما أسألكم عليه من أجرٍ وما انا من المتكلفين) رواه البخاريّ

وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: « نهينا عن التكليف » رواه البخاريّ
وقالوا ينبغي للعالم أن يورّث أصحابه لا أدري، معناه يكثر منها، وليعلم أنّ معتقد المحقّقين أنّ قول العالم لا أدري لا يضع منزلته بل هو دليلٌ على عظم محلّه وتقواه وكمال معرفته لأنّ المتمكّن لا يضرّه عدم معرفته مسائل معدودةً بل يستدلّ بقوله لا أدري على تقواه وأنّه لا يجازف في فتواه.
وإنّما يمتنع من لا أدري من قلّ علمه وقصرت معرفته وضعفت تقواه لأنّه يخاف لقصوره أن يسقط من أعين الحاضرين وهو جهالةٌ منه فإنّه بإقدامه على الجواب فيما لا يعلمه يبوء بالإثم العظيم ولا يرفعه ذلك عمّا عرف له من المقصور بل يستدل به على قصوره لا نا إذا رأينا المحقّقين يقولون في كثيرٍ من الأوقات لا أدري وهذا القاصر لا يقولها أبدًا علمنا أنّهم يتورّعون لعلمهم وتقواهم وأنّه يجازف لجهله وقلة دينه فوقع فيما فرعنه واتّصف بما احترز منه لفساد نيّته وسوء طويّته.
وفي الصّحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
« المتشبّع بما لم يعط كلابس ثوبي زور »
فصلٌ وينبغي للمعلّم أن يطرح على أصحابه ما يراه من مستفاد المسائلويختبر بذلك أفهامهم ويظهر فضل الفاضل ويثني عليه بذلك ترغيبًا له وللباقين في الاشتغال والفكر في العلم وليتدرّبوا بذلك ويعتادوه ولا يعنّف من غلط منهم في كلّ ذلك إلّا أن يرى تعنيفه مصلحةً له.
وإذا فرغ من تعليمهم أو إلقاء درسٍ عليهم أمرهم بإعادته ليرسّخ حفظهم له فإن أشكل عليهم منه شيء ما عاودوا الشيخ في ايضاحه

فصلٌ ومن أهمّ ما يؤمر به ألّا يتأذّى ممّن يقرأ عليه إذا قرأ على غيره وهذه مصيبةٌ يبتلى بها جهلة المعلّمين لغباوتهم وفساد نيّتهم.
وهو من الدّلائل الصّريحة على عدم إرادتهم بالتّعليم وجه اللّه تعالى الكريم.
وقد قدّمنا عن عليٍّ رضي اللّه عنه الاغلاظ في ذلك والتّأكيد في التّحذير منه.
وهذا إذا كان المعلّم الآخر أهلًا فإن كان فاسقًا أو مبتدعًا أو كثير الغلط ونحو ذلك فليحذّر من الاغترار به وباللّه التّوفيق). [المجموع شرح المهذب: 1/28-35]


رد مع اقتباس