عرض مشاركة واحدة
  #54  
قديم 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 03:21 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

المسألة الثالثة: ترتيب السور في المصحف

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الثالثة: ترتيب السور في المصحف
الراجح من أقوال العلماء في هذه المسألة هو قول جمهورهم والمحققين منهم أنّ الصحابة رضي الله عنهم اجتهدوا في ترتيب سور القرآن في المصحف، إلا أنّ هذا الاجتهاد لم يكن مستنده مجرّد الرأي والاستحسان، بل كان قائماً على أصول صحيحة وأدلّة تفصيلية علموها، ولصواب اجتهادهم علامة بيّنة ظاهرة، وهي إجماعهم على هذا الترتيب الذي تلقته الأمّة بالقبول في زمانهم وبعده على مَرِّ القرون.

ولو كان أحد من الصحابة يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أمراً بخلاف هذا الترتيب لقال به، ولو كان الحقّ في غير هذا الترتيب لوجد من يقول به؛ إذ لا بدّ للحقّ من قائم به؛ فلمَّا أجمعوا على هذا الترتيب علمنا أنه صواب وحقّ، وأنّ الأمّة لا تجتمع على ضلالة.
وأما الأصول والأدلة التفصيلية التي اعتمدوا عليها في اجتهادهم فمنها ما يمكن معرفته بدلالة الأحاديث والآثار المروية في هذا الباب، ومنها ما لا نعرفه، لكن نقطع بأنّ مسألة الترتيب من المسائل التي تقتضي ضرورةُ الجمعِ بحثَها ومناقشتَها، وأنّهم خلصوا فيها إلى ما أجمعوا عليه، ولم يُذكر عنهم خلاف صحيح في هذا الترتيب.
ونحن يغنينا إجماعُهم عن تطلّب أدلّتهم في ارتضاء هذا الترتيب.
قال سليمان بن بلال التَّيمي: سمعتُ ربيعةَ يُسأل: لم قُدِّمَت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة، وإنما نزلتا بالمدينة؟
فقال: «قُدِّمَتا، وأٌلّفَ القرآن على علمٍ ممن ألَّفه به، ومن كان معه فيه، واجتماعهم على علمهم بذلك، فهذا مما يُنتهى إليه، ولا يُسأل عنه» رواه ابن وهب في جامعه كما في جامع بيان العلم لابن عبد البر، ورواه أيضا ابن شبة في تاريخ المدينة.
وربيعة هو ابن أبي عبد الرحمن المدني(ت:136هـ) المعروف بربيعة الرأي، شيخ الإمام مالك، ومفتي أهل المدينة في زمانه، وهو من عداد التابعين من طبقة الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري.
وفي هذا الأثر التأكيد على أنّ تأليف السور كان على علمٍ من قرّاء الصحابة وعلمائهم، وأن لديهم من العلم ما اقتضى هذا الترتيب، إذ من المقطوع به أنهم ألَّفوه عن علمٍ صحيحٍ يُعتدّ به، وأنهم أصابوا ولم يخطئوا.
وإنما اختلافُ العلماء في نوع هذا العلم؛ هل هو توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو هو اجتهاد اجتهدوه فأصابوا فيه؟
ومراد ربيعة ظاهرٌ في أنّ هذا العلم مما خفي علينا أصله وعلمنا نتيجته، وأنَّ في إجماعهم على هذا الترتيب غنيةً عن تكلّف العلم بما بنوا عليه هذا الترتيب.
ولو أنَّ هذه المسألة كُفَّ عنها لما وسعنا إلا الكفّ، ولكن لمّا اختلف فيها أهل العلم بعد ذلك وكثر بحث هذه المسألة في كتب علوم القرآن احتاج طالب علم التفسير إلى أن يُلخّص له بحث هذه المسألة حتى يعرف أقوال العلماء فيها وأدلَّتهم والقول الراجح فيها.

قال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: (إنما أُلِّفَ القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبى صلى الله عليه وسلم).
وهذا الأثر عن مالك فَهِمَ منه بعضُ أهل العلم أنه أراد التوقيف، ولذلك ذهب أبو عمرو الداني وابن بطال وجماعة من العلماء إلى أنّ ترتيب سور القرآن توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بهذا القول أبو بكر ابن الأنباري وأبو جعفر النحاس وغيرهما.
قال أبو عمرو الداني: (القول عندنا في تأليف السور وتسميتها وترتيب آيها في الكتابة أن ذلك توقيف من رسول الله وإعلام منه به لتوفر مجيء الأخبار بذلك واقتضاء العادة بكونه كذلك، وتواطؤ الجماعة، واتفاق الأمة عليه، وبالله التوفيق).
وقال ابن بطال: (وأما ما رُوي من اختلاف مصحف أبىّ وعلىّ وعبد الله إنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رتَّب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك، روى يونس عن ابن وهب قال: سمعت مالكًا يقول: "إنما أُلف القرآن على ما كانوا يسمعونه من قراءة رسول الله")ا.هـ.
وهذا ظاهر في أنّه إنما فهم التوقيف من كلام الإمام مالك رحمه الله؛ فأدّاه ذلك إلى حمل اختلاف التأليف في مصاحف الصحابة إلى أنه كان قبل العرضة الأخيرة، ولا يصحّ ذلك؛ فإنّ ابن مسعود رضي الله عنه ممن شهد العرضة الأخيرة وتأليف مصحفه الأوّل كان مختلفاً عن تأليف المصاحف العثمانية.
وقال أبو بكر بن الأنباري فيما نقله الزركشي في البرهان: (أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا ثم فرق في بضع وعشرين فكانت السورة تنزل لأمر يحدث والآية جوابا لمستخبر ويقف جبريل النبي صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف كله عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم لآيات).
وقال أبو جعفر النحاس: (المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فهؤلاء العلماء ذهبوا إلى أنّ ترتيب السور توقيفي من الرسول صلى الله عليه وسلم.

وذهب القاضي عياض وحكاه عن جمهور أهل العلم والمحققين منهم إلى أنّ الصحابة اجتهدوا في ترتيب السور، وأنهم توخَّوا في الترتيب ما كانوا يعرفونه من النبي صلى الله عليه وسلم في غالب أحوال قراءته.

قال القاضي عياض: (ترتيب السور اجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصحف لم يكن ذلك من تحديد النبى عليه السلام، وإنما وكله إلى أمته بعده، وهو قول جمهور العلماء، وهو قول مالك واختيار القاضى أبى بكر الباقلانى وأصح القولين عنده).
وقال في موضع آخر: (قول الحجاج: "ألّفوا القرآن كما ألّفه جبريل عليه السلام: السورة التى يذكر فيها البقرة..." الحديث، ولم ينكر عليه إبراهيم قوله: " ألَّفه جبريل " كما أنكر عليه ما تقدم، فإن كان يريد بقوله تأليف الآي فى كل سورة ونظمها على ما هى عليه فى المصحف الآن؛ فهو إجماع المسلمين، وأن ذلك توقيف من النبى عليه السلام، وإن كان يريد تأليف السور بعضها إثر بعض، فهو قول بعض الفقهاء والقراء، والمحققون على خلافه، وأنه اجتهاد من الأمَّة وليس بتوقيف)ا.هـ.

وهذا القول أقرب إلى الصواب إذ لو كان هذا الترتيب عن توقيفٍ من النبي صلى الله عليه وسلم لما ساغَ أن تختلفَ مصاحفُ الصحابةِ في ترتيبِ السُّوَرِ قبل جَمْعِ عثمان، ولأُنكِر على من خالفَ الترتيب الذي أَمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة أكثر تعظيماً للقرآن، وهم أحسن الأمّة عنايةً به من غير تكلّف، وأشدّ حفظاً لعهد النبي صلى الله عليه وسلّم ووصيته.
فعلمنا بذلك أن الصحابة رضي الله عنهم قد اجتهدوا في ترتيب سور المصحف اجتهاداً بعلمٍ، وقد أرادوا أن يجمعوا الأمّة على مصحف واحد لا يُختلف فيه؛ فاقتضى اجتهادُهم هذا الترتيب الذي أجمعوا عليه.

ومن دلائل توخّيهم موافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الترتيب واستنادهم في اجتهادهم إلى أصول ضابطة أنهم قدموا فاتحة الكتاب، ثم السبع الطوال، ثم المئين، ثم المثاني، ثم المفصّل.
وهذا الترتيب العامّ مأثورٌ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث، ثمّ في كلّ مجموعة من تلك المجموعات أدلّة تفصيلية يفهم منها ما يوافق هذا الترتيب في الجملة، ومنها:
1. الأحاديث المروية في تسمية سورة الفاتحة بفاتحة الكتاب ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه؛ فرفع رأسه، فقال: ((هذا بابٌ من السماء فُتِحَ اليوم لم يفتح قطّ إلا اليوم؛ فنزل منه مَلَكٌ؛ فقال: هذا مَلَكٌ نزل إلى الأرض لم ينزل قطّ إلا اليوم، فَسَلَّمَ، وقال: "أبشر بنورين أوتيتَهما لم يؤتَهما نبيٌّ قبلَك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته")). رواه مسلم وابن أبي شيبة والنسائي في الكبرى وغيرهم من طريق عمار بن رزيق، عن عبد الله بن عيسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وفي هذا الاسم أحاديث أخرى في الصحيحين وغيرهما منها حديث عائشة وعبادة بن الصامت وأبي قتادة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم.

2. وحديث النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران»، وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: «كأنهما غمامتان، أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما حِزْقان من طير صواف، تحاجان عن صاحبهما» رواه أحمد ومسلم والترمذي من طريق الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان الكلابي.

3. وقال عبد الرحمن بن يزيد النخعي: سمعت ابن مسعودٍ يقول في بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء: «إنهن من العتاق الأول، وهنَّ من تلادي» رواه البخاري.
فذكرهنّ على نسق الترتيب الذي هي عليه في المصحف.

4. وحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما فقرأ فيهما: قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات). رواه البخاري من حديث ابن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة.

قال أبو جعفر ابن الزبير: (فكيف ما دار الأمر؛ فمنه صلى الله عليه وسلم عُرِفَ ترتيب السور، وعلى ما سمعوه منه بنوا جليل ذلك النظر، فإذاً إنما الخلاف هل ذلك بتوقيف قولي أو بمجرد استناد فعلي بحيث بقي لهم فيه مجال للنظر؛ فهذا موضع الخلاف)ا.هـ
وقال ابن عطية: (وظاهر الآثار أن السبع الطول والحواميم والمفصل كان مرتباً في زمن النبي عليه السلام، وكان في السور ما لم يرتب، فذلك هو الذي رُتّب وقت الكَتْب).
قال أبو جعفر ابن الزبير معقباً عليه: (وظواهر الآثار شاهدة بصحة ما ذهب إليه في أكثر ما نُص عليه، ثم يبقى بعدُ قليل من السور يمكن فيها جري الخلاف أو يكون وقع، وإذا كان مستند المسألة النقل لم يصعب خلاف غير أهله)ا.هـ.
ونقل السيوطي في الإتقان عن البيهقي في المدخل أنه قال: (كان القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرتبا سوره وآياته على هذا الترتيب إلا الأنفال وبراءة لحديث عثمان السابق).
وهو قول فيه نظر لأن اختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة رضي الله عنهم كان في أكثر من ذلك،
ولم أقف على نصّ كلام البيهقي، ولعله نقله بالمعنى، وسيأتي الكلام على حديث عثمان وابن عباس في شأن براءة والأنفال.

وخلاصة القول الراجح في هذه المسألة أن ترتيب السور في المصاحف العثمانية كان باجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم لكنّهم لم يكن اجتهاداً مستنَدُه مجرّد الرأي والاستحسان، بل كانوا يتوخّون ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجيح بعض الأدلة على بعض، وكانوا هم أعلم الأمّة بذلك، وقد أجمعوا على ما انتهوا إليه؛ فصار إجماعهم حجّة قاطعة للنزاع، فلا يجوز أن يُكتب مصحف تامّ يخالف ترتيب السور في المصاحف العثمانية.
ونحن وإن كان قد خفيَ علينا بعضُ أدلَّتهم فإنَّ في النتيجة التي خلصوا إليها وإجماعِهم عليها كفايةً عن تطلُّب تفاصيل أدلّتهم ومآخذ اجتهادهم في الترتيب، وقد تقرَّر أنّ الأمّة لا تجمع على ضلالة، وأنّا مأمورون باتّباع سُنَّة الخلفاء الراشدين، وقد أقرّ هذا الترتيب عثمان بن عفان وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأقرّه قُرَّاء الصحابة وعلماؤهم؛ فعلمنا أن هذا الترتيب هو الحقّ الذي رضي الله أن يُرتّب به كتابه، وأن تكتب به المصاحف على مرّ القرون وتطاول الأعصر). [جمع القرآن:181 - 188]


رد مع اقتباس