عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 14 رمضان 1438هـ/8-06-2017م, 10:04 AM
جمهرة علوم العقيدة جمهرة علوم العقيدة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 1,193
افتراضي

بيانِ بعضِ ما تَضَمَّنَتْهُ فَرِيضةُ الصلاةِ مِنْ لَطَائِفِ التَّعَبُّدِ للهِ تَعَالى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وصفاتِهِ الْعُلَى

قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: (البابُ السابعَ عشرَ: في بيانِ بعضِ ما تَضَمَّنَتْهُ فَرِيضةُ الصلاةِ مِنْ لَطَائِفِ التَّعَبُّدِ للهِ تَعَالى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وصفاتِهِ الْعُلَى.
(لا رَيْبَ أَنَّ الصلاةَ قُرَّةُ عُيونِ المحبِّينَ، ولَذَّةُ أرواحِ الْمُوَحِّدِينَ، ومَحَكُّ أحوالِ الصادقينَ، ومِيزانُ أحوالِ السالكينَ، ورحمتُهُ الْمُهداةُ إلى عَبِيدِهِ هَدَاهُم إليها وعَرَّفَهُم بِهَا؛ رحمةً بهم وإكراماً لهم لِيَنَالُوا بها شَرَفَ كَرامتِهِ، والفوزَ بقُرْبِهِ، لا حاجةً منهُ إليهم، بلْ... مَنًّا وفضلاً منهُ عليهمْ، وتَعَبَّدَ بها القلبَ والجوارحَ جميعاً، وجَعَلَ حَظَّ القلبِ منها أَكْمَلَ الْحَظَّيْنِ وأَعْظَمَهما، وهوَ إقبالُهُ على ربِّهِ سُبحانَهُ وفَرَحُهُ وتَلذُّذهُ بقُرْبِهِ، وتَنعُّمُهُ بِحُبِّهِ، وابتهاجُهُ بالقيامِ بينَ يَديهِ، وانصرافُهُ حالَ القيامِ بالعُبوديَّةِ عن الالتفاتِ إلى غيرِ مَعبودِهِ، وتَكميلُ حُقوقِ عُبوديَّتِهِ حتَّى تَقَعَ على الوَجْهِ الذي يَرضاهُ.
ولَمَّا امْتَحَنَ سُبحانَهُ عَبْدَهُ بالشهواتِ وأسبابِها مِنْ داخلٍ فيهِ وخارجٍ عنهُ اقْتَضَتْ تَمامُ رَحمتِهِ بهِ وإحسانُهُ إليهِ أنْ هيَّأَ لهُ مَأْدُبَةً قدْ جَمَعَتْ مِنْ جميعِ الألوانِ والتُّحَفِ والْخِلَعِ والعطايا، ودَعاهُ إليهِ كُلَّ يومٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وجَعَلَ كلَّ لونٍ مِنْ ألوانِ تلكَ الْمَأْدُبَةِ لَذَّةً ومَنفعةً ومَصلحةً لهذا العَبْدِ الذي قدْ دَعاهُ إلى الْمَأْدُبَةِ ليستْ في اللونِ الآخَرِ لتَكْمُلَ لَذَّةُ عَبْدِهِ في كلِّ لونٍ مِنْ ألوانِ العُبُوديَّةِ، ويُكْرِمَهُ بكلِّ صِنْفٍ مِنْ أصنافِ الكرامةِ، ويكونَ كلُّ فِعْلٍ مِنْ أفعالِ تلكَ العُبوديَّةِ مُكَفِّراً لِمَذمومٍ كانَ يَكْرَهُهُ بإزائِهِ، وليُثِيبَهُ عليهِ نوراً خاصًّا وقُوَّةً في قلبِهِ وجَوارِحِهِ وثواباً خاصًّا يومَ لِقَائِهِ.
فيَصْدُرُ الْمَدْعُوُّ مِنْ هذهِ الْمَأْدُبَةِ وقدْ أَشْبَعَهُ وأَرواهُ، وخَلَعَ عليهِ بخِلَعِ القَبُولِ وأَغناهُ؛ لأنَّ القلبَ كانَ قَبْلُ قدْ نالَهُ مِن القَحْطِ والْجَدْبِ والجوعِ والظَّمَأِ والعُرْيِ والسَّقَمِ ما نَالَهُ، فأَصْدَرَهُ مِنْ عندِهِ وقدْ أَغناهُ عن الطعامِ والشرابِ واللِّباسِ والتُّحَفِ ما يُغْنِيهِ.
ولَمَّا كانت الجُدوب مُتتابعةً، وقَحْطُ النفوسِ مُتوالياً، جَدَّدَ لهُ الدعوةَ إلى هذهِ الْمَأْدُبَةِ وقتاً بعدَ وقتٍ رَحمةً منهُ بهِ، فلا يَزالُ مُسْتَسْقِياً مَنْ بِيَدِهِ غَيثُ القلوبِ وسَقْيُها، مُسْتَمْطِراً سَحائبَ رَحمتِهِ؛ لِئَلاَّ يَيْبَسَ ما أَنْبَتَتْهُ لهُ تلكَ مِنْ كَلأِ الإيمانِ وعُشْبِهِ وثِمارِهِ، ولئلا تَنْقَطِعَ مادَّةُ النباتِ.
والقلبُ في استسقاءٍ واستمطارٍ، هكذا دائماً يَشْكُو إلى ربِّهِ جَدْبَهُ وقَحْطَهُ وضَرورتَهُ إلى سُقْيَا رَحمتِهِ، وغَيْثِ بِرِّهِ فهذا دَأْبُ العبدِ أيَّامَ حياتِهِ.
فإنَّ الغفلةَ التي تَنْـزلُ بالقلبِ هيَ القَحْطُ والجدْبُ، فما دامَ في ذِكْرِ اللهِ والإقبالِ عليهِ فغَيْثُ الرحمةِ واقعٌ عليهِ كالمطَرِ المتدارِكِ، فإذا غَفَلَ نالَهُ مِن القحْطِ بِحَسَبِ غَفْلَتِهِ قِلَّةً وكَثْرَةً، فإذا تَمَكَّنَت الغَفلةُ واستَحْكَمَت صارتْ أَرْضُهُ مَيِّتَةً، وسَنَتُهُ جَرْدَاءَ يَابسةً، وحريقُ الشهواتِ فيها مِنْ كلِّ جانبٍ كالسمايمِ.
وإذا تدارَكَ عليهِ غيثُ الرحمةِ اهتزَّتْ أَرْضُهُ وربَتْ وأَنْبَتَتْ مِنْ كلِّ زَوْجٍ بَهيجٍ، فإذا نَالَهُ القَحْطُ والجدْبُ كانَ بِمَنْـزِلَةِ شَجرةٍ رُطُوبَتُها ولِينُها وثِمَارُها مِن الماءِ، فإذا مُنِعَتْ مِن الماءِ يَبِسَتْ عُروقُها وذَبَلَتْ أغصانُها، وحُبِسَتْ ثِمَارُها، ورُبَّمَا يَبِسَت الأغصانُ والشجرةُ، فإذا مَدَدْتَ منها غُصْناً إلى نفسِكَ لم يَمْتَدَّ ولم يَنْقَدْ لكَ وانْكَسَرَ، فحينئذٍ تَقتَضِي حِكمةُ قَيِّمِ البستانِ قَطْعَ تلكَ الشجرةِ وجَعْلَها وَقُوداً للنارِ، فكذلكَ القلبُ، إِنَّمَا يَيْبَسُ إذا خَلا مِنْ توحيدِ اللهِ وحُبِّهِ ومَعرفتِهِ وذِكْرِهِ ودُعائِهِ فتُصيبُهُ حَرارةُ النفسِ ونارُ الشهواتِ فتَمتنعُ أغصانُ الجوارحِ مِن الامتدادِ إذا مَدَدْتَهَا والانقيادِ إذا قُدْتَهَا، فلا تَصْلُحُ بعدُ هيَ والشجرةُ إلاَّ للنارِ. {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} [الزمر: 22].
فإذا كانَ القلبُ ممطوراً بِمَطَرِ الرحمةِ كانت الأغصانُ ليِّنَةً مُنقادةً رَطْبةً، فإذا مَدَدْتَهَا إلى أَمْرِ اللهِ انقادَتْ مَعَكَ، وأَقْبَلَتْ سريعةً لَيِّنَةً وَادِعةً، فجَنَيْتَ منها مِنْ ثمارِ العُبوديَّةِ ما يَحْمِلُهُ كلُّ غُصْنٍ مِنْ تلكَ الأغصانِ، ومادَّتُها مِنْ رُطوبةِ القلبِ وَرِيِّهِ، فالمادَّةُ تَعملُ عَمَلَها في القلبِ والجوارحِ، وإذا يَبِسَ القلبُ تَعَطَّلَت الأغصانُ مِنْ أعمالِ الْبِرِّ؛ لأنَّ مادَّةَ القلبِ وحياتَهُ قد انْقَطَعَتْ منهُ فَلَمْ تَنْتَشِرْ في الجوارحِ، فتَحْمِلُ كلُّ جارحةٍ ثَمَرَها مِن العُبُودِيَّةِ، وللهِ في كلِّ جارحةٍ مِنْ جوارحِ العبدِ عُبودِيَّةٌ تَخُصُّها، وطاعةٌ مَطلوبةٌ منها، خُلِقَتْ لأجْلِها وهُيِّئَتْ لها.
والناسُ بعدَ ذلكَ ثلاثةُ أقسامٍ:
- أحدُها: مَن استَعْمَلَ تلكَ الجوارحَ فيما خُلِقَتْ لهُ وأُرِيدَ منها. فهذا هوَ الذي تاجَرَ اللهَ بأربحِ التجارةِ، وباعَ نفسَهُ للهِ بأربحِ البيعِ. والصلاةُ وُضِعَتْ لاستعمالِ الجوارحِ، جميعِها في العُبوديَّةِ تَبَعاً لقيامِ القلبِ بها.
- الثاني: مَن استَعْمَلَهَا فيما لم تُخْلَقْ لهُ، ولم [يُخْلَقْ](1) لها، فهذا هوَ الذي خابَ سَعْيُهُ وخَسِرَتْ تِجارتُهُ، وفَاتَهُ رِضَى ربِّهِ عنهُ، وجزيلُ ثوابِهِ، وحَصَلَ على سَخَطِهِ وأليمِ عِقابِهِ.
- الثالثُ: مَنْ عَطَّلَ جَوارِحَهُ وأَماتَهَا بالبَطالةِ، فهذا أيضاً خاسرٌ أعظمَ خَسارةٍ؛ فإنَّ العبدَ خُلِقَ للعبادةِ والطاعةِ لا للبَطالةِ، وأَبْغَضُ الخلْقِ إلى اللهِ البطَّالُ الذي لا في شُغْلِ الدنيا ولا في سَعْيِ الآخرةِ، فهذا كَلٌّ على الدنيا والدِّينِ.
* * *
فالأول: كرجُلٍ أَقْطَعَ أرضاً واسعةً وأُعِينَ بآلاتِ الْحَرْثِ والبِذَارِ، وأُعْطِي ما يَكفِيهَا لسَقْيِها فحَرَثَها وهَيَّأَهَا للزراعةِ وبَذَرَ فيها مِنْ أنواعِ الغِلالِ، وغَرَسَ فيها مِنْ أنواعِ الثمارِ والفواكِهِ المختلِفةِ الأنواعِ، ثُمَّ لم يُهْمِلْهَا بلْ أقامَ عليها الحرَسَ وحَفِظَهَا مِن الْمُفْسِدِينَ، وجَعَلَ يَتَعَاهَدُها كلَّ يومٍ فيُصْلِحُ ما فَسَدَ منها، ويَغْرِسُ عِوَضَ ما يَبِسَ، ويَنْفِي دَغَلَها، ويَقْطَعُ شَوْكَها، ويَستعينُ بِمُغِلِّها على عِمَارَتِها.
والثاني: بِمَنْـزِلَةِ رَجُلٍ أَخَذَ تلكَ الأرضَ فجَعَلَها مَأْوًى للسِّباعِ والهوامِّ ومُطَّرَحاً للجِيَفِ والأَنْتَانِ، وجَعَلَها مَعْقِلاً يَأْوِي إليهِ كلُّ مُفْسِدٍ ومُؤذٍ ولِصٍّ، وأَخَذَ ما أُعِينَ بهِ على بِذَارِها وصَلاحِها فصَرَفَهُ مَعونةً ومَعيشةً لِمَنْ فيها مِنْ أهلِ الشرِّ والفسادِ.
والثالثُ: بمنـزلة رجل عطَّلها وأَهْمَلَها وأَرْسَلَ ذلكَ الماءَ ضَائعاً في القِفَارِ والصَّحارِي، فقَعَدَ مَذموماً مَحْسوراً. فهذا مِثالُ أهلِ الغفلةِ.
والذي قَبْلَهُ مِثالُ أهلِ الخِيانةِ والجِنايَةِ.
والأوَّلُ مِثالُ أهلِ اليَقظةِ والاستعدادِ لِمَا خُلِقُوا لهُ.
فالأول: إذا تَحَرَّكَ أوْ سَكَنَ أوْ قامَ أوْ قَعَدَ أوْ أَكَلَ أوْ شَرِبَ أوْ نامَ أوْ لَبِسَ أوْ نَطَقَ أوْ سَكَتَ كانَ ذلكَ كلُّهُ لهُ لا عليهِ، وكان في ذِكْرٍ وطاعةٍ وقُربةٍ ومَزيدٍ.
والثاني: إذا فَعَلَ ذلكَ كانَ عليهِ لا لهُ، وكان في طَرْدٍ وإبعادٍ وخُسرانٍ.
والثالثُ: إذا فَعَلَ ذلكَ كانَ في غَفْلَةٍ وبَطالةٍ وتفريطٍ.
* * *
فالأوَّلُ: يَتقلَّبُ فيما يَتقلَّبُ فيهِ بِحُكْمِ الطاقةِ والقُرْبَةِ.
والثاني: يَتَقَلَّبُ في ذلكَ بِحُكْمِ الخيانةِ والتعَدِّي فإنَّ اللهَ لم يُمَلِّكْهُ ما مَلَّكَهُ ليَستعينَ بهِ على مُخالفَتِهِ، فهوَ جانٍ مُتَعَدٍّ خائنٌ للهِ في نِعَمِهِ، معاقَبٌ على التَّنَعُّمِ بها في غيرِ طاعتِهِ.
والثالثُ: يَتَقَلَّبُ في ذلكَ ويَتناوَلُهُ بِحُكْمِ الغفلةِ وبَهجةِ النفسِ وطبيعتِها، لم يَبْتَغِ بذلكَ رِضوانَ اللهِ والتقَرُّبَ إليهِ، فهذا خُسرانٌ بَيِّنٌ إذ عطَّلَ أوقاتَ عُمُرِهِ التي لا قِيمةَ لها عنْ أَفضلِ الأرباحِ والتجاراتِ.
* * *
فدَعَا اللهُ سُبحانَهُ الموَحِّدينَ إلى هذهِ الصلواتِ الخمسِ رَحمةً منهُ عليهم *، وهيَّأَ لهم فيها أنواعَ العِبادةِ ليَنالَ العبدُ مِنْ كلِّ قولٍ وفِعْلٍ وحَركةٍ وسكونٍ حَظَّهُ مِنْ عَطاياهُ.
وكان سِرُّ الصلاةِ ولُبُّها إقبالَ القلبِ فيها على اللهِ وحضورَهُ بكُلِّيَّتِهِ بينَ يدَيْهِ، فإذا لم يُقْبِلْ عليهِ واشتَغَلَ بغيرِهِ وَلَهَا بحديثِ النفسِ، كانَ بِمَنْـزِلَةِ وافدٍ وَفَدَ إلى بابِ الملِكِ مُعْتَذِراً مِنْ خَطئِهِ وزَلَـلِهِ مُسْتَمْطِراً لِسَحَايِبِ جُودِهِ ورَحمتِهِ مُسْتَطْعِماً لهُ ما يَقوتُ قَلْبَهُ، ليَقْوَى على القيامِ في خِدمتِهِ، فلَمَّا وَصَلَ إلى البابِ ولم يَبْقَ إلاَّ مُناجاةُ الملِكِ، الْتَفَتَ عن الملِكِ وزاغَ عنهُ يَمِيناً أوْ وَلاَّهُ ظَهْرَهُ، واشتَغَلَ عنهُ بَأَمْقَتِ شيءٍ إلى الملِكِ وأَقَلِّهِ عندَهُ قَدْراً، فآثَرَهُ عليهِ وصَيَّرَهُ قِبْلَةَ قَلْبِهِ، ومَحَلَّ تَوَجُّهِهِ، ومَوْضِعَ سِرِّهِ، وبَعَثَ غِلْمَانَهُ وخَدَمَهُ ليَقِفُوا في طاعةِ الْمَلِكِ، ويَعْتَذِروا عنهُ ويَنُوبُوا عنهُ في الْخِدْمَةِ، والملِكُ شاهدٌ ذلكَ ويرى حالَهُ، ومعَ هذا فَكَرَمُ الملِكِ وجُودُهُ وسَعَةُ بِرِّهِ وإحسانُهُ يَأْبَى أن يَنصرِفَ عنهُ الْخَدَمُ والأتباعُ، فيُصِيبَها مِنْ رَحْمَتِهِ وإحسانِهِ. لكن فَرْقٌ بينَ قِسمةِ الغنائمِ على أهلِ السُّهمانِ مِن الغانمينَ وبينَ الرَّضْخِ لِمَنْ لا سَهْمَ لهُ {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)} [الأحقاف: 19].
واللهُ سبحانَهُ خَلَقَ هذا النوعَ الإنسانيَّ لنَفْسِهِ واخْتَصَّهُ، وخَلَقَ لهُ كلَّ شيءٍ كما في الأَثَرِ الإلهيِّ: ((ابْنَ آدَمَ خَلَقْتُكَ لِنَفْسِي وَخَلَقْتُ كُلَّ شَيْءٍ لَكَ فَبِحَقِّي عَلَيْكَ لا تَشْتَغِلْ بِمَا خَلَقْتُهُ لَكَ عَمَّا خَلَقْتُكَ لَهُ)). وفي أَثَرٍ آخَرَ: ((خَلَقْتُكَ لِنَفْسِي، فَلا تَلْعَبْ وَتَكَفَّلْتُ بِرِزْقِكَ فَلا تَتْعَبْ، ابْنَ آدَمَ اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، وَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ وَأَنَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)) ([2])
وجَعَلَ الصلاةَ سَبباً مُوَصِّلاً لهُ إلى قُرْبِهِ ومُناجاتِهِ ومَحَبَّتِهِ والأُنْسِ بهِ، وما بينَ صَلاتَيْنِ تَحْدُثُ لهُ الغَفلةُ والْجَفْوَةُ والإِعراضُ والزَّلاتُ والْخَطايا، فيُبْعِدُهُ ذلكَ عنْ رَبِّهِ، ويُنَحِّيهِ عنْ قُرْبِهِ، ويَصيرُ كأنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عن العُبوديَّةِ ليسَ مِنْ جُملةِ العَبيدِ، ورُبَّمَا أَلْقَى بِيَدِهِ إلى أَسْرِ الْعَدُوِّ فَأَسَرَهُ وغَلَّهُ وقَيَّدَهُ وسَجَنَهُ في سِجْنِ نَفْسِهِ وهَواهِ، فحَظُّهُ ضِيقُ الصدْرِ ومُعالجةُ الهمومِ والغمومِ والأحزانِ والحسَراتِ، ولا يَدْرِي السببَ في ذلكَ.
فاقْتَضَتْ رَحمةُ رَبِّهِ الرحيمِ بهِ أن جَعَلَ لهُ مِنْ عُبوديَّتِهِ عُبوديَّةً جامعةً مُخْتَلِفةَ الأجزاءِ والحالاتِ، بِحَسَبِ اختلافِ الأحداثِ التي جاءتْ مِن العَبْدِ، وبِحَسَبِ شِدَّةِ حاجتِهِ إلى نصيبِهِ مِنْ كلِّ خيرٍ مِنْ أجزاءِ تلكَ العُبودِيَّةِ.
فبِالوُضوءِ يَتطهَّرُ مِن الأوساخِ ويُقْدِمُ على ربِّهِ مُتَطَهِّراً، والوُضوءُ لهُ ظاهرٌ وباطنٌ، وظاهرُهُ طهارةُ البَدَنِ وأعضاءِ العِبادةِ، وباطنُهُ وسِرُّهُ طَهارةُ القلبِ مِنْ أوساخِهِ وأَدرانِهِ بالتوبةِ، ولهذا يَقْرِنُ سبحانَهُ بينَ التوبةِ والطهارةِ في قولِهِ:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222]، وشَرَعَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ للمُتَطَهِّرِ بعدَ فَراغِهِ مِن الوُضوءِ أنْ يَتشهَّدَ، ثُمَّ يقولَ: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ)). فَكَمَّلَ لَهُ مَرَاتِبَ الطَّهَارَةِ بَاطِناً وَظَاهِراً.
فإنَّهُ بالشهادةِ يَتَطَهَّرُ مِن الشرْكِ، وبالتوبةِ يَتطهَّرُ مِن الذنوبِ، وبالماءِ يَتطهَّرُ مِن الأوساخِ الظاهرةِ؛ فشَرَعَ أكملَ مَراتِبِ الطهارةِ قَبْلَ الدخولِ على اللهِ والوقوفِ بينَ يديهِ، فلَمَّا طَهُرَ ظاهراً وباطناً أَذِنَ لهُ بالدخولِ عليهِ بالقيامِ بينَ يديهِ إذ يَخْلُصُ مِن الإِبَاقِ بمجيئِهِ إلى دارِهِ ومَحَلِّ عُبوديَّتِهِ.
ولهذا كانَ الْمَجيءُ إلى المسجدِ مِنْ تَمامِ عُبوديَّةِ الصلاةِ الواجبةِ عندَ قَوْمٍ، والمستحبَّةِ عندَ آخرينَ، والعبدُ كانَ في حالِ غَفلتِهِ كالآبِقِ عنْ رَبِّهِ وقدْ عَطَّلَ جَوارِحَهُ وقَلْبَهُ عن الْخِدْمَةِ التي خُلِقَ لها، فإذا جاءَ إليهِ فقدْ رَجَعَ مِنْ إباقِهِ، فإذا وَقَفَ بينَ يديهِ مَوْقِفَ العُبوديَّةِ والتذَلُّلِ والانكسارِ فقد استَدْعَى عَطْفَ سَيِّدِهِ عليهِ وإقبالَهُ عليهِ بعدَ الإعراضِ.
وأُمِرَ بأن يَسْتَقْبِلَ القِبلةَ بَيتَهُ الحرامَ بوَجهِهِ، ويَستقبِلَ اللهَ عزَّ وجَلَّ بقَلْبِهِ ليَنْسَلِخَ مِمَّا كانَ فيهِ مِن التَّوَلِّي والإعراضِ، ثُمَّ قامَ بينَ يديهِ مَقامَ الذليلِ الخاضعِ الْمِسكينِ المستَعْطِفِ لسَيِّدِهِ وأَلْقَى بيديهِ مُسْلِماً مُسْتَسْلِماً نَاكِسَ الرأسِ خاشعَ القلبِ مُطْرِقَ الطَّرْفِ، لا يَلتفتُ قلبُهُ عنهُ ولا طَرْفُهُ يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، بلْ قدْ تَوَجَّهَ بقلبِهِ كُلِّهِ إليهِ وأَقْبَلَ بكُلِّيَّتِهِ عليهِ.
ثُمَّ كَبَّرَهُ بالتعظيمِ والإجلالِ ووَاطَأَ قَلْبُهُ في التكبيرِ لسانَهُ، فكان اللهُ أكبَرَ في قَلْبِهِ مِنْ كلِّ شيءٍ، وصدَّقَ هذا التكبيرَ بأنَّهُ لم يكنْ في قلبِهِ شيءٌ أكبرَ مِن اللهِ يَشغلُهُ عنهُ، فإذا اشْتَغَلَ عن اللهِ بغيرِهِ وكان ما اشْتَغَلَ بهِ أهمَّ ما عِنْدَهُ...(3) كانَ تكبيرُهُ بلسانِهِ دونَ قلبِهِ، فالتكبيرُ يُخْرِجُهُ مِنْ لُبْسِ رِداءِ التَّكَبُّرِ المنافِي للعُبودِيَّةِ، ويَمْنَعُهُ مِن التفاتِ قَلْبِهِ إلى غيرِ اللهِ.
إذا كانَ اللهُ عندَهُ وفي قلبِهِ أكبرَ مِنْ كلِّ شيءٍ مَنَعَهُ حقُّ قولِهِ: ((اللهُ أكبرُ)) والقيامُ بعبودِيَّةِ التكبيرِ عنْ هاتيْنِ الآفَتَيْنِ، اللَّتَيْنِ هُمَا مِنْ أَعظمِ الحُجُبِ بينَهُ وبينَ اللهِ.
فإذا قالَ: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ)) وأَثْنَى على اللهِ بما هوَ أَهْلُهُ، فقدْ خَرَجَ عن الغَفلةِ التي هيَ حِجابٌ أيضاً بينَهُ وبينَ اللهِ.
وأَتَى بالتحِيَّةِ والثناءِ الذي يُخاطَبُ بهِ الملِكُ عندَ الدخولِ عليهِ تَعظيماً لهُ وتَمجيداً ومُقَدِّمَةً بينَ يَدَيْ حاجتهِ، فكانَ في هذا الثناءِ مِنْ أَدَبِ العُبوديَّةِ ما يَسْتَجْلِبُ بهِ إقبالَهُ عليهِ ورِضاهُ عنهُ وإسعافَهُ بحوائجِهِ.
((وهاهنا عَجيبةٌ: يَحْصُلُ لِمَنْ تَفَقَّهَ قَلْبُهُ في معاني القرآنِ عجائبُ الأسماءِ والصفاتِ، وخَالَطَ بشاشةُ الإيمانِ بها قَلْبَهُ يَرَى لكلِّ اسمٍ وصِفةٍ مَوْضِعاً مِنْ صلاتِهِ ومَحَلاًّ منها، فإنَّهُ إذا انْتَصَبَ قائماً بينَ يَدَيِ الربِّ تَبارَكَ وتعالى، شاهَدَ بقلبِهِ قَيُّومِيَّتَهُ، وإذا قالَ: ((اللهُ أكبرُ))، شاهَدَ كبرياءَهُ. وإذا قالَ: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلا إِلَهَ غَيْرُكَ)) شاهَدَ بقلبِهِ ربًّا مُنَـزَّهاً عنْ كلِّ عَيْبٍ، سالِماً مِنْ كلِّ نَقْصٍ، مَحموداً بكلِّ حَمْدٍ، فحَمْدُهُ يَتَضَمَّنُ وَصْفَهُ بكلِّ كمالٍ، وذلكَ يَستلزِمُ بَراءتَهُ مِنْ كلِّ نَقْصٍ تَبارَكَ اسمُهُ، فلا يُذْكَرُ على قليلٍ إلاَّ كَثَّرَهُ، ولا على خيرٍ إلاَّ أَنماهُ وبارَكَ فيهِ، ولا على آفةٍ إلاَّ أذهَبَها، ولا على شيطانٍ إلاَّ رَدَّهُ خاسِئاً داحراً.
وكمالُ الاسمِ مِنْ كمالِ مُسمَّاهُ، فإذا كانَ هذا شأنَ اسمِهِ الذي لا يَضُرُّ معه شيءٌ في الأرضِ ولا في السماءِ، فشَأْنُ الْمُسَمَّى أَعْلَى وأَجَلُّ.
و((تعالى جَدُّهُ)) أي: ارْتَفَعَتْ عَظَمَتُهُ، وجَلَّتْ فوقَ كلِّ عَظمةٍ، وعلا شأنُهُ على كلِّ شأنٍ، وقَهَرَ سلطانُهُ على كلِّ سُلطانٍ، فتعالى جَدُّهُ أن يكونَ معه شَريكٌ في مُلْكِهِ ورُبوبيَّتِهِ، أوْ في إلهيَّتِهِ أوْ في أَفعالِهِ أوْ في صفاتِهِ، كما قالَ مؤمنُ الْجِنِّ: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)} [الجن: 3]؛ فَكَمْ في هذهِ الكلماتِ مِنْ تَجَلٍّ لحقائقِ الأسماءِ والصفاتِ على قَلْبِ العارفِ بها، وغيرِ الْمُعَطِّلِ لَحَقائقِهَا)) ([4])
فإذا شَرَعَ في القراءةِ قَدَّمَ أمامَها الاستعاذةَ باللهِ مِن الشيطانِ، فإنَّهُ أَحْرَصُ ما يكونُ على العبدِ في مِثلِ هذا الْمَقامِ الذي هوَ أَشرفُ مَقاماتِهِ وأَنْفَعُها لهُ في دُنياهُ وآخرتِهِ، فهوَ أَحرصُ شيءٍ على صَرْفِهِ عنهُ واقتطاعِهِ دونَهُ بالبَدَنِ والقلْبِ، فإنْ عَجَزَ عن اقتطاعِهِ وتَعطيلِهِ عنهُ بالبَدَنِ اقْتَطَعَ قلبَهُ وعطَّلَهُ عن القيامِ بينَ يَدَيِ الربِّ تعالى، فأَمَرَ العبدَ بالاستعاذةِ باللهِ منهُ ليَسْلَمَ لهُ مقامُهُ بينَ يَدَيْ رَبِّهِ، ولِيَحْيَا قلبُهُ ويَستنيرَ بما يَتَدَبَّرُهُ ويَتَفَهَّمُهُ مِنْ كلامِ سَيِّدِهِ الذي هوَ سَببُ حَياتِهِ ونَعيمِهِ وفَلاحِهِ، فالشيطانُ أَحْرَصُ على اقتطاعِ قَلْبِهِ عنْ مَقصودِ التلاوةِ.
ولمَّا عَلِمَ سُبحانَهُ جِدَّ العَدُوِّ وتَفَرُّغَهُ للعَبْدِ، وعَجْزَ العبدِ عنهُ، أَمَرَهُ بأنْ يَستعيذَ بهِ سبحانَهُ ويَلْتَجِئَ إليهِ في صَرْفِهِ عنهُ، فيُكْفَى بالاستعاذةِ مُؤْنَةَ مُحاربتِهِ ومُقاومتِهِ، فكأنَّهُ قيلَ لهُ: لا طاقةَ لكَ بهذا العدُوِّ فاستَعِذْ بي واستَجِرْ بي أَكْفِكَهُ، وأَمْنَعْكَ منهُ. وقالَ لي شيخُ الإسلامِ - قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ - يوماً: “ إِذَا هَاشَ عَلَيْكَ كَلْبُ الْغَنَمِ فَلا تَشْتَغِلْ بِمُحَارَبَتِهِ وَمُدَافَعَتِهِ، وَعَلَيْكَ بِالرَّاعِي فَاسْتَغِثْ بِهِ فَهُوَ يَصْرِفُ عَنْكَ الكَلْبَ “.
(([فـ]إذا قالَ: ((أَعُوذُ بِاللهِ مِن الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)) فقدْ آوَى إلى رُكْنِهِ الشديدِ، واعْتَصَمَ بِحَوْلِهِ وقُوَّتِهِ مِنْ عَدوِّهِ الذي يُريدُ أن يَقْطَعَهُ عنْ رَبِّهِ، ويُباعِدَهُ عنْ قُرْبِهِ، ليكونَ أَسوأَ حالاً))([5]).
فإذا استعاذَ باللهِ مِن الشيطانِ بَعُدَ منهُ، فأَفْضَى القلبُ إلى معاني القرآنِ، ووَقَعَ في رياضِهِ الْمُونِقَةِ، وشاهَدَ عجائبَهُ التي تُبْهِرُ العُقولَ، واستخْرَجَ مِنْ كُنوزِهِ وذَخائرِهِ ما لا عينٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ.
وكان الحائلُ بينَهُ وبينَ ذلكَ النفْسَ والشيطانَ، والنفْسُ مُنْفَعِلَةٌ للشيطانِ سامعةٌ منهُ فإذا بَعُدَ عنها وطُرِدَ لَمَّ بها المَلكُ وثبَّتَها وذَكَّرها بما فيهِ سعادتُها ونجاتُها.
فإذا أَخَذَ في قراءةِ القرآنِ فقدْ قامَ في مَقامِ مُخاطبةِ رَبِّهِ ومُناجاتِهِ، فلْيَحْذَرْ كلَّ الحذَرِ مِن التعَرُّضِ لِمَقْتِهِ وسَخَطِهِ أن يُناجِيَهُ ويُخاطبَهُ وهوَ مُعْرِضٌ عنهُ، مُلْتَفِتٌ إلى غيرِهِ، فإنَّهُ يَستدعِي بذلكَ مَقْتَهُ ويكونُ بِمَنـزِلَةِ رَجُلٍ قَرَّبَهُ مَلِكٌ مِنْ مُلوكِ الدنيا فأَقامَهُ بينَ يَدَيْهِ، فجَعَلَ يُخاطبُهُ الملِكُ وقدْ وَلاَّهُ قَفاهُ أو الْتَفَتَ عنهُ بوَجْهِهِ يَمْنَةً ويَسْرَةً، فما الظنُّ بِمَقْتِ الملِكِ لهذا، فما الظنُّ بالملِكِ الحقِّ المبينِ الذي هوَ رَبُّ العالمينَ وقَيُّومُ السماواتِ والأرضِ.
ولْيَقِفْ عندَ كلِّ آيَةٍ مِن الفاتحةِ يَنتظِرُ جوابَ رَبِّهِ لهُ وكأنَّهُ سَمِعَهُ يقولُ: ((حَمِدَني عَبْدِي)) ([6]) حينَ يقولُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2]، فإذا قالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)} [الفاتحة: 3] وَقَفَ لحظةً يَنتظِرُ قولَهُ: ((أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي))، فإذا قالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 4] انتظرَ قولَهُ: ((مَجَّدَنِي عَبْدِي))، فإذا قالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5] انتظرَ قولَهُ: ((هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي))، فإذا قالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} إلى آخرِها [الفاتحة: 6-7] انتظرَ قولَهُ: ((هَؤُلاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ)).
((فيا لَذَّةَ قلبِهِ وقُرَّةَ عينِهِ وسُرورَ نفسِهِ بقولِ ربِّهِ: عَبْدِي [ستَّ] مرَّاتٍ، فواللهِ لولا ما على القلوبِ مِنْ دُخَانِ الشهواتِ وغَيْمِ النفوسِ لاستُطيرَتْ فرحاً وسروراً بقولِ رَبِّها وفاطرِها ومَعبودِها: ((حَمِدَنِي عَبْدِي، وَأَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَمَجَّدَنِي عَبْدِي)) ([7]).
ومَنْ ذاقَ طَعْمَ الصلاةِ عَلِمَ أنَّهُ لا يَقومُ غيرُ التكبيرِ والفاتحةِ مَقَامَهُما، كما لا يَقومُ غيرُ القيامِ والركوعِ والسجودِ مَقامَهَا، فلكلِّ عُبودِيَّةٍ مِنْ عُبودِيَّةِ الصلاةِ سِرٌّ وتأثيرٌ وعُبودِيَّةٌ لا تَحْصُلُ مِنْ غيرِها، ثُمَّ لكلِّ آيَةٍ مِنْ آياتِ الفاتحةِ عُبوديَّةٌ وذَوْقٌ ووَجْدٌ يَخُصُّهَا.
فعندَ قولِهِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2] تَجِدُ تحتَ هذهِ الكلمةِ إثباتَ كلِّ كمالٍ للربِّ تعالى فِعْلاً ووَصْفاً واسماً، وتَنزيهَهُ عنْ كلِّ سوءٍ وعَيْبٍ فِعْلاً ووَصْفاً واسماً، فهوَ مَحمودٌ في أفعالِهِ وأوصافِهِ وأسمائِهِ، مُنَزَّهٌ عن العُيوبِ والنقائصِ في أفعالِهِ وأوصافِهِ وأسمائِهِ، فأفعالُهُ كلُّها حِكمةٌ ورَحمةٌ ومَصلحةٌ وعَدْلٌ لا تَخْرُجُ عنْ ذلكَ، وأوصافُهُ كلُّها أوصافُ كمالٍ ونُعوتُ جلالٍ، وأسماؤُهُ كلُّها حُسْنَى، وحَمْدُهُ قدْ مَلأَ الدنيا والآخِرةَ والسَّمَاواتِ والأرضَ وما بينَهما وما فيهما، فالكونُ كلُّهُ ناطقٌ بِحَمْدِهِ، والخلْقُ والأمرُ صادرٌ عنْ حَمْدِهِ وقائمٌ بِحَمْدِهِ، ووُجِدَ بِحَمْدِهِ.
فحَمْدُهُ هوَ سببُ وُجودِ كلِّ موجودٍ، وهوَ غايَةُ كلِّ موجودٍ، وكلُّ موجودٍ شاهدٌ بحمدِهِ، وإرسالُهُ رسولَهُ بحَمْدِهِ، وإنـزالُهُ كُتُبَهُ بِحَمْدِهِ، والجَنَّةُ عُمِّرَتْ بأهلِها بِحَمْدِهِ، والنارُ عُمِّرَتْ بأهلِها بِحَمْدِهِ، وما أُطيعَ إلاَّ بحمدِهِ وما عُصِيَ إلاَّ بحمدِهِ، ولا تَسقُطُ وَرقةٌ إلاَّ بحمدِهِ، ولا يَتحرَّكُ في الكونِ ذَرَّةٌ إلاَّ بحمدِهِ، وهوَ المحمودُ لذاتِهِ، وإن لم يَحْمَدْهُ العِبادُ، كما أنَّهُ هوَ الواحدُ الأَحَدُ ولوْ لمْ يُوحِّدْهُ العِبادُ، والإلهُ الحقُّ وإنْ لمْ يُؤَلِّهُوهُ، وهوَ سبحانَهُ الذي حَمِدَ نفسَهُ على لسانِ القائلِ: "الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمينَ"، كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((إنَّ اللهَ تعالى قالَ على لسانِ نَبِيِّهِ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ)) ([8])، فهوَ الحامدُ لنفسِهِ في الحقيقةِ على لسانِ عبدِهِ، فإنَّهُ الذي أَجْرَى الحمدَ على لسانِهِ وقلبِهِ، وإجراؤُهُ بِحَمْدِهِ، فلهُ الحمدُ كلُّهُ، ولهُ الملْكُ كلُّهُ، وبيدِهِ الخيرُ كلُّهُ، وإليهِ يَرْجِعُ الأمرُ كلُّهُ، فهذه المعرِفَةُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الحمْدِ.
ومِنْ عُبوديَّتِهِ أيضاً أن يَعلمَ أنَّ حَمْدَهُ لرَبِّهِ سبحانَهُ نِعْمةٌ مِنه عليهِ، يَسْتَحِقُّ عليها الحمدَ، فإذا حَمِدَهُ على هذهِ النعمةِ استوْجَبَ عليهِ حَمْداً آخرَ على نِعمةِ حَمْدِهِ. وهَلُمَّ جَرًّا.
فالعبدُ ولو اسْتَنْفَدَ أنفاسَهُ كلَّها في حَمْدِهِ على نِعمةٍ مِنْ نِعَمِهِ كانَ ما يَجِبُ لهُ مِن الحمدِ ويَسْتَحِقُّهُ فوقَ ذلكَ وأضعافَهُ، ولا يُحْصِي أحدٌ الْبَتَّةَ ثناءً عليهِ بِمَحامِدِهِ.
ومِنْ عُبوديَّةِ [الحمدِ] ([9]) شهودُ العبدِ لعَجْزِهِ عن الحمدِ، وأنَّ ما قامَ بهِ منهُ فالربُّ سبحانَهُ هوَ المحمودُ عليهِ إذ هوَ مُجْرِيهِ على لسانِهِ وقلبِهِ.
ومِنْ عُبوديَّتِهِ تَسليطُ الحمدِ على تفاصيلِ أحوالِ العبدِ كلِّها ظاهرةً وباطنةً على ما يُحِبُّ العبدُ وما يَكْرَهُهُ، فهوَ سبحانَهُ المحمودُ على ذلكَ كلِّهِ في الحقيقةِ، وإن غابَ [ذلك] عنْ شهودِ العبدِ.
(([ثُمَّ يشاهدُ] قلبُهُ مِنْ ذكْرِ اسمِ ((اللهِ)) تبارَكَ وتَعَالى إلهاً مَعبوداً موجوداً مَخُوفاً، لا يَسْتَحِقُّ العبادةَ غيرُهُ، ولا تَنبغِي إلاَّ لهُ، وقدْ عَنَتْ لهُ الوُجوهُ، وخَضَعَتْ لهُ الموجوداتُ، وخَشَعَت لهُ الأصواتُ: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] و: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)} [الروم: 26] وكذلكَ خَلَقَ السَّمَاواتِ والأرضَ وما بينَهما، وخَلَـق الـجـنَّ والإنـسَ والطـيرَ والـوحـْشَ والجنةَ والنارَ، وكذلكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ، وأَنْزَلَ الكُتبَ، وشَرَّعَ الشرائعَ، وأَلْزَمَ العِبادَ الأمرَ والنهيَ.
وشاهَدَ مِنْ ذِكْرِ اسمِهِ: ((رَبِّ الْعَالَمِينَ)) قَيُّوماً قامَ بنفسِهِ، وقامَ بهِ كلُّ شيءٍ، فهوَ قائمٌ على كلِّ نفسٍ بِخَيْرِها وشَرِّها، قد اسْتَوَى على عَرْشِهِ، وتَفَرَّدَ بتدبيرِ مُلْكِهِ، فالتدبيرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ، ومَصيرُ الأمورِ كلِّها إليهِ، فمَنْ أُشِيمَ التدبيراتِ نازلةً مِنْ عندِهِ على أَيْدِي ملائكتِهِ بالعطاءِ والْمَنْعِ، والخفْضِ والرفْعِ، والإحياءِ والإماتةِ، والتوليَةِ والعزْلِ، والقَبْضِ والبَسْطِ، وكَشْفِ الكروبِ، وإغاثةِ الملهوفينَ، وإجابةِ الْمُضْطَرِّينَ: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29] لا مانعَ لِمَا أَعْطَى، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، ولا رَادَّ لأَمْرِهِ، ولا مُبَدِّلَ لكلماتِهِ، تَعْرُجُ الملائكةُ والرُّوحُ إليهِ، وتُعْرَضُ الأعمالُ أوَّلَ النهارِ وآخِرَهُ عليهِ،فيُقَدِّرُ المقاديرَ،ويُوَقِّتُ المواقيتَ،ثُمَّ يَسوقُ المقاديرَ إلى مَواقيتِها قائماً بتدبيرِ ذلكَ كلِّهِ وحِفْظِهِ ومَصالِحِهِ)) ([10]).
ثُمَّ لقولِهِ: {رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2] مِن العُبوديَّةِ شُهودُ تَفَرُّدِهِ سُبحانَهُ بالربوبيَّةِ وأنَّهُ كما أنَّهُ رَبُّ العالمينَ وخالقُهم ورازِقُهم ومُدَبِّرُ أمورِهم ومُوجِدُهم ومُفْنِيهِم، فهوَ وَحْدَهُ إلهُهُم ومَعبودُهم ومَلْجَؤُهُم ومَفْزَعُهم عندَ النوائبِ. فلا ربَّ غيرُهُ، ولا إلهَ سِوَاهُ.
((ثم يَشْهَدُ عندَ ذِكْرِ اسمِ ((الرحمنِ)) جَلَّ جلالُهُ ربًّا مُحْسِناً إلى خَلْقِهِ بأنواعِ الإحسانِ، مُتَحَبِّباً إليهم بصُنُوفِ النِّعَمِ، وَسِعَ كلَّ شيءٍ رَحمةً وعِلْماً، وأَوْسَعَ كلَّ مخلوقٍ نِعمةً وفَضْلاً، فوَسِعَتْ رحمتُهُ كلَّ شيءٍ، ووَسِعَتْ نِعمتُهُ كلَّ حيٍّ، فبَلَغَتْ رَحمتُهُ حيثُ بَلَغَ عِلْمُهُ، فاسْتَوَى على عَرْشِهِ برَحْمَتِهِ، وخَلَقَ خَلْقَهُ برحمتِهِ؛ وأَنْزَلَ كُتبَهُ برَحمتِهِ، وأَرْسَلَ رسلَهُ برَحمتِهِ، وشَرَعَ شرائعَهُ برحمتِهِ، وخَلَقَ الجنةَ برحمتِهِ، والنارَ أيضاً برحمتِهِ، فإنَّها سَوْطُهُ الذي يَسوقُ بهِ عِبادَهُ المؤمنينَ إلى جنَّتِهِ، ويُطَهِّرُ بها أَدْرَانَ الموَحِّدِينَ مِنْ أهلِ مَعصيتِهِ، وسِجنُهُ الذي يَسْجُنُ فيهِ أعداءَهُ مِنْ خَليقتِهِ، فتَأَمَّلْ ما في أَمْرِهِ ونهيِهِ ووَصاياهُ ومَواعظِهِ مِن الرحمةِ البالغةِ، والنِّعمةِ السابغةِ، وما في حَشْوِها مِن الرحمةِ والنعمةِ، فالرحمةُ هيَ السببُ المتَّصِلُ منهُ بعبادِهِ، كما أنَّ العبوديَّةَ هيَ السببُ الْمُتَّصِلُ منهم بهِ، فمنهم إليهِ العُبوديَّةُ، ومنهُ إليهم الرحمةُ.
ومِنْ أَخَصِّ مَشاهدِ هذا الاسمِ شهودُ الْمُصَلِّي نَصيبَهُ مِن الرحمةِ الذي أقامَ بها بينَ يَدَيْ ربِّهِ، وأَهَّلَهُ لعبودِيَّتِهِ ومُناجاتِهِ، وأعطاهُ ومَنَعَ غيرَهُ، وأَقْبَلَ بقَلبِهِ وأَعْرَضَ بقلبِ غيرِهِ، وذلكَ مِنْ رحمتِهِ بهِ)) ([11]).
[فـ]لقولـِهِ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)} [الفاتحة: 3] عبودِيَّةٌ تَخُصُّها وهيَ شُهودُ عُمومِ رحمتِهِ وسَعَتِها لكلِّ شيءٍ وأَخْذُ كلِّ موجودٍ بنَصيبِهِ منها، ولا سِيَّمَا الرحمةُ الخاصَّةُ التي أقامَتْ عبدَهُ بينَ يَدَيْهِ في خِدمتِهِ يُناجيهِ بكَلامِهِ ويَتَملَّقُهُ ويَسْتَرْحِمُهُ ويَسألُهُ هِدايتَهُ ورحمتَهُ وإتمامَ نِعمتِهِ عليهِ، فهذا مِنْ رَحمتِهِ بعَبدِهِ، فرَحمتُهُ وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ كما أنَّ حَمْدَهُ وَسِعَ كلَّ شيءٍ.
ثُمَّ يُعْطِي قولَهُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} ([12]) [الفاتحة: 4] عبودِيَّتَها، ويتَأَمَّلُ تَضَمُّنَها لإثباتِ الْمَعادِ،وتَفَرُّدَ الربِّ فيهِ بالحُكْمِ بينَ خَلْقِهِ، وأنَّهُ يومٌ يَدِينُ فيهِ العِباد بأعمالِهم في الخيرِ والشرِّ،وذلكَ مِنْ تفاصيلِ حَمْدِهِ ومُوجَبِهِ،ولَمَّا كانَ قولُهُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2] إخباراً عنْ حمْدِهِ تعالى قالَ اللهُ: ((حَمِدَنِي عَبْدِي))، ولَمَّا كانَ قولُهُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)} [الفاتحة: 3] إعادةً وتكريراً لأوصافِ كمالِهِ قالَ: ((أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي))، فإنَّ الثناءَ إِنَّمَا يكونُ بتَكرارِ المحامِدِ وتَعدادِ أوصافِ المحمودِ، ولَمَّا وَصَفَهُ سبحانَهُ بتَفَرُّدِهِ بِمُلْكِ يومِ الدِّينِ وهوَ الْمُلْكُ الحقُّ المتضَمِّنُ لظهورِ عَدْلِهِ وكِبريائِهِ وعَظمتِهِ ووَحدانيَّتِهِ وصِدْقِ رُسُلِهِ، سَمَّى هذا الثناءَ مَجْداً، فقالَ: ((مَجَّدَنِي عَبْدِي))، فإنَّ التمجيدَ هوَ الثناءُ بصِفاتِ العَظَمَةِ والجلالِ.
((فإذا قالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 4] فهنا شَهِدَ المجدَ الذي لا يَليقُ بسِوَى الْمَلِكِ الحقِّ الْمُبِينِ، فيَشْهَدُ مَلِكاً قاهراً، قدْ دَانَتْ لهُ الخليقةُ، وعَنَتْ لهُ الوُجوهُ، وذلَّت لعظمتِهِ الجبابرةُ، وخَضَعَ لعِزَّتِهِ كلُّ عزيزٍ؛ فيَشْهَدُ بقلبِهِ مَلِكاً على عَرْشِ السماءِ مُهَيْمِناً، لعزَّتِهِ تَعْنُو الوُجوهُ وتَسْجُدُ. وإذا لم تُعَطَّلْ حقيقةُ صفةِ المُلْكِ أَطْلَعَتْهُ على شُهودِ حقائقِ الأسماءِ والصفاتِ التي تَعطيلُها تعطيلٌ لمُلْكِهِ وجحدٌ لهُ، فإنَّ المَلِكَ الحقَّ التامَّ المُلْكِ: لا يكونُ إلاَّ حيًّا قَيُّوماً سَميعاً بصيراً مُدَبِّراً قادراً مُتَكَلِّماً آمِراً ناهياً، مُسْتَوِياً على سَريرِ مَمْلَكَتِهِ، يُرْسِلُ إلى أَقاصِي مَمْلَكَتِهِ بأوامِرِهِ، فيَرْضَى على مَنْ يَسْتَحِقُّ الرِّضَى ويُثيبُهُ ويُكْرِمُهُ ويُدْنِيهِ، ويَغْضَبُ على مَنْ يَسْتَحِقُّ الغضَبَ ويُعاقِبُهُ ويُهينُهُ ويُقْصِيهِ، فيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ، ويَرحمُ مَنْ يَشاءُ، ويُعْطِي مَنْ يَشاءُ، ويُقَرِّبُ مَنْ يَشاءُ، ويُقْصِي مَنْ يَشاءُ، لهُ دارُ عذابٍ وهيَ النارُ، ولَهُ دارُ سعادةٍ عظيمةٍ وهيَ الجنَّةُ، فمَنْ أَبْطَلَ شيئاً مِنْ ذلكَ أوْ جَحَدَهُ وأَنْكَرَ حقيقتَهُ فقدْ قَدَحَ في مُلْكِهِ سبحانَهُ وتعالى، ونَفَى عنهُ كمالَهُ وتَمَامَهُ، وكذلكَ مَنْ أَنْكَرَ عُمومَ قَضائِهِ وقَدَرِهِ، فقدْ أَنْكَرَ عمومَ مُلْكِهِ وكَمالِهِ، فيَشْهَدُ الْمُصَلِّي مَجْدَ الربِّ تعالى في قولِهِ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 4])). ([13])
فإذا قالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5] انتظرَ جوابَ ربِّهِ لهُ: ((هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ))، وتَأَمَّلَ عُبوديَّةَ هاتينِ الكلمتينِ وحقوقَهما ومَيَّزَ الكلمةَ التي للهِ والكلمةَ التي للعبدِ، وفَقِهَ سِرَّ كَوْنِ إحداهما للهِ والأخرى للعبدِ، وميَّز بينَ التوحيدِ الذي تَقتضيهِ كلمةُ ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) والتوحيدِ الذي تَقتضيهِ كلمةُ ((إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))، وفَقِهَ سِرَّ كونِ هاتينِ الكلمتينِ في وَسَطِ السورةِ بينَ نَوْعَيِ الثناءِ قَبْلَهُما والدعاءِ بعدَهما، وفَقِهَ تقديمَ ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) على ((إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) ، وتقديمَ المعمولِ على الفعلِ معَ [أنَّ] الإتيانَ بهِ مؤخَّراً أَوْجَزُ وأَخْصَرُ، وسِرَّ إعادةِ الضميرِ مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ، وعَلِمَ ما تَدْفَعُ كلَّ واحدةٍ مِن الكلمتينِ مِن الآفةِ الْمُنافيَةِ للعُبوديَّةِ، وكيفَ تُدْخِلُهُ الكلمتانِ في صريحِ العُبوديَّةِ، وعَلِمَ كيفَ يَدورُ القرآنُ مِنْ أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ على هاتينِ الكلمتينِ، بلْ كيفَ يدورُ عليهما الخلْقُ والأمرُ والثوابُ والعقابُ والدنيا والآخرةُ، وكيفَ تَضَمَّنَتَا لأجَلِّ الغاياتِ وأكملِ الوسائلِ، وكيفَ جِيءَ بهما بِضميرِ الخطابِ والحضورِ دونَ ضَميرِ الغائبِ، وهذا مَوضعٌ يَستدعِي كتاباً كبيراً، ولولا الخروجُ عما نحن بصَدَدِهِ لأَوْضَحْناهُ وبَسَطْنا القولَ فيهِ، فمَنْ أرادَ الوقوفَ عليهِ فقدْ ذَكرناهُ في كتابِ: مَراحلُ السائرينَ بينَ مَنازلِ إِيَّاكَ نَعبدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ([14])، وفي كتابِ: الرسالةُ المصرِيَّةُ. ([15])
ثُمَّ تأمَّلَ ضرورَتَهُ وفاقَتَهُ إلى قولِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6] الذي مَضمونُهُ مَعرِفَةُ الحقِّ، وقَصْدُهُ وإرادتُهُ، والعملُ بهِ والثباتُ عليهِ، والدعوةُ إليهِ، والصبرُ على أَذَى الْمَدْعُوِّ، فباستكمالِ هذهِ المراتِبِ الخمْسِ تُستكمَلُ الهدايَةُ، وما نَقَصَ منها نَقَصَ مِنْ هدايتِهِ.
ولَمَّا كانَ العبدُ مُفْتَقِراً إلى هذهِ الهدايَةِ في ظاهرِهِ وباطنِهِ في جميعِ ما يَأتيهِ ويَذَرُهُ مِنْ أمورٍ قدْ فَعَلَها على غيرِ الهدايَةِ عِلْماً وعَمَلاً وإرادةً فهوَ مُحتاجٌ إلى التوبةِ منها - وتوبتُهُ منها هيَ الهدايَةُ -.
- وأمورٍ قدْ هُدِيَ إلى أصلِها دونَ تفصيلِها فهوَ مُحتاجٌ إلى هدايَةِ تفاصيلِها.
- وأمورٍ قدْ هُدِيَ إليها مِنْ وجهٍ دونَ وجهٍ فهوَ مُحتاجٌ إلى تَمامِ الهدايَةِ فيها لِتَتِمَّ لهُ الهدايَةُ ويُزادَ هدًى إلى هُداهُ.
- وأمورٍ يَحتاجُ فيها إلى أن يَحْصُلَ لهُ مِن الهدايَةِ في مُستقبلِها مِثلُ ما حَصَلَ لهُ في ماضِيهَا.
- وأمورٍ يَعتقِدُ فيها بخِلافِ ما هيَ عليهِ فهوَ مُحتاجٌ إلى هدايَةٍ تَنْسَخُ مِنْ قلبِهِ ذلكَ الاعتقادَ وتُثَبِّتُ فيهِ ضِدَّهُ.
- وأمورٍ مِن الهدايَةِ هوَ قادرٌ عليها، ولكن لم يُخْلَقْ لهُ إرادةُ فِعْلِهَا فهوَ محتاجٌ في تَمامِ الهدايَةِ إلى خَلْقِ إرادةٍ يَفْعَلُها بها.
- وأمورٍ منها هوَ غيرُ قادرٍ على فِعْلِها معَ كونِهِ مُرِيداً، فهوَ محتاجٌ في هدايتِهِ إلى إقدارِهِ عليها.
- وأمورٍ منها هوَ غيرُ قادرٍ عليها ولا مُريدٍ لها فهوَ محتاجٌ إلى خَلْقِ القُدرةِ والإرادةِ
لهُ لِتَتِمَّ لهُ الهدايَةُ.
- وأمورٍ هوَ قائمٌ بها على وجهِ الهدايَةِ اعتقاداً وإرادةً وعَمَلاً فهوَ محتاجٌ إلى الثباتِ عليها واستدامتِها.
كانت حاجتُهُ إلى سؤالِ الهدايَةِ أعظمَ الحاجاتِ وَفَاقَتُهُ إليها أَشَدَّ الفاقاتِ فَرَضَ عليهِ الرَّبُّ الرحيمُ هذا السؤالَ كلَّ يومٍ وليلةٍ في أَفضلِ أحوالِهِ وهيَ الصلواتُ الخمْسُ مرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً لشِدَّةِ ضَرورتِهِ وفَاقتِهِ إلى هذا المطلوبِ.
ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ سبيلَ أهلِ هذهِ الهدايَةِ مغايِرٌ لسبيلِ أهلِ الغضبِ وأهلِ الضلالِ، فانقسَمَ الخلْقُ إذنْ ثلاثةَ أقسامٍ بالنسبةِ إلى هذهِ الهدايَةِ:
- مُنْعَمٌ عليهِ بحصولِها، واستمرارُ حَظِّهِ من النِّعَمِ بحسَبِ حظِّهِ مِنْ تفاصيلِها وأقسامِها.
- وضالٌّ لم يُعْطَ هذهِ الهدايَةَ ولم يوَفَّقْ لها.
- ومغضوبٌ عليهِ عَرَفَها ولم يُوَفَّقْ للعملِ بموجِبِها.
فالأوَّلُ: المنعَمُ عليهِ قامَ بالهُدَى ودِينِ الحقِّ علماً وعملاً.
والضالُّ: مُنْسَلِخٌ عنهُ عِلْماً وعملاً.
والمغضوبُ عليهِ: عارفٌ بهِ عِلْماً، مُنْسَلِخٌ منهُ عَمَلاً، واللهُ الموَفِّقُ للصوابِ… ([16])
((فلَمَّا فَرَغَ مِنْ هذا الثناءِ والدعاءِ والتوحيدِ، شَرَعَ لهُ أن يَطْبَعَ على ذلكَ بطابَعٍ مِن التأمينِ يَكونُ كالخاتَمِ لهُ وافَقَ فيهِ ملائكةَ السماءِ، وهذا التأمينُ مِنْ زِينةِ الصلاةِ كرَفْعِ اليدَيْنِ الذي هوَ زِينةُ الصلاةِ، واتِّبَاعٌ للسُّنَّةِ، وتعظيمُ أمْرِ اللهِ، وعُبوديَّةُ اليدينِ، وشِعارُ الانتقالِ مِنْ رُكْنٍ إلى رُكْنٍ))([17]).
... فشَرَعَ لهُ التأمينَ عندَ هذا الدُّعاءِ تفاؤلاً بإجابتِهِ وحصولِهِ، وطابَعاً عليهِ وتحقيقاً لهُ، ولهذا اشْتَدَّ حَسَدُ اليهودِ للمسلمينَ عليهِ حينَ سَمِعُوهُم يَجْهَرُونَ بهِ في صلاتِهم.
((ثم يَأْخُذُ في مُناجاةِ ربِّهِ بكلامِهِ واستماعِهِ مِن الإمامِ بالإنصاتِ وحضورِ القلبِ وشهودِهِ، وأَفضلُ أذكارِ الصلاةِ ذِكْرُ القِيامِ، وأَحسنُ هَيئةِ الْمُصَلِّي هيئةُ القيامِ، فخُصَّتْ بالحمدِ والثناءِ والمجْدِ وتلاوةِ كلامِ الربِّ جَلَّ جلالُهُ، ولهذا نُهِيَ عنْ قراءةِ القرآنِ في الركوعِ والسجودِ؛ لأنهما حالتا ذُلٍّ وخُضوعٍ وتَطَامُنٍ وانخفاضٍ، ولهذا شُرِعَ فيهما مِن الذِّكرِ ما يُنَاسِبُ هيئتَهمَا، فشُرِعَ للراكعِ أن يَذْكُرَ عظمةَ ربِّهِ في حالِ انخفاضِهِ هوَ وتَطامُنِهِ وخضوعِهِ، وأنَّهُ سُبحانَهُ يُوصَفُ بوَصْفِ عظمتِهِ عمَّا يُضادُّ كِبرياءَهُ وجَلالَهُ وعَظمتَه)) ([18]).
ثُمَّ شَرَعَ لهم رفْعَ اليدينِ عندَ الركوعِ تَعظيماً لأمرِ اللهِ وزِينةً للصلاةِ وعُبوديَّةً خاصَّةً لليدينِ كعُبوديَّةِ باقِي الجوارحِ، واتِّبَاعاً لسُنَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فهوَ حِلْيَةُ الصلاةِ وزينتُها، وتعظيمٌ لشعائرِها.
ثُمَّ شُرِعَ لهُ التكبيرُ الذي هوَ في انتقالاتِ الصلاةِ مِنْ رُكنٍ إلى رُكنٍ كالتلبيَةِ في انتقالاتِ الحاجِّ مِنْ مَشْعَرٍ إلى مَشْعَرٍ، فهوَ شِعارُ الصلاةِ كما أنَّ التلبيَةَ شِعارُ الحجِّ ليَعْلَمَ العبدُ أنَّ سِرَّ الصلاةِ هوَ تعظيمُ الربِّ تعالى وتكبيرُهُ بعبادتِهِ وَحْدَهُ.
ثُمَّ شُرِعَ لهُ بأن يَخضعَ للمعبودِ سبحانَهُ بالركوعِ خُضوعاً لعظمتِهِ واستكانةً لهيبتِهِ وتَذَلُّلاً لعِزَّتِهِ، فثَنَى العبدُ لهُ صُلْبَهُ ووَضَعَ لهُ قامتَهُ ونَكَّسَ لهُ رأسَهُ وحَنَى لهُ ظهرَهُ معظِّماً لهُ ناطِقاً بتسبيحِهِ المقترِنِ بتعظيمِهِ، فاجْتَمَعَ لهُ خضوعُ القلبِ، وخضوعُ الجوارحِ، وخُضوعُ القولِ على أَتَمِّ الأحوالِ، وجَمَعَ لهُ في هذا الذكْرِ بينَ الخضوعِ والتعظيمِ لربِّهِ، والتنـزيهِ لهُ عنْ خضوعِ العبيدِ، وأنَّ الخضوعَ وَصْفُ العبدِ، والعظمةَ وَصْفُ الربِّ.
((فأَفْضَلُ ما يقولُ الراكعُ على الإطلاقِ ((سُبْحَانَ رَبِّيَ العظيمِ)) فإنَّ اللهَ سبحانَهُ أَمَرَ العِبادَ بذلكَ، وعَيَّنَ المُبَلِّغُ عنهُ السَّفِيرُ بينَهُ وبينَ عبادِهِ هذا المَحَلَّ لهذا الذكْرِ لمَّا نَـزَلَتْ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} [الواقعة: 74] قالَ: ((اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ)) ([19]). وأَبْطَلَ كثيرٌ مِنْ أهلِ العلْمِ صلاةَ مَنْ تَرَكَها عَمْداً، وأَوْجَبَ سُجودَ السهوِ على مَنْ سَهَا عنها، وهذا مَذهبُ الإمامِ أحمدَ ومَنْ وافَقَهُ مِنْ أئِمَّةِ الحديثِ والسنَّةِ. والأمرُ بذلكَ لا يَقْصُرُ عن الأمرِ بالصلاةِ عليهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في التشَهُّدِ الأخيرِ، ووُجوبُهُ لا يَقْصُرُ عنْ وُجوبِ مُباشَرَةِ المصلَّى بالجبهةِ واليدَيْنِ.
وبالجملةِ: فَسِرُّ الركوعِ تعظيمُ الربِّ جلَّ جلالُهُ بالقلبِ والقالبِ والقولِ، ولهذا قالَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ)) ([20]) )). ([21])
وتمامُ عُبوديَّةِ الركوعِ أن يَتصاغَرَ العبدُ ويَتضاءَلَ بحيث يَمْحُو تَصَاغُرُهُ كلَّ تَعظيمٍ منهُ لنفسِهِ، ويُثْبِتُ مكانَهُ تعظيمَهُ لربِّهِ، وكلَّما اسْتَوْلَى على قلبِهِ تعظيمُ الرَّبِّ ازدادَ تصاغُرُهُ هوَ عندَ نفسِهِ.
فالركوعُ للقلبِ بالذاتِ والقصْدِ، وللجوارحِ بالتَّبَعِ والتَّكْمِلَةِ.
((ثم يَرفعُ رأسَهُ عائداً إلى أكملِ حديثِهِ، وجَعَلَ شِعارَ هذا الرُّكْنِ حَمْدَ اللهِ والثناءَ عليهِ وتمجيدَهُ([22]) )) ([23]) [فـ]يـحمدُ ربَّهُ ويُثْنِي عليهِ بآلائِهِ عندَ اعتدالِهِ وانتصابِهِ ورُجوعِهِ إلى أَحسنِ هَيأتِهِ مُنتصِبَ القامةِ مُعْتَدِلَها، فيَحْمَدُ ربَّهُ ويُثْنِي عليهِ بأنْ وَفَّقَهُ لذلكَ الخضوعِ ثُمَّ نقَلَهُ منهُ إلى مَقامِ الاعتدالِ والاستواءِ بينَ يَدَيْهِ واقِفاً في خِدمتِهِ كما كانَ في حالِ القِراءةِ.
ولذلكَ الاعتدالِ ذَوْقٌ خاصٌّ وحالٌ يَحْصُلُ للقلبِ سِوَى ذَوْقِ الركوعِ وحالِهِ، وهوَ رُكنٌ مقصودٌ لذاتِهِ كرُكنِ الركوعِ والسجودِ سَواءً، ولهذا كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُطِيلُهُ كما يُطيلُ الركوعَ والسجودَ ويُكْثِرُ فيهِ مِن الثناءِ والحمْدِ والتمجيدِ كما ذَكرناهُ في هَدْيِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ([24])، وكان في قِيامِ الليلِ يُكْثِرُ فيهِ مِنْ قولِ: ((لِرَبِّيَ الحمْدُ، لِرَبِّيَ الحمْدُ)) ([25]) يُكَرِّرُها.
((فافْتَتَحَ هذا الشِّعَارَ بقولِ الْمُصَلِّي: ((سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ)) أيْ: سَمِعَ سَمْعَ قبولٍ وإجابةٍ، ثُمَّ شَفَعَ بقولِهِ: ((رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلُ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ / *)) ([26])
ولا يُهْمَلُ أمْرُ هذهِ الواوِ في قولِهِ: ((رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ)) فإنَّهُ قدْ نُدِبَ الأمرُ بها في (الصحيحينِ) وهيَ تَجعلُ الكلامَ في تقديرِ جُملتينِ قائمتينِ بأنفُسِهما، فإنَّ قولَهُ: ((رَبَّنَا)) مُتَضَمِّنٌ في المعنى: أنتَ الربُّ والملِكُ القيُّومُ الذي بيَدَيْهِ أَزِمَّةُ الأمورِ وإليهِ مَرْجِعُها، فعَطَفَ على هذا المعنى المفهومِ مِنْ قولِهِ: ((رَبَّنَا)) قولَهُ: ((وَلَكَ الْحَمْدُ)) فتَضَمَّن ذلكَ معنى قولِ المُوَحِّدِ: ((لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ)).
ثُمَّ أَخْبَرَ عنْ شأنِ هذا الحمْدِ وعَظمتِهِ قَدْراً وصِفَةً، فقالَ: ((مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ)) أيْ: قَدْرَ مِلْءِ العالَمِ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ والفضاءِ الذي بينَهما، فهذا الحمْدُ قدْ مَلأَ الخلْقَ الموجودَ، وهوَ يَملأُ ما يَخلُقُهُ الربُّ تبارَكَ وتعالى بعدَ ذلكَ وما يَشاؤُهُ، فحَمْدُهُ قدْ مَلأَ كلَّ مَوجودٍ، ومَلأَ ما سيُوجَدُ، فهذا أَحْسَنُ التقديرينِ.
وقيلَ: ما شِئتَ مِنْ شيءٍ وَراءَ العالَمِ. فيكونُ قولُهُ: ((بعدُ)) للزمانِ على الأَوَّلِ، والمكانِ على الثاني، ثُمَّ أَتْبَعَ ذلكَ بقولِهِ: ((أَهْلُ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ)). فعادَ الأمرُ بعدَ الركعةِ إلى ما افْتَتَحَ بهِ الصلاةَ قبلَ الركعةِ مِن الحمْدِ والثناءِ والْمَجْدِ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذلكَ بقولِهِ: ((أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ)) تَقريراً لِحَمدِهِ وتَمْجيدِهِ والثناءِ عليهِ، وأنَّ ذلكَ أحَقُّ ما نَطَقَ بهِ العَبْدُ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذلكَ بالاعترافِ بالعُبوديَّةِ، وأنَّ ذلكَ حُكْمٌ عامٌّ لجميعِ العَبيدِ، ثُمَّ عَقَّبَ ذلكَ بقولِهِ: ((لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، ولا يَنفعُ ذا الْجَدِّ مِنكَ الْجَدُّ)) وكانَ يقولُ ذلكَ بعدَ انقضاءِ الصلاةِ أيضاً، فيقولُهُ في هذَيْنِ الْمَوضعينِ اعترافاً بتوحيدِهِ، وأنَّ النِّعَمَ كلَّها منهُ، وهذا يَتضمَّنُ أُموراً:
- أحدُها: أنَّهُ المنفرِدُ بالعَطاءِ والْمَنْعِ.
- الثاني: أنَّهُ إذا أَعْطَى لم يُطِقْ أحدٌ مَنْعَ مَنْ أَعطاهُ، وإذا مَنَعَ لم يُطِقْ أحدٌ إِعطاءَ مَنْ مَنَعَهُ.
- الثالثُ: أنَّهُ لا يَنفعُ عندَهُ ولا يُخَلِّصُ مِنْ عذابِهِ ولا يُدْنِي مِنْ كرامتِهِ جُدُودُ بني آدمَ وحظوظُهم من المُلْكِ والرئاسةِ والغِنَى وطِيبِ العَيشِ وغيرِ ذلكَ، إِنَّمَا يَنفعُهمْ عندَهُ التقرُّبُ إليهِ بطاعتِهِ وإيثارُ مَرضاتِهِ.
ثُمَّ ختَمَ ذلكَ بقولِهِ: ((اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ)) ([27])، كما افتتحَ بهِ الركعةَ في أَوَّلِ الاستفتاحِ كما كانَ يَختِمُ الصلاةَ بالاستغفارِ، وكان الاستغفارُ في أَوَّلِ الصلاةِ ووَسَطِها وآخِرِها، فاشتمَلَ هذا الركْنُ على أَفضلِ الأذكارِ وأَنفعِ الدعاءِ: مِنْ حَمْدِهِ وتمجيدِهِ والثناءِ عليهِ والاعترافِ لهُ بالعُبوديَّةِ والتوحيدِ والتَّنَصُّلِ إليهِ مِن الذنوبِ والخطايا. فهوَ ذِكْرٌ مقصودٌ في رُكْنٍ مَقصودٍ ليسَ بدونِ الركوعِ والسجودِ))([28]).
ثُمَّ شَرَع لهُ أن يُكَبِّرَ ويَخِرَّ ساجداً، ويُعْطِيَ في سجودِهِ كلَّ عُضْوٍ مِنْ أعضائِهِ حَظَّهُ مِن العُبوديَّةِ، فيَضَعَ نَاصيتَهُ بالأرضِ بينَ يَدَيْ رَبِّهِ مُسْنَدَةً راغماً لهُ أنفُهُ، خاضعاً لهُ قلبُهُ، ويَضَعَ أَشرفَ ما فيهِ - وهوَ وَجهُهُ - بالأرضِ ، ولا سِيَّمَا على الترابِ مُعَفِّراً لهُ بينَ يَدَيْ سَيِّدِهِ راغماً لهُ أنفُهُ، خاضعاً لهُ قلبُهُ وجوارحُهُ، مُتَذَلِّلاً لعَظَمَتِهِ، خاضعاً لعِزَّتِهِ، مُستكيناً بينَ يَديهِ، أَذَلَّ شيءٍ وأكسرَهُ لربِّهِ تعالى، مُسَبِّحاً لهُ بعُلُوِّهِ في أَعظمِ سُفولِهِ، قدْ صارتْ أَعاليهِ مَلْوِيَّةً لأسافلِهِ ذُلاًّ وخُضوعاً وانْكِسَاراً، وقدْ طابَقَ قلبُهُ حالَ جِسمِهِ، فسَجَدَ القلبُ كما سَجَدَ الوجهُ، وقدْ سَجَدَ معه أنفُهُ ويَداهُ ورُكبتاهُ ورِجلاهُ.
وشَرَعَ لهُ أن يُقِلَّ فَخِذَيْهِ عنْ ساقَيْهِ، وبطنَهُ عنْ فَخِذَيْهِ، وعَضُدَيْهِ عنْ جَنْبَيْهِ، ليَأْخُذَ كلُّ جزءٍ منهُ حظَّهُ مِن الخضوعِ ولا يُحَمِّلَ بعضَهُ بعضاً، فأَحْرَى بهِ في هذهِ الحالِ أن يكونَ أَقْرَبَ إلى ربِّهِ منهُ في غيرِها مِن الأحوالِ، كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ)) ([29]).
ولما كانَ سجودُ القلبِ خُضوعُهُ التامُّ لربِّهِ أَمْكَنَهُ استدامةُ هذا السجودِ إلى يومِ لِقائِهِ، كما قِيلَ لبعضِ السلَفِ: هلْ يَسجدُ القلبُ؟ قالَ: ((إِي وَاللهِ، سَجدةً لا يَرْفَعُ رأسَهُ منها حتَّى يَلْقَى اللهَ)) ([30]).
* * *
ولَمَّا بُنِيَت الصلاةُ على خَمْسٍ: القراءةِ والقيامِ والركوعِ والسجودِ والذكرِ سُمِّيَتْ باسمِ كلِّ واحدٍ مِنْ هذهِ الْخَمْسِ:
- فسُمِّيَتْ قِيَاماً كقولِهِ تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} [المزمل: 2] وقولِهِ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)}[البقرة: 238].
- وقراءةً كقولِهِ: {وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء: 78].
- وركوعاً كقولِهِ تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} [البقرة: 43] وقولِهِ:
- {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)} [المرسلات: 48].
- وسجوداً كقولِهِ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)} [الحجر: 98] وقولِهِ: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)} [العلق: 19].
- وذِكْراً كقولِهِ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وقولِهِ: {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9].
وأَشرَفُ أفعالِها السجودُ، وأَشرفُ أذكارِها القراءةُ، وأَوَّلُ سورةٍ أُنْزِلَتْ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ افْتُتِحَتْ بالقراءةِ وخُتِمَتْ بالسجودِ. ووُضِعَت الركعةُ على ذلكَ، أوَّلُها قراءةٌ وآخرُها سجودٌ.
ثُمَّ شَرَعَ لهُ أن يَرفعَ رأسَهُ ويَعتدلَ جالساً، ولَمَّا كانَ هذا الاعتدالُ مَحفوفاً بسُجودينِ: سُجودٍ قبلَهُ وسجودٍ بعدَهُ، فيَنتقلُ مِن السجودِ إليهِ، ثُمَّ مِنهُ إلى السجودِ كانَ لهُ شأنٌ، فكانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُطيلُهُ بقَدْرِ السجودِ، يَتضرَّعُ فيهِ إلى رَبِّهِ، ويَستغفرُهُ ويَسألُهُ رحمتَهُ وهِدايتَهُ ورِزْقَهُ وعافيتَهُ، ولهُ ذوقٌ خاصٌّ وحالٌ للقلبِ غيرُ ذَوقِ السجودِ وحالِهِ، فالعبدُ في هذا القعودِ قدْ تَمَثَّلَ جاثياً بينَ يَدَيْ ربِّهِ مُلْقِياً نفسَهُ بينَ يَديهِ، مُعْتَذِراً إليهِ مِمَّا جَنَاهُ، راغباً إليهِ أن يَغفرَ لهُ ويَرحمَهُ، مُسْتَعْدِياً على نفسِهِ الأمَّارةِ بالسوءِ.
وكان النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم يُكرِّرُ الاستغفارَ في هذهِ القَعْدَةِ، ويُكْثِرُ رَغبتَهُ إلى اللهِ فيها.
فمَثِّلْ نفسَكَ بِمَنْـزِلَةِ غريمٍ عليهِ حقُّ اللهِ، وأنتَ كفيلٌ بهِ، والغريمُ مُمَاطِلٌ مخادِعٌ، وأنتَ مطلوبٌ بالكفالةِ، والغريمُ مطلوبٌ بالحقِّ، لتَتَخَلَّصَ مِن المطالَبَةِ.
والقلبُ شَريكُ النفْسِ في الخيرِ والشرِّ، والثوابِ والعِقابِ، والحمْدِ والذَّمِّ.
والنفْسُ مِنْ شأنِها الإباقُ، والخروجُ مِنْ رِقِّ العُبوديَّةِ، وتَضييعُ حقوقِ اللهِ التي قِبَلَها، والقلبُ شَريكُها إن قَوِيَ سلطانُها، وأَسيرُها، وهيَ شَريكةٌ، وأَسيرةٌ إن قَوِيَ سُلطانُهُ.
فشُرِعَ للعبدِ إذا رَفَعَ رأسَهُ مِن السجودِ أن يَجْثُوَ بينَ يَدَيِ اللهِ مُسْتَعْدِياً على نفسِهِ، مُعْتَذِراً إلى ربِّهِ مِمَّا كانَ منها، راغباً إليهِ أن يَرْحَمَهُ ويَغفرَ لهُ ويَهديَهُ ويَرزقَهُ ويُعافيَهُ ، وهذهِ الخمْسُ هيَ جُمَّاعُ خيرِ الدنيا والآخرةِ؛ فإنَّ العبدَ مُحتاجٌ ، بلْ مُضْطَرٌّ إلى تحصيلِ مَصالحِهِ في الدنيا وفي الآخرةِ، ودَفْعِ الْمَضارِّ عنهُ في الدنيا والآخرةِ، وقدْ تَضَمَّنَها هذا الدعاءُ فإنَّ الرزقَ يَجْلُبُ لهُ مَصالحَ دُنياهُ، والعافيَةَ تَدْفَعُ مَضَارَّها، والهدايَةَ تَجْلُبُ لهُ مَصالحَ أُخْرَاهُ، والمغفرةَ تَدْفَعُ عنهُ مَضَارَّها، والرحمةَ تَجْمَعُ ذلكَ كُلَّهُ.
وشُرِعَ لهُ أنْ يعودَ ساجداً كما كانَ، ولا يُكتفَى منهُ بسجدةٍ واحدةٍ في الركعةِ كما اكْتُفِيَ منهُ بركوعٍ واحدٍ، لفَضْلِ السجودِ وشَرَفِهِ ومَوْقِعِهِ مِن اللهِ، حتَّى إنَّهُ أَقْرَبُ ما يكونُ إلى عَبْدِهِ وهوَ ساجدٌ، وهوَ أَدْخَلُ في العُبوديَّةِ وأَعْرَقُ فيها مِنْ غيرِهِ، ولهذا جُعِلَ خاتمةُ الركعةِ وما قبلَهُ كالْمُقَدِّمةِ بينَ يَديهِ، فمَحَلُّهُ مِن الصلاةِ مَحَلُّ طوافِ الزيارةِ، وما قَبْلَهُ مِن التعريفِ وتوابعِهِ مُقدِّماتٌ بينَ يديهِ، وكما أنَّهُ أَقربُ ما يكونُ العبدُ مِنْ رَبِّهِ وهوَ ساجدٌ فكذلكَ أَقْرَبُ ما يكونُ منهُ في الْمَناسِكِ وهوَ طائفٌ، ولهذا قالَ بعضُ الصحابةِ لِمَنْ كَلَّمَهُ في طَوَافِهِ بِأَمْرٍ مِن الدُّنْيا: “ أَتَقُولُ هَذَا وَنَحْنُ نَتراءَى اللهَ في طَوافِنَا “. ولهذا - واللهُ أَعلمُ- جُعِلَ الركوعُ قبلَ السجودِ تَدريجيًّا وانتقالاً مِن الشيءِ إلى ما هوَ أَعْلَى منهُ.
وشُرِعَ لهُ تكريرُ هذهِ الأفعالِ والأقوالِ إذْ هيَ غِذاءُ القلبِ والرُّوحِ التي لا قِوامَ لهما إلاَّ بها، فكانَ تكريرُها بمنـزِلةِ تَكريرِ الأكلِ حتَّى يَشْبَعَ، والشُّرْبِ حتَّى يَرْوَى، فلوْ تَناوَلَ الجائعُ لُقمةً واحدةً وأَقْلَعَ عن الطعامِ، ماذا كانت تُغْنِي عنهُ.
ولهذا قالَ بعضُ السلَفِ: (مَثَلُ الذي يُصَلِّي ولا يَطْمَئِنُّ في صلاتِهِ كمَثَلِ الجائعِ إذا قُدِّمَ إليهِ طعامٌ فتَناوَلَ منهُ لُقمةً أوْ لُقْمَتَيْنِ ماذا تُغْنِي عنهُ؟!!).
(([فـ]هوَ كجائعٍ قُدِّمَ إليهِ طعامٌ لذيذٌ جِدًّا، فأَكَلَ منهُ لُقمةً أوْ لُقمتينِ، فماذا يُغنيانِ عنهُ؟ ولكنْ لوْ أَحَسَّ بجُوعِهِ لَمَا قامَ مِن الطعامِ حتَّى يَشبعَ منهُ وهوَ يَقْدِرُ على ذلكَ. لكنَّ القلْبَ شَبعانُ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ)) ([31]).
هذا وفي إعادةِ كلِّ قولٍ أوْ فِعْلٍ مِن العُبُودِيَّةِ والقُرْبِ، وتنـزيلِ الثانيَةِ مَنـزلةَ الشكْرِ على الأُولَى، وحُصولِ مَزيدٍ منها، ومَعرفةٍ وإقبالٍ، وقوَّةِ قلبٍ، وانشراحِ صَدْرٍ، وزَوالِ دَرَنٍ ووَسَخٍ عن القلبِ بِمَنْـزِلَةِ غَسْلِ الثوبِ مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ.
فهذه حِكمةُ اللهِ التي بَهَرَت العقولَ في خَلْقِهِ وأَمْرِهِ ودَلَّتْ على كمالِ رَحمتِهِ ولُطْفِهِ.
فلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ وأَكْمَلَها ولم يَبْقَ إلاَّ الانصرافُ منها شُرِعَ لهُ الجلوسُ بينَ يَدَيْ رَبِّهِ مُثْنِياً عليهِ بأَفضلِ التحِيَّاتِ التي لا تَصْلُحُ إلاَّ لهُ، ولا تَليقُ بغَيرِهِ.
ولَمَّا كانَ عادةُ الملوكِ أن يُحَيَّوْا بأنواعِ التَّحِيَّاتِ مِن الأفعالِ والأقوالِ الْمُتَضَمِّنَةِ للخضوعِ والثناءِ وطلَبِ البقاءِ ودوامِ الْمُلْكِ، فمِنهم مَنْ يُحَيَّى بالسجودِ، ومِنهم مَنْ يُحَيَّى بالثناءِ عليهِ، ومنهم مَنْ يُحَيَّى بطَلَبِ البقاءِ والدوامِ لهُ، ومنهم مَنْ يُجْمَعُ لهُ ذلكَ كُلُّهُ.
فكانَ الْمَلِكُ الحقُّ سبحانَهُ أَوْلَى بالتَّحِيَّاتِ كلِّها مِنْ جميعِ خَلْقِهِ، وهيَ لهُ بالحقيقةِ، ولهذا فُسِّرَت التَّحِيَّاتُ بالْمُلْكِ، وفُسِّرَتْ بالبقاءِ والدوامِ. وحقيقتُها ما ذَكَرْتُهُ وهيَ تَحِيَّاتُ الْمُلْكِ، فالْمَلِكُ الحقُّ الْمُبينُ أَوْلَى بها.
فكلُّ تَحِيَّةٍ يُحَيَّا بها مَلِكٌ مِنْ سُجودٍ أوْ ثَناءٍ أوْ بَقاءٍ ودَوامٍ فهيَ للهِ عزَّ وجَلَّ، ولهذا أَتَى بها مَجموعةً مُعَرَّفَةً باللامِ - أداةِ العمومِ - وهيَ جَمْعُ تَحِيَّةٍ، وهيَ تَفعيلةٌ مِن الحياةِ، وأَصْلُها تَحْيِيَةٌ بوَزنِ تَكْرِمَةٍ ثُمَّ أُدْغِمَ أَحَدُ الْمِثْلَينِ في الآخَرِ فصَارَتْ تَحِيَّةً، وإذا كانَ أَصْلُها مِن الحياةِ، والمطلوبُ لِمَنْ يُحَيَّا بها دَوامُ الحياةِ، وكانوا يَقولونَ لِمُلُوكِهِم: لكَ الحياةُ الباقيَةُ ولكَ الحياةُ الدائمةُ، وبعضُهم يقولُ: عشرةَ آلافِ سنةٍ، واشْتُقَّ منها: أَدامَ اللهُ أَيَّامَكَ، وأطالَ اللهُ بقاءَكَ، ونحوَ ذلكَ مِمَّا يُرادُ بهِ دوامٌ لِحياةِ الْمَلِكِ. وذلكَ لا يَنبغِي إلاَّ لِلْحَيِّ الذي لا يموتُ ولِلْمَلِكِ الذي كلُّ مُلْكٍ زائلٌ غيرَ مُلْكِهِ.
ثُمَّ عَطَفَ عليها الصلواتِ بلَفْظِ الجمْعِ والتعريفِ ليَشمَلَ كلَّ ما أُطْلِقَ عليهِ لفظُ الصلاةِ خُصوصاً وعُموماً، فكلُّها للهِ لا تَنْبَغِي إلاَّ لهُ فالتَّحِيَّاتُ لهُ مُلْكاً، والصلواتُ لهُ عُبُودِيَّةً واستحقاقاً، فالتَّحِيَّاتُ لا تكونُ إلاَّ لهُ، والصلواتُ لا تَنبغِي إلاَّ لهُ.
ثُمَّ عَطَفَ عليها الطَّيِّبَاتِ كذلكَ، وهذا يَتناوَلُ أَمْرَيْنِ: الوصْفَ والْمُلْكَ.
فأَمَّا الوَصْفُ فإنَّهُ سُبحانَهُ طَيِّبٌ، وكلامُهُ طَيِّبٌ، وفِعْلُهُ كلُّهُ طَيِّبٌ، ولا يَصْدُرُ منهُ إلاَّ الطَّيِّبُ، ولا يُضافُ إليهِ إلاَّ الطَّيِّبُ، ولا يَصْعَدُ إليهِ إلاَّ الطَّيِّبُ، فالطَّيِّبَاتُ لهُ وَصْفاً وفِعْلاً وقَولاً ونِسبةً، وكلُّ طَيِّبٍ مُضافٌ إليهِ، وكلُّ مُضافٍ إليهِ طَيِّبٌ، فلهُ الكلماتُ الطَّيِّبَاتُ والأفعالُ الطَّيِّبَاتُ، وكلُّ مُضافٍ إليهِ - كبَيْتِهِ وعَبْدِهِ ورُوحِهِ وناقتِهِ وجَنَّتِهِ - فهيَ طَيِّبَاتٌ.
وأيضاً فمعاني الكلماتِ الطَّيِّبَاتِ للهِ وَحْدَهُ؛ فإنَّ الكلماتِ الطَّيِّبَاتِ تَتَضَمَّنُ تَسبيحَهُ وتَحميدَهُ وتكبيرَهُ وتَمجيدَهُ والثناءَ عليهِ بآلائِهِ وأَوصافِهِ، فهذه الكلماتُ الطَّيِّبَاتُ التي يُثْنَى عليهِ بها ومعانيها لهُ وَحْدَهُ لا يَشْرَكُهُ فيها غيرُهُ، كسُبحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحمدِكَ وتَبارَكَ اسمُكَ وتعالى جَدُّكَ ولا إلهَ غَيْرُكَ، ونحوَ سُبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ ولا إلهَ إلاَّ اللهُ واللهُ أكبرُ، ونحوَ سُبحانَ اللهِ وبِحمدِهِ سُبحانَ اللهِ العظيمِ.
فكُلُّ طَيِّبٍ فَلَهُ وعندَهُ ومنهُ وإليهِ، وهوَ طَيِّبٌ لا يَقبلُ إلاَّ طَيِّباً، وهوَ إلهُ الطَّيبينَ، وجِيرانُهُ في دارِ كَرامتِهِ هم الطَّيِّبُونَ.
فتَأَمَّلْ أَطيبَ الكلماتِ بعدَ القرآنِ كيفَ لا تَنبغِي إلاَّ للهِ، وهيَ: سُبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلاَّ اللهُ، واللهُ أكبرُ، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ.
فإنَّ (سُبحانَ اللهِ) تَتضمَّنُ تَنـزيهَهُ عنْ كُلِّ نَقْصٍ وعَيبٍ وسُوءٍ، وعنْ خصائصِ المخلوقينَ وشَبَهِهِمْ.
و (الحمدُ للهِ) تَتَضَمَّنُ إثباتَ كلِّ كمالٍ لهُ قولاً وفِعلاً ووَصْفاً على أَتَمِّ الوُجوهِ وأَكْمَلِها أَزَلاً وأبداً.
و (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) تَتَضَمَّنُ انفرادَهُ بالإلهيَّةِ، وأنَّ كلَّ مَعبودٍ سِواهُ فبَاطلٌ، وأنَّهُ وَحدَهُ الإلهُ الحقُّ، وأنَّهُ مَنْ تأَلَّهَ غيرَهُ فهوَ بِمَنـزِلةِ مَن اتَّخَذَ بَيتاً مِنْ بيوتِ العنكبوتِ يَأْوِي إليهِ ويَسْكُنُهُ.
و (اللهُ أَكبرُ) تَتَضَمَّنُ أنَّهُ أَكبرُ مِنْ كلِّ شيءٍ وأَجَلُّ، وأَعظمُ وأَعَزُّ، وأَقْوَى وأَقْدَرُ، وأَعْلَمُ وأَحكمُ؛ فهذه الكلماتُ الطَّيِّبَاتُ لا تَصْلُحُ هيَ ومَعانيها إلاَّ للهِ وَحْدَهُ.
ثُمَّ شُرِعَ لهُ أن يُسَلِّمَ على عِبادِ اللهِ الذينَ اصْطَفَى بعدَ تَقَدُّمِ الحمدِ والثناءِ عليهِ بما هوَ أهلُهُ، فطَابَقَ ذلكَ قولَهُ: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] وكأنَّهُ امتثالٌ لهُ، وأيضاً فإنَّ هذا تَحِيَّةُ المخلوقِ، فشُرِعَتْ بعدَ تَحِيَّةِ الخالقِ، وقَدَّمَ في هذهِ التحيَّةِ أَوْلَى الْخَلْقِ بها وهوَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الذي نَالَتْ أمَّتُهُ على يَدِهِ كلَّ خيرٍ. وعلى نفسِهِ بَعْدَهُ، وعلى سائرِ عِبادِ اللهِ الصالحينَ، وأخصُّهمْ بهذه التحيَّةِ الأنبياءُ، ثُمَّ أصحابُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، معَ عُمومِها لكلِّ عبدٍ للهِ صالحٍ في الأرضِ والسماءِ ([32]).
ثُمَّ شُرِعَ لهُ بعدَ ذِكْرِ هذهِ التحيَّةِ والتسليمِ على مَنْ يَسْتَحِقُّ التسليمَ خُصوصاً وعُموماً أن يَشهدَ شَهادةَ الحقِّ التي بُنِيَتْ عليها الصلاةُ، وهيَ حَقٌّ مِنْ حُقوقِها ولا تَنفعُهُ إلاَّ بقَرينتِها وهيَ شَهادةٌ لرسولِ اللهِ بالرسالةِ، وخُتِمَتْ بها الصلاةُ كما قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ: (فإذا قلتَ ذلكَ فقدْ قَضيتَ صَلاتَكَ، فإنْ شئتَ أن تقومَ فقُمْ، وإن شِئتَ أن تَقعُدَ فاقْعُدْ) ([33]) وهذا إمَّا أن يُحْمَلَ على قَضاءِ الصلاةِ حَقيقةً كما يقولُهُ الكُوفيُّونَ، أوْ على مُقارَبَةِ انقضائِها ومُشارَفَتِهِ كما يقولُهُ أهلُ الحجازِ وغيرُهم، وعلى التقديرينِ فجُعِلَتْ شَهادةُ الحقِّ خاتمةَ الصلاةِ كما شُرِعَ أن تكونَ خاتِمَةَ الحياةِ، فمَنْ كانَ آخِرُ كلامِهِ لا إلهَ إلاَّ اللهُ دَخَلَ الجنةَ. وكذلكَ شُرِعَ للمُتَوَضِّئِ أن يَخْتِمَ وُضوءَهُ بالشهادتينِ.
ثُمَّ لَمَّا قَضَى صلاتَهُ، أُذِنَ لهُ أن يَسألَ حاجتَهُ، وشُرِعَ لهُ أن يَتَوَسَّلَ قَبْلَهَا بالصلاةِ على النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فإنَّها مِنْ أَعظمِ الوسائلِ بينَ يَدَيِ الدعاءِ كما في السُّنَنِ، عنْ فَضالةَ بنِ عُبيدٍ، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ: ((إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِحَمْدِ اللهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَلْيُصَلِّ عَلَى رَسُولِهِ، ثُمَّ لِيَسَلْ حَاجَتَهُ)) ([34]).
فجاءت التحيَّاتُ على ذلكَ، أوَّلُها حَمْدُ اللهِ والثناءُ عليهِ، ثُمَّ الصلاةُ على رسولِهِ، ثُمَّ الدعاءُ آخِرَ الصلاةِ، وأَذِنَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ للمُصَلِّي بعدَ الصلاةِ عليهِ أن يَتخَيَّرَ مِن الدعاءِ أَعْجَبَهُ إليهِ، ونَظيرُ هذا ما شُرِعَ لِمَنْ سَمِعَ المؤَذِّنَ أن يقولَ كما يقولُ، وأن يقولَ: (رَضِيتُ باللهِ رَبًّا وبالإسلامِ دِيناً وبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَسُولاً، وأن يَسألَ اللهَ لرسولِهِ الوَسيلةَ، والفضيلةَ وأن يَبعثَهُ المقامَ المحمودَ ثُمَّ يُصَلِّيَ عليهِ)، ثُمَّ يَسألَ حاجتَهُ. فهذه خَمْسُ سُنَنٍ في إجابةِ المؤَذِّنِ لا يَنبغِي الغَفلةُ عنها.
((فكأنَّ الْمُصَلِّيَ تَوَسَّلَ إلى اللهِ – سُبحانَهُ – بعُبوديَّتِهِ، ثُمَّ بالثناءِ عليهِ والشهادةِ لهُ بالوحدانيَّةِ ولرسولِهِ بالرسالةِ، ثُمَّ الصلاةِ على رسولِهِ، ثُمَّ قيلَ لهُ: تَخيَّرْ مِن الدعاءِ أَحَبَّهُ إليكَ فذاكَ الحَقُّ الذي عَليكَ، وهذا الحَقُّ الذي لكَ)) ([35]).
((ثم خُتِمَت [الصلاةُ] بالتسليمِ، وجُعِلَ تَحليلاً لها يَخْرُجُ بهِ الْمُصَلِّي منها، كما يَخْرُجُ بتحليلِ الْحَجِّ منهُ، وجُعِلَ هذا التحليلُ دُعاءَ الإمامِ لِمَنْ وَراءَهُ بالسلامةِ التي هيَ أصلُ الخيرِ وأساسُهُ، فشُرِعَ لِمَنْ وَراءَهُ أن يَتَحَلَّلَ بِمِثْلِ ما تَحَلَّلَ بهِ الإمامُ، وفي ذلكَ دُعاءٌ لهُ وللمُصَلِّينَ معه بالسلامِ، ثُمَّ شُرِعَ ذلكَ لكلِّ مُصَلٍّ وإن كانَ مُنْفَرِداً.
فلا أَحْسَنَ مِنْ هذا التحليلِ للصلاةِ، كما أنَّهُ لا أَحسنَ مِنْ كونِ التكبيرِ تَحريماً لها؛ فتحريمُها تَكبيرُ الربِّ تعالى الجامعُ لإثباتِ كلِّ كَمالٍ لهُ، وتَنـزيهُهُ عنْ كلِّ نَقْصٍ وعَيْبٍ، وإفرادُهُ وتخصيصُهُ بذلكَ وتعظيمُهُ وإجلالُهُ؛ فالتكبيرُ يَتضمَّنُ تفاصيلَ أفعالِ الصلاةِ وأقوالِها وهيئاتِها؛ فالصلاةُ مِنْ أَوَّلِها إلى آخِرِها تَفصيلٌ لِمَضْمُونِ: ((اللهُ أَكبر)).
وأيُّ تحريمٍ أَحْسَنُ مِنْ هذا التحريمِ المتضَمِّنِ للإخلاصِ والتوحيدِ؟!! وهذا التحليلُ الْمُتَضَمِّنُ الإحسانَ إلى إخوانِهِ المؤمنينَ؟!!؛ فافْتُتِحَت بالإخلاصِ، وخُتِمَتْ بالإحسانِ)) ([36])

[فصلٌ]:
وسِرُّ الصلاةِ ورُوحُها ولُبُّها هوَ إقبالُ العبدِ على اللهِ بكُلِّيَّتِهِ، فكما أنَّهُ لا يَنبغِي لهُ أن يَصْرِفَ وَجهَهُ عنْ قِبْلَةِ اللهِ يَميناً وشِمَالاً، فكذلكَ لا يَنبغِي لهُ أن يَصْرِفَ قَلْبَهُ عنْ رَبِّهِ إلى غيرِهِ.
فالكعبةُ التي هيَ بيتُ اللهِ قِبلةُ وَجهِهِ وبَدَنِهِ، وربُّ البيتِ تَبارَكَ وتعالى هوَ قِبلةُ قَلْبِهِ ورُوحِهِ، وعلى حَسَبِ إِقبالِ العَبْدِ على اللهِ في صلاتِهِ يكونُ إقبالُ اللهِ عليهِ، وإذا أَعْرَضَ أَعْرَضَ اللهُ عنهُ.
وللإقبالِ في الصلاةِ ثلاثُ مَنازِلَ: -
- إقبالٌ على قَلْبِهِ فيَحفظُهُ مِن الوَساوِسِ والْخَطَراتِ الْمُبْطِلَةِ لثوابِ صَلاتِهِ، أو الْمُنْقِصَةِ لهُ.
- وإقبالٌ على اللهِ بِمُراقبتِهِ حتَّى كأنَّهُ يَراهُ.
- وإقبالٌ على معاني كلامِهِ وتفاصيلِ عُبودِيَّةِ الصلاةِ ليُعْطِيَهَا حَقَّهَا.
فباستكمالِ هذهِ الْمَراتبِ الثلاثِ تكونُ إقامةُ الصلاةِ حقًّا، ويكونُ إقبالُ اللهِ على عبدِهِ بِحَسَبِ ذلكَ.
- فإذا انتَصَبَ العبدُ قائماً بينَ يديهِ فإقبالُهُ على قَيُّومِيَّتِهِ وعَظمتِهِ.
- وإذا كَبَّرَ فإقبالُهُ على كِبريائِهِ.
- فإذا سَبَّحَهُ وأَثْنَى عليهِ فإقبالُهُ على سُبُحَاتِ وَجهِهِ وتَنـزيهٌ عمَّا لا يَليقُ بهِ، والثناءُ عليهِ بأوصافِ جمالِهِ.
- فإذا استعاذَ بهِ فإقبالُهُ على رُكنِهِ الشديدِ وانتصارُهُ لعبدِهِ ومَنْعُهُ لهُ وحِفْظُهُ مِنْ عَدُوِّهِ، فإذا تَلا كلامَهُ فإقبالُهُ على مَعرفتِهِ مِنْ كلامِهِ، حتَّى كأنَّهُ يَراهُ ويُشاهِدُهُ في كلامِهِ فهوَ كما قالَ بعضُ السلَفِ: (لَقَد تَجَلَّى اللهُ لعِبادِهِ في كَلامِهِ).
فهوَ في هذهِ الحالِ مُقْبِلٌ على ذاتِهِ وصِفاتِهِ وأفعالِهِ وأحكامِهِ وأسمائِهِ.
- فإذا رَكَعَ فإقبالُهُ على عَظمتِهِ وجلالِهِ وعِزِّهِ، ولهذا شُرِعَ لهُ أن يقولَ: سُبحانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ.
- فإذا رَفَعَ رأسَهُ مِن الركوعِ فإقبالُهُ على حَمْدِهِ والثناءِ عليهِ وتَمجيدِهِ وعبوديَّتِهِ لهُ وتَفرُّدِهِ بالعطاءِ والمنْعِ. فإذا سَجَدَ فإقبالُهُ على قُرْبِهِ والدُّنُوِّ منهُ، والخضوعِ لهُ والتذَلُّلِ بينَ يَديهِ، والانكسارِ والتملُّقِ.
- فإذا رَفَعَ رأسَهُ وجَثَا على رُكبتِهِ فإقبالُهُ على غِناهُ وجُودِهِ وكَرَمِهِ، وشِدَّةِ حاجتِهِ إليهِ، وتَضَرُّعِهِ بينَ يديهِ، والانكسارِ أن يَغفرَ لهُ ويَرحمَهُ ويُعافِيَهُ ويَهدِيَهُ ويَرزُقَهُ.
- فإذا جَلَسَ في التشَهُّدِ فلهُ حالٌ آخَرُ وإقبالٌ آخَرُ شِبْهُ حالِ الحاجِّ في طوافِ الوَداعِ، وقد اسْتَشْعَرَ قَلبُهُ الانصرافَ مِنْ بينِ يَدَيْ رَبِّهِ، ومُوافاةَ العلائقِ والشواغلِ التي قَطَعَها الوقوفُ بينَ يَديهِ، وقدْ ذاقَ تَأَلُّمَ قلبِهِ وعذابَهُ بها، وباشَرَ روحَ القُرْبِ ونَعيمَ الإقبالِ على اللهِ وعاقبتَهُ، وانقطاعَها عنهُ مُدَّةَ الصلاةِ ، ثُمَّ اسْتَشْعَرَ قَلْبُهُ عَوْدَها إليهِ بخروجِهِ مِنْ حِمَى الصلاةِ، فهوَ يَحمِلُ هَمَّ انقضاءِ الصلاةِ وفَراغِها، ويقولُ: لَيْتَهَا اتَّصَلَتْ بيومِ اللقاءِ، ويَعلَمُ أنَّهُ يَنْصَرِفُ مِنْ مُناجاةِ مَنْ كُلُّ السعادةِ في مُناجاتِهِ، إلى مُناجاةِ مَن الأَذَى والهمُّ والغمُّ والنكَدُ في مُناجاتِهِ، ولا يَشعُرُ بهذا وما هذا إلاَّ قَلْبٌ حَيٌّ مَعمورٌ بذِكْرِ اللهِ ومَحَبَّتِهِ والأُنْسِ بهِ.
* * *
ولَمَّا كانَ العبدُ بينَ أمرينِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ: -
- أحدُهما: حَكَمٌ عليهِ في أحوالِهِ كلِّها ظاهراً وباطناً، واقتضاؤُهُ منهُ القيامَ بعُبوديَّةِ حُكْمِهِ، فإنَّ لكلِّ حُكْمٍ عُبوديَّةً تَخُصُّهُ، أَعْنِي الْحُكْمَ الكونيَّ القَدَرِيَّ.
- والثاني: فِعلٌ يَفعلُهُ العبدُ عُبودِيَّةً لرَبِّهِ، وهوَ مُوجَبُ حُكْمِهِ الدينيِّ الأَمْرِيِّ.
وكِلا الأمرين يُوجِبَان تَسليمَ النفْسِ إليهِ تعالى.
ولهذا اشْتُقَّ لهُ اسمُ الإسلامِ مِن التسليمِ، فإنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ نفسَهُ لحُكْمِ رَبِّهِ الدِّينِيِّ الأَمْرِيِّ، ولِحُكْمِهِ الكونيِّ القَدَرِيِّ بقِيامِهِ بعُبوديَّتِهِ فيهِ لا باسترسالِهِ معه اسْتَحَقَّ اسمَ الإسلامِ، فقيلَ لهُ: مُسلمٌ.
ولَمَّا اطْمَأَنَّ قلبُهُ بذِكْرِهِ وكلامِهِ ومَحَبَّتِهِ وعُبوديَّتِهِ، سَكَنَ إليهِ وقَرَّتْ عينُهُ بهِ فَنالَ الأمانَ بإيمانِهِ، وكان قِيامُهُ بهذينِ الأمرينِ أَمْراً ضَروريًّا لهُ لا حياةَ لهُ ولا فَلاحَ ولا سَعادةَ إلاَّ بهما، ولَمَّا كانَ ما بُلِيَ بهِ مِن النفْسِ الأمَّارةِ، والهوى الْمُقْتَضِي، أو الطِّباعِ الْمُطالِبةِ، والشيطانِ الْمُغْوِي، يَقتضِي منهُ إضاعةَ حَظِّهِ مِنْ ذلكَ أوْ نُقصانَهُ اقْتَضَتْ رَحمةُ العزيزِ الرحيمِ أن شَرَعَ لهُ الصلاةَ مُخْلِفَةً عليهِ ما ضاعَ منهُ، رادَّةً عليهِ ما ذَهَبَ، مُجَدِّدَةً لهُ ما أَخْلَقَ مِنْ إيمانِهِ، وجُعِلَتْ صُورتُها على صورةِ أفعالِهِ خُشوعاً وخُضوعاً وانقياداً وتَسليماً، وأَعْطَى كلَّ جارحةٍ مِن الجوارحِ حَظَّها مِن العُبوديَّةِ، وجَعَلَ ثَمَرَتَها ورُوحَها إقبالَهُ على رَبِّهِ فيها بكُلِّيَّتِهِ، وجَعَلَ ثوابَها وجَزاءَها القُرْبَ منهُ ونَيْلَ كَرامتِهِ في الدنيا والآخرةِ، وجَعَل مَنْـزِلَتَها ومَحَلَّها الدخولَ على اللهِ تَبارَكَ وتعالى والتزَيُّنَ للعَرْضِ عليهِ تَذكيراً بالعرْضِ الأكبرِ عليهِ يومَ اللقاءِ.
وكما أنَّ الصومَ ثَمرتُهُ تَطهيرُ النفْسِ، وثمرةُ الزكاةِ تطهيرُ المالِ، وثمرةُ الحَجِّ وُجوبُ المغفرةِ، وثَمرةُ الجهادِ تَسليمُ النفْسِ التي اشتراها سُبحانَهُ مِن العِبادِ، وجَعَلَ الجنَّةَ ثَمَنَها، فالصلاةُ ثَمَرَتُها الإقبالُ على اللهِ، وإقبالُ اللهِ سُبحانَهُ على العَبْدِ، وفي الإقبالِ جَميعُ ما ذُكِرَ مِنْ ثَمراتِ الأعمالِ؛ ولذلكَ لم يَقُل النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصومِ ولا في الْحَجِّ والعُمرةِ. وإِنَّمَا قالَ: ((وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ)) ([37]) وتَأَمَّلْ قولَهُ: ((وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ)) ولم يَقُلْ بالصلاةِ، إعلاماً بأنَّ عينَهُ إِنَّمَا تَقِرُّ بدخولِهِ فيها، كما تَقِرُّ عينُ الْمُحِبِّ بِمُلابَسَتِهِ لِمَحبوبِهِ، وتَقِرُّ عينُ الخائفِ بدُخولِهِ في مَحَلِّ أَمْنِهِ، فقُرَّةُ العينِ بالدخولِ في الشيءِ أَكْمَلُ وأَتَمُّ مِنْ قُرَّةِ العينِ بهِ قَبلَ الدخولِ، ولَمَّا جاءَ إلى راحةِ القلبِ مِنْ تَعَبِهِ ونَصَبِهِ قالَ: ((يَا بِلالُ أَرِحْنَا بِالصَّلاةِ)) ([38])؛ أيْ: أَقِمْهَا لنَستريحَ بها مِنْ مُقاساةِ الشواغلِ، كما يَستريحُ التَّعبانُ إذا وَصَلَ إلى مَنـزِلِهِ وقَرَّ فيهِ وسَكَنَ.
وتَأَمَّلْ كيفَ قالَ: أَرِحْنَا بها، ولم يَقُلْ: أَرِحْنَا منها، كما يقولُهُ المتكلِّفُ بها الذي يَفعلُها تَكَلُّفاً وغُرْماً، فهوَ لَمَّا امْتَلأَ قلبُهُ بغيرِها وجاءتْ قاطعةً عنْ أَشغالِهِ ومَحبوباتِهِ، وعَلِمَ أنَّهُ لا بُدَّ لهُ منها فهوَ قائلٌ بلسانِ حالِهِ وقالِهِ: نُصَلِّي ونَستريحُ مِن الصلاةِ لا بها.
فهذا لونٌ وذاكَ لونٌ آخَرُ، فالفرْقُ بينَ مَنْ كانت الصلاةُ لِجَوارِحِهِ قَيْداً أوْ لقَلْبِهِ سِجْناً، ولنفسِهِ عائقاً، وبينَ مَنْ كانت الصلاةُ لقَلْبِهِ نَعيماً، ولعينِهِ قُرَّةً ولجوارِحِهِ راحةً، ولنفسِهِ بُستاناً ولَذَّةً.
فالأَوَّلُ الصلاةُ سجنٌ لنفسِهِ وتَقييدٌ لها عن التورُّطِ في مَساقطِ الهَلَكاتِ، وقدْ يَنالونَ بها التكفيرَ والثوابَ ويَنالُهم مِن الرحمةِ بِحَسَبِ عُبوديَّتِهِم للهِ فيها.
والقِسمُ الآخرُ الصلاةُ بُستانُ قُلوبِهم، وقُرَّةُ عيونِهم، ولَذَّةُ نفوسِهم، ورياضُ جوارحِهم فهم فيها يَتَقَلَّبونَ في النَّعيمِ، فصلاةُ هؤلاءِ تُوجِبُ لهم القُرْبَ والْمَنـزِلَةَ مِن اللهِ، ويُشاركونَ الأَوَّلِينَ في ثوابِهم ويَخْتَصُّونَ بأعلاهُ والمنـزلةِ والقُربةِ، وهيَ قَدْرٌ زائدٌ على مُجَرَّدِ الثوابِ، ولهذا يَعِدُ الملوكُ مَنْ أَرضاهُمْ بالأَجْرِ والتقريبِ كما قالَ السَّحَرَةُ لفِرعونَ: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)} [الأعراف: 113-114].
فالأوَّلُ عبدٌ قدْ دَخَلَ الدارَ ، والسِّتْرُ حاجبٌ بينَهُ وبينَ ربِّ الدارِ فهوَ مِنْ وراءِ الستْرِ فلذلكَ لم تَقَرَّ عينُهُ؛ لأنَّهُ في حُجُبِ الشهواتِ وغُيومِ الْهَوَى، ودُخانِ النفْسِ، وبُخارِ الأَمَانِيِّ، فالقلبُ عليلٌ، والنفسُ مُكِبَّةٌ على ما تَهواهُ، طالبةٌ لِحَظِّها العاجلِ.
والآخرُ، قدْ دَخَلَ دارَ الْمَلِكِ ورَفَعَ الستْرَ بينَهُ وبينَهُ، فقَرَّتْ عينُهُ واطمأَنَّتْ نفسُهُ، وخَشَعَ قلبُهُ وجوارحُهُ، وعَبَدَ اللهَ كأنَّهُ يَراهُ، وتَجَلَّى لهُ في كلامِهِ.
فهذه إشارةٌ ما ونُبْذَة يَسيرةٌ جِدًّا في ذَوقِ الصلاةِ) ([39])
).[المرتبع الأسنى: ؟؟]


(1) في الأصلِ (يُطْلِقُ): وهو تَصحيفٌ ظاهرٌ، وقد أشارَ إليه مُحَقِّقُ الكتابِ -أَثابَهُ اللهُ-.
(2) ذكرَهُ ابنُ كثيرٍ في تَفسيرِه (4/239) مَعْزُوًّا لبعضِ الكُتبِ الإلهيَّةِ، وذَكَرَهُ المُناوِيُّ في فَيْضِ القَدِيرِ (2/305) غيرَ مَعْزُوٍّ.
(3) في الأصلِ: (أَهَمَّ مَا عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) والعبارةُ هكذا غيرُ مستقيمةٍ، ولعلَّ فيها سقطًا أو إدراجًا، وبما أَثْبَتْنَاه يَسْتَقِيمُ الكلامُ.
([4]) كتابُ الصلاةِ (171-172).
([5]) كتابُ الصلاةِ (172).
([6]) إشارةٌ إلى حديثِ أبي هُرَيْرةَ الذي رواهُ الإمامُ مَالِكٌ في المُوَطَّأِ في كتابِ الصلاةِ /بابُ القراءةِ خَلْفَ الإمامِ، ومن طريقِهِ الإمامُ أحمدُ (9616)، والإمامُ مسلمٌ في كتابِ الصلاةِ / بابُ وُجوبِ قراءةِ الفاتحةِ (876)، ورواهُ التِّرْمِذِيُّ في كتابِ تَفسيرِ القرآنِ /بابُ ومِنْ سُورَةِ فَاتِحَةِ الكتابِ (2953)، والنَّسَائِيُّ في كتابِ الصلاةِ /بابُ تَرْكِ قِراءةِ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيمِ" (908)، وأبو داودَ في كتابِ الصلاةِ / بابُ مَن تَرَكَ القراءةَ في صلاتِهِ بفَاتِحَةِ الكتابِ (821)، وابْنُ مَاجَهْ في كتابِ الأدبِ / بابُ ثوابِ القرآنِ (3784).
([7]) كتابُ الصلاةِ (172).
([8]) رَوَاهُ مُسلِمٌ في كتابِ الصلاةِ / بابُ التشهُّدِ في الصلاةِ (902)، والنَّسَائِيُّ في كتابِ التطبيقِ / بـابُ قَوْلِهِ: (رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ) (1063)، مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
([9]) في الأصلِ (العَبْد) ولعلَّ الصوابَ ما أثبتناهُ.
([10]) كتابُ الصلاةِ (173).
([11]) كتابُ الصلاةِ (173-174).
([12]) وهذه قِراءَةُ نافعٍ وابنِ عامرٍ وابنِ كَثِيرٍ من السَّبْعَةِ.
([13]) كتابُ الصلاةِ (174).
([14]) انظُرْ مَدارِجَ السَّالِكِينَ (1/31- 141).
(15) وقال -رَحِمَهُ اللهُ- في كتابِ الصلاةِ: (فإذا قالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ففِيهَا سِرُّ الخَلْقِ والأَمْرِ، والدنيا والآخِرَةِ، وهي مُتَضَمِّنَةٌ لأجلِ الغاياتِ وأَفْضَلِ الوَسائلِ، فأَجَلُّ الغاياتِ عُبودِيَّتُهُ، وأفضلُ الوَسائلِ إِعانَتُهُ، فلا مَعْبُودَ يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ إلا هو، ولا مُعِينَ على عبادتِهِ غيرُهُ، فعبادَتُهُ أعلَى الغاياتِ، وإعانَتُهُ أَجَلُّ الوَسائِلِ، وقد أَنْزَلَ اللهُ -سُبحانَهُ وتَعالَى- مِائَةَ كتابٍ وأَرْبَعَةَ كُتُبٍ، جَمَعَ مَعانِيَها فِي أَربعَةٍ، وهي التوراةُ والإنجيلُ والقرآنُ والزَّبُورُ، وجمَعَ مَعانِيَها فِي القرآنِ، وجمعَ مَعانِيَهُ في المُفصَّلِ، وجَمَعَ مَعانِيَهُ في الفاتحةِ، وجمعَ مَعانِيَهَا في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وقد اشتمَلَتْ هذه الكَلِمَةُ على نَوْعَيِ التوحيدِ، وهما توحيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وتوحيدُ الإلهيةِ، وتضمَّنَتِ التعبُّدَ باسمِ "الربِّ" واسمِ "اللهِ"، فهو يُعْبَدُ بأُلُوهِيَّتِهِ، ويُستَعانُ برُبُوبِيَّتِهِ، ويَهْدِي إلى الصراطِ المُستقيمِ برَحْمَتِهِ، فكانَ أَوَّلُ السورةِ ذِكْرَ اسمِهِ: "اللهِ" و"الربِّ" و"الرحمنِ"، تطابُقًا لأجلِ المَطالبِ مِن عِبادَتِهِ وإعانتِهِ وهدايَتِهِ، وهو المُنفَرِدُ بإعطاءِ ذلك كُلِّهِ، لا يُعِينُ على عبادَتِهِ سِوَاهُ، ولا يَهْدِي سِوَاهُ).
([16]) وقالَ -رَحِمَهُ اللهُ- في كتابِ الصلاةِ: (ثم يُشهِدُ الدَّاعِي بقولِه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} شِدَّةَ فَاقَتِهِ وضَرُورَتِهِ إلى هذهِ المسألةِ التي ليس هو إلى شيءٍ أَشَدَّ فاقةً وحَاجةً منه إليها البتةَ، فإنه محتاجٌ إليه في كلِّ نَفَسٍ وطَرْفَةِ عَيْنٍ، وهذا المطلوبُ من هذا الدعاءِ لا يَتِمُّ إلا بالهدايةِ إلى الطريقِ المُوصِلِ إليه سبحانَهُ، والهدايةِ فيهِ، وهي هِدايَةُ التفصيلِ، وخَلْقِ القُدرَةِ على الفِعلِ وإِرادَتِه وتَكْوِينِهِ وتَوْفيقِهِ لإيقاعِهِ له على الوجهِ المَرْضِيِّ المَحْبُوبِ للربِّ سبحانَهُ وتعالى، وحِفظِه عليه مِن مُفسِداتِهِ حَالَ فِعلِهِ وبَعْدَ فِعْلِهِ.
ولمَّا كانَ العبدُ مُفتقِرًا في كلٍّ إلى هذه الهدايةِ في جميعِ ما يأتيهِ ويَذَرُهُ من أمورٍ قدْ أَتاهَا على غيرِ الهدايةِ، فهو يَحتاجُ إلى التوبةِ منها، وأمورٍ هُدِيَ إلى أَصْلِهَا دُونَ تَفْصِيلِها، أو هُدِيَ إليها من وَجهٍ دُونَ وَجْهٍ، فهو يَحْتَاجُ إلى إِتمامِ الهِدَايَةِ فيها ليَزْدَادَ هُدًى، وأمورٍ: هو يحتاجُ إلى أن يَحْصُلَ له من الهدايةِ فيها بالمستقبَلِ مثلَ ما حَصَلَ له في الماضِي، وأمورٍ: هو خالٍ عن اعتقادٍ فيها فهو يحتاجُ إلى الهدايةِ فيها، وأمورٍ: لم يَفْعَلْها فهو يحتاجُ إلى فِعلِها على وجهِ الهدايةِ، وأمورٍ: قد هُدِيَ إلى الاعتقادِ الحقِّ والعملِ الصوابِ فيها، فهو محتاجٌ إلى الثباتِ عليها، إلى غيرِ ذلك من أنواعِ الهداياتِ فَرَضَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- عليه أن يَسْأَلَهُ هذه الهدايةَ في أَفْضَلِ أَحْوَالِهِ مَرَّاتٍ مُتعددةً في اليومِ والليلةِ.
ثم بَيَّنَ أنَّ أهلَ هذه الهدايةِ همُ المُخْتَصُّونَ بنِعْمَتِهِ دُونَ "المغضوبِ عَلَيْهِم" وهمُ الذين عَرَفُوا الحَقَّ، ولم يَتْبَعُوهُ، ودونَ "الضَّالِّينَ" وهم الذين عَبَدُوا اللهَ بغَيْرِ عِلِمٍ، فالطَّائِفَتَانِ اشتَرَكَتا في القولِ في خَلْقِهِ وأَمْرِه وأَسْمائِه وصِفاتِه بغَيرِ عِلمٍ، فَسَبِيلُ المُنْعَمِ عَلَيْهِ مُغَايِرَةٌ لسبيلِ أَهْلِ الباطلِ كُلِّها عِلمًا وعَملاً). هذا وللإمامِ ابنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى تفسيرٌ مُطَوَّلٌ لقولِه تَعالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} الآيةَ، في بدائعِ الفوائدِ (2/ 9-41) ذكر فيه عِشْرِينَ مَسألةً وأَجْوِبَتَهَا.
([17]) كتابُ الصلاةِ (176).
([18]) كتابُ الصلاةِ (176).
([19]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (16961)، وأبو داودَ في كتابِ الصلاةِ / بابٌ في الدعاءِ في الركوعِ والسجودِ (875)، وابْنُ مَاجَهْ في كتابِ إقامةِ الصلاةِ / بابُ التسبيحِ في الركوعِ والسجودِ (887) من حديثِ عُقْبَةَ بنِ عَامرٍ رَضِيَ اللهُ عنه.
([20]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 130.
([21]) كتابُ الصلاةِ (176).
([22]) جاءتِ العِبارَةُ في الأصلِ هَكذا: (وجَعَلَ شِعارَ هذَا الرُّكْنِ حَمْدًا للهِ والثَّنَاءَ عَلَيْهِ وتَحْمِيدَهُ) وهي عبارةٌ مُضْطَرِبَةٌ، ولعلَّ صَوَابَها كما صَحَّحْنَاهُ. واللهُ تَعالَى أَعْلَمُ.
([23]) كتابُ الصلاةِ (177).
([24]) انظُرْ زَادَ المَعادِ في هَدْيِ خَيْرِ العِبادِ (1/ 220).
([25]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (22866)، والنَّسَائِيُّ في كتابِ الصَّلاةِ / بابُ ما يَقُولُ في قِيامِهِ ذلكَ (1068)، وأبو داودَ في كتابِ الصلاةِ /بابُ ما يقولُ الرجُلُ في رُكوعِهِ وسُجودِهِ (874)، والتِّرْمِذِيُّ في الشمائِلِ/ بابُ ما جاءَ في عبادةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ (260) من حديثِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عنه.
([26]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (11418)، ورَواهُ مُسلِمٌ في كتابِ الصلاةِ / بابُ ما يَقُولُ إذا رَفَعَ رَأْسَهُ (1071)، وأبو داودَ في كتابِ الصلاةِ / بابُ ما يَقولُ إذا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكـوعِ (847)، والنَّسَائِيُّ في كتابِ التطبيقِ / بابُ ما يقـولُ في قيـامِهِ ذَلِكَ (1067).
([27]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (7124)، والتِّرْمِذِيُّ في كتابِ الأذانِ/ بابُ ما يقولُ بعدَ التكبيرِ (744)، ومسلِمٌ في كتابِ المساجدِ / بابُ ما يقولُ بينَ تَكبيرةِ الإحرامِ والقراءةِ، وأبو داودَ في كتابِ الصلاةِ / بابُ السَّكْتةِ عندَ الافتتاحِ (776)، والنَّسَائِيُّ في كتابِ الصلاةِ / بابُ الدُّعاءِ بينَ التكبيرِ والقراءةِ (893)، ومَواضعَ أُخَرَ مِن طُرُقٍ عن عِمارةَ بنِ القَعقاعِ، عن أبي زُرعةَ، عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه.
([28]) كتابُ الصلاةِ (177-178).
([29]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (9165) ومسلمٌ في كتابِ الصلاةِ / بابُ ما يقالُ في الركوعِ والسجودِ (1083) وأبو داودَ في كتابِ الصلاةِ / بابُ الدعاءِ في الركوعِ والسجودِ (870) والنَّسَائِيُّ في كتابِ التطبيقِ / بابُ أَقْرَبِ ما يَكُونُ العبدُ مِنَ اللهِ عَزَّ وجلَّ (1136) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رضيَ اللهُ عنه.
([30]) وانظُر كتابَ الصلاةِ (178- 181).
([31]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (2/ 370).
([32]) وقال -رَحِمَهُ اللهُ- في كتابِ الصلاةِ (183): (وَلَمَّا كانَ السلامُ من أنواعِ التحيةِ، وكانَ المسلمُ داعيًا لِمَنْ يُجِيبُه، وكانَ اللهُ -سبحانَهُ- هو الذي يَطْلُبُ منه السلامَ لِعِبادِهِ الذينَ اختَصَّهُمْ بعُبُودِيَّتِه، وارْتَضاهُمْ لِنَفْسِه، وشَرَعَ أَنْ يَبْدَأَ بِأَكْرَمِهِمْ عَلَيْهِ، وأَحَبِّهِمْ إِلَيْهِ، وأَقْرَبِهِمْ مِنه مَنْزِلَةً في هذه التحيةِ بالشَّهَادَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا مِفْتَاحُ الإسلامِ، فشَرَعَ أن يَكُونَ خَاتِمَةَ الصَّلاةِ.
فدخلَ فيها بالتكبيرِ والحمدِ والثناءِ والتمجيدِ وتوحيدِ الربوبيةِ والإلهيةِ، وخَتمَها بشهادةِ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه. وشُرِعَتْ هذه التحيةُ في وسَطِ الصلاةِ... إذا زادَتْ على ركعتَينِ، تشبيهًا لها بجِلسَةِ الفصلِ بينَ السجدتينِ، وفيها مع الفصلِ راحةٌ للمصلِّي لاستقبالِهِ الركعتينِ الآخِرَتَينِ بنشاطٍ وقوةٍ بخلافِ ما إذا وَالَى بينَ الرَّكَعاتِ، ولهذا كانَ الأفضلُ في النفلِ مَثْنَى مَثْنَى، وإن تَطَوَّعَ بأَرْبَعٍ جَلَسَ في وَسَطِهِنَّ).
([33]) كلامُ ابنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (3996)، وأبو داودَ في كتابِ الصلاةِ / بابُ التشهُّدِ (966)، وقد اختُلِفَ في رَفعِهِ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، وأصلُ الحديثِ في الصحيحينِ وغيرِهما بدونِ هذه الزيادةِ.
([34]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (23419)، والتِّرْمِذِيُّ في كتابِ الدَّعواتِ / بابُ (65)، الحديثُ رقْمُ (3477)، وأبو داودَ في كتابِ الصلاةِ/ بابُ الدعاءِ (1478) بلفظٍ مُقارِبٍ، كُلُّهُم مِن حديثِ حُمَيْدِ بنِ هَانئٍ، عن عمرِو بنِ مالكٍ الْجَنْبِيِّ، عن فَضَالَةَ بنِ عُبَيْدٍ رضِيَ اللهُ عنه.
([35]) كتابُ الصلاةِ (184).
([36]) كتابُ الصلاةِ (185).
([37]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (11884، 11885، 12644، 13623) ، والنَّسَائِيُّ في كتابِ عِشْرةِ النساءِ / بابُ حُبِّ النساءِ (3949) من طريقينِ عن ثابتٍ، عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه.
([38]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (22643)، وأبو داودَ في كتابِ الأدَبِ / بابٌ في صلاةِ العَتَمَةِ (4974) من طريقِ سالمِ بنِ أبي الجَعْدِ، عن عبدِ اللهِ بنِ مُحمدِّ ابنِ الحَنَفِيَّةِ، عن رجلٍ من الأنصارِ سَمِعَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ.
([39]) الكلامُ على مسألةِ السماعِ (190-217).


رد مع اقتباس