عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 14 رمضان 1438هـ/8-06-2017م, 10:01 AM
جمهرة علوم العقيدة جمهرة علوم العقيدة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 1,193
افتراضي

بيانِ أنَّ أسماءَ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى تقتضي تَنْـزِيهَهُ سُبحانَهُ وتعالى عن الشرورِ والنقائِصِ والعُيُوبِ

قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: (البابُ الثالثَ عشرَ: في بيانِ أنَّ أسماءَ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى تقتضي تَنْـزِيهَهُ سُبحانَهُ وتعالى عن الشرورِ والنقائِصِ والعُيُوبِ.
(الربُّ [سُبحانَهُ و] تعالى أسماؤُهُ كلُّها حسنى ليسَ فيها اسمُ سَوءٍ، وأوصافُهُ كلُّها كمالٌ ليسَ فيها صفةُ نقصٍ، وأفعالُهُ كلُّها حكمةٌ ليسَ فيها فعلٌ خالٍ عن الحكمةِ والمصلحةِ، ولهُ المثلُ الأعلى في السماواتِ والأرضِ وهوَ العزيزُ الحكيمُ، موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ، مذكورٌ بنعوتِ الجلالِ، مُنَـزَّهٌ عن الشبيهِ والمثالِ، ومُنَـزَّهٌ عمَّا يُضَادُّ صفاتِ كمالِهِ:
- فمُنَزَّهٌ عن الموتِ المُضادِّ للحياةِ.
- وعن السِّنَةِ والنومِ والسهوِ والغفلةِ المضادِّ للقيُّوميَّةِ.
- وموصوفٌ بالعلمِ مُنَـزَّهٌ عنْ أضدادِهِ كُلِّها من النسيانِ والذهولِ وعزوبِ شيءٍ عنْ علمِهِ.
- موصوفٌ بالقدرةِ التامَّةِ , مُنَـزَّهٌ عنْ ضدِّها من العجزِ واللُّغُوبِ والإعياءِ.
- موصوفٌ بالعَدْلِ , مُنَـزَّهٌ عن الظلمِ.
- موصوفٌ بالحكمةِ , مُنَـزَّهٌ عن العبثِ والسَّفَهِ.
- موصوفٌ بالسمعِ والبصرِ , مُنَـزَّهٌ عنْ أضدَادِهِما من الصَّمَمِ والبَكَمِ.
- موصوفٌ بالعُلُوِّ والفوقيَّةِ , مُنَـزَّهٌ عنْ ضدِّ ذلكَ.
- موصوفٌ بالغِنَى التامِّ , مُنَـزَّهٌ عمَّا يُضادُّهُ بوجهٍ من الوجوهِ، ومُستحقٌّ للحمدِ
كلِّهِ؛ فيستحيلُ أنْ يكونَ غيرَ محمودٍ كما يستحيلُ أنْ يكونَ غيرَ قادرٍ ولا خالقٍ ولا حيٍّ، ولـهُ الحمدُ كلُّهُ، واجبٌ لهُ لذاتِهِ فلا يكونُ إلاَّ محمُوداً كما لا يكونُ إلاَّ إلهاً وربًّا وقادراً) ([1])
([فهوَ] سُبحانَهُ كاملٌ في أسمائِهِ وصفاتِهِ، فلَهُ الكمالُ المطلقُ منْ جميعِ الوجوهِ.
الذي لا نَقْصَ فيهِ بوجهٍ ما) ([2]).
[و] (كلُّ ما يُنَـزَّهُ سُبحانَهُ عنهُ من العيوبِ والنقائصِ فهوَ داخلٌ فيما نَـزَّهَ نفسَهُ عنهُ وفيما يُسَبَّحُ بهِ ويُقَدَّسُ ويُحمَدُ ويُمَجَّدُ، وداخلٌ في معاني أسمائِهِ الحسنى، وبذلكَ كانتْ حُسْنَى؛ أيْ: أحسنَ منْ غيرِها، فهيَ أفعلُ تفضيلٍ مُعَرَّفَةٌ باللامِ؛ أيْ: لا أحسنَ منها بوجهٍ من الوجوهِ. بلْ لها الحسنُ الكاملُ التامُّ المطلقُ، وأسماؤُهُ الحسنى وآياتُهُ البيِّناتُ متضمِّنَةٌ لذلكَ ناطقةٌ بهِ صريحةٌ فيهِ وإنْ ألحدَ المُلحدونَ وزاغَ عنها الزائغونَ. ) ([3])
(فسُبْحَانَ اللهِ ربِّ العالمينَ تنـزيهاً لربوبيَّتِهِ وإلهيَّتِهِ وعظمَتِهِ وجلالِهِ عمَّا لا يليقُ بهِ منْ كلِّ ما نَسَبَهُ إليهِ الجاهلونَ الظالمونَ.
فـَـ ((سبحانَ اللهِ)) كلمةٌ يُحَاشَى اللهُ بها عنْ كلِّ ما يُخالفُ كمالَهُ منْ سُوءٍ ونقصٍ وعيبٍ، فهوَ المُنَـزَّهُ التنـزيهَ التامَّ، منْ كلِّ وجهٍ وبكلِّ اعتبارٍ، عنْ كلِّ نقصٍ مُتَوَهَّمٍ)([4]) (فلا يدخلُ السوءُ في أسمائِهِ، ولا النقصُ والعيبُ في صفاتِهِ، ولا العبثُ ولا الجَوْرُ في أفعالِهِ، بلْ هوَ مُنَـزَّهٌ في ذاتِهِ وأوصافِهِ وأفعالِهِ وأسمائِهِ عمَّا يُضَادُّ كمالَهُ بوجهٍ من الوجوهِ). ([5])
([بلْ إنَّ] النقصَ منتفٍ عن اللهِ عزَّ وجلَّ عقلاً كما هوَ منتفٍ عنهُ سمعاً. والعقلُ والنقلُ يُوجبُ اتِّصافَهُ بصفاتِ الكمالِ. والنقصُ هوَ ما يُضَادُّ صفاتِ الكمالِ) ([6]).

[فصْلٌ]:
( فإذا عرفَ هذا... [فقولُهُ تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق: 1-2]... ((مَا)) ها هنا موصولةٌ ليسَ إلا، والشرُّ مُسْنَدٌ في الآيَةِ إلى المخلوقِ المفعولِ لا إلى خلقِ الربِّ تعالى الذي هوَ فعلُهُ وتكوينُهُ؛ فإنَّهُ لا شرَّ فيهِ بوَجْهٍ ما؛ فإنَّ الشرَّ لا يدْخُلُ في شيءٍ منْ صفاتِهِ ولا في أفعالِهِ كما لا يلْحَقُ ذاتَهُ تباركَ وتعالى؛ فإنَّ ذاتَهُ لها الكمالُ المطلقُ الذي لا نقصَ فيهِ بوجهٍ من الوجوهِ، وأوصافُهُ كذلكَ لها الكمالُ المطلقُ والجلالُ التامُّ ولا عيبَ فيها ولا نقصَ بوجهٍ ما، وكذلكَ أفعالُهُ كلُّها خيراتٌ محضةٌ لا شرَّ فيها أصلاً، ولوْ فعلَ الشرَّ سُبحانَهُ لاشْتُقَّ لهُ منهُ اسمٌ ولمْ تكُنْ أسماؤُهُ كلُّها حُسنى، ولعادَ إليهِ منهُ حكمٌ تعالى وتقدَّسَ عنْ ذلكَ.
وما يفعلُهُ من العَدْلِ بعبادِهِ وعقوبةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ العقوبةَ منهم هوَ خيرٌ محضٌ؛ إذْ هوَ محضُ العَدْلِ والحكمةِ، وإنَّما يكونُ شرًّا بالنسبةِ إليهم، فالشرُّ وقعَ في تَعَلُّقِهِ بهم وقيامِهِ بهم لا في فعلِهِ القائمِ بهِ تعالى. ونحنُ لا نُنْكِرُ أنَّ الشرَّ يكونُ في مفعولاتِهِ المنفصلةِ؛ فإنَّهُ خالقُ الخيرِ والشرِّ، ولكنْ هنا أمرانِ ينبغي أنْ يكُونَا منكَ على بالٍ:
- أحدُهما: أنَّ ما هوَ شرٌّ أوْ متضمِّنٌ للشرِّ فإنَّهُ لا يكونُ إلاَّ مفعولاً مُنْفَصِلاً , لا يكونُ وصفاً لهُ ولا فعلاً منْ أفعالِهِ.
- الثاني: أنَّ كونَهُ شرًّا هوَ أمرٌ نسبيٌّ إضافيٌّ، فهوَ خيرٌ منْ جهةِ تَعَلُّقِ فعلِ الربِّ وتكوينِهِ بهِ، وشرٌّ منْ جهةِ نسبَتِهِ إلى مَنْ هوَ شَرٌّ في حقِّهِ. فلَهُ وجهانِ هوَ منْ أحدِهما خيرٌ، وهوَ الوجهُ الذي نُسِبَ منهُ إلى الخالقِ سُبحانَهُ وتعالى خلقاً وتكويناً، ومشيئَتُهُ لما فيهِ من الحكمةِ البالغةِ التي استأثرَ بعلْمِها وأطْلَعَ مَنْ شاءَ منْ خلقِهِ على ما شاءَ منها، وأكثرُ الناسِ تَضِيقُ عقولُهم عنْ مبادئِ معرِفَتِها فضلاً عنْ حقيقَتِها. فيكفيهم الإيمانُ المُجْمَلُ بأنَّ اللهَ سُبحانَهُ هوَ الغنيُّ الحميدُ، وفاعلُ الشرِّ لا يفعلُهُ لحاجَتِهِ المنافيَةِ لغِنَاهُ، أوْ لنقصِهِ وعيبِهِ المنافي لحمدِهِ، فيستحيلُ صدورُ الشرِّ من الغنيِّ الحميدِ فعلاً وإنْ كانَ هوَ الخالقَ للخيرِ والشرِّ.
فقدْ عرَفْتَ أنَّ كونَهُ شرًّا , هوَ أمرٌ إضافيٌّ وهوَ في نفسِهِ خيرٌ منْ جهةِ نِسْبَتِهِ إلى خالقِهِ ومُبدعِهِ.
فلا تغْفُلْ عنْ هذا الموضعِ؛ فإنَّهُ يفتحُ لكَ باباً عظيماً منْ معرفةِ الربِّ ومحبَّتِهِ، ويُزِيلُ عنكَ شُبُهَاتٍ حَارَتْ فيها عقولُ أكثرِ الفضلاءِ، وقدْ بسَطْتُ هذا في كتابِ التحفةِ المكِّيَّةِ، وكتابِ الفتحِ القدسيِّ وغيرِهما، وإذا أُشْكِلَ عليكَ هذا فأنا أُوَضِّحُهُ لكَ بأمثلةٍ:
- أحدُها: أنَّ السارقَ إذا قُطِعَتْ يدُهُ فقَطْعُها شرٌّ بالنسبةِ إليهِ وخيرٌ محضٌ بالنسبةِ إلى عمومِ الناسِ؛ لما فيهِ منْ حفظِ أموالِهم ودفعِ الضررِ عنهم، وخيرٌ بالنسبةِ إلى مُتَوَلِّي القطعِ أمراً وحكماً لما في ذلكَ من الإحسانِ إلى عبيدِهِ عموماً بإِتْلافِ هذا العضوِ المؤذي لهم المُضِرِّ بهم، فهوَ محمودٌ على حُكْمِهِ بذلكَ وأمرِهِ بهِ، مشكورٌ عليهِ، يَسْتَحِقُّ عليهِ الحمدَ منْ عبادِهِ والثناءَ عليهِ والمحبَّةَ.
- وكذلكَ الحكمُ بقتلِ مَنْ يصُولُ عليهم في دمائِهم وحُرُماتِهِم وجلدِ مَنْ يصولُ عليهم في أعراضِهم، فإذا كانَ هذا عقوبةَ مَنْ يصولُ عليهم في دُنياهم، فكيفَ عقوبةُ مَنْ يصولُ على أدْيَانِهم ويَحُولُ بينَهم وبينَ الهُدَى الذي بعثَ اللهُ بهِ رسلَهُ وجعلَ سعادةَ العبادِ في معاشِهم ومعادِهم مَنُوطَةً بهِ. أفليسَ في عقوبةِ هذا الصائلِ خيرٌ محضٌ وحكمةٌ وعَدْلٌ وإحسانٌ إلى العبيدِ؟! وهيَ شرٌّ بالنسبةِ إلى الصائلِ الباغي.
فالشرُّ ما * قامَ بهِ منْ ذلكَ العقوبةِ، وأمَّا ما نُسِبَ إلى الربِّ منها من المشيئةِ والإرادةِ والفعلِ فهوَ عينُ الخيرِ والحكمةِ.
فلا يغْلُظْ حجابُكَ عنْ فهمِ هذا النبأِ العظيمِ والسرِّ الذي يُطْلِعُكَ على مسألةِ القدرِ ويفتحُ لكَ الطريقَ إلى اللهِ ومعرفةِ حِكْمَتِهِ ورحمتِهِ وإحسانِهِ إلى خلقِهِ وأنَّهُ سُبحانَهُ كما أنَّهُ البرُّ الرحيمُ الودودُ المحسنُ فهوَ الحكيمُ الملكُ العَدْلُ، فلا تُنَاقِضُ حكمتُهُ رحمتَهُ، وكلاهُما مُقْتَضَى عزَّتِهِ وحكمتِهِ وهوَ العزيزُ الحكيمُ، فلا يليقُ بحكمَتِهِ أنْ يضَعَ رِضَاهُ ورحمتَهُ موضعَ العقوبةِ والغضبِ، ولا يضعَ غضبَهُ وعقوبتَهُ موضعَ رضاهُ ورحمتِهِ، ولا يلْتَفِتُ إلى قولِ مَنْ
غلُظَ حجابُهُ عن اللهِ:أنَّ الأمرَيْنِ بالنسبةِ إليهِ على حدٍّ سواءٍ، ولا فَرْقَ أصلاً وإنَّما هوَ محضُ المشيئةِ بلا سببٍ ولا حكمةٍ.
وتأمَّل القـرآنَ منْ أوَّلِهِ إلى آخرِهِ كـيـفَ تجدُهُ كفيلاً بالردِّ على هذهِ المـقالةِ, وإنكارِها أشدَّ الإنكارِ وتنْـزِيهِ نفسِهِ عنها كقولِهِ تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم: 35-36]، وقولِهِ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} [الجاثيَة: 21] وقولِهِ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: 28]، فأنكرَ سُبحانَهُ على مَنْ ظنَّ هذا الظنَّ، ونـزَّهَ نفسَهُ عنهُ فدلَّ على أنَّهُ مُسْتَقِرٌّ في الفِطَرِ والعقولِ السليمةِ أنَّ هذا لا يكونُ ولا يليقُ بحكمتِهِ وعزَّتِهِ وإلهيَّتِهِ, لا إلهَ إلاَّ هوَ تعالى عمَّا يقولُ الجاهلونَ علُوًّا كبيراً.
وقدْ فطرَ اللهُ عقولَ عبادِهِ على استقباحِ وضعِ العقوبةِ والانتقامِ في موضعِ الرحمةِ والإحسانِ، ومكافأةِ الصنعِ الجميلِ بمثلِهِ وزيادةٍ.
فإذا وضعَ العقوبةَ موضعَ ذلكَ استنْكَرَتْهُ فِطَرُهُم وعقولُهم أشدَّ الاستنكارِ، واستهْجَنَتْهُ أعظمَ الاستهجانِ.
وكذلكَ وضعُ الإحسانِ والرحمةِ والإكرامِ في موضعِ العقوبةِ والانتقامِ، كما إذا جاءَ إلى مَنْ يُسِيءُ إلى العالمِ بأنواعِ الإساءةِ في كلِّ شيءٍ منْ أموالِهم وحرِيمِهم ودِمَائِهِم فأكرَمَهُ غايَةَ الإكرامِ ورفَعَهُ وكَرَّمَهُ، فإنَّ الفِطَرَ والعقولَ تَأْبَى استحسانَ هذا وتَشْهَدُ على سَفَهِ مَنْ فعَلَهُ، هذهِ فطرةُ اللهِ التي فطرَ الناسَ عليها، فما للعقولِ والفِطَرِ لا تشْهَدُ حكمتَهُ البالغةَ وعزَّتَهُ وعَدْلَهُ في وضعِ عقوبتِهِ في أَوْلَى المحالِّ بها وأحَقِّها بالعقوبةِ، وأنَّها لوْ أُولِيَت النِّعَمَ لمْ تَحْسُنْ بها ولمْ تَلِقْ، وَلَظَهَرَتْ مُنَاقِضَةَ الحكمةِ كما قالَ الشاعرُ:

نعمةُ اللهِ لا تُعَابُ ولكِنْ رُبَّما اسْتُقْبِحَتْ على أقوامِ

فهكذا نِعَمُ اللهِ لا تليقُ ولا تحسُنُ ولا تجمُلُ بأعدائِهِ الصادِّينَ عنْ سبيلِهِ، الساعينَ في خلافِ مرْضَاتِهِ، الذينَ يَرْضَوْنَ إذا غَضِبَ، ويغْضَبُونَ إذا رَضِيَ، ويُعَطِّلُونَ ما حكمَ بهِ، ويسْعَوْنَ في أنْ تكونَ الدعوةُ لغيْرِهِ والحُكْمُ لغَيْرِهِ والطاعةُ لغَيْرِهِ، فهُمْ مُضَادُّونَ في كلِّ ما يُرِيدُ، يُحِبُّونَ ما يُبْغِضُهُ ويدْعُونَ إليهِ، ويُبْغِضُونَ ما يُحِبُّهُ ويَنْفِرُونَ عنهُ، ويُوَالُونَ أعداءَهُ وأبغضَ الخلقِ إليهِ، ويُظاهرُونَهُم عليهِ وعلى رسولِهِ كما قالَ تعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)} [الفرقان: 55]، وقالَ: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف:50]،فتأمَّلْ ما تحتَ هذا الخطابِ الذي يسْلُبُ الأرواحَ حلاوةً وعتاباً، وجلالةً وتهديداً، كيفَ صدَّرَهُ بإخبارِنا أنَّهُ أَمَرَ إبليسَ بالسجودِ لأَبِينا فأَبَى ذلكَ ,فطَرَدَهُ ولعَنَهُ وعادَاهُ منْ أجْلِ إبائِهِ عن السجودِ لأَبِينا، ثمَّ أنتمْ تُوَالُونَهُ منْ دُونِي وقدْ لعَنْتُهُ وطرَدْتُهُ إذْ لمْ يسْجُدْ لأبيكم، وجعَلْتُهُ عدوًّا لكم ولأبيكم فوَالَيْتُمُوهُ وتركْتُمُونِي، أفليسَ هذا منْ أعظمِ الغَبْنِ وأشدِّ الحسرةِ عليكُم؟ ويومَ القيامةِ يقولُ تعالى: ألَيْسَ عَدْلاً منِّي أنْ أُوَلِّيَ كلَّ رجلٍ منكم ما كانَ يتوَلَّى في دارِ الدُّنيا؟
فلَيَعْلَمَنَّ أولياءُ الشيطانِ كيفَ حالُهم يومَ القيامةِ إذا ذهَبُوا معَ أوليائِهِم وبَقِيَ أولياءُ الرحمنِ لمْ يذْهَبُوا معَ أحدٍ، فيتجَلَّى لهم ويقولُ: ألا تذهبونَ حيثُ ذهبَ الناسُ؟ فيقولونَ: فَارَقَنا الناسُ أحوجَ ما كُنَّا إليهم وإنَّما ننتَظِرُ ربَّنا الذي كُنَّا نتوَلاَّهُ ونعبدُهُ، فيقولُ: هلْ بينَكُم وبينَهُ علامةٌ تعرفونَهُ بها؟ فيقولونَ: نَعَمْ، إنَّهُ لا مثلَ لهُ. فيتجَلَّى لهم ويكْشِفُ عنْ ساقٍ، فيَخِرُّونَ لهُ سُجَّداً. فَيَا قُرَّةَ عيونِ أوليائِهِ بتلكَ الموالاةِ، ويا فَرَحَهُمْ إذا ذهبَ الناسُ معَ أوليائِهِم، وبَقُوا معَ مَوْلاهُم الحقِّ. فسيعْلَمُ المشركونَ بهِ الصادُّونَ عنْ سبيلِهِ أنَّهُم ما كانُوا أولياءَهُ، إنْ أولياؤُهُ إلاَّ المُتَّقُونَ، ولكنَّ أكثرَهُم لا يعلمونَ.
ولا تَسْتَطِلْ هذا البساطَ فما أحوجَ القلوبَ إلى معرفتِهِ وتعقُّلِهِ ونُـزولِها منهُ منازِلَها في الدنيا لتَنْـزِلَ في جِوارِ ربِّها في الآخرةِ معَ الذينَ أنعمَ اللهُ عليهم من النبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشهداءِ والصالحينَ، وحَسُنَ أولئكَ رفيقاً.
* * *
إذا عرفَ هذا عرفَ معنى قولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في الحديثِ الصحيحِ: ((لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)) ([7])، وأنَّ معناهُ أجلُّ وأعظمُ منْ قولِ مَنْ قالَ: والشرُّ لا يُتَقَرَّبُ بِهِ إليكَ، وقولِ مَنْ قالَ: والشرُّ لا يصْعَدُ إليكَ. وأنَّ هذا الذي قالُوهُ وإنْ تضمَّنَ تنـزيهَهُ عنْ صعودِ الشرِّ إليهِ والتقَرُّبِ بهِ إليهِ فلا يتضمَّنُ تنـزيهَهُ في ذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ عن الشرِّ، بخلافِ لفظِ المعصومِ الصادقِ المُصَدَّقِ؛ فإنَّهُ يتضمَّنُ تنـزيهَهُ في ذاتِهِ تباركَ وتعالى عنْ نسبةِ الشرِّ إليهِ بوجهٍ ما، لا في صفاتِهِ ولا في أفعالِهِ ولا في أسمائِهِ وإنْ دخلَ في مخلوقاتِهِ، كقولِهِ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق: 1-2].
وتأمَّلْ طريقةَ القرآنِ في إضافةِ الشرِّ تارةً إلى سَبَبِهِ ومَنْ قامَ بهِ كقولِهِ: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} [البقرة: 254]، وقولِهِ: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الصف: 5]، وقولِهِ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [النساء: 160]، وقولِهِ: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] وقولِـهِ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)} [الزخرف: 76]. وهوَ في القرآنِ أكثرُ منْ أنْ يُذْكَرَ ها هنا عُشْرُ مِعْشارِهِ، وإنَّما المقصودُ التمثيلُ.
وتارَةً يَحْذِفُ فاعلَهُ كقولِهِ تعالى حكايَةً عنْ مُؤْمِني الجنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)} [الجن: 10]، فحذَفُوا فاعلَ الشرِّ ومُرِيدَهُ وصرَّحُوا بمُريدِ الرَّشَدِ. ونظيرُهُ في الفاتحةِ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 7]، فذكرَ النعمةَ مضافةً إليهِ سُبحانَهُ، والضلالَ منسوباً إلى مَنْ قامَ بهِ، والغضبَ محذوفاً فاعلُهُ. ومثلُهُ قولُ الخَضِرِ في السفينةِ: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، وفي الغُلاميْنِ: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82]. ومثلُهُ قولُهُ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7]، فنسبَ هذا التَّزْيِينَ المحبوبَ إليهِ، وقالَ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمرانَ: 14]، فحذفَ الفاعلَ المُـزَيِّنَ. ومثلُهُ قولُ الخليلِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} [الشعراء: 78-82]، فنسبَ إلى ربِّهِ كلَّ كمالٍ منْ هذهِ الأفعالِ، ونسبَ إلى نفسِهِ النقصَ منها، وهوَ المرضُ والخطيئةُ.
وهذا كثيرٌ في القرآنِ ذكَرْنَا منهُ أمثلةً كثيرةً في كتابِ الفوائدِ المكِّيَّةِ وبيَّنَّا هناكَ السرَّ في مَجِيءِ {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة: 121]، وَ{الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 144]، والفرقُ بينَ الموضعَيْنِ، وأنَّهُ حيثُ ذكرَ الفاعلَ كانَ مَنْ آتَاهُ الكتابَ واقعاً في سياقِ المدحِ، وحيثُ حذَفَهُ كانَ مَنْ أُوتِيَهُ واقعاً في سياقِ الذمِّ أوْ مُنْقَسِماً، وذلكَ منْ أسرارِ القرآنِ. ومثلُهُ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]، وقالَ: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)} [الشورى: 14]، وقولُهُ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} [الأعراف: 169]
وبالجملةِ فالَّذِي يُضافُ إلى اللهِ تعالى كُلُّهُ خيرٌ وحكمةٌ ومصلحةٌ وعَدْلٌ , والشرُّ ليسَ إليهِ) ([8])؛ (فإنَّ فِعْلَهُ سُبحانَهُ كُلَّهُ خيرٌ. وتعالى أنْ يفعلَ شرًّا بوجهٍ من الوجوهِ، فالشرُّ ليسَ إليهِ، والخيرُ هوَ الذي إليهِ، ولا يفعلُ إلاَّ خيراً، ولوْ شاءَ لفعلَ غيرَ ذلكَ، لكِنَّهُ تعالى تَنَـزَّهَ عنْ فعلِ ما لا ينبغي وإرادتِهِ ومشيئتِهِ، كما هوَ مُنَزَّهٌ عن الوصفِ بهِ والتسميَةِ بهِ) ([9]).

[فصلٌ]:
(قالَ اللهُ تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمرانَ: 26].
فصَدَّرَ الآيَةَ سُبحانَهُ بتفرُّدِهِ بالملكِ كُلِّهِ، وأنَّهُ هوَ سُبحانَهُ الذي يُؤْتِيهِ مَنْ يشاءُ لا غيرُهُ.
فالأوَّلُ: تفرُّدُهُ بالملكِ.
والثاني: تفرُّدُهُ بالتصرُّفِ فيهِ، وأنَّهُ سُبحانَهُ هوَ الذي يُعِزُّ مَنْ يشاءُ بما يشاءُ منْ أنواعِ العزِّ، ويُذِلُّ مَنْ يشاءُ بسَلْبِ ذلكَ العزِّ عنهُ، وأنَّ الخيرَ كُلَّهُ بيدَيْهِ لـيسَ لأحـدٍ معَهُ منهُ شيءٌ.
ثمَّ ختَمَها بقولِهِ: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)}، فتناوَلَت الآيَةُ ملكَهُ وحدَهُ، وتصرُّفَهُ، وعمومَ قدرتِهِ، وتضمَّنَتْ أنَّ هذهِ التصرُّفاتِ كلَّها بيدِهِ، وأنَّها كلَّها خيرٌ، فسَلْبُهُ الملكَ عمَّنْ يشاءُ وإذلالُهُ مَنْ يشاءُ خيرٌ، وإنْ كانَ شرًّا بالنسبةِ إلى المسلوبِ الذليلِ، فإنَّ هذا التصرُّفَ دائرٌ بينَ العَدْلِ والفضلِ والحكمةِ والمصلحةِ لا يخْرُجُ عنْ ذلكَ. وهذا كلُّهُ خيرٌ يُحْمَدُ عليهِ الربُّ ويُثْنَى عليهِ بهِ كما يُحْمَدُ ويُثْنَى عليهِ بتنـزيهِهِ عن الشرِّ، وأنَّهُ ليسَ إليهِ، كما ثبتَ في صحيحِ مسلمٍ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ يُثْنِي على رَبِّهِ بذلكَ في دعاءِ الاستفتاحِ في قولِهِ: ((لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ)). (([فـَ]الخيرُ كلُّهُ من اللهِ... و[هوَ] موجَبُ أسمائِهِ وصفاتِهِ... والشرُّ لا يُضافُ إلى اللهِ إرادةً ولا محبَّةً ولا فعلاً ولا وصفاً ولا اسماً.
فإنَّهُ لا يريدُ إلاَّ الخيرَ، ولا يُحِبُّ إلاَّ الخيرَ، ولا يفعلُ الشرَّ ولا يُوصَفُ بهِ , ولا يُسَمَّى باسمِهِ))([10]). فتباركَ وتعالى عنْ نسبةِ الشرِّ إليهِ، بلْ كلُّ ما نُسِبَ إليهِ فهوَ خيرٌ، والشرُّ إنَّما صارَ شرًّا لانقطاعِ نسبتِهِ وإضافتِهِ إليهِ؛ فلوْ أُضِيفَ إليهِ لمْ يكُنْ شرًّا كما [سبقَ] بيانُهُ.
وهوَ سُبحانَهُ خالقُ الخيرِ والشرِّ؛ فالشرُّ في بعضِ مخلوقاتِهِ , لا في خلقِهِ وفِعْلِهِ. وَخَلْقُهُ وفِعْلُهُ وقضاؤُهُ وقَدَرُهُ خيرٌ كلُّهُ.
((فإنَّ الربَّ سُبحانَهُ لا يفعلُ سُوءاً قطُّ، كما لا يُوصَفُ بهِ ولا يُسَمَّى باسْمِهِ، بلْ فِعْلُهُ كلُّهُ حسَنٌ وخيرٌ وحكمةٌ، كما قالَ تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ}، وقالَ أعرفُ الخلقِ بهِ: ((وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)) )) ([11]).
ولهذا تَنَـزَّهَ سُبحانَهُ عن الظلمِ الذي حقيقَتُهُ وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِهِ كما تقدَّمَ؛ فلا يَضَعُ الأشياءَ إلاَّ في مواضِعِها اللائقةِ بها، وذلكَ خيرٌ كلُّهُ، والشرُّ وضعُ الشيءِ في غيرِ محلِّهِ؛ فإذا وُضِعَ في محلِّهِ لمْ يكُنْ شرًّا.
فَعُلِمَ أنَّ الشرَّ ليسَ إليهِ، وأسماؤُهُ الحسنى تشهدُ بذلكَ، فإنَّ منها القُدُّوسَ السلامَ العزيزَ الجبَّارَ المُتكبِّرَ.
فالقُدُّوسُ: المُنَزَّهُ منْ كلِّ شرٍّ ونقصٍ وعيبٍ، كما قالَ أهلُ التفسيرِ: هوَ الطاهرُ منْ كلِّ عيبٍ، المُنَـزَّهُ عمَّا لا يليقُ بِهِ…
وكذلكَ السَّلامُ: فإنَّهُ الذي سَلِمَ من العيوبِ والنقائصِ. ووصْفُهُ بالسلامِ أبلغُ في ذلكَ منْ وصْفِهِ بالسالمِ. ومنْ مُوجَباتِ وصْفِهِ بذلكَ سلامةُ خلقِهِ منْ ظلمِهِ لهم. فسَلِمَ سُبحانَهُ منْ إرادةِ الظلمِ والشرِّ، ومن التسميَةِ بهِ، ومنْ فعلِهِ، ومنْ نسبتِهِ إليهِ. فهوَ السلامُ منْ صفاتِ النقصِ وأفعالِ النقصِ وأسماءِ النقصِ، المُسَلِّمُ لخلْقِهِ من الظلمِ...
وكذلكَ الكبيرُ منْ أسمائِهِ والمُتكبِّرُ، قالَ قتادةُ وغيرُهُ: هوَ الذي تكبَّرَ عن السوءِ. وقالَ أيضاً: الذي تكَبَّرَ عن السيِّئاتِ. وقالَ مُقاتلٌ: المُتَعاظِمُ عنْ كلِّ سوءٍ. وقالَ أبو إسحاقَ: الذي يَكْبُرُ عنْ ظلمِ عبادِهِ.
وكذلكَ اسمُهُ ((العزيزُ)) الذي لهُ العِزَّةُ التامَّةُ. ومنْ تمامِ عزَّتِهِ براءَتُهُ منْ كلِّ سوءٍ وشرٍّ وعيبٍ؛ فإنَّ ذلكَ ينافي العِزَّةَ التامَّةَ.
وكذلكَ اسمُهُ ((العَلِيُّ)) الذي عَلا عنْ كلِّ عيبٍ وسوءٍ ونقصٍ. ومنْ كمالِ علُوِّهِ أنْ لا يكونَ فوقَهُ شيءٌ، بلْ يكونَ فوقَ كلِّ شيءٍ.
وكذلكَ اسمُهُ ((الحميدُ))، وهوَ الذي لهُ الحمدُ كلُّهُ. فكمالُ حمْدِهِ يُوجِبُ أنْ لا يُنْسَبَ إليهِ شرٌّ ولا سوءٌ ولا نقصٌ، لا في أسمائِهِ ولا في أفعالِهِ ولا في صفاتِهِ.
فأسماؤُهُ الحسنى تمْنَعُ نسبةَ الشرِّ والسوءِ والظلمِ إليهِ، معَ أنَّهُ سُبحانَهُ الخالقُ لكلِّ شيءٍ؛ فهوَ الخالقُ للعبادِ وأفعالِهم وحركاتِهم وأقوالِهم. والعبدُ إذا فعلَ القبيحَ المنهيَّ عنهُ كانَ قدْ فعلَ الشرَّ والسوءَ، والربُّ سُبحانَهُ هوَ الذي جعلَهُ فاعلاً لذلكَ.
فهوَ سُبحانَهُ بهذا الجعلِ قدْ وضعَ الشيءَ موضعَهُ لما لهُ في ذلكَ من الحكمةِ البالغةِ التي يُحمدُ عليها. فهوَ خيرٌ وحكمةٌ ومصلحةٌ، وإنْ كانَ وقوعُهُ من العبدِ عيباً ونقصاً وشرًّا.
وهذا أمرٌ معقولٌ في الشاهدِ، فإنَّ الصانعَ الخبيرَ إذا أخذَ الخشبةَ العوجاءَ والحجرَ المكسورَ واللَّبِنةَ الناقصةَ فوضعَ ذلكَ في موضعٍ يليقُ بهِ ويُناسبُهُ كانَ ذلكَ منهُ عَدْلاً وصواباً يُمدحُ بهِ، وإنْ كانَ في المحلِّ عَوَجٌ ونقصٌ وعيبٌ يُذَمُّ بهِ المحلُّ.
ومَنْ وضَعَ الخبائثَ في موضِعِها ومحَلِّها اللائقِ بها كانَ ذلكَ منهُ حكمةً وعَدْلاً وصواباً. وإنَّما السَّفَهُ والظلمُ أنْ يضَعَها في غيرِ موضِعِها. فمَنْ وضعَ العِمامةَ على الرأسِ، والنعلَ في الرجلِ، والكُحلَ في العينِ، والزُّبالةَ في الكُناسةِ، فقدْ وضعَ الشيءَ موضِعَهُ، ولمْ يظْلِم النعلَ والزُّبالةَ؛ إذْ هذا محلُّها.
ومِنْ أسمائِهِ سُبحانَهُ العَدْلُ والحكيمُ الذي لا يضعُ الشيءَ إلاَّ في موضعِهِ. فهوَ المحسنُ الجَوَادُ الحكيمُ العَدْلُ في كلِّ ما خلقَهُ، وفي كلِّ ما وضَعَهُ في محلِّهِ وهيَّأَهُ لَهُ) ([12]).

[فصْلٌ]:
([وهوَ] - سُبحانَهُ - عَدْلٌ... غيرُ ظالمٍ لعبْدِهِ، بلْ لا يخرجُ... عنْ مُوجَبِ العَدْلِ والإحسانِ؛ فإنَّ الظلمَ سببُهُ حاجةُ الظالمِ، أوْ جهلُهُ، أوْ سفَهُهُ، فيستحيلُ صدورُهُ ممَّنْ هوَ بكلِّ شيءٍ عليمٌ، ومَنْ هوَ غنيٌّ عنْ كلِّ شيءٍ، وكلُّ شيءٍ فقيرٌ إليهِ، ومَنْ هوَ أحكمُ الحاكمينَ، فلا تخْرُجُ ذَرَّةٌ منْ مقْدُورَاتِهِ عنْ حكمَتِهِ وحمْدِهِ، كما لمْ تخْرُجْ عنْ قُدرتِهِ ومشيئَتِهِ، فحكمَتُهُ نافذةٌ حيثُ نفَذَتْ مشيئتُهُ وقدرتُهُ، ولهذا قالَ نبيُّ اللهِ هودٌ صلَّى اللهُ على نبيِّنا وعليهِ وسلَّمَ، وقدْ خوَّفَهُ قومُهُ بآلهَتِهم: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 54-56]؛ أيْ: معَ كونِهِ سُبحانَهُ آخِذاً بنواصي خلْقِهِ وتصرِيفِهم كما يشاءُ، فهوَ على صراطٍ مستقيمٍ لا يتصرَّفُ فيهم إلاَّ بالعَدْلِ والحكمةِ والإحسانِ والرحمةِ) ([13]).
(وهوَ سُبحانَهُ أحقُّ مَنْ كانَ على صراطٍ مستقيمٍ؛ فإنَّ أقوالَهُ كلَّها صدقٌ ورَشَدٌ وهُدًى وعَدْلٌ وحكمةٌ، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]. وأفعالَهُ كلَّها مصالحُ وحكمٌ ورحمةٌ وعَدْلٌ وخيرٌ. فالشرُّ لا يدخلُ في أفعالِ مَنْ هوَ على الصراطِ المستقيمِ أوْ أقوالِهِ، وإنَّما يدخلُ في أفعالِ مَنْ خرجَ عنهُ وفي أقوالِهِ.
وفي دُعَائِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: ((لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُـلُّهُ بِيَدَيْكَ، وَالشَّـرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ))، ولا يُلْتَفَتُ إلى تفسيرِ مَنْ فسَّرَهُ بقولِهِ: والشرُّ لا يُتَقَرَّبُ بهِ إليكَ، أوْ لا يَصْعَدُ إليكَ؛ فإنَّ المعنى أَجَلُّ منْ ذلكَ وأكبرُ وأعظمُ قدراً؛ فإنَّ مَنْ أسماؤُهُ كلُّها حُسنى، وأوصافُهُ كلُّها كمالٌ، وأفعالُهُ كلُّها كمالٌ وأقوالُهُ كلُّها صدقٌ وعَدْلٌ، يستحيلُ دخولُ الشرِّ في أسمائِهِ أوْ أوصافِهِ أوْ أفعالِهِ أوْ أقوالِهِ.
فطابِقْ بينَ هذا المعنى وبينَ قوْلِهِ: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56]، وتأمَّلْ كيفَ ذكرَ هذا عَقِيبَ قولِهِ: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 56]؛ أيْ: هوَ ربِّي، فلا يُسْلِمُنِي ولا يُضَيِّعُنِي، وهوَ ربُّكُم، فلا يُسَلِّطُكم عَلَيَّ ولا يُمَكِّنُكُم منِّي؛ فإنَّ نواصيَكُم بيدِهِ، ولا تفعلونَ شيئاً بدُونِ مشيئتِهِ؛ فإنَّ ناصيَةَ كلِّ دابَّةٍ بيدِهِ، لا يمكِنُها أنْ تتحرَّكَ إلاَّ بإذْنِهِ، فهوَ المُتصرِّفُ فيها، ومعَ هذا، فهوَ في تصرُّفِهِ فيها وتحريكِهِ لها ونفوذِ قضائِهِ وقدرِهِ فيها: على صراطٍ مستقيمٍ، لا يفعلُ ما يفعلُ منْ ذلكَ إلاَّ بحكمةٍ وعَدْلٍ ومصلحةٍ، ولوْ سَلَّطَكم عَلَيَّ فلَهُ من الحكمةِ في ذلكَ ما لهُ الحمدُ عليهِ؛ لأنَّهُ تسليطُ مَنْ هوَ على صراطٍ مستقيمٍ، لا يظلمُ ولا يفعلُ شيئاً عبثاً بغيرِ حكمةٍ.
فهكذا تكونُ المعرفةُ باللهِ، لا معرفةُ القدريَّةِ المجوسيَّةِ، والقدريَّةِ الجبْريَّةِ، نُفاةِ الحِكَمِ والمصالحِ والتعليلِ. واللهُ الموفِّقُ سُبحانَهُ) ([14]).

[فصْلٌ]:
[وممَّا ينبغي أنْ يُعْلَمَ] (أنَّهُ يمتنعُ إطلاقُ إرادةِ الشرِّ عليهِ وفعلِهِ، نفياً وإثباتاً لما في إطلاقِ لفظِ الإرادةِ والفعلِ منْ إيهامِ المعنى الباطلِ، ونفيِ المعنى الصحيحِ؛ فإنَّ الإرادةَ تُطْلَقُ بمعنى المشيئةِ وبمعنى المحبَّةِ والرضا:
- فالأوَّلُ: كقولِهِ: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، وقولِهِ: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام: 125]، وقولِهِ: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء: 16].
- والثانِي: كقولِهِ: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27]، وقولِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: 185].
فالإرادةُ بالمعنى الأوَّلِ تستلزمُ وقوعَ المرادِ، ولا تستلزمُ محبَّتَهُ والرضا بهِ.
وبالمعنى الثاني لا تستلزمُ وقوعَ المرادِ وتستلزمُ محبَّتَهُ؛ فإنَّها لا تنقسمُ، بلْ كلُّ ما أرادَهُ منْ أفعالِهِ فهوَ محبوبٌ مرضيٌّ لهُ. ففرقٌ بينَ إرادةِ أفعالِهِ وإرادةِ مفعولاتِهِ.
فإنَّ أفعالَهُ خيرٌ كلُّها، وعَدْلٌ ومصلحةٌ وحكمةٌ لا شرَّ فيها بوجهٍ من الوجوهِ. وأمَّا مفعولاتُهُ فهيَ موردُ الانقسامِ.
وهذا إنَّما يتحقَّقُ على قولِ أهلِ السُّنَّةِ: إنَّ الفعلَ غيرُ المفعولِ، والخلقَ غيرُ المخلوقِ، كما هوَ الموافقُ للعقولِ والفِطَرِ، واللُّغَةِ، ودلالةِ القرآنِ، والحديثِ، وإجماعِ أهلِ السُّنَّةِ، كما حَكَاهُ البغويُّ في شرحِ السُّنَّةِ عنهم.
وعلى هذا فها هنا إرادتانِ ومُرَادَانِ:
- إرادةُ: أنْ يفعلَ، ومُرَادُها: فعلُهُ القائمُ بهِ.
- وإرادةُ: أنْ يفعلَ عبدُهُ، ومرادُها: مفعولُهُ المنفصلُ عنهُ.
ولَيْسَا بمُتلازميْنِ؛ فقدْ يُريدُ منْ عبدِهِ أنْ يفعلَ، ولا يُريدُ منْ نفْسِهِ إعانتَهُ على الفعلِ وتوفيقَهُ لهُ وصرفَ موانِعِهِ عنهُ.
كما أرادَ منْ إبليسَ أنْ يسجدَ لآدمَ ولمْ يُرِدْ منْ نفسِهِ أنْ يُعينَهُ على السجودِ ويُوفِّقَهُ لهُ ويُثَبِّتَ قلْبَهُ عليهِ ويصْرِفَهُ إليهِ. ولوْ أرادَ ذلكَ منهُ لسجدَ لهُ لا محالةَ.
وقولُهُ: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)} [البروج: 16] إخبارٌ عنْ إرادَتِهِ لفعلِهِ، لا لأفعالِ عبيدِهِ. وهذا الفعلُ والإرادةُ لا ينقسمُ إلى خيرٍ وشرٍّ كما تقدَّمَ.
وعلى هذا فإذا قيلَ: هوَ مُرِيدٌ للشَّرِّ، أَوْهَمَ أنَّهُ مُحِبٌّ لهُ راضٍ بهِ، وإذا قيلَ: إنَّهُ لمْ يُرِدْهُ؛ أَوْهَمَ أنَّهُ لمْ يخْلُقْهُ ولا كوَّنَهُ، وكِلاهُما باطلٌ.
ولذلكَ إذا قيلَ: إنَّ الشرَّ فعلُهُ، أوْ إنَّهُ يفعلُ الشرَّ، أوْهَمَ أنَّ الشرَّ فعلُهُ القائمُ بهِ، وهذا مُحالٌ. وإذا قيلَ: لمْ يفْعَلْهُ أوْ ليسَ بفعلٍ لهُ، أوْهَمَ أنَّهُ لمْ يخْلُقْهُ ولمْ يُكَوِّنْهُ، وهذا مُحالٌ. فانظرْ ما في إطلاقِ هذهِ الألفاظِ في النفيِ والإثباتِ من الحقِّ والباطلِ الذي يتبَيَّنُ بالاستقصاءِ والتفصيلِ.
وإنَّ الصوابَ في هذا البابِ ما دلَّ عليهِ القرآنُ والسُّنَّةُ منْ أنَّ الشرَّ لا يُضافُ إلى الربِّ تعالى لا وصفاً ولا فعلاً، ولا يتسَمَّى باسمِهِ بوجهٍ من الوجوهِ، وإنَّما يدخلُ في مفعولاتِهِ بطريقِ العمومِ، كقولِهِ تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق: 1-2] فَـ ((مَا)) ها هنا موصولةٌ أوْ مصدرِيَّةٌ، والمصدرُ بمعنى المفعولِ؛ أيْ: منْ شرِّ الذي خلقَهُ، أوْ منْ شرِّ مخلوقِهِ. وقدْ يُحذفُ فاعلُهُ كقولِهِ حكايَةً عنْ مُؤمِنِي الجنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)} [الجن: 10].
وقدْ يُسْنَدُ إلى محلِّهِ القائمِ بهِ كقولِ إبراهيمَ الخليلِ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} [الشعراء: 78-80]، وقولِ الخَضِرِ: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، وقال في بُلوغِ الغُلامَيْنِ: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82].
وقدْ جمعَ الأنواعَ الثلاثةَ في الفاتحةِ في قولِهِ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 7].
واللهُ تعالى إنَّما نَسَبَ إلى نفسِهِ الخيرَ دونَ الشرِّ فقالَ تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)}[آل عمرانَ: 26].
وأخطأَ مَنْ قالَ: المعنى بيدِكَ الخيرُ والشرُّ، لثلاثةِ أوجهٍ:
أحدُها: أنَّهُ ليسَ في اللفظِ ما يدُلُّ على إرادةِ هذا المحذوفِ. بلْ تركَ ذكرَهُ قصداً أوْ بياناً أنَّهُ ليسَ بمرادٍ.
الثاني: أنَّ الذي بيَدِ اللهِ تعالى نوعانِ؛ فضلٌ وعَدْلٌ، كما في الحديثِ الصحيحِ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((يَمِينُ اللهِ مَلأَى لا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ الْخَلْقَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ، وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الْقِسْطُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ)) ([15]).
فالفضلُ لإحدَى اليدَيْنِ والعَدْلُ للأُخْرَى، وكلاهُما خيرٌ لا شرَّ فيهِ بوجهٍ.
الثالثُ: أنَّ قولَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ ))، كالتفسيرِ للآيَةِ. ففرقٌ بينَ الخيرِ والشرِّ، وجَعْلِ أحدِهما في يدَي الربِّ سُبحانَهُ، وقطْعِ إضافةِ الآخرِ إليهِ معَ إثباتِ عمومِ خلقِهِ لكلِّ شيءٍ)([16])
).[المرتبع الأسنى: ؟؟]


([1]) طريقُ الهِجرتَينِ (119).
([2]) رَوْضَةُ المُحِبِّينَ (81).
([3]) الصَّواعِقُ المُرْسَلَةُ (1443).
([4]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/81).
([5]) إِعْلامُ المُوَقِّعِينَ (3/186).
([6]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/129).
([7]) سَبَقَ تَخْرِيجُهُ ص 141.
([8]) بَدَائِعُ الفَوائدِ (2/210-215).
([9]) شِفَاءُ العَلِيلِ (1/345).
([10]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/36-37).
([11]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/42).
([12]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/63-67).
وقالَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- في طريقِ الهجرتينِ (97): (وإنَّما يَتَبَيَّنُ هذا ببيانِ وجودِ الحكمةِ في كلِّ ما خلقَهُ اللهُ وأمرَ به، وبيانِ أنه كلُّه خيرٌ مِن جهةِ إضافتِهِ إليه سبحانَهُ، وأنه من تلك الإضافةِ خيرٌ وحكمةٌ، وأنَّ جهةَ الشرِّ منه من جهةِ إضافتِهِ إلى العبدِ كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ في دعاءِ الاستفتاحِ: ((لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ ، والخيرُ في يَدَيْكَ والشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)) فهذا النفيُ يَقْتَضِي امتناعَ إضافةِ الشرِّ إليه تعالى بوجهٍ، فلا يُضافُ إلى ذاتِه ولا صفاتِهِ ولا أسمائِه ولا أفعالِه ، فإنَّ ذَاتَهُ تعالى مُنزَّهَةٌ عن كلِّ شرٍّ، وصفاتِهِ كذلك ، إذ كُلُّهَا صِفاتُ كَمالٍ ونُعوتُ جلالٍ لا نَقْصَ فيها بوجهٍ من الوجوهِ، وأسماؤُه كُلُّها حُسْنَى ليس فيها اسمُ ذمٍّ ولا عيبٍ، وأفعالُه كُلُّها حكمةٌ ورَحمةٌ ومَصلحةٌ وإحسانٌ وعدلٌ لا تَخْرُجُ عن ذلك البتةَ، وهو المحمودُ على ذلك كلِّهِ، فيستحيلُ إضافةُ الشرِّ إليه).
([13]) زادُ المَعادِ (4/207).
([14]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (1/44-45).
([15]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 52.
([16]) شِفَاءُ العَلِيلِ ( 2/260-262).
وقال -رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- في القصيدةِ النُّونِيَّةِ (135-137) في مَعْرِضِ بيانِ أدلةِ عُلوِّ اللهِ تعالَى على مخلوقاتِهِ:

هَذَا وثَامِنُ عَشْرِهَا تَنْزِيهُهُ = سُبْحَانَهُ عَنْ مُوجِبِ النُّقْصَانِ
وَعَنِ الْعُيُوبِ وَمُوجَبِ التَّمْثِيلِ وَالتَّـ = شْبِيهِ جَلَّ اللهُ ذُو السُّلطانِ
وَلِذَاكَ نَزَّهَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ = عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ ثَانِ
أَوْ أَنْ يَكُونَ لَهُ ظَهِيرٌ فِي الْوَرَى = سُبْحَانَهُ عَنْ إِفْكِ ذِي بُهْتَانِ
أَوْ أَنْ يُوَالِيَ خَلْقَهُ سُبْحَانَهُ = مِنْ حَاجَةٍ أَوْ ذِلَّةٍ وَهَوَانِ
أَوْ أَنْ يَكُونَ لَدَيْهِ أَصْلاً شَافِعٌ = إِلاَّ بِإِذْنِ الْوَاحِدِ المَنَّانِ
وَكَذَاكَ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ وَالِدٍ = وَكَذَاكَ عَنْ وَلَدٍ هُمَا نَسَبَانِ
وَكَذَاكَ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ زَوْجَةٍ = وَكَذَاكَ عَنْ كَفِّ يَكُونُ مُدانِي
وَلَقَدْ أَتَى التَّنْزِيهُ عَمَّا لَمْ يَقُلْ = كَيْ لا يَدُورَ بِخَاطِرِ الإِنْسَانِ
فَانْظُرْ إِلَى التَّنْزِيهِ عَنْ طُعْمٍ وَلَمْ = يُنْسَبْ إِلَيْهِ قَطُّ مِنْ إِنْسَانِ
وَكَذَلِكَ التَّنْزِيهُ عَنْ مَوْتٍ وَعَنْ = نَوْمٍ وَعَنْ سِنَةٍ وَعَنْ غَشَيَانِ
وَكَذَلِكَ التَّنْزِيهُ عَنْ نِسيَانِهِ = وَالرَّبُّ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى نِسْيَانِ
وَكَذَلِكَ التَّنْزِيهُ عَنْ ظُلْمٍ وَفِي الْـ = أَفْعَالِ عَنْ عَبَثٍ وَعَنْ بُطْلانِ
وَكَذَلِكَ التَّنْزِيهُ عَنْ تَعَبٍ وَعَنْ = عَجْزٍ يُنافِي قُدْرَةَ الرَّحْمَنِ
وَلَقَدْ حَكَى الرَّحْمَنُ قَوْلاً قَالَهُ = فِنْحَاصُ ذُو الْبُهْتَانِ وَالْكُفْرَانِ
إِنَّ الإِلَهَ هُوَ الْفَقِيرُ وَنَحْنُ أَصْـ = حَابُ الْغِنَى ذُو الوَجْدِ وَالإِمْكَانِ
وَلِذَاكَ أَضْحَى رَبُّنَا مُسْتَقْرِضًا = أَمْوَالَنَا سُبْحَانَ ذِي الإِحْسَانِ
وَحَكَى مَقَالَةَ قَائِلٍ مِنْ قَوْمِهِ = أَنَّ الْعُزَيْرَ ابْنٌ مِنَ الرَّحْمَنِ
هَذَا وَمَا الْقَوْلانِ قَطُّ مَقَالَةٌ = مَنْصُورَةٌ فِي مَوْضِعٍ وزَمَانِ
لَكِنْ مَقَالَةُ كَوْنِهِ فَوْقَ الْوَرَى = وَالْعَرْشِ وَهْوَ مُبَايِنُ الأَكْوَانِ
قَدْ طَبَّقَتْ شَرْقَ الْبِلادِ وَغَرْبَهَا = وَغَدَتْ مُقَرَّرَةً لِذِي الأَذْهَانِ
فَلأَيِّ شَيْءٍ لَمْ يُنَزِّهْ نَفْسَهُ = سُبْحَانَهُ فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ
عَنْ ذِي الْمَقَالَةِ مَعْ تَفَاقُمِ أَمْرِهَا = وَظُهُورِهَا فِي سَائِرِ الأَدْيَانِ
بَلْ دَائِمًا يُبْدِي لَنَا إِثْبَاتَهَا = وَيُعِيدُهُ بِأَدِلَّةِ التِّبْيَانِ


رد مع اقتباس