عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 22 ذو الحجة 1434هـ/26-10-2013م, 06:23 PM
أم أسماء باقيس أم أسماء باقيس غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
المشاركات: 529
افتراضي

مناظرة شيخٍ من أهل أذنة بحضرة الواثق، ورجوع الواثق عن مذهبه
....
قال أبو بكر محمد بن الحسين الآجُرِّيُّ (360هـ): ( - حدثنا أبو عبد الله جعفر بن إدريس القزويني قال: حدثنا أحمد بن الممتنع بن عبيد الله القرشي التيمي قال: أنا أبو الفضل صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور الهاشمي وكان من وجوه بني هاشم وأهل الجلالة، والشأن منهم قال: حضرت المهتدي بالله أمير المؤمنين، وقد جلس ينظر في أمور المسلمين في دار العامة، فنظرت إلى قصص الناس تقرأ عليه من أولها إلى آخرها فيأمر بالتوقيع فيها وإنشاء الكتب لأصحابها، ويختم ويدفع إلى صاحبه، بين يديه، فسرني ذلك، وجعلت أنظر إليه، ففطن ونظر إلي، فغضضت عنه حتى كان ذلك مني ومنه مرارا ثلاثا، وإذا نظر غضضت، وإذا اشتغل نظرت، فقال لي: يا صالح، فقلت: لبيك يا أمير المؤمنين، فقمت قائما، فقال: في نفسك منا شيء يجب أن تقوله؟ أو قال: تريد أن تقوله؟
فقلت: نعم، يا سيدي يا أمير المؤمنين، قال لي: عد إلى موضعك، فعدت، وعاد في النظر، حتى إذا قام قال للحاجب: لا يبرح صالح، فانصرف الناس ثم أذن لي، وقد أهمتني نفسي فدخلت فدعوت له، فقال لي: اجلس، فجلست، فقال: يا صالح، تقول لي، ما دار في نفسك، أو أقول أنا: ما دار في نفسي أنه دار في نفسك؟
قلت: يا أمير المؤمنين، ما تعزم عليه، وما تأمر به.
فقال: وأقول: كأني بك وقد استحسنت ما رأيت منا، فقلت: أي خليفة خليفتنا، إن لم يكن يقول: القرآن مخلوق؟
فورد على قلبي أمر عظيم، وأهمتني نفسي، ثم قلت: يا نفس، هل تموتين إلا مرة؟ وهل تموتين قبل أجلك؟ وهل يجوز الكذب في جد أو هزل؟ فقلت: والله يا أمير المؤمنين، وما دار في نفسي إلا ما قلت، ثم أطرق مليا ، ثم قال لي: ويحك، اسمع مني ما أقول، فوالله لتسمعن مني الحق، فسري عني فقلت: يا سيدي ومن أولى بقول الحق منك، وأنت خليفة رب العالمين، وابن عم سيد المرسلين، من الأولين والآخرين، فقال لي: ما زلت أقول: إن القرآن مخلوق صدرا من خلافة الواثق، حتى أقدم علينا أحمد بن أبي دؤاد شيخا من أهل الشام من أهل أذنة فأدخل الشيخ على الواثق مقيدا، وهو جميل الوجه تام القامة، حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيى منه، ورق له، فما زال يدنيه ويقربه، حتى قرب منه، فسلم الشيخ فأحسن السلام، ودعا فأبلغ الدعاء، وأوجز، فقال له الواثق اجلس ثم قال له: يا شيخ، ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، ابن أبي دؤاد يقل ويضيق، ويضعف عن المناظرة.
فغضب الواثق، وعاد مكان الرأفة له غضبا عليه، فقال: أبو عبد الله بن أبي دؤاد يصبو ويقل ويضعف عن مناظرتك أنت؟
فقال له الشيخ: هون عليك يا أمير المؤمنين ما بك وائذن لي في مناظرته.
فقال الواثق: ما دعوتك إلا للمناظرة.
فقال الشيخ: يا أحمد بن أبي دؤاد، إلى ما دعوت الناس ودعوتني إليه؟
فقال: إلى أن تقول: القرآن مخلوق؛ لأن كل شيء دون الله مخلوق
فقال الشيخ: إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تحفظ علي وعليه ما نقول.
قال: أفعل.
قال الشيخ: أخبرني يا أحمد عن مقالتك هذه، أواجبة داخلة في عقد الدين، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه ما قلت؟
قال: نعم
قال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله تعالى إلى عباده، هل ستر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما أمر الله تعالى به في دينه؟
قال: لا
قال الشيخ: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة إلى مقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤاد.
فقال الشيخ: تكلم فسكت، فالتفت الشيخ إلى الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين، واحدة.
فقال الواثق: واحدة.
فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن الله تعالى، حين أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا} أكان الله تعالى الصادق في إكمال دينه، أم أنت الصادق في نقصانه، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه بمقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤاد
فقال الشيخ: أجب يا أحمد، فلم يجبه، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، اثنتان.
فقال الواثق: اثنتان.
فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه، أعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها؟
قال ابن أبي دؤاد: علمها
قال الشيخ: فدعا الناس إليها؟ فسكت ابن أبي دؤاد فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، ثلاث.
فقال الواثق: ثلاث.
فقال الشيخ: يا أحمد، فاتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ علمها كما زعمت، ولم يطالب أمته بها؟
قال: نعم.
قال الشيخ: واتسع لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم؟
فقال ابن أبي دؤاد: نعم.
فأعرض الشيخ عنه، وأقبل على الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قدمت لك القول أن أحمد يصبو ويقل ويضعف عن المناظرة يا أمير المؤمنين، إن لم يتسع لك الإمساك عن هذه المقالة، ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فلا وسع الله على من لم يتسع له ما اتسع لهم من ذلك
فقال الواثق: نعم إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فلا وسع الله علينا، اقطعوا قيد الشيخ.
فلما قطع ضرب الشيخ بيده إلى القيد ليأخذه فجاذبه الحداد عليه، فقال الواثق: دع الشيخ ليأخذه، فأخذه الشيخ فوضعه في كمه، فقال الواثق: لم جاذبت عليه؟
قال الشيخ: لأني نويت أن أتقدم إلى من أوصي إليه إذا مت أن يجعله بيني وبين كفني، حتى أخاصم به هذا الظالم عند الله تعالى يوم القيامة، فأقول: يا رب، سل عبدك هذا لم قيدني وروع أهلي وولدي وإخواني بلا حق وأوجب ذلك علي؟
وبكى الشيخ فبكى الواثق وبكينا، ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وسعة مما ناله فقال الشيخ: والله يا أمير المؤمنين، لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كنت رجلا من أهله.
فقال الواثق: لي إليك حاجة.
فقال الشيخ: إن كانت ممكنة فعلت.
فقال الواثق: تقيم فينا فينتفع بك فتياننا.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم أنفع لك من مقامي عليك، ولأخبرك بما في ذلك: أصير إلى أهلي وولدي وأكف دعاءهم عليك، فقد خلفتهم على ذلك.
فقال له الواثق: فتقبل منا صلة ما تستعين بها على دهرك.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين لا تحل لي، أنا عنها غني، وذو مرة سوي.
قال: فسل حاجتك.
قال: أو تقضيها يا أمير المؤمنين؟
قال: نعم.
قال: فخل سبيلي إلى الثغر الساعة، وتأذن لي.
قال: قد أذنت لك، فسلم الشيخ، وخرج.
قال صالح: قال المهتدي بالله رحمة الله عليه: فرجعت عن هذه المقالة منذ ذلك اليوم، وأظن الواثق بالله كان رجع عنها من ذلك الوقت. ). [الشريعة للآجري: ؟؟]
قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): (باب ذكر محنة شيخٍ من أهل أذنة بحضرة الواثق، ورجوع الواثق عن مذهبه
- حدّثنا أبو الحسن أحمد بن مطرّفٍ القاضي البستيّ، وحدّثني أبو صالح بن ثابتٍ، وأخبرني أبو بكرٍ محمّد بن الحسن، قالوا: حدّثنا أبو عبد اللّه جعفر بن إدريس القزوينيّ، قال: حدّثنا أحمد بن الممتنع بن عبد اللّه القرشيّ التّيميّ، قال: أخبرنا أبو الفضل صالح بن عليّ بن يعقوب بن المنصور الهاشميّ، وكان من وجوه بني هاشمٍ وأهل الجلالة والسّنّ منهم، قال: حضرت المهتدي باللّه أمير المؤمنين رحمة اللّه عليه وقد جلس ينظر في أمور المسلمين في دار العامّة، فنظرت إلى قصص النّاس تقرأ عليه من أوّلها إلى آخرها فيأمرنا بالتّوقيع فيها وإنشاء الكتب لأصحابها، وتختم وتدفع إلى صاحبه بين يديه، فيسرّني ذلك، وجعلت أنظر إليه ففطن ونظر إليّ، فغضضت عنه حتّى كان ذلك منّي ومنه مرارًا ثلاثًا، إذا نظر إليّ غضضت وإذا اشتغل نظرت، فقال لي: يا صالح قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين، وقمت قائمًا، فقال: في نفسك منّا شيءٌ تحبّ أن تقوله، أو قال: تحبّ أن تقوله؟ قلت: نعم يا سيّدي يا أمير المؤمنين، فقال: عد إلى موضعك، فعدت. وعاد في النّظر حتّى إذا قام قال للحاجب: لا يبرح صالحٌ فانصرف النّاس، ثمّ أذن لي وقد همّتني نفسي، فدخلت دعوت له، فقال لي: «اجلس» فجلست، فقال: «يا صالح تقول لي ما دار في نفسك أو أقول أنا ما دار في نفسك أنّه دار في نفسك؟»
قلت: يا أمير المؤمنين ما تعزم عليه وما تأمر به؟ فقال: «وأقول أنا، كأنّي بك وقد استحسنت ما رأيت منّا»، فقلت: أيّ خليفةٍ خليفتنا إن لم يكن يقول: القرآن مخلوقٌ، فورد على قلبي أمرٌ عظيمٌ، وهمّتني نفسي، ثمّ قلت: يا نفس هل تموتين إلّا مرّةً واحدةً، وهل تموتين قبل أجلك، وهل يجوز الكذب في جدٍّ أو هزلٍ، فقلت: واللّه يا أمير المؤمنين ما دار في نفسي إلّا ما قلت، أطرق مليًّا، ثمّ قال: " ويحك، اسمع منّي ما أقول لك، فواللّه لتسمعنّ الحقّ، فسرّي عنّي وقلت: يا سيّدي ومن أولى بالحقّ منك وأنت خليفة ربّ العالمين، وابن عمّ سيّد المرسلين من الأوّلين والآخرين؟ فقال لي: " ما زلت أقول إنّ القرآن مخلوقٌ صدرًا من خلافة الواثق حتّى أقدم علينا ابن أبي دؤادٍ شيخًا من أهل الشّام من أهل أذنة، فأدخل الشّيخ على الواثق وهو جميل الوجه، تامّ القامة، حسن الشّيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه ورقّ له، فما زال يدنيه ويقرّبه حتّى قرّب منه، فسلّم الشّيخ فأحسن السّلام، ودعا فأبلغ وأوجز، فقال له الواثق: اجلس، ثمّ قال له: «يا شيخ ناظر ابن أبي دؤادٍ على ما يناظرك عليه»،
فقال الشّيخ: يا أمير المؤمنين ابن أبي دؤادٍ يقلّ ويضعف عن المناظرة.
فغضب الواثق وعاد مكان الرّقة له غضبًا عليه، فقال أبو عبد اللّه: ابن أبي دؤادٍ يصبو، ويقلّ ويضعف عن مناظرتك أنت؟
فقال الشّيخ: هوّن عليك يا أمير المؤمنين ما بك، وأذن لي في مناظرته، فقال الواثق: ما دعوتك إلّا لمناظرته.
فقال الشّيخ: يا أحمد إلى ما دعوت النّاس ودعوتني إليه؟ فقال: إلى أن تقول: القرآن مخلوقٌ.
فقال الشّيخ: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تحفظ عليّ وعليه ما نقول. قال: أفعل.
فقال الشّيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه، واجبةٌ داخلةٌ في عقدة الدّين، فلا يكون الدّين كاملًا حتّى يقال فيه ما قلت؟
قال الشّيخ: يا أحمد أخبرني عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين بعثه اللّه عزّ وجلّ إلى عباده، هل ستر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ممّا أمره اللّه به في دينه؟ قال: لا.
قال الشّيخ: فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الأمّة إلى مقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤادٍ.
فقال الشّيخ: تكلّم. فسكت، فالتفت الشّيخ إلى الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين واحدةٌ. فقال الواثق: واحدةٌ.
فقال الشّيخ: يا أحمد أخبرني عن اللّه سبحانه حين أنزل القرآن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا} [المائدة: 3]، كان اللّه عزّ وجلّ الصّادق في إكمال دينه أم أنت الصّادق في نقصانه، فلا يكون الدّين كاملًا حتّى يقال فيه بمقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤادٍ، فقال الشّيخ: أجب يا أحمد، فلم يجبه. فقال الشّيخ: يا أمير المؤمنين اثنتان. فقال الواثق: اثنتان.
فقال الشّيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه، علمها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أم جهلها؟ فقال ابن أبي دؤادٍ: علمها. قال الشّيخ: فدعا النّاس إليها؟ فسكت ابن أبي دؤادٍ، فقال الشّيخ: يا أمير المؤمنين ثلاثٌ. فقال الواثق: ثلاثٌ.

فقال الشّيخ: يا أحمد فاتّسع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذ علمها كما زعمت، ولم يطالب أمّته بها؟ قال: نعم.
قال الشّيخ: واتّسع لأبي بكرٍ الصّدّيق، وعمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، وعليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنهم؟ فقال ابن أبي دؤادٍ: نعم.
فأعرض الشّيخ عنه، وأقبل على الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين قدّمت القول أنّ أحمد يصبو ويقلّ ويضعف عن المناظرة، يا أمير المؤمنين إن لم يتّسع لك من الإمساك عن هذه المقالة ما اتّسع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولأبي بكرٍ وعمر وعثمان رضي اللّه عنهم، فلا وسّع اللّه على من لم يتّسع له ما اتّسع لهم من ذلك.
فقال الواثق: نعم، إن لم يتّسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتّسع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولأبي بكرٍ وعمر وعثمان وعليٍّ، فلا وسّع اللّه علينا، اقطعوا قيد هذا الشّيخ.
لمّا قطع ضرب الشّيخ بيده إلى القيد ليأخذه، فجاذبه الحدّاد عليه، فقال الواثق: دع الشّيخ ليأخذه، فأخذه الشّيخ فوضعه في كمّه، فقال الواثق: لم جاذبت عليه؟
قال الشّيخ: لأنّي نويت أن أتقدّم إلى من أوصي إليه إذا أنا متّ أن يجعله بيني وبين كفني حتّى أخاصم به هذا الظّالم عند اللّه يوم القيامة، وأقول: يا ربّ سل عبدك هذا لم قيّدني؟ وروّع أهلي وولدي وإخواني بلا حقٍّ أوجب ذلك عليّ؟ .
وبكى الشّيخ، فبكى الواثق فبكينا، ثمّ سأله الواثق أن يجعله في حلٍّ وسعةٍ ممّا ناله، فقال الشّيخ: واللّه يا أمير المؤمنين لقد جعلتك في حلٍّ وسعةٍ من أوّل يومٍ إكرامًا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، إذ كنت رجلًا من أهله.
فقال الواثق: لي إليك حاجةٌ، فقال الشّيخ: إن كانت ممكنةً فعلت.
فقال الواثق: تقيم قبلنا، فينتفع بك فتياننا.
فقال الشّيخ: يا أمير المؤمنين إنّ ردّك إيّاي إلى الموضع الّذي أخرجني منه هذا الظّالم أنفع لك من مقامي عليك، وأخبرك بما في ذلك أصير إلى أهلي وولدي، فأكفّ دعاءهم، فقد خلّفتهم على ذلك.
فقال الواثق: فتقبّل منّا صلةً تستعين بها على دهرك. فقال الشّيخ: يا أمير المؤمنين لا تحلّ لي أنا عنها غنّيٌّ، وذو مرّةٍ سويٌّ، قال: فاسأل حاجتك.
قال: أوتقضيها يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم.
قال: تخلّي سبيلي السّاعة وتأذن لي فيه. قال: قد أذنت لك.
فسلّم عليه الشّيخ وخرج. قال صالحٌ: قال المهتدي باللّه: فرجعت عن هذه المقالة من ذلك اليوم، وأظنّ الواثق باللّه كان رجع عنها من ذلك الوقت.). [الإبانة الكبرى: 6/ 269-274]
قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): (باب ذكر مناظرة هذا الشّيخ بحضرة الواثق نقلتها من كتب بعض شيوخ بلدتنا، وكتبتها من أصل كتابه، وهي أتمّ من هذه وأشبع في حجاجها، فأعدتها لموضع الزّيادة.
قال الشّيخ أبو عبد اللّه: رأيت في كتب بعض شيوخنا بخطّه:
- حدّثنا أبو موسى محمّد بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن عيسى بن منصورٍ، قال: أخبرنا صالح بن عليّ بن يعقوب بن المنصور، قال: " كنت يومًا بين يدي أمير المؤمنين المهتدي باللّه رحمة اللّه عليه، وقد جلس للنّظر في المظالم للعامّة، فجعلت أنظر إليه، فذكر نحو القصّة الأولى أو شبيهًا بها حتّى بلغ منها إلى قوله: يا أحمد أخبرني عن اللّه عزّ وجلّ حين نزّل على رسوله في القرآن {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3]، وقلت أنت: الدّين لا يكون كاملًا حتّى يقال بمقالتك، أكان اللّه الصّادق في إكماله أم أنت الصّادق في نقصانه؟ فسكت أحمد، فقال الشّيخ: يا أمير المؤمنين هذه ثنتان.
ثمّ قال الشّيخ: «يا أحمد الكلمة الّتي يكوّن اللّه تعالى بها الأشياء من أيّ شيءٍ خلقها؟» فسكت أحمد، فقال الشّيخ: «ثلاثٌ يا أمير المؤمنين»
ثمّ قال الشّيخ: «يا أحمد أخبرني حيث كان اللّه في وحدانيّته قبل أن يخلق الخلق كان تامًّا أو ناقصًا؟» قال: بل تامًّا.
قال: «فكيف يكون تامًّا من لا كلام له»، فسكت أحمد. فقال: أربعٌ يا أمير المؤمنين.
قال الشّيخ: «يا أحمد أكان اللّه عالمًا تامّ العلم، أم كان جاهلًا؟» فسكت أحمد. فقال: خمسٌ يا أمير المؤمنين.
ثمّ قال الشّيخ: " يا أحمد، قوله {ولكن حقّ القول منّي} [السجدة: 13] الكلمة منه أم خلقها من غيره؟ " فأمسك أحمد، فقال: ستٌّ يا أمير المؤمنين " وذكر من القصّة في القيد وغيرها شبيهًا بما مضى في الخبر الأوّل وزاد فيه:
" قال الواثق: يا شيخ زد أحمد من هذه الحجج لعلّه يرجع عن هذه المقالة.
قال: يا أمير المؤمنين عليكم نزل العلم، ومنكم اقتبسناه. ثمّ قال الشّيخ: يا أحمد قد علمنا وعلمت أنّ اللّه عزّ وجلّ قال {يا أيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته واللّه يعصمك من النّاس} [المائدة: 67]، أليس ما أنزل اللّه على رسوله؟ قال: نعم.
قال: فهل تقدر أن تقول: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بلّغنا هذا الّذي تدعونا إليه؟ أم هذه المقالة في كتاب اللّه أو سنّة نبيّه حتّى نتابعك عليها، وإن قلت: إنّه لم يبلّغنا، فقد نسبت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى التّقصير في أمر اللّه، وأنّه كتم أمرًا أمره اللّه إبلاغنا إيّاه، فسكت أحمد فلم يجبه بشيءٍ.

قال الشّيخ: يا أحمد قول اللّه عزّ وجلّ: يا موسى {إنّني أنا اللّه لا إله إلّا أنا فاعبدني} [طه: 14]، أفيجوز أن يكون هذا مخلوقًا؟ فسكت أحمد.
قال الواثق: يا شيخ سلني حاجةً. قال: حاجتي أن تردّني السّاعة إلى منزلي الّذي أخرجت عنه، فأمر بردّه مكرمًا.
قال صالحٌ: فقال أمير المؤمنين المهتدي باللّه: فرجعت في ذلك اليوم عن تلك المقالة، ورجع أمير المؤمنين الواثق، ولم نسمعه يناظر في شيءٍ من ذلك القول حتّى مات ".). [الإبانة الكبرى: 6/ 275-277]
قال محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (وبإسنادنا إلى الخطيب: أخبرنا ابن رزقويه، أخبرنا أحمد بن سندي الحدّاد، أخبرنا أحمد بن الممتنع، أخبرنا صالح بن عليٍّ الهاشميّ، قال:
حضرت المهتدي بالله، وجلس لينظر في أمور المظلومين، فنظرت في القصص تقرأ عليه من أوّلها إلى آخرها، فيأمر بالتّوقيع فيها، وتحرّر، وتدفع إلى صاحبها، فيسرّني ذلك، فجعلت أنظر إليه ففطن، ونظر إليّ، فغضضت عنه، حتّى كان ذلك منّي ومنه مراراً، فقال: يا صالح.
قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين، ووثبت.
فقال: في نفسك شيءٌ تريد أن تقوله؟!
قلت: نعم.
فقال: عد إلى موضعك.
فلمّا قام، خلا بي، وقال: يا صالح، تقول لي ما دار في نفسك أو أقول أنا؟
قلت: يا أمير المؤمنين، ما تأمر؟
قال: أقول: إنّه دار في نفسك أنّك استحسنت ما رأيت منّا.
فقلت: أيّ خليفةٍ خليفتنا إن لم يكن يقول: القرآن مخلوقٌ.
فورد عليّ أمرٌ عظيمٌ، ثمّ قلت: يا نفس، هل تموتين قبل أجلك؟
فقلت: ما دار في نفسي إلاّ ما قلت.
فأطرق مليّاً، ثمّ قال: ويحك! اسمع، فو الله لتسمعنّ الحقّ.
فسرّي عنّي، فقلت: يا سيّدي، ومن أولى بقول الحقّ منك، وأنت خليفة ربّ العالمين.
قال: ما زلت أقول: إنّ القرآن مخلوقٌ صدراً من أيّام الواثق - قلت: كان صغيراً أيّام الواثق، والحكاية فمنكرةٌ -.
ثمّ قال: حتّى أقدم أحمد بن أبي دواد علينا شيخاً من أذنة، فأدخل على الواثق مقيّداً، فرأيته استحيا منه، ورقّ له، وقرّبه، فسلّم، ودعا، فقال: يا شيخ، ناظر ابن أبي دواد.
فقال: يا أمير المؤمنين، نصّبوا ابن أبي دواد، ويضعف عن المناظرة.
فغضب الواثق، وقال: أيضعف عن مناظرتك أنت؟
فقال: يا أمير المؤمنين، هوّن عليك، فائذن لي في مناظرته، فإن رأيت أن تحفظ عليّ وعليه.
قال: أفعل.
فقال الشّيخ: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه، هي مقالةٌ واجبةٌ داخلةٌ في عقد الدّين، فلا يكون الدّين كاملاً حتّى تقال فيه؟
قال: نعم.
قال: فأخبرني عن رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- حين بعث، هل ستر شيئاً ممّا أمره الله به من أمر دينهم؟
قال: لا.
قال: فدعا الأمّة إلى مقالتك هذه؟
فسكت، فالتفت الشّيخ إلى الواثق، وقال: يا أمير المؤمنين واحدةٌ. قال: نعم.
فقال الشّيخ: فأخبرني عن الله حين قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} [المائدة: 3]، هل كان الصّادق في إكمال دينه، أو أنت الصّادق في نقصانه حتّى يقال بمقالتك هذه؟
فسكت، فقال: أجب، فلم يجب.
فقال: يا أمير المؤمنين، اثنتان.
ثمّ قال: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك، أعلمها رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- أم لا؟
قال: علمها.
قال: فدعا النّاس إليها؟
فسكت.
فقال: يا أمير المؤمنين، ثلاثٌ.
ثمّ قال: يا أحمد، فاتّسع لرسول الله أن يعلمها وأمسك عنها كما زعمت، ولم يطالب أمّته بها؟
قال: نعم.
واتّسع ذلك لأبي بكرٍ وعمر؟
قال: نعم.
فأعرض الشّيخ، وقال: يا أمير المؤمنين، قد قدّمت أنّه يضعف عن المناظرة، إن لم يتّسع لنا الإمساك عنها، فلا وسّع الله على من لم يتّسع له ما اتّسع لهم.
فقال الواثق: نعم، اقطعوا قيد الشّيخ.
فلمّا قطع، ضرب بيده إلى القيد ليأخذه، فجاذبه الحدّاد عليه.
فقال الواثق: لم أخذته؟
قال: لأنّي نويت أن أوصي أن يجعل في كفني حتّى أخاصم به هذا الظالم غداً.
وبكى، فبكى الواثق وبكينا، ثمّ سأله الواثق أن يجعله في حلٍّ، فقال: لقد جعلتك في حلٍّ وسعةٍ من أوّل يومٍ إكراماً لرسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم-؛ لكونك من أهله.
فقال له: أقم قبلنا فننتفع بك، وتنتفع بنا.
قال: إنّ ردّك إيّاي إلى موضعي أنفع لك، أصير إلى أهلي وولدي، فأكفّ دعاءهم عليك، فقد خلّفتهم على ذلك.
قال: فتقبل منّا صلةً؟
قال: لا تحلّ لي، أنا عنها غنيٌّ.
قال المهتدي: فرجعت عن هذه المقالة، وأظنّ أنّ أبي رجع عنها منذ ذلك الوقت.
قال أحمد بن عبد الرّحمن الشّيرازيّ الحافظ: هذا الأذنيّ هو أبو عبد الرّحمن عبد الله بن محمّد بن إسحاق الأذرميّ .
قال إبراهيم نفطويه: حدّثني حامد بن العبّاس، عن رجلٍ، عن المهتدي:
أنّ الواثق مات وقد تاب عن القول بخلق القرآن.). [سير أعلام النبلاء: 11/ 313- 316]


رد مع اقتباس