عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 19 ربيع الثاني 1434هـ/1-03-2013م, 11:20 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي تفسير السلف

تفسير السلف

تفسير قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن الكلبي في قوله تعالى وعزرتموهم قال نصرتموهم). [تفسير عبد الرزاق: 1/185]

قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولقد أخذ اللّه ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا وقال اللّه إنّي معكم لئن أقمتم الصّلاة وآتيتم الزّكاة وآمنتم برسلي وعزّرتموهم وأقرضتم اللّه قرضًا حسنًا لأكفّرنّ عنكم سيّئاتكم ولأدخلنّكم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلّ سواء السّبيل}
وهذه الآية أنزلت إعلامًا من اللّه جلّ ثناؤه نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين به، أخلاق الّذين همّوا ببسط أيديهم إليهم من اليهود. كالّذي:.
- حدّثنا الحرث بن محمّدٍ، قال: حدّثنا عبد العزيز، قال: حدّثنا مباركٌ، عن الحسن، في قوله: {ولقد أخذ اللّه ميثاق بني إسرائيل} قال: اليهود من أهل الكتاب.
وأنّ الّذي همّوا به من الغدر ونقض العهد الّذي بينهم وبينه من صفاتهم وصفات أوائلهم وأخلاقهم وأخلاق أسلافهم قديمًا، واحتجاجًا لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم على اليهود بإطلاعه إيّاه على ما كان علمه عندهم دون العرب من خفيّ أمورهم ومكنون علومهم، وتوبيخًا لليهود في تماديهم في الغيّ، وإصرارهم على الكفر مع علمهم بخطإ ما هم عليهم مقيمون.
يقول اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم: لا تستعظموا أمر الّذين همّوا ببسط أيديهم إليكم من هؤلاء اليهود بما همّوا به لكم، ولا أمر الغدر الّذي حاولوه وأرادوه بكم، فإنّ ذلك من أخلاق أوائلهم وأسلافهم، لا يعدون أن يكونوا على منهاج أوّلهم وطريق قرطهم.
ثمّ ابتدأ الخبر عزّ ذكره عن بعض غدراتهم وخياناتهم وجراءتهم على ربّهم ونقضهم ميثاقهم الّذي واثقهم عليه بارئهم، مع نعمه الّتي خصّهم بها، وكراماته الّتي طوّقهم شكرها، فقال: ولقد أخذ اللّه ميثاق من سلف ممّن همّ ببسط يده إليكم من يهود بني إسرائيل يا معشر المؤمنين بالوفاء له بعهوده وطاعته فيما أمرهم ونهاهم كما:.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا آدم العسقلانيّ، قال: حدّثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، في قوله: {ولقد أخذ اللّه ميثاق بني إسرائيل} قال: أخذ اللّه مواثيقهم أن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره
{وبعثنا منهم} يعني بذلك: وبعثنا منهم اثني عشر كفيلاً، كفلوا عليهم بالوفاء للّه بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به، وفيما نهاهم عنه.
والنّقيب في كلام العرب، كالعريف على القوم، غير أنّه فوق العريف، يقال منه: نقب فلانٌ على بني فلانٍ فهو ينقب نقبًا، فإذا أريد أنّه لم يكن نقيبًا فصار نقيبًا، قيل: قد نقب فهو ينقب نقابةً، ومن العريف: عرف عليهم يعرف عرافةً. فأمّا المناكب فإنّهم كالأعوان يكونون مع العرفاء، واحدهم منكبٌ.
وكان بعض أهل العلم بالعربيّة يقول: هو الأمين الضّامن على القوم.
فأمّا أهل التّأويل فإنّهم قد اختلفوا بينهم في تأويله، فقال بعضهم: هو الشّاهد على قومه.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {ولقد أخذ اللّه ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا} من كلّ سبطٍ رجلٌ شاهدٌ على قومه.
وقال آخرون: النّقيب: الأمين.
ذكر من قال ذلك
- حدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، قال: النّقباء: الأمناء.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، مثله.
وإنّما كان اللّه أمر موسى نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم ببعثه النّقباء الاثني عشر من قومه بني إسرائيل إلى أرض الجبابرة بالشّام ليتجسّسوا لموسى أخبارهم إذ أراد هلاكهم، وأن يورث أرضهم وديارهم موسى وقومه، وأن يجعلها مساكن لبني إسرائيل بعد ما أنجاهم من فرعون وقومه، وأخرجهم من أرض مصر، فبعث موسى الّذين أمره اللّه ببعثهم إليها من النّقباء.
كما:.
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قال: أمر اللّه بني إسرائيل بالسّير إلى أريحاء، وهي أرض بيت المقدس، فساروا حتّى إذا كانوا قريبًا منهم بعث موسى اثني عشر نقيبًا من جميع أسباط بني إسرائيل، فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبابرة، فلقيهم رجلٌ من الجبّارين يقال له عاجٌ، فأخذ الاثني عشر فجعلهم في حجزته وعلى رأسه حملة حطبٍ، فانطلق بهم إلى امرأته، فقال: انظري إلى هؤلاء القوم الّذين يزعمون أنّهم يريدون أن يقاتلونا. فطرحهم بين يديها، فقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: بل خلّ عنهم حتّى يخبروا قومهم بما رأوا. ففعل ذلك. فلمّا خرج القوم، قال بعضهم لبعضٍ: يا قوم إنّكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم، ارتدّوا عن نبيّ اللّه عليه السّلام لكن اكتموه وأخبروا نبيّي اللّه، فيكونان هما يريان رأيهما، فأخذ بعضهم على بعضٍ الميثاق بذلك ليكتموه. ثمّ رجعوا فانطلق عشرةٌ منهم فنكثوا العهد، فجعل الرّجل يخبر أخاه وأباه بما رأى من عاجٍ، وكتم رجلان منهم، فأتوا موسى وهارون، فأخبروهما الخبر، فذلك حين يقول اللّه: {ولقد أخذ اللّه ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا}.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {اثني عشر نقيبًا} من كلّ سبطٍ من بني إسرائيل رجلٌ أرسلهم موسى إلى الجبّارين، فوجدوهم يدخل في كمّ أحدهم اثنان منهم يلقّيهما الفًّاء، ولا يحمل عنقود عنبهم إلاّ خمسة أنفسٍ بينهم في خشبةٍ، ويدخل في شطر الرّمّانة إذا نزع حبّها خمسة أنفسٍ أو أربعٌ. فرجع النّقباء كلٌّهم ينهى سبطه عن قتالهم إلاّ يوشع بن نونٍ وكلاب بن ياقنة يأمران الأسباط بقتال الجبابرة وبجهادهم، فعصوا هذين وأطاعوا الآخرين.
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ بنحوه، إلاّ أنّه قال: من بني إسرائيل رجالٌ، وقال أيضًا: يلقونهما.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: أمر موسى أن يسير، ببني إسرائيل إلى الأرض المقدّسة، وقال: إنّي قد كتبتها لكم دارًا وقرارًا ومنزلاً، فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدوّ، فإنّي ناصركم عليهم، وخذ من قومك اثني عشر نقيبًا من كلّ سبطٍ نقيبًا يكون على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به، وقل لهم إنّ اللّه يقول لكم: إنّي معكم {لئن أقمتم الصّلاة وآتيتم الزّكاة} إلى قوله: {فقد ضلّ سواء السّبيل}
وأخذ موسى منهم اثني عشر نقيبًا اختارهم من أسباطٍ كفلاء على قومهم بما هم فيه على الوفاء بعهده وميثاقه، وأخذ من كلّ سبطٍ منهم خيرهم وأوفاهم رجلاً. يقول اللّه عزّ وجلّ: {ولقد أخذ اللّه ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا} فسار بهم موسى إلى الأرض المقدّسة بأمر اللّه، حتّى إذا نزل التّيه بين مصر والشّام، وهي بلادٌ ليس فيها خمرٌ ولا ظلٌّ، دعا موسى ربّه حين آذاهم الحرّ، فظلّل عليهم بالغمام، ودعا لهم بالرّزق، فأنزل اللّه عليهم المنّ والسّلوى. وأمر اللّه موسى فقال: أرسل رجالاً يتجسّسون إلى أرض كنعان الّتي وهبت لبني إسرائيل، من كلّ سبطٍ رجلاً، فأرسل موسى الرّءوس كلّهم الّذين فيهم،فبعث الله جل وعز من برية فاران بكلام الله وهم رءوس بنى اسرائيل وهذه أسماء الرّهط الّذين بعث اللّه من بني إسرائيل إلى أرض الشّام، فيما يذكر أهل التّوراة ليجوسوها لبني إسرائيل: من سبط روبيل: شامون بن ركون، ومن سبط شمعون سافاط بن حريٍّ، ومن سبط يهوذا كالب بن يوقنا،
ومن سبط أبين يجائل بن يوسف، ومن سبط يوسف وهو سبط إفراييم يوشع بن نونٍ، ومن سبط بنيامين فلط بن دفون، ومن سبط زبالون حدى بن سوديٍّ، ومن سبط يوسف منشا بن يوسف حدّيّ بن سوسا، ومن سبط دان حملائل بن حملٍ، ومن سبط أشر سابور بن ملكيل، ومن سبط نفتالي بحر بن وقسي، ومن سبط دار حولايل بن منكد.
فهذه أسماء الّذين بعثهم موسى يتجسّسون له الأرض، ويومئذٍ سمّى هوشع بن نونٍ: يوشع بن نونٍ، فأرسلهم وقال لهم: ارتفعوا قبل الشّمس، فارقوا الجبل، وانظروا ما في الأرض، وما الشّعب الّذي يسكنونه، أقوياء هم أم ضعفاء؟ أقليلٌ هم أم هم كثيرٌ؟ وانظروا أرضهم الّتي يسكنون أسمينةٌ هي أم هزيلة ذات شجرٍام لا؟ اجتازوا واحملوا إلينا من ثمرة تلك الأرض. وكان في أوّل ما سمّى لهم من ذلك ثمرة العنب.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا} فهم من بني إسرائيل، بعثهم موسى لينظروا له إلى المدينة، فانطلقوا فنظروا إلى المدينة، فجاءوا بحبّةٍ من فاكهتهم وقر رجلٍ، فقالوا:ا قدّروا قوّة قومٍ وبأسهم هذه فاكهتهم. فعند ذلك فتنوا، فقالوا: لا نستطيع القتال {فاذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون}.
- حدّثت عن الحسين بن الفرج المروزيّ، قال: سمع أبا معاذٍ الفضل بن خالدٍ، يقول في قوله: {وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا} أمر اللّه بني إسرائيل أن يسيروا إلى الأرض المقدّسة مع نبيّهم موسى صلّى اللّه عليه وسلّم؛ فلمّا كانوا قريبًا من المدينة، قال لهم موسى: ادخلوها. فأبوا وجبنوا، وبعثوا اثني عشر نقيبًا لينظروا إليهم. فانطلقوا فنظروا، فجاءوا بحبّةٍ من فاكهتهم بوقر الرّجل، فقالوا: قدّروا قوّة قومٍ وبأسهم، هذه فاكهتهم. فعند ذلك قالوا لموسى: {اذهب أنت وربّك فقاتلا}). [جامع البيان: 8/234-241]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وقال اللّه إنّي معكم لئن أقمتم الصّلاة وآتيتم الزّكاة وآمنتم برسلي وعزّرتموهم وأقرضتم اللّه قرضًا حسنًا}.
يقول اللّه تعالى ذكره {وقال اللّه} لبني إسرائيل {إنّي معكم} يقول: إنّي ناصركم على عدوّكم وعدوّي الّذين أمرتكم بقتالهم إن قاتلتموهم ووفيتم بعهدي وميثاقي الّذي أخذته عليكم.
وفي الكلام محذوفٌ استغنى، بما ظهر من الكلام عمّا حذف منه، وذلك أنّ معنى الكلام: وقال اللّه لهم: إنّي معكم، فترك ذكر لهم، استغناءً بقوله: {ولقد أخذ اللّه ميثاق بني إسرائيل} إذ كان متقدّم الخبر عن قومٍ مسمّين بأعيانهم كان معلومًا أنّ سياق ما في الكلام من الخبر عنهم، إذ لم يكن الكلام مصروفًا عنهم إلى غيرهم.
ثمّ ابتدأ ربّنا جلّ ثناؤه القسم، فقال: قسمٌا {لئن أقمتم} معشر بني إسرائيل {الصّلاة وآتيتم الزّكاة} أي أعطيتموها من أمرتكم بإعطائها {وآمنتم برسلي} يقول: وصدّقتم بما آتاكم به رسلي من شرائع ديني.
وكان الرّبيع بن أنسٍ يقول: هذا خطابٌ من اللّه للنّقباء الاثني عشر.
- حدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ: أنّ موسى، صلّى اللّه عليه وسلّم قال للنّقباء الاثني عشر سيروا إليهم يعني إلى الجبّارين فحدّثوني حديثهم، وما أمرهم، ولا تخافوا إنّ اللّه معكم ما أقمتم الصّلاة وآتيتم الزّكاة وآمنتم برسلي وعزّرتموهم وأقرضتم اللّه قرضًا حسنًا.
وليس الّذي قاله الرّبيع في ذلك ببعيدٍ من الصّواب، غير أنّ من قضاء اللّه في جميع خلقه أنّه ناصرٌ من أطاعه، ووليّ من اتّبع أمره وتجنّب معصيته وعافى ذنوبه. فإذ كان ذلك كذلك، وكان من طاعته: إقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، والإيمان بالرّسل، وسائر ما ندب القوم إليه؛ كان معلومًا أنّ تكفير السّيّئات بذلك وإدخال الجنّات به لم يخصّص به النّقباء دون سائر بني إسرائيل غيرهم، فكان ذلك بأن يكون ندبًا للقوم جميعًا وحضًّا لهم على ما حضّهم عليه، أحقّ وأولى من أن يكون ندبًا لبعضٍ وحضًّا لخاصٍّ دون عامٍّ.
واختلف أهل التّأويل في تأويل قوله: {وعزّرتموهم} فقال بعضهم: تأويل ذلك: ونصرتموهم.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {وعزّرتموهم} قال: نصرتموهم.
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: قوله: {وعزّرتموهم} قال: نصرتموهم بالسّيف.
وقال آخرون: هو الطّاعة والنّصرة.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: سمعت عبد الرّحمن بن زيدٍ، يقول في قوله: {وعزّرتموهم} قال: التّعزّر والتّوقير: الطّاعة والنّصرة.
واختلف أهل العربيّة في تأويله، فذكر عن يونس النحوى أنّه كان يقول: تأويل ذلك: أثنيتم عليهم.
حدّثت بذلك عن أبي عبيدة معمر بن المثنّى عنه.
وكان أبو عبيدة يقول: معنى ذلك نصرتموهم وأعنتموهم ووقّرتموهم وعظّمتموهم وأيّدتموهم، وأنشد في ذلك:.
وكم من ماجدٍ لهم كريمٍ ومن ليثٍ يعزّز في النّديّ وكان الفرّاء يقول: العزر الرّدّ عزّرته رددته: إذا رأيته يظلم، فقلت: اتّق اللّه أو نهيته، فذلك العزر.
وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصّواب قول من قال: معنى ذلك: نصرتموهم، وذلك أنّ اللّه جلّ ثناؤه قال في سورة الفتح: {إنّا أرسلناك شاهدًا ومبشّرًا ونذيرًا لتؤمنوا باللّه ورسوله وتعزّروه وتوقّروه}
فالتّوقير: هو التّعظيم. وإذا كان ذلك كذلك، كان القول في ذلك إنّما هو بعض ما ذكرنا من الأقوال الّتي حكيناها عمّن حكينا عنه. وإذا فسد أن يكون معناه التّعظيم، وكان النّصر قد يكون باليد واللّسان؛ فأمّا باليد فالذّبّ بها عنه بالسّيف وغيره، وأمّا باللّسان فحسن الثّناء، والذّبّ عن العرض، صحّ أنّه النّصر إذ كان النّصر يحوي معنى كلّ قائلٍ قال فيه قولاً ممّا حكينا عنه.
وأمّا قوله: {وأقرضتم اللّه قرضًا حسنًا} فإنّه يقول: وأنفقتم في سبيل اللّه، وذلك في جهاد عدوّه وعدوّكم، {قرضًا حسنًا} يقول: وأنفقتم ما أنفقتم في سبيله، فأصبتم الحقّ في إنفاقكم ما أنفقتم في ذلك، ولم تتعدّوا فيه حدود اللّه وما ندبكم إليه وحثّكم عليه إلى غيره.
فإن قال لنا قائلٌ: وكيف قال: {وأقرضتم اللّه قرضًا حسنًا} ولم يقل: إقراضًا حسنًا، وقد علمت أنّ مصدر أقرضت: الإقراض؟
قيل: لو قيل ذلك كان صوابًا، ولكنّ قوله: {قرضًا حسنًا} أخرج مصدرًا من معناه لا من لفظه، وذلك أنّ في قوله: أقرض معنى قرض، كما في معنى أعطى أخذ، فكان معنى الكلام وقرضتم اللّه قرضًا حسنًا، ونظير ذلك: {واللّه أنبتكم من الأرض نباتًا} إذ كان في أنبتكم معنى فنبتّم، وكما قال امرؤ القيس.
ورضت فذلّت صعبةً أيّ إذلالٍ.
إذ كان في رضت معنى أذللت، فخرج الإذلال مصدرًا من معناه لا من لفظه). [جامع البيان: 8/241-246]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {لأكفّرنّ عنكم سيّئاتكم ولأدخلنّكم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار}
يعني جلّ ثناؤه بذلك بني إسرائيل، يقول لهم جلّ ثناؤه: لئن أقمتم الصّلاة أيّها القوم الّذين أعطوني ميثاقهم بالوفاء بطاعتي، واتّباع أمري، وآتيتم الزّكاة، وفعلتم سائر ما وعدتكم عليه جنّتي {لأكفّرنّ عنكم سيّئاتكم} يقول: لأغطّينّ بعفوي عنكم وصفحي عن عقوبتكم، على سالف إجرامكم الّتي أجرمتموها فيما بيني وبينكم على ذنوبكم الّتي سلفت منكم من عبادة العجل وغيرها من موبقات ذنوبكم. {ولأدخلنّكم} مع تغطيتي على ذلك منكم بفضلي يوم القيامة {جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار} فالجنّات: البساتين.
وإنّما قلت: معنى قوله: {لأكفّرنّ} لأغطّينّ، لأنّ الكفر معناه الجحود والتّغطية والسّتر، كما قال لبيدٌ:.
في ليلةٍ كفر النّجوم غمامها
يعني: غطّاها. التّفعيل من الكفر.
واختلف أهل العربيّة في معنى اللاّم الّتي في قوله: {لأكفّرنّ} فقال بعض نحويّي البصرة: اللاّم الأولى على معنى القسم، يعني اللاّم الّتي في قوله: {لئن أقمتم الصّلاة} قال: والثّانية معنى قسمٍ آخر.
وقال بعض نحويّي الكوفة: بل اللاّم الأولى وقعت موقع اليمين، فاكتفى بها عن اليمين، يعني باللاّم الأولى: لئن أقمتم الصّلاة. قال: واللاّم الثّانية، يعني قوله: {لأكفّرنّ عنكم سيّئاتكم} جوابٌ لها، يعني للاّم الّتي في قوله: {لئن أقمتم الصّلاة} واعتلّ لقيله ذلك بأنّ قوله: {لئن أقمتم الصّلاة} غير تامٍّ ولا مستغنٍ عن قوله: {لأكفّرنّ عنكم سيّئاتكم} وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائزٍ أن يكون قوله: {لأكفّرنّ عنكم سيّئاتكم} قسمًا مبتدأً، بل الواجب أن يكون جوابًا لليمين إذ كانت غير مستغنيةٍ عنه.
وقوله: {تجري من تحتها الأنهار} يقول: يجري من تحت أشجار هذه البساتين الّتي أدخلكموها الأنهار). [جامع البيان: 8/246-247]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلّ سواء السّبيل}
يقول عزّ ذكره: فمن جحد منكم يا معشر بني إسرائيل شيئًا ممّا أمرته به، فتركه، أو ركب ما نهيته عنه فعمله بعد أخذي الميثاق عليه بالوفاء لي بطاعتي واجتناب معصيتي {فقد ضلّ سواء السّبيل} يقول: فقد أخطأ قصد الطّريق الواضح، وزلّ عن منهج السّبيل القاصد.
والضّلال: الرّكوب على غير هدًى؛ وقد بيّنّا ذلك بشاهده في غير هذا الموضع.
وقوله: {سواء} يعني به: وسط والسّبيل الطريق، وقد بيّنّا تأويل ذلك كلّه في غير هذا الموضع، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع). [جامع البيان: 8/247]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا قال من كل سبط من بني إسرائيل رجال أرسلهم موسى إلى الجبابرة فوجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم يلقيهما إلقاء ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس من قوم موسى بينهم في خشبة ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربعة فرجع النفر كلهم ينهي سبطه عن قتالهم إلا يوشع بن نون وكالب بن يافنة فإنهما أمرا الأسباط فإنهما أمرا بقتال الجبارين وبمجاهدتهم فعصوهما وأطاعوا الآخرين فهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما فتاهت بنو إسرائيل أربعين سنة يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا في تيههم ذلك فضرب لهم موسى عليه السلام الحجر لكل سبط عين من حجر يحملونه معهم والسبط البطن بنو فلان وبنو فلان فقال لهم موسى عليه السلام اشربوا يا حمر فنهاه ربه عز وجل عن سبهم وقال هم خلق فلا تجعلهم حميرا). [تفسير مجاهد: 188-190]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وعزرتموهم قال ونصرتموهم). [تفسير مجاهد: 190]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل}
أخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل} قال: أخذ الله مواثيقهم أن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره {وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا} يعني بذلك وبعثنا منهم اثني عشر كفيلا فكفلوا عليهم بالوفاء لله بما وثقوا عليه من العهود فيما أمرهم عنه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله {اثني عشر نقيبا} قال: من كل سبط من بني إسرائيل رجال أرسلهم موسى إلى الجبارين فوجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس بينهم في خشبة ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس وأربعة فرجع النقباء كل منهم ينهى سبطه عن قتالهم إلا يوشع بن نون وكالب بن باقية، أمرا الأسباط بقتال الجبارين ومجاهدتهم فعصوهما وأطاعوا الآخرين فهما الرجلان اللذان انعم الله عليهما فتاهت بنو إسرائيل أربعين سنة يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا في تيههم ذلك فضرب موسى الحجر لكل سبط عينا حجر لهم يحملونه معهم فقال لهم موسى: اشربوا يا حمير، فنهاه الله عن سبهم وقال: هم خلقي فلا تجعلهم حميرا، والسبط كل بطن بني فلان.
وأخرج ابن جرير عن السدي قال: أمر الله بني إسرائيل بالسير إلى أريحاء - وهي أرض بيت المقدس - فساروا حتى إذا كانوا قريبا منه أرسل موسى اثني عشر نقيبا من جميع أسباط بني إسرائيل فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبابرة فلقيهم رجل من الجبارين يقال له عاج فأخذ اثني عشر فجعلهم في حجزته وعلى رأسه حزمة حطب فانطلق بهم إلى امرأته فقال: انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا فطرحهم بين يديها فقال: إلا أطحنهم برجلي فقالت امرأته: بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك فلما خرج القوم قال بعضهم لبعض: يا قوم إنكم أن أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم ارتدوا عن نبي الله ولكن اكتموه ثم رجعوا فانطلق عشرة منهم فنكثوا العهد فجعل كل منهم يخبر أخاه وأباه بما رأى من عاج وكتم رجلان منهم فأتوا موسى وهارون فأخبروهما فذلك حين يقول الله {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في قوله {وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا} قال: شهيدا من كل سبط رجل شاهد على قومه
وأخرج ابن جرير عن الربيع قال: النقباء الأمناء.
وأخرج الطستي عن ابن عباس، أن نافع بن الأزرق قال له: اخبرني عن قوله عز وجل {اثني عشر نقيبا}، قال: اثني عشر وزيرا وصاروا أنبياء بعد ذلك، قال: وهل تعرف العرب ذلك قال: نعم أما سمعت الشاعر يقول: واني بحق قائل لسراتها * مقالة نصح لا يضيع نقيبها.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله عز وجل {اثني عشر نقيبا} قال: هم من بني إسرائيل بعثهم موسى لينظروا إلى المدينة فجاؤوا بحبة من فاكهتهم فعند ذلك فتنوا فقالوا: لا نستطيع القتال فاذهب أنت وربك فقاتلا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو صدقني وآمن بي واتبعني عشرة من اليهود لأسلم كل يهودي كان قال كعب اثني عشر وتصديق ذلك في المائدة {وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا}
وأخرج أحمد والحاكم عن ابن مسعود، أنه سئل كم يملك هذه الأمة من خليفة فقال: سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اثنا عشر كعدة بني إسرائيل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن انس، أن موسى عليه السلام قال للنقباء الاثني عشر: سيروا اليوم فحدثوني حديثهم وما أمرهم ولا تخافوا أن الله {معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {وعزرتموهم} قال: أعنتموهم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله {وعزرتموهم} قال: نصرتموهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: التعزيز والتوقير، النصرة والطاعة). [الدر المنثور: 5/227-231]

تفسير قوله تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) )
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (أنزلت في ضبيعة بين شرحبيل، فنسختها: {واقتلوهم حيث وجدتموهم}، {فاعف عنهم واصفح}؛
فنسختها: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر}، {أو أعرض عنهم}؛ نسختها: {فاحكم بينهم بما أنزل الله}). [الجامع في علوم القرآن: 3/85-86] (م)
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر في قوله تعالى {فاعف عنهم واصفح} قال نسخها قوله تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر ولا يحرمون ما حرم الله} [التوبة: 29]). [تفسير عبد الرزاق: 1/185-186]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنا معمر عن قتادة في قوله تعالى ولا تزال تطلع على خائنة منهم يقول على خيانة وكذب وفجور). [تفسير عبد الرزاق: 1/186]
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (قال سفيان [الثوري]: في قراءة عبد الله: (وجعلنا قلوبهم قاسية) [الآية: 13]). [تفسير الثوري: 100]

قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ): ({فبما نقضهم} [المائدة: 13]: «بنقضهم»). [فتح الباري: 8/268]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله فبما نقضهم ميثاقهم بنقضهم هو تفسير قتادة أخرجه الطّبريّ من طريقه وكذا قال أبو عبيدة فبما نقضهم أي فبنقضهم قال والعرب تستعمل ما في كلامهم توكيدًا فإن كان الّذي قبلها يجرّ أو يرفع أو ينصب عمل فيما بعدها). [فتح الباري: 8/268-269]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ( (باب قوله تعالى: {فبما نقضهم} (المائدة: 13)
أي: هذا باب في قوله تعالى: {فبما نقضهم} وفي بعض النّسخ: باب فيما نقضهم، وليس لفظ باب في كثير من النّسخ، وهو الظّاهر لأنّه لم يرو عن أحد هنا لفظ: باب.
فبنقضهم
هذا تفسير قوله: {فبما نقضهم} وأشار به إلى أن كلمة ما زائدة، روي كذا عن قتادة رواه ابن المنذر عن أحمد، حدثنا يزيد عن سعيد عن قتادة، وقال الزّجاج: ما لغووا المعنى: فبنقضهم ميثاقهم، ومعنى: ما الملغاة في العمل توكيد القصّة، وعن الكسائي: ما صلة كقوله {عمّا قليل} (المؤمنون: 40) وكقوله: {فبما رحمة من الله لنت لهم} (النّساء: 12) وقال الثّعلبيّ: إنّما دخلت فيه ما للمصدر وكذلك كل ما أشبهه. قلت: أول هذه الكلمة الآية الطّويلة الّتي هي: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل} الآية وبعدها {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية} إلى قوله: {إن الله يحب المحسنين} ولقد أخبر الله تعالى عمّا أحل بالذين نقضوا الميثاق بعد عقده وتوكيده وشده من العقوبة. بقوله: {فبما نقضهم} أي: بسبب نقضهم ميثاقهم لعناهم أي: بعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى وجعلنا قلوبهم قاسية، أي: لا تنتفع بموعظة لغلظها وقساوتها). [عمدة القاري: 18/198]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( ({فبما نقضهم ميثاقهم}) [المائدة: 13] قال قتادة وغيره أي (بنقضهم) فما صلة نحو فبما رحمة من الله وهو القول المشهور، وقيل ما اسم نكرة أبدل منها نقضهم على إبدال المعرفة من النكرة أي بسبب نقضهم ميثاق الله وعهده بأن كذبوا الرسل الذين جاؤوا من بعد موسى وكتموا نعت محمد -صلّى اللّه عليه وسلّم- بعدناهم من الرحمة أو مسخناهم أو ضربنا عليهم الجزية). [إرشاد الساري: 7/100]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسيةً يحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظًّا ممّا ذكّروا به ولا تزال تطّلع على خائنةٍ منهم إلاّ قليلاً منهم فاعف عنهم واصفح إنّ اللّه يحبّ المحسنين}
يقول جلّ ثناؤه لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: يا محمّد، لا تعجبنّ من هؤلاء اليهود الّذين همّوا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك، ونكثوا العهد الّذي بينك وبينهم، غدرًا منهم بك وأصحابك، فإنّ ذلك من عاداتهم وعادات سلفهم؛ ومن ذلك أنّي أخذت ميثاق سلفهم على عهد موسى صلّى اللّه عليه وسلّم على طاعتي، وبعثت منهم اثني عشر نقيبًا وقد تخيّروا من جميعهم ليتجسّسوا أخبار الجبابرة، ووعدتهم النّصر عليهم، وأن أورّثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، بعد ما أريتهم من العبر والآيات بإهلاك فرعون وقومه في البحر وفلق البحر لهم وسائر العبر ما أريتهم، فنقضوا ميثاقهم الّذي واثقوني ونكثوا عهدي، فلعنتهم بنقضهم ميثاقهم؛ فإذا كان ذلك من فعل خيارهم مع أياديّ عندهم، فلا تستنكروا مثله من فعل أراذلهم.
وفي الكلام محذوفٌ اكتفي بدلالة الظّاهر عليه، وذلك أنّ معنى الكلام: فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلّ سواء السّبيل، فنقضوا الميثاق، فلعنتهم، فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم، فاكتفى بقوله: {فبما نقضهم ميثاقهم} من ذكر فنقضوا.
ويعني بقوله جلّ ثناؤه: {فبما نقضهم ميثاقهم} فبنقضهم ميثاقهم. كما قال قتادة.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم} يقول: فبنقضهم ميثاقهم لعنّاهم.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عبّاسٍ: {فبما نقضهم ميثاقهم} قال: هو ميثاقٌ أخذه اللّه على أهل التّوراة فنقضوه.
وقد ذكرنا معنى اللّعن في غير هذا الموضع.
والهاء والميم من قوله: {فبما نقضهم} عائدتان على ذكر بني إسرائيل قبل). [جامع البيان: 8/248-249]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وجعلنا قلوبهم قاسيةً}
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل مكّة والبصرة والكوفة: {قاسيةً} بالألف، على تقدير فاعله، من قسوة القلب، من قول القائل: قسا قلبه، فهو يقسو وهو قاسٍ، وذلك إذا غلظ واشتدّ وصار يابسًا صلبًا، كما قال الرّاجز:.
وقد قسوت وقسا لداتي
فتأويل الكلام على هذه القراءة: فلعنّا الّذين نقضوا عهدي ولم يفوا بميثاقي من بني إسرائيل بنقضهم ميثاقهم الّذي واثقوني، وجعلنا قلوبهم قاسيةً غليظةً يابسةً عن الإيمان بي والتّوفيق لطاعتي، منزوعةً منها الرّأفة والرّحمة.
وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفيّين: وجعلنا قلوبهم قسيّةً.
ثمّ اختلف الّذين قرءوا ذلك كذلك في تأويله، فقال بعضهم: معنى ذلك: معنى القسوة، لأنّ فعيلةً في الذّمّ أبلغ من فاعلةٍ، فاخترنا قراءتها قسيّةً على قاسيةٍ لذلك.
وقال آخرون منهم: بل معنى قسيّةٍ غير معنى القسوة؛ وإنّما القسّيّة في هذا الموضع القلوب الّتي لم يخلص إيمانها باللّه، ولكن يخالط إيمانها كفرٌ كالدّراهم القسّيّة، وهي الّتي يخالط فضّتها غشٌّ من نحاس أو رصاصٍ وغير ذلك، كما قال أبو زبيدٍ الطّائيّ:.
لها صواهل في صمّ السّلام كما = صاح القسيّات في أيدي الصّياريف
يصف بذلك وقع مساحي الّذين حفروا قبر عثمان على الصّخور، وهي السّلام.
وأعجب القراءتين إليّ في ذلك قراءة من قرأ: وجعلنا قلوبهم قسيّةً على فعيلةٍ، لأنّها أبلغ في ذمّ القوم من قاسيةٍ.
وأولى التّأويلين في ذلك بالصّواب تأويل من تأوّله فعيلةً من القسوة، كما قيل: نفسٌ زكيّةٌ وزاكيةٌ، وامرأةٌ شاهدةٌ وشهيدةٌ؛ لأنّ اللّه جلّ ثناؤه وصف القوم بنقضهم ميثاقهم وكفرهم به، ولم يصفهم بشيءٍ من الإيمان، فتكون قلوبهم موصوفةً بأنّ إيمانها يخالطه كفرٌ كالدّراهم القسّيّة الّتي يخالط فضّتها غشٌّ). [جامع البيان: 8/249-251]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {يحرّفون الكلم عن مواضعه}
يقول عزّ ذكره: وجعلنا قلوب هؤلاء الّذين نقضوا عهودنا من بني إسرائيل قسيّةً، منزوعًا منها الخير، مرفوعًا منها التّوفيق، فلا يؤمنون، ولا يهتدون، فهم لنزع اللّه عزّ وجلّ التّوفيق من قلوبهم والإيمان يحرّفون كلام ربّهم الّذي أنزله على نبيّهم موسى صلّى اللّه عليه وسلّم، وهو التّوراة، فيبدّلونه ويكتبون بأيديهم غير الّذي أنزله اللّه جلّ وعزّ على نبيّهم ثم يقولون لجهّال النّاس: هذا هو كلام اللّه الّذي أنزله على نبيّه موسى صلّى اللّه عليه وسلّم والتّوراة الّتي أوحاها إليه. وهذا من صفة القرون الّتي كانت بعد موسى من اليهود ممّن أدرك بعضهم عصر نبيّنا محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، ولكنّ اللّه عزّ ذكره أدخلهم في عداد الّذين ابتدأ الخبر عنهم ممّن أدرك موسى منهم، إذ كانوا من أبنائهم وعلى منهاجهم في الكذب على اللّه والفرية عليه ونقض المواثيق الّتي أخذها عليهم في التّوراة. كما:.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {يحرّفون الكلم عن مواضعه} يعني: حدود اللّه في التّوراة، ويقولون: إن أمركم محمّدٌ بما أنتم عليه فاقبلوه، وإن خالفكم فاحذروا). [جامع البيان: 8/251]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ونسوا حظًّا ممّا ذكّروا به}
يعني تعالى ذكره بقوله: {ونسوا حظًّا} وتركوا نصيبًا، وهو كقوله: {نسوا اللّه فنسيهم} أي تركوا أمر اللّه فتركهم اللّه.
وقد مضى بيان ذلك بشواهده في غير هذا الموضع فأغنى ذلك عن إعادته.
وبالّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {ونسوا حظًّا ممّا ذكروا به} يقول: تركوا نصيبًا.
- حدّثني الحارث، قال: حدّثنا عبد العزيز، قال: حدّثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن، في قوله: {ونسوا حظًّا ممّا ذكروا به} قال: تركوا عرى دينهم ووظائف اللّه جلّ ثناؤه الّتي لا تقبل الأعمال إلا بها). [جامع البيان: 8/252]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولا تزال تطّلع على خائنةٍ منهم إلاّ قليلاً منهم}
يقول تبارك وتعالى لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: ولا تزال يا محمّد تطّلع من اليهود الّذين أنبأتك نبّأهم من نقضهم ميثاقي، ونكثهم عهدي، مع أياديّ عندهم، ونعمتي عليهم، على مثل ذلك من الغدر والخيانة، إلا قليلا منهم.يقول الاقيلا منهم لم يخونوا
والخائنة في هذا الموضع: الخيانة، وهو اسمٌ وضع موضع المصدر، كما قيل خاطئةٌ: للخطيئة، وقائلةٌ: للقيلولة.
وقوله: {إلا قليلا منهم} استثناءٌ من الهاء والميم اللّتين في قوله: {على خائنةٍ منهم}
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، في قوله: {ولا تزال تطّلع على خائنةٍ منهم} قال: على خيانةٍ وكذبٍ وفجورٍ.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {ولا تزال تطّلع على خائنةٍ منهم} قال: هم يهود مثل الّذي همّوا به من النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم دخل حائطهم.
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، بنحوه.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: قال ابن جريجٍ، قال مجاهدٌ وعكرمة: قوله: {ولا تزال تطّلع على خائنةٍ منهم} من يهود، مثل الّذي همّوا بالنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم دخل عليهم
وقال بعض القائلين: معنى ذلك: ولا تزال تطّلع على خائنٍ منهم، قال: والعرب تزيد الهاء في آخر المذكّر كقولهم: هو راويةٌ للشّعر، ورجلٌ علاّمةٌ، وأنشد:.
حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن = للغدر خائنةً مغلّ الأصبع
فقال: خائنةً، وهو يخاطب رجلاً
والصّواب من التّأويل في ذلك القول الّذي روّيناه عن أهل التّأويل، لأنّ اللّه عنى بهذه الآية القوم من يهود بني النّضير الّذين همّوا بقتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، إذ أتاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يستعينهم في دية العامريّين، فأطلعه اللّه عزّ ذكره على ما قد همّوا به. ثمّ قال جلّ ثناؤه بعد تعريفه أخبار أوائلهم وإعلامه منهج أسلافهم وأنّ آخرهم على منهاج أوّلهم في الغدر والخيانة، لئلاّ يكبر فعلهم ذلك على نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال جلّ ثناؤه: ولا تزال تطّلع من اليهود على خيانةٍ وغدرٍ ونقض عهدٍ. ولم يرد أنّه لا يزال يطّلع على رجلٍ منهم خائنٍ، وذلك أنّ الخبر ابتدئ به عن جماعتهم، فقيل: {يا أيّها الّذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ همّ قومٌ أن يبسطوا إليكم أيديهم}، ثمّ قيل: {ولا تزال تطّلع على خائنةٍ منهم} فإذ كان الابتداء عن الجماعة فلتختم بالجماعة أولى). [جامع البيان: 8/252-254]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فاعف عنهم واصفح إنّ اللّه يحبّ المحسنين}.
وهذا أمرٌ من اللّه عزّ ذكره نبيّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم بالعفو عن هؤلاء القوم الّذين همّوا أن يبسطوا أيديهم إليه من اليهود، يقول اللّه جلّ وعزّ له: اعف يا محمّد عن هؤلاء اليهود الّذين همّوا بما همّوا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل، واصفح لهم عن جرمهم بترك التّعرّض لمكروههم، فإنّي أحبّ من أحسن العفو والصّفح إلى من أساء إليه.
وكان قتادة يقول: هذه منسوخةٌ، ويقول: نسختها آية براءة: {قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر} الآية.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، في قوله: {فاعف عنهم واصفح} قال: نسختها: {قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم اللّه ورسوله}.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا حجّاج بن المنهال، قال: حدّثنا همّامٌ، عن قتادة: {فاعف عنهم واصفح إنّ اللّه يحبّ المحسنين} ولم يؤمر يومئذٍ بقتالهم، فأمره اللّه عزّ ذكره أن يعفو عنهم ويصفح، ثمّ نسخ ذلك في براءة فقال: {قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون} وهم أهل الكتاب. فأمر اللّه جلّ ثناؤه نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقاتلهم حتّى يسلموا، أو يقرّوا بالجزية.
- حدّثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدّثنا عبدة بن سليمان، قال: قرأت على ابن أبي عروبة، عن قتادة نحوه.
والّذي قاله قتادة غير مدفوعٍ إمكانه، غير أنّ النّاسخ الّذي لا شكّ فيه من الأمر، هو ما كان نافيًا كلّ معاني خلافه الّذي كان قبله. فأمّا ما كان غير نافٍ جميعه، فلا سبيل إلى العلم بأنّه ناسخٌ إلاّ بخبر من اللّه جلّ وعزّ، أو من رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم. وليس في قوله: {قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر} دلالةٌ على الأمر بنفي معاني الصّفح والعفو عن اليهود.
وإذ كان ذلك كذلك، وكان جائزًا مع إقرارهم بالصّغار وأدائهم الجزية بعد القتال، الأمر بالعفو عنهم في غدرةٍ همّوا بها أو نكثةٍ عزموا عليها، ما لم ينصبوا حربًا دون أداء الجزية، ويمتنعوا من الأحكام اللازمتهم، لم يكن واجبًا أن يحكم لقوله: {قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر} الآية، بأنّه ناسخٌ قوله: {فاعف عنهم واصفح إنّ اللّه يحبّ المحسنين}). [جامع البيان: 8/254-256]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (ثنا إبراهيم قال ثنا آدم قال ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ولا تزال تطلع على خائنة منهم قال يعني من اليهود مثل الذي هموا به من النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل عليهم حائطهم). [تفسير مجاهد: 190]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعفوا عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين}
أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله {فبما نقضهم ميثاقهم} قال: هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه.
وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله {فبما نقضهم} يقول: فبنقضهم.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم} قال: اجتنبوا نقض الميثاق فإن الله قدم فيه وأوعد فيه وذكره في آي من القرآن تقدمة ونصيحة وحجة وإنما بعظم عظمها الله به عند أولي الفهم والعقل وأهل العلم بالله وإنا ما نعلم الله أوعد في ذنب ما أوعد في نقض الميثاق.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله {يحرفون الكلم عن مواضعه} يعني حدود الله في التوراة يقول: أن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه وإن خالفكم فاحذروا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {ونسوا حظا مما ذكروا به} قال: نسوا الكتاب.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد في قوله {ونسوا حظا مما ذكروا به} قال: نسوا الكتاب.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد في قوله {ونسوا حظا مما ذكروا به} قال: كتاب الله إذا نزل عليهم.
وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله {ونسوا حظا} تركوا نصيبا.
وأخرج ابن جرير عن الحسن في قوله {ونسوا حظا مما ذكروا به} قال: عرى دينهم ولطائف الله التي لا يقبل الأعمال إلا بها.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: نسوا كتاب الله بين أظهرهم وعهده الذي عهده إليهم وأمره الذي أمرهم به وضيعوا فرائضه وعطلوا حدوده وقتلوا رسله ونبذوا كتابه.
وأخرج ابن المبارك وأحمد في الزهد عن ابن مسعود قال: أني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله {ولا تزال تطلع على خائنة منهم} قال: هم يهود مثل الذي هموا به من النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم دخل عليهم حائطهم
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله {ولا تزال تطلع على خائنة منهم} يقول: على خيانة وكذب وفجور، وفي قوله {فاعف عنهم واصفح} قال: لم يؤمر يومئذ بقتالهم فأمرهم الله أن يعفو عنهم ويصفح ثم نسخ ذلك في براءة فقال {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} التوبة الآية 29 الآية). [الدر المنثور: 5/231-234]

تفسير قوله تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن الكلبي في قوله تعالى فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء قال هم اليهود والنصارى أغرى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة). [تفسير عبد الرزاق: 1/185]

قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [قوله تعالى: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} ]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا هشيمٌ، قال: نا العوّام، عن إبراهيم النّخعي - في قوله تبارك وتعالى: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء} - قال: فما أرى الإغراء في هذه الآية إلّا الأهواء المفترقة والبغضاء.
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا يزيد بن هارون، قال: نا العوّام، قال: سمعت إبراهيم النّخعي يقول: (أغرى) بعضهم ببعضٍ في الجدال في الدّين.
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا هشيمٌ، قال: نا العوّام، عن أبي إياس قال: الخصومات في الدين تبطل الأعمال). [سنن سعيد بن منصور: 4/1448-1449]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ): (وقال غيره: " الإغراء: التّسليط). [صحيح البخاري: 6/50] (م)
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله وقال غيره الإغراء التّسليط هكذا وقع في النّسخ الّتي وقفت عليها ولم أعرف الغير ولا من عاد عليه الضّمير لأنّه لم يفصح بنقل ما تقدّم عن أحدٍ نعم سقط وقال غيره من رواية النّسفيّ وكأنّه أصوب ويحتمل أن يكون المعنى وقال غير من فسّر ما تقدّم ذكره وفي رواية الإسماعيليّ عن الفربري بالإجازة وقال ابن عبّاسٍ مخمصةٌ مجاعةٌ وقال غيره الإغراء التّسليط وهذا أوجه وتفسير المخمصة وقع في النّسخ الأخرى بعد هذا وقد وصله بن أبي حاتمٍ من طريق عليّ بن أبي طلحة عن بن عبّاسٍ وكذا فسّره أبو عبيدة والحاصل أنّ التّقديم والتّأخير في وضع هذه التّفاسير وقع ممّن نسخ كتاب البخاريّ كما قدّمناه غير مرّة ولا يضر ذلك غالبا وتفسير الإغراء بالتسليط يلازم معنى الإغراء لأن حقيقة الإغراء كما قال أبو عبيدة التّهييج للإفساد وقد روى بن أبي حاتمٍ من طريق مجاهدٍ في قوله وأغرينا قال ألقينا وهذا تفسيرٌ بما وقع في الآية الأخرى). [فتح الباري: 8/269]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (وقال غيره الإغراء التّسليط
أشار بلفظ الإغراء إلى قوله تعالى: {فاغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} (المائدة: 14) وفسّر الإغراء بالتسليط، وفي التّفسير قوله: فأغرينا. أي: القينا وقال الزّمخشريّ: فاغرينا. الصقنا وألزمنا، من غرى بالشّيء إذا لزمه فلصق به، وأغراه به غيره ومنه الغرى الّذي يلصق به. فإن قلت: ما أراد بقوله. وقال غيره؟ ومن هو هذا الغير؟ وإلى أي شيء يرجع الضّمير؟ قلت: قال صاحب (التّوضيح) لعلّه يعني: لعلّ البخاريّ يعني بالغير من فسر ما قبله، وقد نقلناه عن قتادة. انتهى قلت: قتادة لم يذكر صريحًا فيما قبله حتّى يرجع الضّمير إليه. ولا ذكر فيما قبله ما يصلح أن يرجع إليه الضّمير، والظّاهر أن هنا شيئا سقط من النساخ، والصّواب: أن هذا ليس من البخاريّ، ولهذا لم يذكر في رواية النّسفيّ ولا في بعض النّسخ، ويحتمل أن يكون قوله عقيب هذا، وقال ابن عبّاس: مخمصة مجاعة، مذكورا قبل قوله، وقال غيره: أي: قال غير ابن عبّاس: الإغراء التسليط، ووقع من النّاسخ أنه أخر هذا وقدم ذاك، ويقوّي هذا الاحتمال ما وقع في رواية الإسماعيليّ عن الفربري بالإجازة. وقال ابن عبّاس: مخمصة مجاعة. وقال غيره الإغراء التسليط، وهذا هو الصّواب لا مرية فيه). [عمدة القاري: 18/198]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( (وقال غيره): قيل هو غير السدي أو غير من فسر السابق وسقط للنسفي وقال غيره فلا إشكال (الإغراء) المذكور في قوله تعالى: {فأغرينا بينهم العداوة} [المائدة: 14] هو (التسليط) وقيل أغرينا ألقينا). [إرشاد الساري: 7/100]
قالَ مُحَمَّدُ بنُ أَحمدَ بنِ نَصْرٍ الرَّمْلِيُّ (ت:295هـ): (ثنا يوسف بن عديٍّ، قال: ثنا رشدين بن سعدٍ، عن يونس بن يزيد، عن عطاءٍ الخراساني في قول اللّه عزّ وجلّ: {فنسوا حظًّا مما ذكروا به} قال: نسوا طاعته في القتال فتركوها ولم يعلموا بها). [جزء تفسير عطاء الخراساني: 121]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ومن الّذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظًّا ممّا ذكّروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبّئهم اللّه بما كانوا يصنعون}
يقول عزّ ذكره: وأخذنا من النّصارى الميثاق على طاعتي وأداء فرائضي واتّباع رسلي والتّصديق بهم، فسلكوا في ميثاقي الّذي أخذته عليهم منهاج الأمّة الضّالّة من اليهود، فبدّلوا كذلك دينهم ونقضوا نقضهم وتركوا حظّهم من ميثاقي الّذي أخذته عليهم بالوفاء بعهدي وضيّعوا أمري. كما:.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {ومن الّذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظًّا ممّا ذكّروا به} نسوا كتاب اللّه بين أظهرهم، وعهد اللّه الّذي عهده إليهم، وأمر اللّه الّذي أمرهم به.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قال: قالت النّصارى مثل ما قالت اليهود، ونسوا حظًّا ممّا ذكّروا به). [جامع البيان: 8/256-257]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة}
يعني تعالى ذكره بقوله: {فأغرينا بينهم} حرّشنا بينهم وألقينا، كما تغري الشّيء بالشّيء. يقول جلّ ثناؤه: لمّا ترك هؤلاء النّصارى الّذين أخذت ميثاقهم بالوفاء بعهدي حظّهم، ممّا عهدت إليهم من أمري ونهيي، أغريت بينهم العداوة والبغضاء.
ثمّ اختلف أهل التّأويل في صفة إغراء اللّه بينهم العداوة والبغضاء، فقال بعضهم: كان إغراؤه بينهم بالأهواء الّتي حدثت بينهم.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا العوّام بن حوشبٍ، عن إبراهيم النّخعيّ، في قوله: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء} قال: هذه الأهواء المختلفة، والتّباغض فهو الإغراء.
- حدّثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدّثنا يزيد بن هارون، عن العوّام بن حوشبٍ، قال: سمعت النّخعيّ يقول: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء} قال: أغرى بعضهم ببعضٍ بخصوماتٍ بالجدال في الدّين.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني هشيمٌ، قال: أخبرنا العوّام بن حوشبٍ، عن إبراهيم النّخعيّ، أوالتّيميّ، قوله: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء} قال: ما أرى الإغراء في هذه الآية إلاّ الأهواء المختلفة. وقال معاوية بن قرّة: الخصومات في الدّين تحبط الأعمال.
وقال آخرون: بل ذلك هو العداوة الّتي بينهم والبغضاء.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} الآية. إنّ القوم لمّا تركوا كتاب اللّه، وعصوا رسله، وضيّعوا فرائضه، وعطّلوا حدوده، ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة بأعمالهم أعمال السّوء، ولو أخذ القوم كتاب اللّه وأمره، ما افترقوا ولا تباغضوا.
وأولى التّأويلين في ذلك عندنا بالحقّ، تأويل من قال: أغرى بينهم بالأهواء الّتي حدثت بينهم، كما قال إبراهيم النّخعيّ؛ لأنّ عداوة النّصارى بينهم، إنّما هي باختلافهم في قولهم في المسيح، وذلك أهواءٌ لا وحي من اللّه.
واختلف أهل التّأويل في المعنيّ بالهاء والميم اللّتين في قوله: {فأغرينا بينهم} فقال بعضهم: عني بذلك: اليهود والنّصارى. فمعنى الكلام على قولهم وتأويلهم: فأغرينا بين اليهود والنّصارى، لنسيانهم حظًّا ممّا ذكّروا به.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، وقال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ وقال في النّصارى أيضًا: {فنسوا حظًّا} ممّا ذكّروا به، فلمّا فعلوا ذلك أغرى اللّه عزّ وجلّ بينهم وبين اليهود العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} قال: هم اليهود والنّصارى. قال ابن زيدٍ: كما تغري بين اثنين من البهائم.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء} قال: اليهود والنّصارى.
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
- حدّثني القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا أبو سفيان، عن معمرٍ، عن قتادة، قال: هم اليهود والنّصارى، أغرى اللّه بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
وقال آخرون: بل عنى اللّه بذلك: النّصارى وحدها. وقالوا: معنى ذلك: فأغرينا بين النّصارى عقوبةً لها بنسيانها حظًّا ممّا ذكّرت به. قالوا: وعليها عادت الهاء والميم في بينهم دون اليهود.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، قال: إنّ اللّه عزّ ذكره تقدّم إلى بني إسرائيل أن لا تشتروا بآيات اللّه ثمنًا قليلاً، وعلّموا الحكمة ولا تأخذوا عليها أجرًا. فلم يفعل ذلك إلاّ قليلٌ منهم، فأخذوا الرّشوة في الحكم وجاوزوا الحدود، فقال في اليهود حيث حكموا بغير ما أمر اللّه: {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} وقال في النّصارى: {فنسوا حظًّا ممّا ذكّروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة}.
وأولى التّأويلين بالآية عندي ما قاله الرّبيع بن أنسٍ، وهو أنّ المعنيّ بالإغراء بينهم: النّصارى في هذه الآية خاصّةً، وأنّ الهاء والميم عائدتان على النّصارى دون اليهود، لأنّ ذكر الإغراء في خبر اللّه عن النّصارى بعد تقضّي خبره عن اليهود، وبعد ابتدائه خبره عن النّصارى، فأن لا يكون ذلك معنيًّا به إلاّ النّصارى خاصّةً أولى من أن يكون معنيًّا به الحزبان جميعًا لما ذكرنا.
فإن قال قائلٌ: وما العداوة الّتي بين النّصارى، فتكون مخصوصةً بمعنى ذلك؟ قيل: ذلك عداوة النّسطوريّة واليعقوبيّة والملكيّة النّسطوريّة واليعقوبيّة، وليس الّذي قاله من قال: معنيٌّ بذلك إغراء اللّه بين اليهود والنّصارى ببعيدٍ، غير أنّ هذا أقرب عندي وأشبه بتأويل الآية لما ذكرنا). [جامع البيان: 8/257-261]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وسوف ينبّئهم اللّه بما كانوا يصنعون}
يقول جلّ ثناؤه لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: اعف عن هؤلاء الّذين همّوا ببسط أيديهم إليك وإلى أصحابك، واصفح فإنّ اللّه من وراء الانتقام منهم، وسينبّئهم اللّه عند ورودهم اللّه عليه في معادهم بما كانوا في الدّنيا يصنعون من نقضهم ميثاقه، ونكثهم عهده، وتبديلهم كتابه، وتحريفهم أمره ونهيه، فيعاقبهم على ذلك حسب استحقاقهم). [جامع البيان: 8/261]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وأغرينا بينهم يقول ألقينا بينهم العداوة والبغضاء يعني بين اليهود والنصارى). [تفسير مجاهد: 190]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون}.
أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة في قوله {ومن الذين قالوا إنا نصارى} قال: كانوا بقرية يقال لها ناصرة كان عيسى بن مريم ينزلها.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في قوله {ومن الذين قالوا إنا نصارى} قال: كانوا بقرية يقال لها ناصرة نزلها عيسى وهو اسم تسموا به ولم يؤمروا به، وفي قوله: (أخذنا {ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به} قال: نسوا كتاب الله بين أظهرهم وعهد الله الذي عهد لهم وأمر الله الذي أمر به وضيعوا فرائضه {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} قال: بأعمالهم أعمال السوء ولو أخذ القوم بكتاب الله وأمره ما تفرقوا وما تباغضوا.
وأخرج أبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر عن إبراهيم في قوله {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} قال: أغرى بعضهم بعضا بالخصومات والجدال في الدين.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن إبراهيم في الآية قال: ما أرى الإغراء في هذه الآية إلا الأهواء المختلفة.
وأخرج ابن جرير عن الربيع قال: أن الله تقدم إلى بني إسرائيل أن لا يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ويعلموا الحكمة ولا يأخذوا عليها أجرا فلم يفعل ذلك إلا قليل
منهم فأخذوا الرشوة في الحكم وجاوزوا الحدود فقال في اليهود حيث حكموا بغير ما أمر الله {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} المائدة الآية 64
وقال في النصارى {فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة}). [الدر المنثور: 5/234-236]


رد مع اقتباس