عرض مشاركة واحدة
  #23  
قديم 3 جمادى الأولى 1435هـ/4-03-2014م, 04:44 PM
أروى المطيري أروى المطيري غير متواجد حالياً
فريق تنسيق النصوص
 
تاريخ التسجيل: Sep 2013
المشاركات: 405
افتراضي


كلام لابن القيم في تأثير الرقى

قالَ ابنُ القَيِّمِ مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكْرٍ الدِّمَشْقِيُّ (ت:751هـ): (وقد روى ابن ماجه في سُنَنِهِ من حديث عليٍّ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَيْرُ الدَّوَاءِ القُرآنُ)) ومن المعلوم أنَّ بعض الكلام له خواصُّ ومنافعُ مُجرَّبة، فما الظنُّ بكلام ربِّ العالمين، الذي فَضْلُهُ على كل كلامٍ كفضلِ اللهِ على خلقه الذي هو الشفاءُ التام، والعِصْمةُ النافعة، والنورُ الهادي، والرحمة العامة، الذي لو أُنزِلَ على جبل لتَصَدَّعَ من عظمته وجلالته. قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] و(مِن) ههنا لبيان الجنس لا للتبعيض، هذا أصَحُّ القولين، كقوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيماً} [الفتح: 29]، وكُلُّهُمْ مِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فما الظنُّ بفاتحة الكتاب التى لم يُنزل في القرآن، ولا في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزَّبور مِثلُها، المتضمنة لجميع معاني كتب الله، المشتملة على ذكر أُصول أسماء الرب تعالى ومجامعها، وهي: الله، والرَّب، والرحمن، وإثبات المعاد، وذكرِ التوحيدين: توحيدِ الربوبية، وتوحيدِ الإلهية، وذكر الافتقار إلى الربِّ سُبحانه في طلبِ الإعانة وطلب الهداية، وتخصيصه سبحانه بذلك، وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق وأنفعِهِ وأفرَضِه، وما العبادُ أحوج شَيْءٍ إليه، وهو الهدايةُ إلى صِراطه المستقيم، المتضمن كمالَ معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أمرَ به، واجتنابِ ما نَهَى عنه، والاستقامة عليه إلى الممات، ويتضمن ذِكْر أصنافِ الخلائق وانقسامهم إلى مُنْعمٍ عليه بمعرفة الحق، والعمل به، ومحبته، وإيثاره، ومغضوب عليه بعدُوله عن الحق بعد معرفته له، وضال بعدم معرفته له. وهؤلاء أقسامُ الخليقة مع تضمنها لإثبات القَدَر، والشرع، والأسماء، والصفات، والمعاد، والنبوات، وتزكيةِ النفوس، وإصلاح القلوب، وذكر عدل الله وإحسانه، والرَّدِّ على جميع أهل البدع والباطل، كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير مدارج السالكين في شرحها.
وحقيقٌ بسورةٍ هذا بعضُ شأنها، أن يُستشفى بها من الأدواء، ويُرقَى بها اللديغُ.
وبالجملة فما تضمنته الفاتحةُ مِن إخلاص العبودية والثناء على اللهِ، وتفويضِ الأمر كُلِّه إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وسؤاله مجامع النِّعَم كُلِّها، وهي الهداية التى تجلبُ النِّعَم، وتدفَعُ النِّقَم، من أعظم الأدوية الشافية الكافية.
وقد قيل: إنَّ موضع الرُّقْيَة منها: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، ولا ريبَ أنَّ هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء، فإنَّ فيهما من عموم التفويض والتوكل، والالتجاء والاستعانة، والافتقارِ والطلبِ، والجمع بين أعلى الغايات، وهي عبادةُ الربِّ وحده، وأشرف الوسائل وهي الاستعانةُ به على عبادته ما ليس في غيرها، ولقد مرَّ بي وقت بمكة سَقِمْتُ فيه، وفَقَدْتُ الطبيبَ والدواء، فكنت أتعالج بها، آخذ شربةً من ماء زمزم، وأقرؤها عليها مرارًا، ثم أشربه، فوجدتُ بذلك البرءَ التام، ثم صِرتُ أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع، فأنتفع بها غايةَ الانتفاع). [زاد المعاد:4/173-174]
قالَ ابنُ القَيِّمِ مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكْرٍ الدِّمَشْقِيُّ (ت:751هـ): (وفي تأثير الرُّقَى بالفاتحة وغيرها في علاج ذواتِ السُّموم سِرٌّ بديعٌ، فإنَّ ذواتِ السمومِ أثَّرت بكيفيَّات نفوسِها الخبيثةِ، كمَا تقدَّم، وسِلاحُها حُمَاتُها التى تلدَغُ بها، وهي لا تلدغُ حتَّى تغضَبَ، فإذا غَضِبَت، ثارَ فيها السُّمُّ، فتقذِفُهُ بآلَتِهَا، وقد جعل اللهُ سبحانه لكل داءٍ دواءً، ولكل شَيْءٍ ضِدًّا، ونفس الراقي تفعلُ في نفس المَرْقِيِّ، فيقعُ بين نفسيهما فِعلٌ وانفعالٌ، كما يقع بين الداء والدواء، فتقوى نفسُ الراقي وقُوَّته بالرُّقية على ذلك الداء، فيدفعُه بإذن اللهِ، ومدارُ تأثير الأدوية والأدواء على الفعل والانفعال، وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين، يقع بين الداء والدواء الروحانيين، والروحاني والطبيعي، وفي النَّفْث والتَّفل استعانة بتلك الرطوبة والهواء، والنَّفَس المباشر للرُّقية، والذِكْر والدعاء، فإنَّ الرُّقية تخرُج مِن قلب الراقي وفمه، فإذا صاحبها شيءٌ من أجزاء باطنه من الرِّيق والهواء والنَّفَس، كانت أتمَّ تأثيرًا، وأقوى فعلاً ونفوذًا، ويحصُل بالازدواج بينهما كيفيةٌ مؤثرة شبيهةٌ بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية.
وبالجملة.. فنفْسُ الراقي تُقابل تلك النفوس الخبيثة، وتزيدُ بكيفية نفسه، وتستعين بالرُّقية وبالنفثِ على إزالة ذلك الأثر، وكلَّما كانت كيفيةُ نَفَس الراقي أقوى، كانت الرُّقيةُ أتمَّ، واستعانتُهُ بنفْثه كاستعانة تلك النفوسِ الرديئة بلسعها.
وفي النفث سِرٌّ آخر، فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة، ولهذا تفعلُه السّحَرةُ كما يفعلَهُ أهلُ الإيمان. قال تعالى: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ في العُقَدِ} [الفلق: 4]، وذلك لأن النفْس تتكيَّفُ بكيفية الغضب والمحاربة، وتُرسِلُ أنفاسَها سِهامًا لها، وتمدُّها بالنفْث والتفْل الذي معه شيء مِن الرِّيق مصاحب لكيفية مؤثرة، والسواحِرُ تستعين بالنفث استعانةً بيِّنةً، وإن لم تتصل بجسم المسحور، بل تنفثُ على العُقدة وتعقِدها، وتتكلم بالسِّحْر، فيعمل ذلك في المسحور بتوسط الأرواح السُّفلية الخبيثة، فتقابِلُها الرُّوحُ الزكية الطيبة بكيفيَّة الدفع والتكلم بالرُّقية، وتستعينُ بالنفث، فأيُّهُما قَوِيَ كان الحكمُ له، ومقابلةُ الأرواح بعضها لبعض، ومحاربتُها وآلتها مِن جنس مقابلة الأجسام، ومحاربتها وآلتها سواء، بل الأصلُ في المحاربة والتقابلِ للأرواح والأجسام آلتها وجندها، ولكن مَن غلب عليه الحِسُّ لا يشعرُ بتأثيرات الأرواح وأفعالِهَا وانفعالاتِهَا لاستيلاء سُلطان الحِسِّ عليه، وبُعْدِهِ من عالَم الأرواح، وأحكامها، وأفعالها.
والمقصود أنَّ الرُّوح إذا كانت قويةً وتكيَّفتْ بمعاني الفاتحة، واستعانت بالنفث والتفْل، قابلت ذلك الأثَر الذي حصل من النفوس الخبيثة، فأزالته.. والله أعلم). [زاد المعاد:4/178-180]
قالَ ابنُ القَيِّمِ مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكْرٍ الدِّمَشْقِيُّ (ت:751هـ) في سِياقِ كَلامِهِ عَنِ الفَاتِحَةِ: (وأما تضمُّنُها لشفاءِ الأبدانِ فنذكُرُ منهُ ما جَاءتْ بهِ السُّنةُ ومَا شَهِدَتْ بهِ قواعِدُ الطبِّ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ التَّجرِبَةُ.
فَأَمَّا ما دلَّت عليهِ السُّنةُ ففِي الصحيحِ من حديثِ أبي المتوكِّلِ النَّاجِي عَن أبي سَعِيدٍ الخدريِّ أنَّ ناسًا من أَصحابِ النبيِّ مرُّوا بحيٍّ منَ العربِ فلمْ يَقْرُوهم ولم يُضَيِّفُوهُمْ؛ فَلُدِغَ سيِّدُ الحيِّ فأتَوْهُم؛ فَقَالُوا: هلْ عندَكم من رُقْيَةٍ؟ أو هلْ فيكم مِن رَاقٍ؟
فقالُوا: نَعَمْ، وَلَكِنَّكُم لَمْ تَقْرُونا فلا نَفْعَلُ حتَّى تَجْعَلُوا لنا جُعْلاً؛ فَجَعَلُوا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَطِيعًا مِنَ الغنمِ فجعلَ رجلٌ مِنَّا يَقْرَأُ عليهِ بفاتِحَةِ الكِتَابِ؛ فَقَامَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بهِ قَلَبَةٌ؛ فقلنا: لا تَعْجَلُوا حتَّى نأتي النبيَّّ؛ فأتَيْنَاهُ فَذَكَرْنَا لَهُ ذَلِكَ؛ فَقَالَ: ((مَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ كُلُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بسَهْمٍ)).
فَقد تضمَّنَ هذَا الحديثُ حصولَ شِفَاءِ هذَا اللديغِ بقرَاءَةِ الفاتِحَةِ عليهِ؛ فَأَغْنَتْهُ عَنِ الدَّوَاءِ، وَرُبَّمَا بلَغَت مِن شِفَائِهِ مَا لَمْ يبلغْهُ الدواءُ، هذَا معَ كونِ المحلِّ غيرَ قابلٍ؛ إِمَّا لِكَونِ هؤلاءِ الحيِّ غَيْرَ مُسْلِمِينَ أَوْ أهلَ بخلٍ وَلُؤْمٍ؛ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ المحلُّ قَابلاً.

فَصْلٌ
وَأمَّا شهادَةُ قَواعِدِ الطبِّ بذلكَ؛ فاعْلَمْ أنَّ اللدغَةَ تَكُونُ مِن ذَوَاتِ الحُمَاتِ وَالسُّمُومِ، وَهِي ذَوَاتُ الأَنفُسِ الخبيثَةِ الَّتي تتكيَّفُ بكيفيَّةٍ غضَبيَّةٍ تُثِيرُ فِيهَا سُمِّيَّةً نَارِيَّةً يَحْصُلُ بهَا اللَّدْغُ، وَهِي مُتَفَاوِتَةٌ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ خُبْثِ تِلْكَ النُّفُوسِ وَقُوَّتِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا؛ فَإِذَا تَكَيَّفَتْ أَنْفُسُهَا الخَبيثَةُ بتِلْكَ الكَيفيَّةِ الغَضَبيَّةِ أَحْدَثَ لَهَا ذَلِكَ طَبيعَةً سُمِّيَّةً تَجِدُ رَاحَةً وَلَذَّةً فِي إِلقَائِهَا إِلَى المحلِّ القَابلِ كَمَا يَجِدُ الشِّرِّيرُ مِنَ النَّاسِ رَاحَةً وَلَذَّةً فِي إِيصَالِ شَرِّهِ إِلَى مَن يُوصِلُهُ إِلَيهِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لا يَهنأُ لهُ عَيشٌ فِي يَوْمٍ لا يُؤْذِي فِيهِ أَحَدًا مِن بَنِي جِنسِهِ وَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ تَأذِّيًا بِحَمْلِ تلكَ السُّمِّيَّةِ وَالشَّرِّ الَّذِي فِيهِ حتَّى يُفرِّغَه في غَيرِهِ فَيَبْرُدُ عِندَ ذَلِكَ أنينُهُ وَتسكنُ نفسُه ويصيبُه في ذلكَ نظيرُ ما يصيبُ مَنِ اشتدَّت شَهوتُهُ إِلَى الجِمَاعِ فَيسوءُ خلقُهُ وتثقُل نفسُه حتَّى يقضِيَ وَطَرَهُ، هذَا فِي قوَّةِ الشَّهوةِ، وَذَاكَ فِي قوَّةِ الغَضَبِ.
وَقَدْ أقامَ اللهُ تعالَى بحكمتهِ السُّلطانَ وازِعًا لِهَذِه النفوسِ الغضبيَّةِ؛ فَلَوْلا هُو لَفَسَدَتِ الأرضُ وَخَرَجَتْ، {وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم ببَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ} [البقرة: 251] وَأباحَ اللهُ بلُطْفِهِ وَرحْمَتِهِ لهذِهِ النُّفُوسِ مِنَ الأزواجِ وَمُلْكِ اليَمِينِ مَا يَكْسِرُ حِدَّتَهَا.
والمقصودُ أنَّ هذهِ النفوسُ الغضبيَّةُ إذَا اتَّصَلَت بالمحلَِّ القابلِ أثَّرَت فيهِ، وَمنهَا مَا يؤثِّرُ فِي المحلِّ بمجرَّدِ مُقَابَلَتِهِ لَهُ وَإِن لَمْ يَمَسَّهُ؛ فَمِنهَا مَا يَطْمِسُ البَصَرَ وَيُسْقِطُ الحَبَلَ.
وَمِن هَذَا نَظَرُ العَائِنِ فإِنَّهُ إذَا وقَعَ بصرُهُ علَى المَعِينِ حدَثَت فِي نَفْسِهِ كيفيَّةٌ سُمِّيَّةٌ أَثَّرَتْ فِي المَعِينِ بحسَبِ عَدَمِ استعدَادِهِ، وَكَوْنِهِ أَعْزَلَ مِن السِّلاحِ، وبحسَبِ قوَّةِ تلكَ النفسِ.
وَكَثيرٌ مِن هذِهِ النُّفُوسِ يؤثِّرُ في المعينِ إذَا وُصِفَ لَهُ فتتكيَّفُ نفسُه وتقابلُه علَى البُعْدِ فيتأثَّرُ بهِ، وَمُنكِرُ هذَا لَيْسَ مَعْدُودًا مِن بَنِي آدَمَ إِلاَّ بالصُّورَةِ والشَّكْلِ.
فَإِذَا قابَلَتِ النَّفسُ الزَّكِيَّةُ العُلْويَّةُ الشَّرِيفَةُ الَّتي فِيهَا غَضَبٌ وَحَمِيَّةٌ للحَقِّ هَذِه النفوسَ الخبيثةَ السُّمِّيَّةَ، وَتَكَيَّفَت بحقَائِقِ الفَاتِحَةِ وأسرَارِهَا ومَعَانيها، وَمَا تضمَّنتهُ مِنَ التَّوحِيدِ وَالتوَكُّلِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ، وَذِكْرِ أُصُولِ أَسْمَائِهِ الحُسْنَى، وَذِكْرِ اسْمِهِ الَّذِي مَا ذُكِرَ عَلَى شَرٍّ إِلا أَزَالَهُ وَمَحَقَهُ، وَلا عَلَى خَيْرٍ إِلا نَمَّاهُ وَزَادَهُ دَفَعَتْ هَذِهِ النَّفْسُ بما تكيَّفَت بهِ مِن ذَلِكَ أَثَرَ تِلكَ النفسِ الخبيثَةِ الشَّيطانيةِ؛ فَحَصَلَ البُرْءُ؛ فَإِنَّ مَبْنَى الشِّفَاءِ وَالبُرْءِ عَلَى دَفْعِ الضِّدِّ بضِدِّهِ، وَحِفْظِ الشَّيءِ بمثلِهِ؛ فَالصِّحَّةُ تُحْفَظُ بالمِثْلِ، وَالمرَضُ يُدْفَعُ بالضِّدِّ، أَسْبَابٌ رَبَطَهَا بمسَبِّبَاتِهَا الحَكِيمُ العَلِيمُ خَلْقًا وَأَمْرًا.
وَلا يَتِمُّ هذَا إلاَّ بقوَّةٍ مِنَ النَّفْسِ الفَاعِلَةِ، وَقَبُولٍ مِنَ الطَّبيعَةِ المنفَعِلَةِ؛ فَلَو لَمْ تَنفَعِلْ نَفْسُ الملدُوغِ لِقَبُولِ الرُّقْيَةِ، وَلَمْ تَقْوَ نَفْسُ الرَّاقِي عَلَى التَّأْثِيرِ لَمْ يَحْصُلِ البُرْءُ.
فَهُنَا أَمُورٌ ثَلاثَةٌ:
-مُوَافَقَةُ الدَّوَاءِ للدَّاءِ.
-وَبَذْلُ الطَّبيبِ لَهُ.
-وَقَبُولُ طَبيعَةِ العَلِيلِ.
فَمَتَى تَخَلَّفَ وَاحِدٌ مِنهَا لَمْ يَحْصُلِ الشِّفَاءُ، وَإِذَا اجْتَمَعَتْ حَصَلَ الشِّفَاءُ وَلا بُدَّ بإِذْنِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَمَنْ عَرَفَ هَذَا كَمَا يَنبغِي تَبَيَّنَ لَهُ أَسْرَارُ الرُّقَى، وَمَيَّزَ بَينَ النَّافِعِ مِنْهَا وَغَيرِهِ، وَرَقَى الدَّاءَ بمَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الرُّقَى، وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الرُّقْيَةَ برَاقِيهَا وَقَبُولِ المحَلِّ، كَمَا أَنَّ السَّيفَ بضَارِبهِ مَعَ قَبُولِ المحلِّ للقَطْعِ.
وَهَذِهِ إِشَارَةٌ مُطْلِعَةٌ عَلَى مَا وَرَاءَهَا لِمَن دَقَّ نَظَرُهُ وَحَسُنَ تَأَمُّلُهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا شَهَادَةُ التجاربِ بذَلِكَ فَهِيَ أكثرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وقد جرَّبتُ أَنَا مِن ذَلكِ فِي نَفْسِي وَفِي غَيرِي أُمورًا عَجِيبَةً وَلا سِيَّمَا مُدَّةَ المقامِ بمكَّةَ فَإِنَّهُ كَانَ يَعْرِضُ لِي آلامٌ مُزْعِجَةٌ بحيثُ تكادُ تقطعُ الحركةَ منِّي، وَذَلِكَ فِي أثناءِ الطَّوَافِ وَغَيرِهِ؛ فَأُبَادِرُ إِلَى قِراءَةِ الفَاتِحَةِ وَأَمْسَحُ بهَا عَلَى مَحَلِّ الأَلَمِ فَكَأَنَّهُ حَصَاةٌ تَسْقُطُ، جَرَّبتُ ذلكَ مِرَارًا عدِيدَةً، وَكنتُ آخذُ قدَحًا مِن مَاءِ زَمْزَمَ فَأقرَأُ عَلَيهِ الفَاتِحَةَ مِرَارًا فأشرَبُهُ فَأَجِدُ بهِ مِنَ النَّفْعِ وَالقُوَّةِ مَا لَمْ أَعْهَد مِثلَهُ فِي الدَّوَاءِ، وَالأَمْرُ أَعظمُ مِن ذلكَ، وَلكِن بحسَبِ قُوَّةِ الإِيمَانِ وَصِحَّةِ اليَقِينِ، وَاللهُ المستعَانُ).
[مدارج السالكين:1/56-58]


رد مع اقتباس