عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 23 محرم 1440هـ/3-10-2018م, 08:50 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({قال نكّروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الّذين لا يهتدون (41) فلمّا جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنّه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنّا مسلمين (42) وصدّها ما كانت تعبد من دون اللّه إنّها كانت من قومٍ كافرين (43) قيل لها ادخلي الصّرح فلمّا رأته حسبته لجّةً وكشفت عن ساقيها قال إنّه صرحٌ ممرّدٌ من قوارير قالت ربّ إنّي ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان للّه ربّ العالمين (44)}
لـمّا جيء سليمان، عليه السّلام، بعرش بلقيس قبل قدومها، أمر به أن يغيّر بعض صفاته، ليختبر معرفتها وثباتها عند رؤيته، هل تقدم على أنّه عرشها أو أنّه ليس به، فقال: {نكّروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الّذين لا يهتدون}.
قال ابن عبّاسٍ: نزع عنه فصوصه ومرافقه.
وقال مجاهدٌ: أمر به فغيّر ما كان أحمر جعل أصفر، وما كان أصفر جعل أحمر: وما كان أخضر جعل أحمر، غيّر كلّ شيءٍ عن حاله.
وقال عكرمة: زادوا فيه ونقصوا.
[وقال قتادة: جعل أسفله أعلاه ومقدّمه مؤخّره، وزادوا فيه ونقصوا]). [تفسير ابن كثير: 6/ 194]

تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({فلمّا جاءت قيل أهكذا عرشك} أي: عرض عليها عرشها، وقد غيّر ونكّر، وزيد فيه ونقص منه، فكان فيها ثباتٌ وعقلٌ، ولها لب ودهاءٌ وحزمٌ، فلم تقدم على أنّه هو لبعد مسافته عنها، ولا أنّه غيره، لما رأت من آثاره وصفاته، وإن غيّر وبدّل ونكّر، فقالت: {كأنّه هو} أي: يشبهه ويقاربه. وهذا غايةٌ في الذّكاء والحزم.
وقوله: {وأوتينا العلم من قبلها وكنّا مسلمين}: قال مجاهدٌ: سليمان يقوله.
وقوله: {وصدّها ما كانت تعبد من دون اللّه إنّها كانت من قومٍ كافرين}: هذا من تمام كلام سليمان، عليه السّلام -في قول مجاهدٍ، وسعيد بن جبيرٍ، رحمهما اللّه- أي: قال سليمان: {وأوتينا العلم من قبلها وكنّا مسلمين}، وهي كانت قد صدّها، أي: منعها من عبادة اللّه وحده. {ما كانت تعبد من دون اللّه إنّها كانت من قومٍ كافرين}. وهذا الّذي قاله مجاهدٌ وسعيدٌ حسنٌ، وقاله ابن جريرٍ أيضًا.
ثمّ قال ابن جريرٍ: ويحتمل أن يكون في قوله: {وصدّها} ضميرٌ يعود إلى سليمان، أو إلى اللّه، عزّ وجلّ، تقديره: ومنعها {ما كانت تعبد من دون اللّه} أي: صدّها عن عبادة غير اللّه {إنّها كانت من قومٍ كافرين}.
قلت: ويؤيّد قول مجاهدٍ: أنّها إنّما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصّرح، كما سيأتي). [تفسير ابن كثير: 6/ 194]

تفسير قوله تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {قيل لها ادخلي الصّرح فلمّا رأته حسبته لجّةً وكشفت عن ساقيها} وذلك أنّ سليمان، عليه السّلام أمر الشّياطين فبنوا لها قصرًا عظيمًا من قوارير، أي: من زجاجٍ، وأجرى تحته الماء، فالّذي لا يعرف أمره يحسب أنّه ماءٌ، ولكنّ الزّجاج يحول بين الماشي وبينه. واختلفوا في السبب الذي دعا سليمان، عليه السّلام، إلى اتّخاذه، فقيل: إنّه لـمّا عزم على تزويجها واصطفائها لنفسه؛ ذكر له جمالها وحسنها، ولكن في ساقيها هلبٌ عظيمٌ، ومؤخّر أقدامها كمؤخّر الدّابّة. فساءه ذلك، فاتّخذ هذا ليعلم صحّته أم لا؟ -هذا قول محمّد بن كعبٍ القرظي، وغيره -فلمّا دخلت وكشفت عن ساقيها، رأى أحسن النّاس وأحسنه قدمًا، ولكن رأى على رجليها شعرًا؛ لأنّها ملكةٌ ليس لها بعلٌ فأحبّ أن يذهب ذلك عنها فقيل لها: الموسى؟ فقالت: لا أستطيع ذلك. وكره سليمان ذلك، وقال للجنّ: اصنعوا شيئًا غير الموسى يذهب به هذا الشّعر، فصنعوا له النورة. وكان أوّل من اتّخذت له النّورة، قاله ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وعكرمة، ومحمّد بن كعبٍ القرظيّ، والسّدّيّ، وابن جريج، وغيرهم.
وقال محمّد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان: ثمّ قال لها: ادخلي الصّرح، ليريها ملكًا هو أعزّ من ملكها، وسلطانًا هو أعظم من سلطانها. فلمّا رأته حسبته لجّةً وكشفت عن ساقيها، لا تشكّ أنّه ماءٌ تخوضه، فقيل لها: إنّه صرحٌ ممرّد من قوارير. فلمّا وقفت على سليمان، دعاها إلى عبادة اللّه وعاتبها في عبادتها الشّمس من دون اللّه.
وقال الحسن البصريّ: لـمّا رأت العلجة الصّرح عرفت -واللّه- أنّ قد رأت ملكًا أعظم من ملكها.
وقال محمّد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبّهٍ قال: أمر سليمان بالصّرح، وقد عملته له الشّياطين من زجاجٍ، كأنّه الماء بياضًا. ثمّ أرسل الماء تحته، ثمّ وضع له فيه سريره، فجلس عليه، وعكفت عليه الطّير والجنّ والإنس، ثمّ قال: ادخلي الصّرح، ليريها ملكًا هو أعزّ من ملكها، وسلطانًا هو أعظم من سلطانها {فلمّا رأته حسبته لجّةً وكشفت عن ساقيها}، لا تشكّ أنّه ماءٌ تخوضه، قيل لها: {إنّه صرحٌ ممرّدٌ من قوارير}، فلمّا وقفت على سليمان، دعاها إلى عبادة اللّه، عزّ وجلّ، وعاتبها في عبادتها الشّمس من دون اللّه. فقالت بقول الزّنادقة، فوقع سليمان ساجدًا إعظامًا لما قالت، وسجد معه النّاس، فسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع، فلمّا رفع سليمان رأسه قال: ويحك! ماذا قلت؟ -قال: وأنسيت ما قالت فقالت: {ربّ إنّي ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان للّه ربّ العالمين}، فأسلمت وحسن إسلامها.
وقد روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في هذا أثرًا غريبًا عن ابن عبّاسٍ، قال: حدّثنا الحسين بن عليٍّ، عن زائدة، حدّثني عطاء بن السّائب، حدّثنا مجاهدٌ، ونحن في الأزد -قال: حدّثنا ابن عبّاسٍ قال: كان سليمان، عليه السّلام، يجلس على سريره، ثمّ توضع كراسيّ حوله، فيجلس عليها الإنس، ثمّ يجلس الجنّ، ثمّ الشّياطين، ثمّ تأتي الريح فترفعهم، ثم تظلهم الطير، ثم يغدون قدر ما يشتهي الرّاكب أن ينزل شهرًا ورواحها شهرًا، قال: فبينما هو ذات يومٍ في مسيرٍ له، إذ تفقّد الطّير ففقد الهدهد فقال: {ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين * لأعذّبنّه عذابًا شديدًا أو لأذبحنّه أو ليأتينّي بسلطانٍ مبينٍ}، قال: فكان عذابه إيّاه أن ينتفه، ثمّ يلقيه في الأرض، فلا يمتنع من نملةٍ ولا من شيءٍ من هوامّ الأرض.
قال عطاءٌ: وذكر سعيد بن جبير عن ابن عبّاسٍ مثل حديث مجاهدٍ {فمكث غير بعيدٍ} -فقرأ حتّى انتهى إلى قوله - {قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا} وكتب {بسم اللّه الرّحمن الرّحيم}، إلى بلقيس: {ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين}، فلمّا ألقى الهدهد بالكتاب إليها، ألقي في روعها: إنّه كتابٌ كريمٌ، وإنّه من سليمان، وأن لا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين. قالوا: نحن أولو قوّةٍ. قالت: إنّ الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها، وإنّي مرسلةٌ إليهم بهديّةٍ. فلمّا جاءت الهديّة سليمان قال: أتمدّونني بمالٍ، ارجع إليهم. فلمّا نظر إلى الغبار -أخبرنا ابن عبّاسٍ قال: وكان بين سليمان وبين ملكة سبأٍ ومن معها حين نظر إلى الغبار كما بيننا وبين الحيرة، قال عطاءٌ: ومجاهدٌ حينئذٍ في الأزد -قال سليمان: أيّكم يأتيني بعرشها؟ قال: وبين عرشها وبين سليمان حين نظر إلى الغبار مسيرة شهرين، {قال عفريتٌ من الجنّ أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك}. قال: وكان لسليمان مجلسٌ يجلس فيه للنّاس، كما يجلس الأمراء ثمّ يقوم -قال: {أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك}. قال سليمان: أريد أعجل من ذلك. فقال الّذي عنده علمٌ من الكتاب: أنا أنظر في كتاب ربّي، ثمّ آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك. قال: [فنظر إليه سليمان فلمّا قطع كلامه ردّ سليمان بصره]، فنبع عرشها من تحت قدم سليمان، من تحت كرسيٍّ كان سليمان يضع عليه رجله، ثمّ يصعد إلى السّرير. قال: فلمّا رأى سليمان عرشها [مستقرًّا عنده] قال: {هذا من فضل ربّي}، {قال نكّروا لها عرشها}، فلمّا جاءت قيل لها: أهكذا عرشك؟ قالت: كأنّه هو. قال: فسألته عن أمرين، قالت لسليمان: أريد ماءً [من زبدٍ رواءً] ليس من أرضٍ ولا من سماءٍ -وكان سليمان إذا سئل عن شيءٍ، سأل الإنس ثمّ الجنّ ثمّ الشّياطين. [قال] فقالت الشّياطين: هذا هيّنٌ، أجر الخيل ثمّ خذ عرقها، ثمّ املأ منه الآنية. قال: فأمر بالخيل فأجريت، ثمّ أخذ عرقها فملأ منه الآنية. قال: وسألت عن لون اللّه عزّ وجلّ. قال: فوثب سليمان عن سريره، فخرّ ساجدًا، فقال: يا ربّ، لقد سألتني عن أمرٍ إنّه يتكايد، أي: يتعاظم في قلبي أن أذكره لك. قال: ارجع فقد كفيتكهم، قال: فرجع إلى سريره فقال: ما سألت عنه؟ قالت: ما سألتك إلّا عن الماء. فقال لجنوده: ما سألت عنه؟ فقالوا: ما سألتك إلّا عن الماء. قال: ونسوه كلّهم. قال: وقالت الشّياطين لسليمان: تريد أن تتّخذها لنفسك، فإن اتّخذها لنفسه ثمّ ولد بينهما ولدٌ، لم ننفكّ من عبوديّته. قال: فجعلوا صرحًا ممرّدًا من قوارير، فيه السّمك. قال: فقيل لها: ادخلي الصّرح فلمّا رأته حسبته لجّةً، وكشفت عن ساقيها، فإذا هي شعراء. فقال سليمان: هذا قبيحٌ، ما يذهبه؟ فقالوا: تذهبه المواسي. فقال: أثر الموسى قبيحٌ! قال: فجعلت الشّياطين النورة. قال: فهو أوّل من جعلت له النّورة.
ثمّ قال أبو بكر بن أبي شيبة: ما أحسنه من حديثٍ.
قلت: بل هو منكرٌ غريبٌ جدًّا، ولعلّه من أوهام عطاء بن السّائب على ابن عبّاسٍ، واللّه أعلم. والأقرب في مثل هذه السّياقات أنّها متلقّاةٌ عن أهل الكتاب، ممّا يوجد في صحفهم، كروايات كعبٍ ووهبٍ -سامحهما اللّه تعالى -فيما نقلاه إلى هذه الأمّة من أخبار بني إسرائيل، من الأوابد والغرائب والعجائب، ممّا كان وما لم يكن، وممّا حرّف وبدّل ونسخ. وقد أغنانا اللّه، سبحانه، عن ذلك بما هو أصحّ منه وأنفع وأوضح وأبلغ، وللّه الحمد والمنّة.
أصل الصّرح في كلام العرب: هو القصر، وكلّ بناءٍ مرتفعٍ، قال اللّه، سبحانه وتعالى، إخبارًا عن فرعون -لعنه اللّه -أنّه قال لوزيره هامان {ابن لي صرحًا لعلّي أبلغ الأسباب أسباب السّموات فأطّلع إلى إله موسى} الآية [غافرٍ:36، 37]. والصّرح: قصرٌ في اليمن عالي البنّاء، والممرّد أي: المبنيّ بنّاءً محكمًا أملس {من قوارير} أي: زجاجٍ. وتمريد البناء تمليسه. وماردٌ: حصنٌ بدومة الجندل.
والغرض أنّ سليمان، عليه السّلام، اتّخذ قصرًا عظيمًا منيفًا من زجاجٍ لهذه الملكة؛ ليريها عظمة سلطانه وتمكّنه، فلمّا رأت ما آتاه اللّه، تعالى، وجلالة ما هو فيه، وتبصّرت في أمره انقادت لأمر اللّه وعرفت أنّه نبيٌّ كريمٌ، وملكٌ عظيمٌ، فأسلمت للّه، عزّ وجلّ، وقالت: {ربّ إنّي ظلمت نفسي} أي: بما سلف من كفرها وشركها وعبادتها وقومها الشّمس من دون اللّه، {وأسلمت مع سليمان للّه ربّ العالمين} أي: متابعةً لدين سليمان في عبادته للّه وحده، لا شريك له، الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا). [تفسير ابن كثير: 6/ 194-197]

رد مع اقتباس