عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 22 جمادى الأولى 1435هـ/23-03-2014م, 07:26 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي تفاسير القرن السادس

تفاسير القرن السادس

تفسير قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (
وقوله تعالى: {اهدنا} رغبة لأنها من المربوب إلى الرب، وهكذا صيغة الأمر كلها، فإذا كانت من الأعلى فهي أمر، والهداية في اللغة الإرشاد، لكنها تتصرف على وجوه يعبر عنها المفسرون بغير لفظ الإرشاد، وكلها إذا تؤملت رجعت إلى الإرشاد، فالهدى يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى: {أولئك على هدىً من ربّهم} [البقرة: 5] وقوله تعالى: {واللّه يدعوا إلى دار السّلام ويهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ} [يونس: 25] وقوله تعالى: {إنّك لا تهدي من أحببت ولكنّ اللّه يهدي من يشاء} [القصص: 56] وقوله تعالى: {فمن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام} [الأنعام: 125].
قال أبو المعالي: فهذه آية لا يتجه حملها إلا على خلق الإيمان في القلب، وهو محض الإرشاد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد جاء الهدى بمعنى الدعاء، من ذلك قوله تعالى: {ولكلّ قومٍ هادٍ} [الرعد: 7] أي: داع وقوله تعالى: {وإنّك لتهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ} [الشورى: 52] وهذا أيضا يبين فيه الإرشاد، لأنه ابتداء إرشاد، أجاب المدعو أو لم يجب، وقد جاء الهدى بمعنى الإلهام، من ذلك قوله تعالى: {أعطى كلّ شيءٍ خلقه ثمّ هدى} [طه: 5].
قال المفسرون: معناه «ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها». وهذا أيضا بين فيه معنى الإرشاد، وقد جاء الهدى بمعنى البيان، من ذلك قوله تعالى: {وأمّا ثمود فهديناهم} [فصلت: 17].
قال المفسرون: «معناه بينا لهم». قال أبو المعالي: معناه: دعوناهم ومن ذلك قوله تعالى: {إنّ علينا للهدى} [الليل: 12] أي: علينا أن نبين، وفي هذا كله معنى الإرشاد.
قال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها، من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: {فلن يضلّ أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم} [محمد:5] ومنه قوله تعالى: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} [الصافات: 23] معناه: فاسلكوهم إليها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه الهداية بعينها هي التي تقال في طرق الدنيا، وهي ضد الضلال وهي الواقعة في قوله تعالى: {اهدنا الصّراط المستقيم} على صحيح التأويل، وذلك بين من لفظ الصّراط، والهدى لفظ مؤنث، وقال اللحياني: «هو مذكر» قال ابن سيده: «والهدى اسم من أسماء النهار» قال ابن مقبل:

حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة ...... يخشعن في الآل غلفا أو يصلينا
والصّراط في اللغة: الطريق الواضح، فمن ذلك قول جرير:

أمير المؤمنين على صراط ...... إذا اعوج الموارد مستقيم
ومنه قول الآخر:

فصد عن نهج الصراط الواضح
وحكى النقاش: «الصراط: الطريق بلغة الروم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف جدا.
واختلف القراء في الصّراط فقرأ ابن كثير وجماعة من العلماء: «السراط» بالسين، وهذا هو أصل اللفظة.
قال الفارسي: «ورويت عن ابن كثير بالصاد». وقرأ باقي السبعة غير حمزة بصاد خالصة وهذا بدل السين بالصاد لتناسبها مع الطاء في الاطباق فيحسنان في السمع، وحكاها سيبويه لغة.
قال أبو علي: روي عن أبي عمرو السين والصاد، والمضارعة بين الصاد والزاي، رواه عنه العريان بن أبي سفيان. وروى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأها بزاي خالصة.
قال بعض اللغويين: «ما حكاه الأصمعي من هذه القراءة خطأ منه، إنما سمع أبا عمرو يقرأ بالمضارعة فتوهمها زايا، ولم يكن الأصمعي نحويا فيؤمن على هذا».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وحكى هذا الكلام أبو علي عن أبي بكر بن مجاهد. وقرأ حمزة بين الصاد والزاي. وروي أيضا عنه أنه إنما يلتزم ذلك في المعرفة دون النكرة.
قال ابن مجاهد: «وهذه القراءة تكلف حرف بين حرفين، وذلك أصعب على اللسان، وليس بحرف يبنى عليه الكلام ولا هو من حروف المعجم، ولست أدفع أنه من كلام فصحاء العرب، إلا أن الصاد أفصح وأوسع».
وقرأ الحسن والضحاك: «اهدنا صراطا مستقيما» دون تعريف وقرأ جعفر بن محمد الصادق: «اهدنا صراط المستقيم» بالإضافة وقرأ ثابت البناني: «بصرنا الصراط».
واختلف المفسرون في المعنى الذي استعير له الصّراط في هذا الموضع وما المراد به، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «الصّراط المستقيم هنا القرآن» وقال جابر: «هو الإسلام» يعني الحنيفية. وقال: «سعته ما بين السماء والأرض». وقال محمد بن الحنفية: «هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره» وقال أبو العالية: «هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر». وذكر ذلك للحسن بن أبي الحسن، فقال: صدق أبو العالية ونصح.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويجتمع من هذه الأقوال كلها أن الدعوة إنما هي في أن يكون الداعي على سنن المنعم عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين في معتقداته، وفي التزامه لأحكام شرعه، وذلك هو مقتضى القرآن والإسلام، وهو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، وهذا الدعاء إنما أمر به المؤمنون وعندهم المعتقدات وعند كل واحد بعض الأعمال، فمعنى قولهم {اهدنا} فيما هو حاصل عندهم طلب التثبيت والدوام، وفيما ليس بحاصل إما من جهة الجهل به أو التقصير في المحافظة عليه طلب الإرشاد إليه.
وأقول إن كل داع به فإنما يريد الصّراط بكماله في أقواله وأفعاله ومعتقداته، فيحسن على هذا أن يدعو في الصراط على الكمال من عنده بعضه ولا يتجه أن يراد بـ{اهدنا} في هذه الآية اخلق الإيمان في قلوبنا، لأنها هداية مقيدة إلى صراط ولا أن يراد بها ادعنا، وسائر وجوه الهداية يتجه، والصّراط نصب على المفعول الثاني، والمستقيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف، والمراد أنه استقام على الحق وإلى غاية الفلاح، ودخول الجنة، وإعلال مستقيم أن أصله مستقوم نقلت الحركة إلى القاف وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها). [المحرر الوجيز: 1 /84-88]

تفسير قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (و{صراط الذين} بدل من الأول.
وقرأ عمر بن الخطاب، وابن الزبير: «صراط من أنعمت عليهم».
والّذين جمع الذي، وأصله «لذ»، حذفت منه الياء للتنوين كما تحذف من عم، وقاض، فلما دخلته الألف واللام ثبتت الياء. و«الذي» اسم مبهم ناقص محتاج إلى صلة وعائد، وهو مبني في إفراده وجمعه معرب في تثنيته. ومن العرب من يعرب جمعه، فيقول في الرفع اللذون، وكتب الذي بلام واحدة في الإفراد والجمع تخفيفا لكثرة الاستعمال، واختلف الناس في المشار إليهم بأنه أنعم عليهم.
فقال ابن عباس وجمهور من المفسرين: إنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى: {ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشدّ تثبيتاً، وإذاً لآتيناهم من لدنّا أجراً عظيماً ولهديناهم صراطاً مستقيماً ومن يطع اللّه والرّسول فأولئك مع الّذين أنعم اللّه عليهم من النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك رفيقاً} [النساء: 66- 69] فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم، وهو المطلوب في آية الحمد.
وقال ابن عباس أيضا: «المنعم عليهم هم المؤمنون».
وقال الحسن بن أبي الحسن: «المنعم عليهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم».
وحكى مكي وغيره عن فرقة من المفسرين أن المنعم عليهم مؤمنو بني إسرائيل، بدليل قوله تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم}
[البقرة: 40، 47، 122].
وقال ابن عباس: «المنعم عليهم أصحاب موسى قبل أن يبدلوا».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا والذي قبله سواء.
وقال قتادة بن دعامة: «المنعم عليهم الأنبياء خاصة».
وحكى مكي عن أبي العالية أنه قال: «المنعم عليهم محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد تقدم ما حكاه عنه الطبري من أنه فسر الصّراط المستقيم بذلك، وعلى ما حكى مكي ينتقض الأول ويكون الصّراط المستقيم طريق محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وهذا أقوى في المعنى، لأن تسمية أشخاصهم طريقا تجوز، واختلف القراء في الهاء من عليهم، فقرأ حمزة «عليهم» بضم الهاء وإسكان الميم، وكذلك لديهم وإليهم. قرأ الباقون في جميعها بكسر الهاء واختلفوا في الميم.
فروي عن نافع التخيير بين ضمها وسكونها. وروي عنه أنه كان لا يعيب ضم الميم، فدل ذلك على أن قراءته كانت بالإسكان.
وكان عبد الله بن كثير يصل الميم بواو انضمت الهاء قبلها أو انكسرت فيقرأ «عليهمو وقلوبهمو وسمعهمو وأبصارهمو».
وقرأ ورش الهاء مكسورة والميم موقوفة، إلا أن تلقى الميم ألفا أصلية فيلحق في اللفظ واوا مثل قوله: {سواءٌ عليهم أأنذرتهم} [البقرة: 6].
وكان أبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، والكسائي، يكسرون، ويسكنون الميم، فإذا لقي الميم حرف ساكن اختلفوا فكان عاصم، وابن كثير، ونافع يمضون على كسر الهاء وضم الميم، مثل قوله تعالى: {عليهم الذّلّة} [البقرة: 61، آل عمران: 112] و{من دونهم امرأتين} [القصص: 23] وما أشبه ذلك، وكان أبو عمرو يكسر الهاء والميم فيقول: «عليهم الذّلّة» و«إليهم اثنين
» [يس: 14] وما أشبه ذلك.
وكان الكسائي يضم الهاء والميم معا، فيقرأ عليهم الذّلّة ومن دونهم امرأتين.
قال أبو بكر أحمد بن موسى: وكل هذا الاختلاف في كسر الهاء وضمها إنما هو في الهاء التي قبلها كسرة أو ياء ساكنة، فإذا جاوزت هذين لم يكن في الهاء إلا الضم، فإذا لم يكن قبل الميم هاء قبلها كسرة أو ياء ساكنة لم يجز في الميم إلا الضم والتسكين في مثل قوله تعالى: منكم وأنتم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وحكى صاحب الدلائل قال: «قرأ بعضهم عليهم وبواو وضمتين، وبعضهم بضمتين وألغى الواو، وبعضهم بكسرتين وألحق الياء، وبعضهم بكسرتين وألغى الياء، وبعضهم بكسر الهاء وضم الميم».
قال: «وذلك مروي عن الأئمة ورؤساء اللغة».
قال ابن جني: «حكى أحمد بن موسى عليهمو وعليهُمُ بضم الميم من غير إشباع إلى الواو، وعليهم بسكون الميم».
وقرأ الحسن وعمرو بن فائد «عليهمي».
وقرئ «عليهم» بكسر الميم دون إشباع إلى الياء.
وقرأ الأعرج: «عليهم» بكسر الياء وضم الميم من غير إشباع.
وهذه القراءات كلها بضم الهاء إلا الأخيرة وبإزاء كل واحدة منها قراءة بكسر الهاء فيجيء في الجميع عشر قراءات). [المحرر الوجيز: 1/ 88-90]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين}.
اختلف القراء في الراء من غير، فقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي بخفض الراء، وقرأ ابن كثير بالنصب، وروي عنه الخفض.
قال أبو علي: «الخفض على ضربين: على البدل، من الّذين، أو على الصفة للنكرة، كما تقول مررت برجل غيرك، وإنما وقع هنا صفة ل الّذين لأن الّذين هنا ليس بمقصود قصدهم، فالكلام بمنزلة قولك إني لأمر بالرجل مثلك فأكرمه».
قال: «والنصب في الراء على ضربين: على الحال كأنك قلت أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم، أو على الاستثناء كأنك قلت إلا المغضوب عليهم، ويجوز النصب على أعني». وحكي نحو هذا عن الخليل.
ومما يحتج به لمن ينصب أن غير نكرة فكره أن يوصف بها المعرفة، والاختيار الذي لا خفاء به الكسر. وقد روي عن ابن كثير، فأولى القولين ما لم يخرج عن إجماع قراء الأمصار.
قال أبو بكر بن السراج: «والذي عندي أن غير في هذا الموضع مع ما أضيف إليه معرفة، وهذا شيء فيه نظر ولبس، فليفهم عني ما أقول: اعلم أن حكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة، وإنما تنكرت غير ومثل مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما، وذلك إذا قلت رأيت غيرك فكل شيء سوى المخاطب فهو غيره، وكذلك إذا قلت رأيت مثلك فما هو مثله لا يحصى لكثرة وجوه المماثلة، فإنما صارا نكرتين من أجل المعنى فأما إذا كان شيء معرفة له ضد واحد وأردت إثباته، ونفي ضده، وعلم ذلك السامع فوصفته بغير وأضفت غير إلى ضده فهو معرفة، وذلك كقولك عليك بالحركة غير السكون، وكذلك قولك غير المغضوب لأن من أنعم عليه لا يعاقبه إلا من غضب عليه، ومن لم يغضب عليه فهو الذي أنعم عليه، فمتى كانت غير على هذه الصفة وقصد بها هذا المقصد فهي معرفة».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: أبقى أبو بكر الّذين على حد التعريف، وجوز نعتها ب غير لما بينه من تعرف غير في هذا الموضع، وغير أبي بكر وقف مع تنكر غير، وذهب إلى تقريب الّذين من النكرة إذ هو اسم شائع لا يختص به معين، وعلى هذا جوز نعتها بالنكرة، والمغضوب عليهم اليهود، والضالون النصارى. وهكذا قال ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والسدي، وابن زيد، وروي ذلك عدي بن حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بين من كتاب الله تعالى، لأن ذكر غضب الله على اليهود متكرر فيه كقوله: {وباؤوا بغضبٍ من اللّه} [البقرة: 61، آل عمران: 112]، وكقوله تعالى: {قل هل أنبّئكم بشرٍّ من ذلك مثوبةً عند اللّه من لعنه اللّه وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير} [المائدة: 60] فهؤلاء اليهود، بدلالة قوله تعالى بعده: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين} [البقرة: 65] والغضب عليهم هو من الله تعالى، وغضب الله تعالى عبارة عن إظهاره عليهم محنا وعقوبات وذلة ونحو ذلك، مما يدل على أنه قد أبعدهم عن رحمته بعدا مؤكدا مبالغا فيه، والنصارى كان محققوهم على شرعة قبل ورود شرع محمد صلى الله عليه وسلم، فلما ورد ضلوا، وأما غير محققيهم فضلالهم متقرر منذ تفرقت أقوالهم في عيسى عليه السلام. وقد قال الله تعالى فيهم: {ولا تتّبعوا أهواء قومٍ قد ضلّوا من قبل وأضلّوا كثيراً وضلّوا عن سواء السّبيل} [المائدة: 77].
قال مكي رحمه الله حكاية: دخلت لا في قوله ولا الضّالّين لئلا يتوهم أن الضّالّين عطف على الّذين.
قال: «وقيل هي مؤكدة بمعنى غير».
وحكى الطبري أن لا زائدة، وقال: هي هنا على نحو ما هي عليه في قول الراجز:

فما ألوم البيض ألا تسخرا ...... ... ... ... ...
أراد أن تسخر، وفي قول الأحوص:

ويلحينني في اللهو أن لا أحبّه ...... وللهو داع دائب غير غافل
وقال الطبري: يريد: ويلحينني في اللهو أن أحبه».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وبيت الأحوص إنما معناه إرادة أن لا أحبه ف «لا» فيه متمكنة.
قال الطبري: ومنه قوله تعالى: {ما منعك ألّا تسجد} [الأعراف: 12] وإنما جاز أن تكون لا بمعنى الحذف، ولأنها تقدمها الجحد في صدر الكلام، فسيق الكلام الآخر مناسبا للأول، كما قال الشاعر:

ما كان يرضي رسول الله فعلهم ...... والطيبان أبو بكر ولا عمر
وقرأ عمر بن الخطاب وأبي بن كعب: «غير المغضوب عليهم وغير الضالين».
وروي عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين.
قال الطبري: «فإن قال قائل أليس الضلال من صفة اليهود، كما أن النصارى عليهم غضب فلم خص كل فريق بذكر شيء مفرد؟ قيل: هم كذلك ولكن وسم الله لعباده كل فريق بما قد تكررت العبارة عنه به وفهم به أمره».
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وهذا غير شاف، والقول في ذلك أن أفاعيل اليهود من اعتدائهم، وتعنتهم، وكفرهم مع رؤيتهم الآيات، وقتلهم الأنبياء أمور توجب الغضب في عرفنا، فسمى تعالى ما أحل بهم غضبا، والنصارى لم يقع لهم شيء من ذلك، إنما ضلوا من أول كفرهم دون أن يقع منهم ما يوجب غضبا خاصا بأفاعيلهم، بل هو الذي يعم كل كافر وإن اجتهد، فلهذا تقررت العبارة عن الطائفتين بما ذكر، وليس في العبارة ب الضّالّين تعلق للقدرية في أنهم أضلوا أنفسهم لأن هذا إنما هو كقولهم تهدم الجدار وتحركت الشجرة والهادم والمحرك غيرهما، وكذلك النصارى خلق الله الضلال فيهم وضلوا هم بتكسبهم.
وقرأ أيوب السختياني: «الضألين» بهمزة غير ممدودة كأنه فر من التقاء الساكنين، وهي لغة.
حكى أبو زيد قال: سمعت عمرو بن عبيد يقرأ: «فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأن» فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب دأبة وشأبة.
قال أبو الفتح: وعلى هذه اللغة قول كثير:

... ... ... ... ...... إذا ما العوالي بالعبيط احمأرّت
وقول الآخر:

وللأرض أما سودها فتجللت ...... بياضا وأمّا بيضها فادهأمّت
وأجمع الناس على أنّ عدد آي سورة الحمد سبع آيات: {العالمين} آية، {الرّحيم} آية، {الدّين} آية، {نستعين} آية، {المستقيم} آية، {أنعمت عليهم} آية، {ولا الضّالّين} آية. وقد ذكرنا في تفسير {بسم الله الرحمن الرحيم} ما ورد من خلاف ضعيف في ذلك). [المحرر الوجيز: 1/ 90-95]

التأمين بعد: {ولا الضالين}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (القول في آمين
روى أبو هريرة وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا قال الإمام: {ولا الضّالّين} فقولوا آمين. فإن الملائكة في السماء تقول آمين، فمن وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه».
وروي أن جبريل عليه السلام لما علم النبي عليه السلام فاتحة الكتاب وقت نزولها فقرأها قال له: «قل: آمين».
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «آمين خاتم رب العالمين، يختم بها دعاء عبده المؤمن».
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو فقال: «أوجب إن ختم». فقال له رجل بأي شيء يختم يا رسول الله؟ قال: «بآمين».
ومعنى «آمين» عند أكثر أهل العلم: اللهم استجب، أو أجب يا رب، ونحو هذا. قاله الحسن بن أبي الحسن وغيره، ونص عليه أحمد بن يحيى ثعلب وغيره.
وقال قوم: «هو اسم من أسماء الله تعالى»، روي ذلك عن جعفر بن محمد ومجاهد وهلال بن يساف، وقد روي أن «آمين» اسم خاتم يطبع به كتب أهل الجنة التي تؤخذ بالإيمان.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فمقتضى هذه الآثار أن كلّ داع ينبغي له في آخر دعائه أن يقول: «آمين» وكذلك كل قارئ للحمد في غير صلاة، لكن ليس بجهر الترتيل. وأما في الصلاة فقال بعض العلماء: «يقولها كل مصلّ من إمام وفذ ومأموم قرأها أو سمعها».
وقال مالك في المدونة: «لا يقول الإمام «آمين» ولكن يقولها من خلفه ويخفون، ويقولها الفذ».
وقد روي عن مالك رضي الله عنه: أن الإمام يقولها أسرّ أم جهر.
وروي عنه: «الإمام لا يؤمن في الجهر».
وقال ابن حبيب: «يؤمن».
وقال ابن بكير: «هو مخير».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فهذا الخلاف إنما هو في الإمام، ولم يختلف في الفذ ولا في المأموم إلا ابن نافع. قال في كتاب ابن حارث: «لا يقولها المأموم إلا إن سمع الإمام يقول {ولا الضّالّين}، وإذا كان ببعد لا يسمعه فلا يقل».
وقال ابن عبدوس: «يتحرى قدر القراءة ويقول آمين». وهي لفظة مبنية على الفتح لالتقاء الساكنين، وكأن الفتح مع الياء أخف من سائر الحركات، ومن العرب من يقول «آمين» فيمده، ومنه قول الشاعر:
آمين آمين لا أرضى بواحدة ...... حتى أبلغها ألفين آمينا
ومن العرب من يقول «أمين» بالقصر، ومنه قول الشاعر: [جبير بن الأضبط]
تباعد مني فطحل إذ رأيته ...... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
واختلف الناس في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة» فقيل: في الإجابة، وقيل: في خلوص النية، وقيل: في الوقت، والذي يترجح أن المعنى فمن وافق في الوقت مع خلوص النية، والإقبال على الرغبة إلى الله تعالى بقلب سليم، والإجابة تتبع حينئذ، لأنّ من هذه حاله فهو على الصراط المستقيم). [المحرر الوجيز: 1/ 96-97]


رد مع اقتباس