قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فتوبوا إلى بارئكم)
روى اليزيدي عن أبي عمرو (بارئكم) بجزم الهمزة.
وروى عباس عن أبي عمرو أنه قال: قراءتي (بارئكم) مهموزة لا يثقّلها. وقال سيبويه: كان أبو عمرو يختلس الحركة من (بارئكم)، وهو صحيح، وسيبويه أضبط لما
[معاني القراءات وعللها: 1/150]
روى عن أبي عمرو من غيره، لأن حذف الكسر في مثل هذا إنما يأتي في اضطرار الشعر، ولا يجوز ذلك في القرآن، وسائر القراء قرأوا بالإشباع، وكسر الهمزة، وهي القراءة المختارة، وليس كل لسان يطوع ما كان يطوع له لسان أبي عمرو، لأن صيغة لسانه صارت كصيغة ألسنة العرب الذين شاهدهم وألف عادتهم). [معاني القراءات وعللها: 1/151]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في بارئكم [البقرة/ 54] في كسر الهمز واختلاس حركتها.
فكان عبد الله بن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ يكسرون العين من غير اختلاس ولا تخفيف.
واختلف عن أبي عمرو، فقال العباس بن الفضل الأنصاريّ: سألت أبا عمرو كيف تقرأ: إلى بارئكم مهموزة مثقّلة، أو إلى بارئكم مخففة؟ فقال: قراءتي مهموزة غير مثقّلة بارئكم.
وروى اليزيديّ وعبد الوارث عنه: إلى بارئكم ولا يجزم الهمزة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/76]
قال أحمد: وقال سيبويه: كان أبو عمرو يختلس الحركة من: بارئكم ويأمركم [البقرة/ 67] وما أشبه ذلك، مما تتوالى فيه الحركات، فيري من يسمعه أنه قد أسكن ولم يكن يسكن، وهذا مثل رواية عباس بن الفضل عنه التي ذكرتها أنه لا يثقّلها. وهذا القول أشبه بمذهب أبي عمرو، لأنه كان يستعمل التخفيف في قراءته كثيرا. من ذلك ما حدثني عبيد الله بن عليّ الهاشميّ عن نصر بن علي عن أبيه عنه أنه كان يقرأ ويعلّمهم الكتاب [البقرة/ 129] ويلعنهم [البقرة/ 159] يشمّ الميم والنون التي قبل الهاء الضمّ من غير إشباع. وكذلك: عن أسلحتكم وأمتعتكم [النساء/ 102] يشمّ التاء فيها شيئا من الخفض. أخبرني بذلك أبو طالب عبد الله بن أحمد بن سوادة قال: حدّثنا إبراهيم بن سعد الزّهراني، قال: حدثنا عبيد بن عقيل عن أبي عمرو بذلك.
قال: وكذلك: ويزكّيكم ويعلّمكم [البقرة/ 151] يشمّها شيئا من الضم، وكذلك: يوم يجمعكم [التغابن/ 9] يشمّ العين شيئا من الضم، وكذلك قوله: وأرنا مناسكنا [البقرة/ 128] لا يسكن الراء ولا يكسرها.
روى ذلك عنه علي بن نصر وعبد الوارث واليزيديّ وعباس بن الفضل وغيرهم، أعني: وأرنا وكذلك قراءته
[الحجة للقراء السبعة: 2/77]
في: يأمركم [البقرة/ 67] ويأمرهم [الأعراف/ 157] وينصركم [آل عمران/ 160] وما أشبه ذلك من الحركات المتواليات.
وروى عبد الوهاب بن عطاء وهارون الأعور عن أبي عمرو: وأرنا ساكنة الراء. وقال اليزيدي في ذلك كله:
إنه كان يسكّن اللام من الفعل في جميعه. والقول: ما خبرتك من إيثاره التخفيف في قراءته كلها، والدليل على إيثاره التخفيف أنه كان يدغم من الحروف ما لا يكاد يدغمه غيره، ويليّن الساكن من الهمز، ولا يهمز همزتين وغير ذلك.
وقال عليّ بن نصر: عن أبي عمرو: ولا يأمركم [آل عمران/ 80] برفع الراء مشبعة.
قال أبو علي: حروف المعجم على ضربين: ساكن ومتحرك. والساكن على ضربين:
أحدهما: ما أصله في الاستعمال السّكون مثل راء برد، وكاف بكر.
والآخر: ما أصله الحركة في الاستعمال فيسكن عنها.
وما كان أصله الحركة يسكن على ضربين، أحدهما: أن تكون حركته حركة بناء، والآخر: أن تكون حركة الإعراب.
[الحجة للقراء السبعة: 2/78]
وحركة البناء التي تسكن على ضربين:
أحدهما: أن يكون الحرف المسكن من كلمة مفردة، نحو: فخذ وسبع وإبل، وضرب وعلم. يقول من يخفف:
سبع، وفخذ، وعلم وضرب.
والآخر: أن يكون هذا المثال من كلمتين، فيسكن على تشبيه المنفصل بالمتصل، كما جاء ذلك في مواضع من كلامهم نحو الإمالة والإدغام، وذلك قولهم: «أراك منتفخا» ويخش اللّه ويتّقه [النور/ 52] ومن ذلك قول العجاج:
فبات منتصبا وما تكردسا ألا ترى أنّ نفخا من منتفخ، مثل كتف، وكذلك تقه من يتّقه، وكذلك ما أنشده أبو زيد من قوله:
قالت سليمى اشتر لنا سويقا فنزّل مثل كتف. فأما حركة البناء فلا خلاف في تجويز إسكانها في نحو ما ذكرنا من قول العرب والنحويين. وأما حركة الإعراب فمختلف في تجويز إسكانها، فمن الناس من ينكره فيقول إن إسكانها لا يجوز من حيث كان علما للإعراب.
وسيبويه يجوّز ذلك، ولا يفصل بين القبيلين في الشعر، وقد روى ذلك عن العرب، وإذا جاءت الرواية لم تردّ بالقياس، فمن ما أنشده في ذلك قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/79]
وقد بدا هنك من المئزر وقوله:
فاليوم أشرب غير مستحقب وقال: إذا اعوججن قلت صاحب قوّم ومما جاء في هذا النحو قول جرير:
سيروا بني العمّ فالأهواز منزلكم... ونهر تيرا ولا تعرفكم العرب
ومن ذلك قول وضاح اليمن:
[الحجة للقراء السبعة: 2/80]
إنما شعري شهد... قد خلط بالجلجلان
فأسكن الفتحة في مثال الماضي، وهذه الفتحة تشبه النصبة. كما أن الضمة في: صاحب قوّم، تشبه الرفعة. وجاز إسكان حركة الإعراب، كما جاز تحريك إسكان البناء، فشبّه ما يدخل على المعرب من المتحركات من الحركة بما يدخل على المبني، كما شبهوا حركات البناء بحركات الإعراب، فمن ثمّ أدغم نحو: ردّ، وفرّ، وعضّ ونحو ذلك، كما أدغموا نحو:
يردّ، ويشدّ. وذلك أن حركة غير الإعراب لما كانت تعاقب على المبني، كما تعاقب حركة الإعراب على المعرب أدغموه، كما أدغموا المعرب، والحركات المتعاقبة على
ذلك، نحو:
حركة الهمزة إذا سكن ما قبلها، نحو: اضرب أخاك، ونحو:
حركة التقاء الساكنين، وحركة النونين الخفيفة والشديدة فكما شبهوا تعاقب هذه الحركات التي للبناء على أواخر الكلم بتعاقب حركات الإعراب، حتى أدغم من أدغم نحو: ردّ، واستعدّ، كما يدغم نحو: يردّ، ويستعدّ، كذلك شبهوا حركة الإعراب بالبناء في نحو ما ذكرنا فأسكنوا.
فأما من زعم أن حذف هذه الحركة لا يجوز من حيث كانت علما للإعراب، فليس قوله بمستقيم، وذلك أن حركات
[الحجة للقراء السبعة: 2/81]
الإعراب قد تحذف لأشياء، ألا ترى أنها تحذف في الوقف، وتحذف من الأسماء والأفعال المعتلّة. فلو كانت حركة الإعراب لا يجوز حذفها من حيث كانت دلالة الإعراب، لم يجز حذفها في هذه المواضع، فإذا جاز حذفها في هذه المواضع لعوارض تعرض، جاز حذفها أيضا في ما ذهب إليه سيبويه وهو التشبيه بحركة البناء، والجامع بينهما: أنهما جميعا زائدان. وأنها قد تسقط في الوقف والاعتلال، كما تسقط التي للبناء للتخفيف.
فإن قلت: إن سقوطها في الوقف إنما جاز لأنه إذا وصلت الكلمة ظهرت الحركة ويستدل عليه بالموضع.
قيل: وكذلك إذا أسكن نحو: هنك، استدلّ عليه بالموضع، وإذا فارقت هذه الصّيغة التي شبّهت لها بسبع، ظهرت كما تظهر التي للإعراب في الوصل.
ومما يدل على أن هذه الحركة إذا أسكنت كانت مرادة، كما أن حركة الإعراب مرادة، قولهم: رضي، ولقضو الرجل، فأسكنوا، ولم يرجعوا الياء والواو إلى الأصل، حيث كانت مرادة. كذلك تكون حركة الإعراب لمّا كانت مرادة، وإن حذفت لم يمتنع حذفها، وكان حذفها بمنزلة إثباتها في الجواز كما كانت الحركة فيما ذكرنا كذلك.
فإن قلت: إنّ حركات الإعراب تدل على المعنى، فإذا
[الحجة للقراء السبعة: 2/82]
حذفت اختلّت الدّلالة عليه، قيل: وحركات البناء أيضا قد تدل على المعنى وقد حذفت، ألا ترى أن تحريك العين بالكسر في نحو: ضرب يدل على معنى، وقد جاز إسكانها، فكذلك يجوز إسكان حركة الإعراب. وكذلك الكسر في مثل حذر، والضمة في نحو: حذر.
واعلم أن الحركات التي تكون للبناء والإعراب يستعملون في الضمة والكسرة منهما ضربين، أحدهما: الإشباع والتمطيط، والآخر: الاختلاس والتخفيف، وهذا الاختلاس والتخفيف إنما يكون في الضمة والكسرة، فأما الفتحة فليس فيها إلا الإشباع ولم تخفّف الفتحة بالاختلاس، كما لم تخفّف بالحذف، في نحو: جمل، وجبل، كما خفّف نحو: سبع وكتف، وكما لم يحذفوا الألف في الفواصل والقوافي من حيث حذفت الياء والواو فيهما، نحو: واللّيل إذا يسر [الفجر/ 4] وقوله:
... ثم لا يفر وكما لم يبدل الأكثر من التنوين الياء ولا الواو في الجر والرفع كما أبدلوا الألف في النصب، وهذا الاختلاس، وإن كان الصوت فيه أضعف من التمطيط، وأخفى، فإن الحرف المختلس حركته بزنة المتحرك، وعلى هذا المذهب حمل
[الحجة للقراء السبعة: 2/83]
سيبويه قول أبي عمرو: إلى بارئكم [البقرة/ 54] فذهب إلى أنه اختلس الحركة ولم يشبعها فهو بزنة حرف متحرك.
فمن روى عن أبي عمرو الإسكان في هذا النحو، فلعلّه سمعه يختلس فحسبه لضعف الصوت به والخفاء إسكانا، وعلى هذا يكون قوله: ويعلّمهم الكتاب [البقرة/ 129] ويلعنهم اللّه [البقرة/ 159] وكذلك عن أسلحتكم [النساء/ 102] وكذلك يزكّيكم ويعلّمكم [البقرة/ 151] ويوم يجمعكم [التغابن/ 9] ولا يأمركم [آل عمران/ 80] هذا كله على الاختلاس مستقيم حسن، ومن روى عنه الإسكان فيها، وقد جاء ذلك في الشعر، فلعله ظن الاختلاس إسكانا.
فأمّا قوله: وأرنا مناسكنا [البقرة/ 128] فالإسكان فيه حسن على تشبيه المنفصل بالمتصل، والاختلاس حسن، وليس إسكان هذا مثل إسكان: يأمركم، وأسلحتكم لأن الكسرة في: أرنا ليست بدلالة إعراب، ومثل ذلك قول من قال: ويتّقه ومن روى الإسكان في حروف الإعراب فقال:
تسكن لام الفعل، فعلى تجويز ما جاء في الشعر وفي الكلام، وقد تقدم ذكر ذلك.
فإن قال قائل: فهلا لم تسكن أرنا لأنّ الراء متحركة بحركة الهمزة فإذا حذفها لم تدلّ على الهمزة كما تدلّ إذا
[الحجة للقراء السبعة: 2/84]
أثبتها عليها، قيل: ليس هذا بشيء، ألا ترى أن الناس أدغموا: لكنّا هو اللّه ربّي [الكهف/ 28] فذهاب الحركة في أرنا في التخفيف ليس بدون ذهابها في الإدغام). [الحجة للقراء السبعة: 2/85]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قال ابن مجاهد: حدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا خالد بن مرداس قال: حدثنا الحكم بن عمر الرُّعَيْني قال: أرسلني خالد بن عبد الله القسري إلى قتادة أسأله
[المحتسب: 1/82]
عن حروف من القرآن؛ منها قوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، فقال قتادة: [فاقتالوا أنفسكم] من الاستقالة.
قال أبو الفتح: اقتال هذه افتعل، ويصلح أن يكون عينها واوًا كاقتاد، وأن يكون ياء كاقتاس.
وقول قتادة: إنها من الاستقالة، يقتضي أن يكون عينها ياء؛ لما حكاه أصحابنا عمومًا: من قِلت الرجل في البيع بمعنى أقلته، وليس في قِلت دليل على أنه من الياء؛ لقولهم: خِفت ونِمت، وهما من الخوف والنوم؛ لكنه في قولهم في مضارعه: أقيله.
وليس يحسن أن يحمله على مذهب الخليل في طِحت أطيح وتهت أتيه، أنهما فَعِلت أَفْعِل من الواو؛ لقلة ذلك.
وعلى أن أبا زيد قد حكى: ما هت الركِيَّةُ تميهُ، ودامت السماء تديم؛ لقلة ما هت تميه، ولأن أبا زيد قد حكى في دامت تديم المصدر وهو دَيْمًا، فقد يكون هذا على أن أصل عينه ياء.
وحدثني أبو علي بحلب سنة ست وأربعين قال: قال بعضهم: إن قِلت الرجل في البيع ونحوه إنما هو من: قُلْتُ له افسخ هذا العقد، وقال لي: قد فعلتُ، فهي عند من ذهب إلى ذلك من الواو.
قال أبو علي: ويفسد هذا ما حكوه في مضارعه من قولهم: أقيله، فهذا دليل الياء.
قال: ولا ينبغي أن يحمل على أنه فَعِلَ يَفْعِلُ من الواو -يريد مذهب الخليل- لقلة ذلك.
قال: لكنه من قولهم: تَقَيَّلَ فلان أباه، إذا رَجَعَتْ إليه أشباه منه. فمعنى أقلته على هذا: أني رجعت له عما كنت عقدته معه، ورجع هو أيضًا؛ فقد ثبت بذلك أن عين استقال من الياء، ولا يعرف في اللغة افتعلت من هذا اللفظ في هذا المعنى ولا غيره؛ وإنما هو استفعلت استقلت.
وقد يجوز أن يكون قتادة عرف هذا الحرف على هذا المثال، وعلى أنه لو كان بمعنى استقلت لوجب أن يُستعمل باللام، فيقال: استقلت لنفسي أو على نفسي، كما يقال: استعطفت فلانًا
[المحتسب: 1/83]
لنفسي وعلى نفسي، وليس معناه أن يسأل نفسه أن يُقِيلَه؛ وإنما يريد: أن يسأل ربه -عز وجل- أن يعفو عن نفسه. وكان له حرى -لو كان على ذلك- أن يقال: فاقتالوا لأنفسكم؛ أي: استقيلوا لها، واستصفحوا عنها.
فأما اقتال متعديًا، فإنما هو في معنى ما يجتره الإنسان لنفسه من خير أو شر ويقترحه، وهو من القول. قال:
بما اقتال من حُكْم عَلَيَّ طبيبُ
أي: بما أراده واقترحه واستامه، وليس معنى هذا معنى الآية، بل هو بضده؛ لأنه بمعنى استَلِينُوا واستعطفوا. هذا ما يُحْضِرُه طريق اللغة، ومذهب التصريف والصنعة، إلا أن قتادة ينبغي أن يحسن الظن به، فيقال: إنه لم يورد ذلك إلا بحجة عنده فيه من رواية أو دراية). [المحتسب: 1/84]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فتوبوا إلى بارئكم} {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}
[حجة القراءات: 96]
قرأ أبو عمرو إلى بارئكم ويأمركم وينصركم بالاختلاس وحجته في ذلك أنه كره كثرة الحركات في الكلمة الواحدة وروي عنه إسكان الهمزة قال الشّاعر:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم
والكلام الصّحيح يا صاحب أقبل أو يا صاحب اقبل
وقرأ الباقون بارئكم ويأمركم بالإشباع على أصل الكلمة وهو الصّواب ليوفى كل حرف حقه من الإعراب). [حجة القراءات: 97] (م)
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (28 قوله: «ينصركم، وبارئكم» وشبهه، قرأه أبو عمرو في رواية الرقيين عنه بإسكان الراء والهمزة في «بارئكم» و«يأمرهم» و«يشعركم» و«ينصركم» و«بارئكم» على ما ذكرنا في الكتاب الأول، وقرأ في رواية العراقيين عنه باختلاس حركة الراء والهمزة في ذل، واختيار اليزيدي
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/240]
الإشباع كالباقين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو في رواية الرقيين عنه «أرني، وأرنا» بإسكان الراء، وقرأ أبو عمرو في رواية العراقيين عنه بالاختلاس، وقرأ ابن عامر وأبو بكر بإسكان الراء في السجدة في قوله: {أرنا اللذين} «29»، خاصة، وقرأ الباقون بحركة تامة في ذلك كله.
29- وعلة من أسكن أنه شبه حركة الإعراب بحركة البناء، فأسكن حركة الإعراب استخفافًا، لتوالي الحركات، تقول العرب: «أراك منتفخًا» بسكون الفاء، استخفافًا لتوالي الحركات، وأنشدوا:
وبات منتصبًا وما تكردسا
فأسكن الصاد لتوالي الحركات فشبه حركات الإعراب بحركات البناء، فأسكنها وهو ضعيف مكروه.
30- وعلة من اختلس الحركة أنها لغة للعرب في الضمات والكسرات تخفيفًا لا ينقص ذلك الوزن، ولا يتغير المعرب، ولما كان تمام الحركة مستثقلًا، لتوالي الحركات وكثرتها، والإسكان بعيدًا؛ لأنه يغير الإعراب عن جهته فتوسط الأمرين، فاختلس الحركة، فلم يخل بالكلمة من جهة الإعراب، ولا ثقلها من جهة توالي الحركات، فتوسط الأمرين.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/241]
31- وعلة من أتم الحركة، لم يسكن، ولا اختلس أنه أتى بالكلمة على أصلها، وأعطاها حقها من الحركات، كما يفعل بسائر الكلام، ولم يستثقل توالي الحركات؛ لأنها في تقدير كلمتين، المضمر كلمة، وما قبله كلمة، ولأن حذف الإعراب إنما يجوز في الشعر، ولا يحمل القرآن على ما يجوز في الشعر، وأيضًا فإنه فرق بين حركة الإعراب، التي تدل على معنى، وبين حركة البناء، التي لا تدل على معنى في أكثر الكلام، وأنه فرق أيضًا بين حركة البناء، التي لا تتغير عن حالها، وبين حركة الإعراب، التي تتغير، وتنتقل عن حالها، فألزم حركة الإعراب ترك التغييرين، إذ هي تتغير، فلم يجز أن يلحقها تغيير آخر، وجوز ذلك في حركة البناء إذ لا تتغير، وأجاز أن تغير بالإسكان استخفافًا، وأيضًا فإن عليه الجماعة، والإسكان في «أرنا» و«أرني» أخف من الإسكان في «يأمركم، وبارئكم» وشبهه لأن تلك حركة بناء، لا تتغير، وهذه حركة إعراب تتغير، وتنتقل، وإسكان حرف الإعراب بعيد ضعيف، وإسكان حركة البناء، إذا استثقلت، مستعمل كثير؛ لأن قولك: «أرني» بمنزلة «كتفي»، و«أرنا» بمنزلة «كتفا» والعرب تسكن الثاني من هذا استخفافًا، فحمل «أرني، وأرنا» على ذلك، لأن الكسرة في كل ذلك بناء، والاختيار تمام الحركات لأنه الأصل، وعليه جماعة القراء، وهو اختيار اليزيدي، ولأن الإسكان إخلال بالكلام، وتغيير للإعراب، والاختلاس فيه تكلف وتعمد ومؤونة، وهو خارج عن الأصول، قليل العمل به، قليل الرواية له، وقد اختار أبو أيوب إشباع الحركة في «أرنا»، وهو الأصل والاختيار). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/242]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (21- {بَارِئِكُمْ} [آية/ 54]:-
مختلسة الهمز، قرأها أبو عمرو، وكذلك {يَنْصُرُكُمْ} و{يَأْمُرُكُمْ} بالاختلاس في هذه الأحرف الثلاثة.
وذلك لأن العرب تستعمل في الضمة والكسرة الإشباع مرة للتحقيق، والاختلاس أخرى للتخفيف، ولا تختلس الفتحة لما فيها من الخفة، إذ الخفيف لا يخفف، فيقولون: سبع وكتف، ولا يقولون: جمل وجبل، والاختلاس وإن كان قريبًا من الإسكان لضعف الصوت فيه، فإنه بمنزلة التحريك؛ لأن المختلس على وزن المتحرك، فلا يبلغ أن يكون ساكنًا.
ومن روى عن أبي عمرو الإسكان في ذلك، فإنه ظن الاختلاس إسكانًا لقربه منه؛ فإن الإسكان في مثل هذا إنما بابه الشعر.
[الموضح: 276]
وقرأ الباقون {بَارِئِكُمْ} بحركةٍ بينةٍ، وكذلك في أمثاله في جميع القرآن.
وذلك أنه هو الأصل، ولا اعتراض على من تمسك بالأصل، ولم يعدل عنه إلى غيره). [الموضح: 277]
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة سهل بن شعيب النهمي: [جَهَرةً] "وزَهَرةً"، كل شيء في القرآن محرَّكًا.
قال أبو الفتح: مذهب أصحابنا في كل شيء من هذا النحو مما فيه حرف حلقي ساكن بعد حرف مفتوح: أنه لا يحرك إلا على أنه لغة فيه؛ كالزَّهْرة والزَّهَرة، والنَّهْر والنهَر، والشَّعْر والشَّعَر، فهذه لغات عندهم كالنشْز والنشَز، والحلْب والحلَب، والطرْد والطرَد.
ومذهب الكوفيين فيه أنه يحرك الثاني لكونه حرفًا حلقيًّا، فيجيزون فيه الفتح وإن لم يسمعوه؛ كالبحْر والبحَر والصخْر والصخَر.
وما أرى القول من بعد إلا معهم، والحق فيه إلا في أيديهم؛ وذلك أنني سمعت عامة عُقَيل تقول ذاك ولا تقف فيه سائغًا غير مستكره، حتى لسمعت الشجري يقول: أنا محَموم بفتح الحاء، وليس أحد يدعي أن في الكلام مفَعول بفتح الفاء.
[المحتسب: 1/84]
وسمعته مرة أخرى يقول -وقد قال له الطبيب: مَصَّ التفاح وارم بثُفله: والله لقد كنت أبغي مصه وعِلْيَتُهُ تَغَذُو بفتح الغين، ولا أحد يدعى أن في الكلام يفَعَل بفتح الفاء.
وسمعت جماعة منهم -وقد قيل لهم: قد أقيمت لكم أَنزالكم من الخبز- قالوا: فاللحَم -يريدون: اللحْم- بفتح الحاء.
وسمعت بعضهم وهو يقول في كلامه: ساروا نَحَوه بفتح الحاء، ولو كانت الحاء مبنية على الفتح أصلًا لما صحت اللام لتحركها وانفتاح ما قبلها؛ ألا تراك لا تقول: هذه عصَوٌ ولا فتَوٌ؟ ولعمري إنه هو الأصل؛ لكن أصل مرفوض للعلة التي ذكرنا، فعلى هذا يكون جَهَرة وزَهَرة -إن شئت- مبنيًّا في الأصل على فَعَلة، وإن شئت كان إتباعًا على ما شرحنا الآن). [المحتسب: 1/85]
قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}
قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين