تفاسير القرن السادس الهجري
تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا}
قرأ الأعرج، وابن محيصن، وأبو حيوة: "يتلى" بالياء من تحت.
وسبب هذه الآية أن كفار قريش لما كان الرجل منهم يكلم المؤمن في معنى الدين فيقرأ المؤمن عليه القرآن، ويبهره بآيات النبي صلى الله عليه وسلم، كان الكافر منهم يقول: إن الله إنما يحسن لأحب الخلق إليه، وإنما ينعم على أهل الحق، ونحن قد أنعم علينا دونكم، فنحن أغنياء وأنتم فقراء، ونحن أحسن مجلسا وأجمل شارة، فهذا المعنى ونحوه هو المقصود بالتوقيف في قوله تعالى: {أي الفريقين}؟
[المحرر الوجيز: 6/59]
وقرأ نافع، وابن عباس رضي الله عنهما: "مقاما" بفتح الميم، و"لا مقام لكم" بالفتح أيضا، وهو المصدر من قام، أو الظرف منه في موضع القيام. وهذا يقتضي لفظ المقام، إلا أن المعنى في هذه الآية يحرز أنه واقع على الظرف فقط، وقرأ أبي رضي الله عنه: "في مقام أمين"، بضم الميم، وقرأ ابن كثير: "مقاما" بضم الميم، وهو ظرف من أقام، وكذلك أيضا من المصدر منه مثل "مجراها ومرساها" وقرأ: "في مقام أمين" و"لا مقام لكم" بالفتح، وقرأ أبو عمرو، والكسائي، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم جميعهن بالفتح، وروى حفص عن عاصم "لا مقام لكم" بالضم.
و "الندي" والنادي: المجلس فيه الجماعة، ومنه قول حاتم الطائي:
ودعيت في أولى الندي ولم ينظر إلي بأعين خزر). [المحرر الوجيز: 6/60]
تفسير قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وكم أهلكنا} قبلهم مخاطبة من الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، خبر يتضمن كسر حجتهم واحتقار أمرهم؛ لأن التقدير: هذا الذي افتخروا به لا قدر له عند الله، وليس بمنج لهم، فكم أهلك الله من الأمم لما كفروا وهم أشد من هؤلاء وأكثر أموالا وأجمل منظرا. و"القرن": الأمة يجمعها العصر الواحد، واختلف الناس في قدر المدة التي إذا اجتمعت أمة سميت تلك الأمة قرنا - فقيل: مائة سنة، وقيل: ثمانون سنة، وقيل: سبعون، وقد تقدم القول في هذا غير مرة. و"الأثاث": المال العين والعرض والحيوان، وهو اسم عام، واختلف، هل هو جمع أو إفراد؟ فقال الفراء: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه كالمتاع، وقال خلف الأحمر، هو جمع واحده أثاثة، كحمامة وحمام، ومنه قول الشاعر:
[المحرر الوجيز: 6/60]
أشاقتك الظعائن يوم بانوا ... بذي الرئي الجميل من الأثاث؟
وأنشد أبو العباس:
لقد علمت عرينة حيث كانوا ... بأنا نحن أكثرهم أثاثا
وقرأ نافع - بخلاف - وأهل المدينة: "وريا" بياء مشددة، وقرأ ابن عباس رضي الله عنه فيما روي عنه، وطلحة: "وريا" بياء مخففة، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: "ورءيا" بهمزة بعدها ياء، على وزن رعيا، ورويت عن نافع، وابن عامر، رواها أشهب عن نافع، وقرأ أبو بكر عن عاصم: "وريئا" بياء ساكنة بعدها همزة، وهو على القلب، وزنه فلعا، وكأنه من راء، وقال الشاعر:
وكل خليل راءني فهو قائل ... من أجلك: هذا هامة اليوم أو غد
[المحرر الوجيز: 6/61]
فأما القراءتان المهموزتان فهما من رؤية العين، الرئي اسم المرئي والظاهر للعين كالطحن والسقي، قال ابن عباس: الرئي: المنظر، قال الحسن: وريا بمعناه، وأما المشددة الياء فقيل: هي بمعنى المهموزة إلا أن الهمزة خففت لتستوي رؤوس الآي. وذكر منذر بن سعيد عن بعض أهل العلم أنه من الري في السقيا، كأنه أراد أنهم خير منهم بلادا وأطيب أرضا وأكثر نعما؛ إذ جملة النعم إنما هي من والمطر، وأما القراءة المخففة الياء فضعيفة الوجه، وقد قيل: هي لحن. وقرأ سعيد بن جبير، ويزيد البربري، وابن عباس أيضا: "وزيا" بالزاي، وهو بمعنى الملبس وهيئته، تقول: زييت بمعنى: زينت). [المحرر الوجيز: 6/62]
تفسير قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (وأما قوله تعالى: {قل من كان في الضلالة} فقول يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون بمعنى الدعاء والابتهال، كأنه يقول: الأضل منا أو منكم مد الله له حتى يؤول ذلك إلى عذابه. والمعنى الآخر أن يكون بمعنى الخبر كأنه يقول: من كان ضالا من الأمم فعادة الله فيه أنه يمد له ولا يعاجله حتى يفضي ذلك إلى عذابه في الآخرة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فاللام في قوله تعالى: "فليمدد" على المعنى الأول لام رغبة في صيغة الأمر، وعلى المعنى الثاني لام أمر دخلت في معنى الخبر ليكون أوكد وأقوى، وهذا موجود في كلام العرب وفصاحتها.
قوله عز وجل: {حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا}
"حتى" في هذه الآية حرف ابتداء دخلت على جملة، وفيها معنى الغاية، و"إذا"
[المحرر الوجيز: 6/62]
شرط، وجوابها في قوله تعالى: {فسيعلمون}، و"الرؤية" رؤية العين، و"العذاب" و"الساعة" بدل من "ما" التي وقعت عليها "رأوا". و"إما" هي المدخلة للشك في أول الكلام، والثانية عطف عليها. و"العذاب" يريد به عذاب الدنيا ونصرة المؤمنين عليهم، و"الجند" النصرة والقائمون بأمر الحرب، و"شر مكانا" بإزاء قولهم: "خير مقاما"، و"أضعف جندا" بإزاء قولهم: "أحسن نديا"). [المحرر الوجيز: 6/63]
تفسير قوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (ولما ذكر ضلالة الكفر، وارتباكهم في الامتحان بنعم الدنيا وعماهم عن الطريق المستقيم، عقب ذلك بذكر نعمته على المؤمنين، في أنه يزيدهم هدى في الارتباط إلى الأعمال الصالحة، والمعرفة بالدلائل الواضحة، وزيادة العلم دأبا، قال الطبري عن بعضهم: المعنى: بناسخ القرآن ومنسوخه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا مثال.
و " الباقيات الصالحات " إشارة إلى ذلك الهدى الذي يزيدهم الله، وهذه النعم على هؤلاء خير عند الله ثوابا وخير مرجعا.
والقول في زيادة الهدى سهل بين الوجوه.
و " الباقيات الصالحات " كل عمل صالح يرفع الله به درجة عامله، وقال الحسن: هي الفرائض، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هي الصلوات الخمس، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها الكلمات المشهورات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. فقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء رضي الله عنه: خذهن قبل أن يحال بينك وبينهن، فهن الباقيات الصالحات، وهن من كنوز الجنة، وروي
[المحرر الوجيز: 6/63]
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال يوما: "خذوا جنتكم"، قالوا: يا رسول الله، أمن عدو حضر؟ قال: "من النار"، قالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وهن الباقيات الصالحات، وكان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا ذكر هذا الحديث يقول: لأهللن ولأكبرن الله ولأسبحنه حتى إذا رآني الجاهل ظنني مجنونا). [المحرر الوجيز: 6/64]