آداب الفتوى والمفتي والمستفتي
قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (باب (آداب الفتوى والمفتي والمستفتي)
اعلم أنّ هذا الباب مهمٌّ جدًّا فأحببت تقديمه لعموم الحاجة إليه وقد صنّف في هذا جماعةٌ من أصحابنا منهم أبو القاسم الصّيمريّ شيخ صاحب الحاوي ثمّ الخطيب أبو بكرٍ الحافظ البغداديّ ثمّ الشّيخ أبو عمرو بن الصلاح وكل منهم ذكر نفايس لم يذكرها الآخران.
وقد طالعت كتب الثّلاثة ولخّصت منها جملةً مختصرةً مستوعبةً لكلّ ما ذكروه من المهمّ وضممت إليها نفائس من متفرّقات كلام الأصحاب وباللّه التّوفيق
اعلم أنّ الإفتاء عظيم الخطر كبير الموقع كثير الفضل لأنّ المفتي وارث الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم وقائم بفرض الكفاية لكنه معرّضٌ للخطأ ولهذا قالوا المفتي موقعٌ عن اللّه تعالى.
وروينا عن ابن المنكدر قال: « العالم بين الله تعالى وخلقه فينظر كيف يدخل بينهم ».
وروينا عن السّلف وفضلاء الخلف من التّوقّف عن الفتيا أشياء كثيرةً، معروفةً نذكر منها أحرفًا تبرّكًا.
وروينا عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: « أدركت عشرين ومائةً من الأنصار من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يسئل أحدهم عن المسألة فيردّها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتّى ترجع إلى الأوّل ».
وفي رواية ما منهم من يحديث بحديث إلا ودان اخاه كفاه اياه ولا يستفتى عن شيء إلا ودان أخاه كفاه الفتيا.
وعن ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهم: « من أفتى عن كل ما يسئل فهو مجنونٌ ».
وعن الشّعبيّ والحسن وأبي حصينٍ بفتح الحاء التابعين قالوا: « إنّ أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه لجمع لها أن أهل بدرٍ ».
وعن عطاء بن السّائب التّابعيّ: « أدركت أقواما يسئل احدهم عن الشيء فيتكلّم وهو يرعد ».
وعن ابن عبّاسٍ ومحمّد بن عجلان: « إذا أغفل العالم لا أدري أصيبت مقاتله ».
وعن سفيان بن عيينة وسحنونٍ: « أجسر النّاس على الفتيا أقلّهم علمًا ».
وعن الشّافعيّ وقد سئل عن مسألةٍ فلم يجب فقيل له فقال حتّى أدري أنّ الفضل في السّكوت أو في الجواب.
وعن الأثرم سمعت أحمد بن حنبلٍ يكثر أن يقول: لا أدري وذلك فيما عرف الأقاويل فيه.
وعن الهيثم بن جميلٍ شهدت مالكًا سئل عن ثمانٍ وأربعين مسألةً فقال في ثنتين وثلاثين منها لا أدري.
وعن مالكٍ أيضًا انه ربما كان يسئل عن خمسين مسألةً فلا يجيب في واحدةٍ منها وكان يقول من أجاب في مسألةٍ فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنّة والنّار وكيف خلاصه ثمّ يجيب.
وسئل عن مسألةٍ فقال: لا أدري فقيل هي مسألةٌ خفيفةٌ سهلةٌ فغضب وقال ليس في العلم شيء خفيفٌ.
وقال الشّافعيّ ما رأيت أحدًا جمع اللّه تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة أسكت منه عن الفتيا.
وقال أبو حنيفة: لولا الفرق من اللّه تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت يكون لهم المهنأ وعليّ الوزر وأقوالهم في هذا كثيرةٌ معروفةٌ.
قال الصّيمريّ والخطيب قلّ من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها الاقل توفيقه واضطرب في أموره وإن كان كارهًا لذلك غير موثر له ما وجد عنه مندوحةً وأحال الأمر فيه على غيره كانت المعونة له من اللّه أكثر والصّلاح في جوابه أغلب واستدلّا بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم في الحديث الصّحيح: « لا تسأل الإمارة فإنّك إن أعطيتها عن مسألةٍ وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة اعنت عليها ».
فصلٌقال الخطيب ينبغي للإمام أن يتصفّح أحوال المفتين فمن صلح للفتيا أقرّه ومن لا يصلح منعه ونهاه ان يعود وتواعده بالعقوبة إن عاد وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتوى أن يسأل علماء وقته ويعتمد أخبار الموثوق بهم.
ثمّ روى بإسناده عن مالكٍ رحمه اللّه قال أفتيت حتّى شهد لي سبعون أنّي أهلٌ لذلك.
وفي روايةٍ ما أفتيت حتّى سألت من هو أعلم منّي هل يراني موضعًا لذلك قال مالكٌ ولا ينبغي لرجلٍ أن يرى نفسه اهلا لشيء حتّى يسأل من هو أعلم منه فصلّ قالوا وينبغي أن يكون المفتي ظاهر الورع مشورا بالدّيانة الظّاهرة والصّيانة الباهرة وكان مالكٌ رحمه اللّه يعمل بما لا يلزمه النّاس ويقول لا يكون عالمًا حتّى يعمل في خاصّة نفسه بما لا يلزمه النا س مما لو تركه لم يأتم وكان يحكي نحوه عن شيخه ربيعة فصلٌ شرط المفتى كونه مكلفا مسلما ثقة مأمونا متنزها عن أسباب الفسق وخوارم المرؤة فقيه النّفس سليم الذّهن رصين الفكر صحيح التّصرّف والاستنباط متيقّظًا سواءٌ فيه الحرّ والعبد والمرأة والأعمى والأخرس إذا كتب أو فهمت اشارته: قال الشيخ أبو عمر وبن الصّلاح وينبغي أن يكون كالرّاوي في أنّه لا يؤثّر فيه قرابةٌ وعداوةٌ وجرّ نفعٍ ودفع ضرٍّ لأنّ المفتي في حكم مخبرٍ عن الشّرع بما لا اختصاص له بشخصٍ فكان كالرّاوي لا كالشّاهد وفتواه لا يرتبط بها إلزامٌ بخلاف حكم القاضي.
قال وذكر صاحب الحاوي أنّ المفتي إذا نابذ في فتواه شخصًا معيّنًا صار خصمًا حكمًا معاندًا فتردّ فتواه على من عاداه كما تردّ شهادته عليه.
واتّفقوا على أنّ الفاسق لا تصحّ فتواه ونقل الخطيب فيه إجماع المسلمين.
ويجب عليه إذا وقعت له واقعةٌ أن يعمل باجتهاد نفسه.
وأمّا المستور وهو الّذي ظاهره العدالة ولم تختبر عدالته باطنًا ففيه وجهان أصحّهما جواز فتواه لأنّ العدالة الباطنة يعمر معرفتها على غير القضاة.
والثّاني لا يجوز كالشّهادة والخلاف كالخلاف في صحّة النّكاح بحضور المستورين.
قال الصّيمريّ وتصحّ فتاوى أهل الأهواء والخوارج ومن لا نكفّره ببدعته ولا نفسّقه ونقل الخطيب هذا ثم قال وأما الشراة والرّافضة الّذين يسبّون السّلف الصّالح ففتاويهم مردودةٌ وأقوالهم ساقطةٌ.
والقاضي كغيره في جواز الفتيا بلا كراهةٍ.
هذا هو الصّحيح المشهور من مذهبنا.
قال الشّيخ ورأيت في بعض تعاليق الشّيخ أبي حامدٍ أنّ له الفتوى في العبادات وما لا يتعلّق بالقضاء.
وفي القضاء وجهان لأصحابنا أحدهما الجواز لأنّه أهلٌ والثّاني لا لأنّه موضع تهمةٍ.
وقال ابن المنذر تكره الفتوى في مسائل الأحكام الشّرعيّة.
وقال شريح أنا أقضي ولا أفتي
فصل قال أبو عمر والمفتون قسمان
مستقلٌّ وغيره فالمستقلّ شرطه مع ما ذكرنا أن يكون قيّمًا بمعرفة أدلّة الأحكام الشّرعيّة من الكتاب والسّنّة والإجماع والقياس وما التحق بها على التفصيل وقد فصّلت في كتب الفقه فتيسّرت وللّه الحمد: وأن يكون عالمًا بما يشترط في الأدلّة ووجوه دلالتها وبكيفيّة اقتباس الأحكام منها وهذا يستفاد من أصول الفقه.
عارفًا من علوم القرآن والحديث والنّاسخ والمنسوخ والنّحو واللّغة والتّصريف واختلاف العلماء واتّفاقهم بالقدر الّذي يتمكّن معه من الوفاء بشروط الأدلّة والاقتباس منها، ذا دربةٍ وارتياضٍ في استعمال ذلك.
عالمًا بالفقه ضابطًا لأمّهات مسائله وتفاريعه فمن جمع هذه الأوصاف فهو المفتي المطلق المستقلّ الّذي يتأدّى به فرض الكفاية
وهو المجتهد المطلق المستقلّ لأنّه يستقلّ بالأدلّة بغير تقليدٍ وتقيّدٍ بمذهب أحدٍ.
قال أبو عمرٍو وما شرطناه من حفظه لمسائل الفقه لم يشترط في كثيرٍ من الكتب المشهورة لكونه ليس شرطًا لمنصب الاجتهاد لأنّ الفقه ثمرته فيتأخّر عنه وشرط الشيء لا يتأخر عنه.
وشرطه الاستاذ أبو إسحق الاسفراينى وصاحبه أبو منصورٍ البغداديّ وغيرهما.
واشتراطه في المفتي الّذي يتأدّى به فرض الكفاية هو الصّحيح وإن لم يكن كذلك في المجتهد المستقلّ.
ثمّ لا يشترط أن يكون جميع الأحكام على ذهنه بل يكفيه كونه حافظًا المعظم متمكّنًا من إدراك الباقي على قربٍ.
وهل يشترط أن يعرف من الحساب ما يصحّح به المسائل الحسابيّة الفقهيّة حكى أبو اسحق وأبو منصورٍ فيه خلافًا لأصحابنا والأصحّ اشتراطه.
ثم إنّما نشترط اجتماع العلوم المذكورة في مفتٍ مطلقٍ في جميع أبواب الشّرع، فأمّا مفتٍ في باب خاص كالمناسك والفرائض يكفيه معرفة ذلك الباب كذا قطع به الغزاليّ وصاحبه ابن برهانٍ بفتح الباء وغيرهما.
ومنهم من منعه مطلقًا وأجازه ابن الصّبّاغ في الفرائض خاصّةً والأصحّ جوازه مطلقًا
(القسم الثّاني) المفتي الّذي ليس بمستقلٍّ ومن دهرٍ طويلٍ عدم المفتي المستقلّ وصارت الفتوى إلى المنتسبين إلى أئمّة المذاهب المتبوعة.
وللمفتي المنتسب أربعة أحوال
أحدها أن لا يكون مقلّدًا لإمامه لا في المذهب ولا في دليله لا تصافه بصفة المستقلّ، وإنّما ينسب إليه لسلوكه طريقه في الاجتهاد.
وادعى الاستاذ أبو إسحق هذه الصّفة لأصحابنا فحكى عن أصحاب مالكٍ رحمه الله واحمد وداود واكثر الخفية انهم صارو إلى مذاهب أئمّتهم تقليدًا لهم، ثمّ قال والصّحيح الّذي ذهب إليه المحقّقون ما ذهب إليه أصحابنا وهو أنّهم صاروا إلى مذهب الشّافعيّ لا تقليدًا له بل لمّا وجدوا طرقه في الاجتهاد والقياس أسدّ الطّرق ولم يكن لهم بدٌّ من الاجتهاد سلكوا طريقه فطلبوا معرفة الأحكام بطريق الشّافعيّ.
وذكر أبو عليٍّ السّنجيّ بكسر السّين المهملة نحو هذا فقال اتّبعنا الشّافعيّ دون غيره لأنّا وجدنا قوله أرجح الأقوال وأعدلها لا أنّا قلّدناه (قلت) هذا الّذي ذكراه موافقٌ لما أمرهم به الشّافعيّ، ثمّ المزنيّ في أوّل مختصره وغيره بقوله مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره.
قال أبو عمرٍو دعوى انتفاء التّقليد عنهم مطلقًا لا يستقيم ولا يلائم المعلوم من حالهم أو حال أكثرهم.
وحكى بعض أصحاب الأصول منّا أنّه لم يوجد بعد عصر الشّافعيّ مجتهدٌ مستقلٌّ ثمّ فتوى المفتي في هذه الحالة كفتوى المستقلّ في العمل بها والاعتداد بها في الإجماع والخلاف.
(الحالة الثّانية) أن يكون مجتهدًا مقيّدًا في مذهب إمامه مستقلًّا بتقرير أصوله بالدّليل غير أنّه لا يتجاوز في أدلّته أصول إمامه وقواعده.
وشرطه كونه عالمًا بالفقه وأصوله وأدلّة الأحكام تفصيلًا بصيرًا بمسالك الأقيسة والمعاني تامّ الارتياض في التخريخ والاستنباط قيّمًا بإلحاق ما ليس منصوصًا عليه لإمامه بأصوله.
ولا يعرّى عن شوب تقليدٍ له لا خلافه ببعض أدوات المستقلّ بأن يخلّ بالحديث أو العربيّة وكثيرًا ما أخلّ بهما المقيّد ثمّ يتّخذ نصوص إمامه أصولًا يستنبط منها كفعل المستقلّ بنصوص الشّرع.
وربّما اكتفى في الحكم بدليل إمامه ولا يبحث عن معارضٍ كفعل المستقلّ في النّصوص.
وهذه صفة أصحابنا أصحاب الوجوه وعليها كان أئمّة أصحابنا أو أكثرهم.
والعامل بفتوى هذا مقلّدٌ لإمامه لا له ثمّ ظاهر كلام الأصحاب أنّ من هذا حاله لا يتأدّى به فرض الكفاية.
قال أبو عمرٍو ويظهر تأدّي الفرض به في الفتوى وان لم يتأدّ في إحياء العلوم الّتي منها استمداد الفتوى لأنّه قام مقام إمامه المستقلّ تفريعًا على الصّحيح وهو جواز تقليد الميّت ثمّ قد يستقلّ المقيّد في مسألةٍ أو بابٍ خاصٍّ كما تقدّم.
وله أن يفتي فيما لا نصّ فيه لإمامه بما يخرّجه على أصوله هذا هو الصّحيح الّذي عليه العمل وإليه مفزع المفتين من مددٍ طويلةٍ ثمّ إذا أفتى بتخريجه فالمستفتي مقلّدٌ لإمامه لا له هكذا قطع به إمام الحرمين في كتابه الغياثيّ وما أكثر فوائده.
قال الشّيخ أبو عمرٍو وينبغي أن يخرّج هذا على خلافٍ حكاه الشّيخ أبو إسحاق الشّيرازيّ وغيره أنّ ما يخرّجه أصحابنا هل يجوز نسبته إلى الشّافعيّ والأصحّ أنّه لا ينسب إليه.
ثمّ تارةً يخرّج من نصٍّ معيّنٍ لامامه وتارةً لا يجده فيخرّج على أصوله بأن يجد دليلًا على شرط ما يحتجّ به إمامه فيفتي بموجبه فإن نصّ إمامه على شيء ونصّ في مسألةٍ تشبهها على خلافه فخرّج من أحدهما إلى الآخر سمّي قولًا مخرّجًا وشرط هذا التّخريج أن لا يجد بين نصيه فرقًا فإن وجده وجب تقريرهما على ظاهرهما.
ويختلفون كثيرًا في القول بالتّخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق (قلت) وأكثر ذلك يمكن فيه الفرق وقد ذكروه
(الحالة الثّالثة) أن لا يبلغ رتبة أصحاب الوجوه لكنّه فقيه النّفس حافظٌ مذهب إمامه عارفٌ بأدلّته قائمٌ بتقريرها يصوّر ويحرّر ويقرّر ويمهّد ويزيّف ويرجّح لكنّه قصر عن أولئك لقصوره عنهم في حفظ المذهب، أو الارتياض في الاستنباط أو معرفة الأصول ونحوها من أدوانهم.
وهذه صفة كثيرٍ من المتأخّرين إلى أواخر المائة الرّابعة المصنّفين الّذين رتّبوا المذهب وحرّروه وصنّفوا فيه تصانيف فيها معظم اشتغال النّاس اليوم، ولم يلحقوا الّذين قبلهم في التّخريج، وأمّا فتاويهم فكانوا يتبسّطون فيها تبسّط أولئك أو قريبًا منه ويقيسون غير المنقول عليه غير مقتصرين على القياس الجليّ، ومنهم من جمعت فتاويه ولا تبلغ في التحاقها بالمذهب مبلغ فتاوى أصحاب الوجوه.
(الحالة الرّابعة) أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات ولكن عنده ضعفٌ في تقرير أدلّته وتحرير أقيسته فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه من نصوص إمامه وتفريع المجتهدين في مذهبه، وما لا يجده منقولًا إن وجد في المنقول معناه بحيث يدرك بغير كبير فكرٍ أنّه لا فرق بينهما جاز إلحاقه به والفتوى به.
وكذا ما يعلم اندراجه تحت ضابطٍ ممهّدٍ في المذهب وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى فيه، ومثل هذا يقع نادرًا في حقّ المذكور إذ يبعد كما قال إمام الحرمين أن تقع مسألةٌ لم ينصّ عليها في المذهب، ولا هي في معنى المنصوص ولا مندرجةٌ تحت ضابطٍ.
وشرطه كونه فقيه النّفس ذا حظٍّ وافرٍ من الفقه.
قال أبو عمرٍو وأن يكتفي في حفظ المذهب في هذه الحالة والّتي قبلها بكون المعظم على ذهنه ويتمكّن لدربته من الوقوف على الباقي على قرب فصلٌ هذه أصناف المفتين وهي خمسةٌ وكلّ صنفٍ منها يشترط فيه حفظ المذهب وفقه النّفس فمن تصدّى للفتيا وليس بهذه الصّفة فقد باء بأمرٍ عظيمٍ.
ولقد قطع إمام الحرمين وغيره بأنّ الأصوليّ الماهر المتصرّف في الفقه لا يحلّ له الفتوى بمجرّد ذلك.
ولو وقعت له واقعة لزمه ان يسئل عنها ويلتحق به المتصرّف النّظّار البحّاث من أئمّة الخلاف وفحول المناظرين لأنّه ليس أهلًا لإدراك حكم الواقعة استقلالًا لقصور آلته ولا من مذهب إمامٍ لعدم حفظه له على الوجه المعتبر.
فإن قيل من حفظ كتابًا أو أكثر في المذهب وهو قاصر يتّصف بصفة أحدٍ ممّن سبق ولم يجد العامّيّ في بلده غيره هل له الرّجوع إلى قوله.
فالجواب ان كان في غيره بلده مفتٍ يجد السّبيل إليه وجب التّوصّل إليه بحسب امكانه فان تعذر ذكر مسألة للقاصر فإن وجدها بعينها في كتابٍ موثوقٍ بصحّته وهو ممّن يقبل خبره نقل له حكمها بنصّه وكان العامّيّ فيها مقلّدًا صاحب المذهب.
قال أبو عمرٍو وهذا وجدته في ضمن كلام بعضهم والدّليل يعضّده.
وإن لم يجدها مسطورةً بعينها لم يقسها على مسطورٍ عنده وإن اعتقده من قياسٍ لا فارقٍ فإنّه قد يتوهّم ذلك في غير موضعه.
فإن قيل هل لمقلّدٍ أن يفتي بما هو مقلّدٌ فيه قلنا قطع أبو عبد اللّه الحليميّ وأبو محمّدٍ الجوينيّ وأبو المحاسن الرّويانيّ وغيرهم بتحريمه.
وقال القفّال المروزيّ يجوز.
قال أبو عمر وقول من منعه معناه لا يذكره على صورة من يقوله من عند نفسه بل يضيفه إلى إمامه الّذي قلّده فعلى هذا من عدّدناه من المفتين المقلّدين ليسوا مفتين حقيقةً لكن لمّا قاموا مقامهم وأدّوا عنهم عدّوا معهم.
وسبيلهم أن يقولوا مثلًا مذهب الشّافعيّ كذا أو نحو هذا ومن ترك منهم الإضافة فهو اكتفاءٌ بالمعلوم من الحال عن التّصريح به ولا بأس بذلك.
وذكر صاحب الحاوي في العامّيّ إذا عرف حكم حادثةٍ بناءً على دليلها ثلاثة أوجهٍ
أحدها يجوز أن يفتي به ويجوز تقليده لأنّه وصل إلى علمه كوصول العالم.
والثّاني يجوز إن كان دليلها كتابًا أو سنّةً ولا يجوز إن كان غيرهما.
والثّالث لا يجوز مطلقًا وهو الأصحّ واللّه أعلم
فصلٌ في أحكام المفتين
فيه مسائل إحداها الإفتاء فرض كفايةٍ فإذا استفتي وليس في النّاحية غيره تعيّن عليه الجواب فإن كان فيها غيره وحضرا فالجواب في حقّهما فرض كفايةٍ وإن لم يحضر غيره فوجهان أصحّهما لا يتعيّن لما سبق عن ابن أبي ليلى والثّاني يتعيّن وهما كالوجهين في مثله في الشّهادة ولو سأل عامّيٌّ عمّا لم يقع لم يجب جوابه.
(الثانية) إذا أفتى بشيء ثمّ رجع عنه فإن علم المستفتي برجوعه ولم يكن عمل بالأوّل لم يجز العمل به.
وكذا إن نكح بفتواه واستمرّ على نكاحٍ بفتواه ثمّ رجع لزمه مفارقتها كما لو تغيّر اجتهاد من قلّده في القبلة في أثناء صلاته.
وإن كان عمل قبل رجوعه فإن خالف دليلًا قاطعًا لزم المستفتي نقض عمله ذلك.
وإن كان في محلّ اجتهادٍ لم يلزمه نقضه لأنّ الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وهذا التّفصيل ذكره الصّيمريّ والخطيب وأبو عمرٍو واتّفقوا عليه ولا أعلم خلافه.
وما ذكره الغزاليّ والرّازيّ ليس فيه تصريحٌ بخلافه.
قال أبو عمرٍو وإذا كان يفتي على مذهب إمامٍ فرجع لكونه بان له قطعًا مخالفة نصّ مذهب إمامه وجب نقضه وإن كان في محلّ الاجتهاد لأنّ نصّ مذهب إمامه في حقّه كنصّ الشّارع في حقّ المجتهد المستقلّ.
أمّا إذا لم يعلم المستفتي برجوع المفتي فحال المستفتي في علمه كما قبل الرّجوع ويلزم المفتي إعلامه قبل العمل وكذا بعده حيث يجب النقض.
إذا عمل بفتواه في إتلافٍ فبان خطؤه وأنّه خالف القاطع فعن الأستاذ أبي إسحاق أنّه يضمن إن كان أهلًا للفتوى ولا يضمن إن لم يكن أهلًا لأنّ المستفتي قصّر كذا حكاه الشيخ ابو عمر ووسكت عليه وهو مشكلٌ وينبغي أن يخرّج الضّمان على قولي الغرور والمعروفين في بابي الغصب والنّكاح وغيرهما أو يقطع بعدم الضّمان إذ ليس في الفتوى إلزامٌ ولا إلجاء.
(الثّالثة) يحرم التّساهل في الفتوى ومن عرف به حرم استفتاؤه.
فمن التّساهل أن لا يتثبّت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقّها من النّظر والفكر فإن تقدّمت معرفته بالمسئول عنه فلا بأس بالمبادرة وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرةٍ.
ومن التّساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبّع الحيل المحرّمة أو المكروهة والتّمسّك بالشّبه طلبًا للتّرخيص لمن يروم نفعه أو التّغليظ على من يريد ضرّه وأمّا من صحّ قصده فاحتسب في طلب حيلةٍ لا شبهة فيها لتخليصٍ من ورطة يمينٍ ونحوها فذلك حسنٌ جميلٌ.
وعليه يحمل ما جاء عن بعض السّلف من نحو هذا كقول سفيان إنّما العلم عندنا الرّخصة من ثقةٍ فأمّا التّشديد فيحسنه كل احد.
ومن الحبل الّتي فيها شبهةٌ ويذمّ فاعلها الحيلة السّريجيّة في سد باب الطلاق.
(الرّابعة) ينبغي أن لا يفتي في حال تغير خلقه وتشعل قلبه ويمنعه التّأمّل كغضبٍ وجوعٍ وعطشٍ وحزنٍ وفرحٍ غالبٍ ونعاسٍ أو مللٍ أو حرٍّ مزعجٍ: أو مرضٍ مؤلمٍ أو مدافعة حدثٍ وكلّ حالٍ يشتغل فيه قلبه ويخرج عن حدّ الاعتدال فإن أفتى في بعض هذه الأحوال وهو يرى أنّه لم يخرج عن الصواب جاز وان كان مخاطرا بها.
(الخامسة) المختار للمتصدّي للفتوى أن يتبرّع بذلك ويجوز أن يأخذ عليه رزقًا من بيت المال إلّا أن يتعيّن عليه وله كفايةٌ فيحرم على الصّحيح.
ثمّ إن كان له رزقٌ لم يجز أخذ أجرةٍ أصلًا وإن لم يكن له زرق فليس له أخذ أجرةٍ من أعيان من يفتيه على الأصحّ كالحاكم.
واحتال الشّيخ أبو حاتمٍ القزوينيّ من أصحابنا فقال له أن يقول يلزمني أن أفتيك قولًا وأمّا كتابة الخطّ فلا فإذا استأجره على كتابة الخطّ جاز.
قال الصّيمريّ والخطيب لو اتّفق أهل البلد فجعلوا له رزقًا من أموالهم على أن يتفرّغ لفتاويهم جاز.
أمّا الهديّة فقال أبو مظفّرٍ السّمعانيّ له قبولها بخلاف الحاكم فانه يلزم حكمه.
قال أبو عمر وينبغي أن يحرم قبولها إن كانت رشوةً على أن يفتيه بما يريد كما في الحاكم وسائر ما لا يقابل بعوضٍ.
قال الخطيب وعلى الإمام أن يفرض لمن نصّب نفسه لتدريس الفقه والفتوى في الأحكام ما يغنيه عن الاحتراف ويكون ذلك من البيت المال ثمّ روى بإسناده أنّ عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه أعطى كلّ رجلٍ ممّن هذه صفته مائة دينارٍ في السّنة.
(السّادسة) لا يجوز أن يفتي في الأيمان والإقرار ونحوهما ممّا يتعلّق بالألفاظ إلّا أن يكون من أهل بلد اللّافظ أو متنزّلًا منزلتهم في الخبرة بمرادهم من ألفاظهم وعرفهم فيها.
(السّابعة) لا يجوز لمن كانت فتواه نقلًا لمذهب إمامٍ إذا اعتمد الكتب أن يعتمد إلّا على كتابٍ موثوقٍ بصحّته وبأنّه مذهب ذلك الإمام فإن وثق بأنّ أصل التّصنيف بهذه الصّفة لكن لم تكن هذه النّسخة معتمدةً فليستظهر بنسخٍ منه متّفقةٍ وقد تحصل له الثّقة من نسخةٍ غير موثوقٍ بها في بعض المسائل إذا رأى الكلام منتظمًا وهو خبيرٌ فطنٌ لا يخفى عليه لدربته موضع الإسقاط والتّغيير فإن لم يجده إلّا في نسخةٍ غير موثوقٍ بها فقال أبو عمرٍو ينظر فإن وجده موافقًا لأصول المذهب وهو أهلٌ لتخريج مثله في المذهب لو لم يجده منقولًا فله أن يفتي به فإن أراد حكايته عن قائله فلا يقل قال الشّافعيّ مثلًا كذا وليقل وجدت عن الشّافعيّ كذا أو بلغني عنه ونحو هذا.
وإن لم يكن أهلًا لتخريج مثله لم يجز له ذلك فإنّ سبيله النّقل المحض ولم يحصل ما يجوّز له ذلك وله أن يذكره لا على سبيل الفتوى مفصحًا بحاله فيقول وجدته في نسخةٍ من الكتاب الفلانيّ ونحوه (قلت) لا يجوز لمفتٍ على مذهب الشّافعيّ إذا اعتمد النّقل أن يكتفي بمصنّفٍ ومصنّفين.
ونحوهما من كتب المتقدّمين وأكثر المتأخّرين لكثرة الاختلاف بينهم في الجزم والتّرجيح لأنّ هذا المفتي المذكور إنّما ينقل مذهب الشّافعيّ ولا يحصل له وثوقٌ بأنّ ما في المصنّفين المذكورين ونحوهما هو مذهب الشّافعيّ أو الراجح منه لما فيها من الاختلاف.
وهذا ممّا لا يتشكّك فيه من له أدنى أنسٍ بالمذهب بل قد يجزم نحو عشرة من المصنفين بشيء وهو شاذٌّ بالنّسبة إلى الرّاجح في المذهب ومخالفٌ لما عليه الجمهور وربّما خالف نصّ الشّافعيّ أو نصوصًا له وسترى في هذا الشّرح إن شاء اللّه تعالى أمثلة ذلك وأرجو إن تمّ هذا الكتاب أنّه يستغنى به عن كلّ مصنّفٍ ويعلم به مذهب الشّافعيّ علمًا قطعيًّا إن شاء اللّه تعالى.
(الثّامنة) إذا أفتى في حادثةٍ ثمّ حدثت مثلها فإن ذكر الفتوى الأولى ودليلها بالنّسبة إلى أصل الشّرع إن كان مستقلًّا أو إلى مذهبه إن كان منتسبًا أفتى بذلك بلا نظرٍ وإن ذكرها ولم يذكر دليلها ولا طرأ ما يوجب رجوعه فقيل له أن يفتي بذلك والأصحّ وجوب تجديد النّظر ومثله القاضي إذا حكم بالاجتهاد ثمّ وقعت المسألة وكذا تجديد الطّلب في التّيمّم والاجتهاد في القبلة وفيهما الوجهان: قال القاضي أبو الطّيّب في تعليقه في آخر باب استقبال القبلة وكذا العامّيّ إذا وقعت له مسألةٌ فسأل عنها ثمّ وقعت له فليلزمه السّؤال ثانيًا يعني على الأصحّ قال إلّا أن تكون مسألةً يكثر وقوعها ويشقّ عليه إعادة السّؤال عنها فلا يلزمه ذلك ويكفيه السّؤال الأول للمشقة.
(التّاسعة) ينبغي أن لا يقتصر في فتواه على قوله في المسألة خلافٌ أو قولان أو وجهان أو روايتان أو يرجع إلى رأي القاضي ونحو ذلك فهذا ليس بجوابٍ ومقصود المستفتي بيان ما يعمل به فينبغي أن يجزم له بما هو الرّاجح فإن لم يعرفه توقّف حتّى يظهر أو يترك الإفتاء كما كان جماعةٌ من كبار أصحابنا يمتنعون من الإفتاء في حنث النّاسي.
فصلٌ في آداب الفتوى
فيه مسائل إحداها يلزم المفتي أن يبيّن الجواب بيانًا يزيل الإشكال ثمّ له الاقتصار على الجواب شفاهًا فإن لم يعرف لسان المستفتي كفاه ترجمة ثقةٍ واحدٍ لأنّه خبرٌ وله الجواب كتابةً وإن كانت الكتابة على خطرٍ وكان القاضي أبو حامدٍ كثير الهرب من الفتوى في الرّقاع.
قال الصّيمريّ وليس من الأدب كون السّؤال بخطّ المفتي فأمّا بإملائه وتهذيبه فواسعٌ وكان الشّيخ أبو إسحاق الشّيرازيّ قد يكتب السّؤال على ورقٍ له ثمّ يكتب الجواب وإذا كان في الرقعة مسائل فالا حسن ترتيب الجواب على ترتيب السّؤال ولو ترك التّرتيب فلا بأس.
ويشبه معنى قول اللّه تعالى {يوم تبيضّ وجوهٌ وتسودّ وجوهٌ فأمّا الذين اسودت} وإذا كان في المسألة تفصيلٌ لم يطلق الجواب فإنّه خطأٌ ثمّ له أن يستفصل السّائل إن حضر ويقيّد السّؤال في رقعةٍ أخرى ثمّ يجيب وهذا أولى وأسلم.
وله أن يقتصر على جواب أحد الأقسام إذا علم أنّه الواقع للسّائل ويقول هذا إذا كان الأمر كذا وله أن يفصّل الأقسام في جوابه ويذكر حكم كلّ قسمٍ لكنّ هذا كرهه أبو الحسن القابسيّ من أئمّة المالكية وغيره وقالوا هذا تعليم للناس الفجور.
وإذا لم يجد المفتي من يسأله فصل الاقسام واجتهد في بيانها واستيفائها.
(الثّانية) ليس له أن يكتب الجواب على ما علمه من صورة الواقعة إذا لم يكن في الرّقعة تعرّضٌ له بل يكتب جواب ما في الرّقعة فإن أراد جواب ما ليس فيها فليقل وإن كان الأمر كذا وكذا فجوابه كذا.
واستحبّ العلماء أن يزيد على ما في الرّقعة ما له تعلّقٌ بها ممّا يحتاج إليه السّائل لحديث هو الطهور ماؤه الحل ميتته.
(الثّالثة) إذا كان المستفتي بعيد الفهم فليرفق به ويصبر على تفهّم سؤاله وتفهيم جوابه فان ثوابه جزيل.
(الرّابعة) ليتأمّل الرّقعة تأمّلًا شافيًا وآخرها آكد فإنّ السّؤال في آخرها وقد يتقيّد الجميع بكلمةٍ في آخرها ويغفل عنها.
قال الصّيمريّ قال بعض العلماء ينبغي أن يكون توقّفه في المسألة السّهلة كالصّعبة ليعتاده وكان محمّد بن الحسن يفعله.
وإذا وجد مشتبهةً سأل المستفتي عنها ونقّطها وشكّلها.
وكذا إن وجد لحنًا فاحشًا أو خطأً يحيل المعنى أصلحه.
وإن رأى بياضًا في أثناء سطرٍ أو آخره خطّ عليه أو شغله لأنّه ربّما قصد المفتى بالإيذاء فكتب في البياض بعد فتواه ما يفسدها كما بلي به القاضى أبو حامد المروروذى.
(الخامسة) يستحبّ أن يقرأها على حاضريه ممّن هو أهلٌ لذلك ويشاورهم ويباحثهم برفقٍ وإنصافٍ وإن كانوا دونه وتلامذته للاقتداء بالسّلف ورجاء ظهور ما قد يخفى عليه إلّا أن يكون فيها ما يقبح إبداؤه أو يؤثر السائل كتمانه أو في اشاعته مفسدة.
(السّادسة) ليكتب الجواب بخطٍّ واضحٍ وسطٍ لا دقيقٍ خافٍ ولا غليظٍ جافٍ ويتوسّط في سطورها بين توسيعها وتضييقها وتكون عبارةً واضحةً صحيحةً تفهمها العامّة ولا يزدريها الخاصّة.
واستحبّ بعضهم أن لا تختلف أقلامه وخطّه خوفًا من التزويز ولئلا يشتبه خطه: قال الصيمري وقلما وجده التّزوير على المفتي لأنّ اللّه تعالى حرس أمر الدين.
وإذا كتب الجواب أعاد نطره فيه خوفًا من اختلالٍ وقع فيه أو اخلال ببعض المسؤل عنه.
(السّابعة) إذا كان هو المبتدي فالعادة قديمًا وحديثًا أن يكتب في النّاحية اليسرى من الورقة.
قال الصيمري وغيره وأين كتب من وسط الرّقعة أو حاشيتها فلا عتب عليه.
ولا يكتب فوق البسملة بحالٍ.
وينبغي أن يدعو إذا أراد الإفتاء.
وجاء عن مكحولٍ ومالكٍ رحمهما الله انهما كانا لا يفتيان حتي يقولا لاحول ولا قوّة إلّا باللّه.
ويستحبّ الاستعاذة من الشّيطان ويسمّي اللّه تعالى ويحمده ويصلّي على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وليقل {ربّ اشرح لى صدري} الآية ونحو ذلك.
قال الصّيمريّ وعادة كثيرين أن يبدؤا فتاويهم الجواب وباللّه التّوفيق وحذف آخرون ذلك.
قال ولو عمل ذلك فيما طال من المسائل واشتمل على فصولٍ وحذف في غيره كان وجهًا (قلت) المختار قول ذلك مطلقًا وأحسنه الابتداء بقول الحمد للّه لحديث « كلّ أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ بالحمد للّه »
فهو أجذم وينبغي أن يقوله بلسانه ويكتبه.
قال الصّيمريّ ولا يدع ختم جوابه بقوله وباللّه التّوفيق أو واللّه أعلم أو واللّه الموفّق.
قال ولا يقبح قوله الجواب عندنا أو الّذي عندنا أو الّذي نقول به أو نذهب إليه أو نراه كذا لأنّه من أهل ذلك.
قال وإذا أغفل السّائل الدّعاء للمفتي أو الصّلاة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في آخر الفتوى ألحق المفتي ذلك بخطّه فإنّ العادة جاريةٌ به (قلت) وإذا ختم الجواب بقوله واللّه أعلم.
ونحوه ممّا سبق فليكتب بعده كتبه فلانٌ أو فلان بن فلانٍ الفلانيّ فينتسب إلى ما يعرف به من قبيلةٍ أو بلدةٍ أو صفةٍ ثمّ يقول الشّافعيّ أو الحنفيّ مثلًا فإن كان مشهورًا بالاسم أو غيره فلا بأس بالاقتصار عليه.
قال الصيمر ى ورأى بعضهم أن يكتب المفتي بالمداد دون الحبر خوفًا من الحكّ قال والمستحبّ الحبر لا غير (قلت) لا يختصّ واحدٌ منهما هنا بالاستحباب بخلاف كتب العلم فالمستحبّ فيها الحبر لأنّها تراد للبقاء والحبر أبقى.
قال الصّيمريّ وينبغي إذا تعلّقت الفتوى بالسّلطان أن يدعو له فيقول وعلى وليّ الأمر أو السّلطان أصلحه اللّه أو سدّده اللّه أو قوّى اللّه عزمه أو أصلح اللّه به أو شدّ اللّه أزره ولا يقل أطال اللّه بقاءه فليست من ألفاظ السّلف (قلت)
نقل أبو جعفرٍ النّحّاس وغيره اتّفاق العلماء على كراهة قول أطال الله بقاك وقال بعضهم هي تحيّة الزّنادقة.
وفي صحيح مسلمٍ في حديث أمّ حبيبة رضي اللّه عنها إشارةٌ إلى أنّ الأولى ترك نحو هذا من الدعاء بطول البقاء وأشباهه.
(الثّامنة) ليختصر جوابه ويكون بحيث تفهمه العامّة قال صاحب الحاوي يقول يجوز أو لا يجوز أو حقٌّ أو باطلٌ وحكى شيخه الصيمري عن شيخه القاضي أبي حامدٍ أنّه كان يختصر غاية ما يمكنه واستفتي في مسألةٍ آخرها يجوز أم لا فكتب لا وباللّه التّوفيق.
(التّاسعة) قال الصّيمريّ والخطيب إذا سئل عمّن قال أنا أصدق من محمّد بن عبد اللّه أو الصّلاة لعبٌ وشبه ذلك فلا يبادر بقوله هذا حلال الدّم أو عليه القتل بل يقول إن صحّ هذا بإقراره أو بالبيّنة استتابه السّلطان فإن تاب قبلت توبته وإن لم يتب فعل به كذا وكذا وبالغ في ذلك وأشبعه.
قال وإن سئل عمن تكلم بشيء يحتمل وجوهًا يكفّر ببعضها دون بعضٍ قال يسئل هذا القائل فإن قال أردت كذا فالجواب كذا.
وإن سئل عمّن قتل أو قلع عينًا أو غيرها احتاط فذكر الشّروط الّتي يجب بجميعها القصاص.
وإن سئل عمّن فعل ما يوجب التّعزير ذكر ما يعزّر به فيقول يضر به السّلطان كذا وكذا ولا يزاد على كذا هذا كلام الصّيمريّ والخطيب وغيرهما.
قال أبو عمرٍو ولو كتب عليه القصاص أو التّعزير بشرطه فليس ذلك بإطلاقٍ بل تقييده بشرطه يحمل الوالي على السّؤال عن شرطه والبيان أولى.
(العاشرة) ينبغي إذا ضاق موضع الجواب أن لا يكتبه في رقعةٍ أخرى خوفًا من الحيلة ولهذا قالوا يصل جوابه بآخر سطرٍ ولا يدع فرجةً لئلّا يزيد السّائل شيئًا يفسدها.
وإذا كان موضع الجواب ورقةً ملصقةً كتب على الإلصاق ولو ضاق باطن الرّقعة وكتب الجواب في ظهرها كتبه في أعلاها إلّا أن يبتدئ من أسفلها متّصلًا بالاستفتاء فيضيق الموضع فيتمّه في أسفل ظهرها ليتّصل جوابه.
واختار بعضهم أن يكتب على ظهرها لاعلى حاشيتها والمختار عند الصّيمريّ وغيره أنّ حاشيتها أولى من ظهرها: قال الصّيمريّ وغيره والأمر في ذلك قريب.
(الحادية عشرة) إذا ظهر للمفتي أنّ الجواب خلاف غرض المستفتى وانه لا يرضى بكتابته في ورقته فليقتصر على مشافهته بالجواب وليحذر أن يميل في فتواه مع المستفتي أو خصمه ووجوه الميل كثيرةٌ لا تخفى.
ومنها أن يكتب في جوابه ما هو له ويترك ما عليه وليس له أن يبدأ في مسائل الدّعوى والبيّنات بوجوه المخالص منها وإذا سأله أحدهم وقال بأي شيء تندفع دعوى كذا وكذا أو بيّنة كذا وكذا لم يجبه كيلا يتوصّل بذلك إلى إبطال حقٍّ وله أن يسأله عن حاله فيما ادّعى عليه فإذا شرحه له عرّفه بما فيه من دافعٍ وغير دافعٍ.
قال الصّيمريّ وينبغي للمفتي إذا رأى للسّائل طريقا يرشده إليه أن ينبّهه عليه يعني ما لم يضرّ غيره ضررا بغير حق قال كمن حلف لا ينفق على زوجته شهرًا يقول يعطيها من صداقها أو قرضا أو بيعا ثم يبريها وكما حكي أنّ رجلًا قال لأبي حنيفة رحمه اللّه حلفت أنّي أطأ امرأتي في نهار رمضان ولا أكفّر ولا أعصي فقال سافر بها.
(الثّانية عشرة) قال الصّيمريّ إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتى العامي بما فيه تغليظٌ وهو ممّا لا يعتقد ظاهره وله فيه تأويلٌ جاز ذلك زجرًا له كما روي عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما أنه سئل عن توبة القاتل فقال لا توبة له وسأله آخر فقال له توبةٌ ثمّ قال:
أمّا الأوّل فرأيت في عينه إرادة القتل فمنعته وأمّا الثّاني فجاء مستكينا قد قتل فلم أفطه.
قال الصيمري وكذ إن سأله رجلٌ فقال إن قتلت عبدي هل عليّ قصاصٌ فواسعٌ أن يقول إن قتلت عبدك قتلناك فقد روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من قتل عبده قتلناه ولان القتل له معان قال ولو سئل عن سبّ الصّحابيّ هل يوجب القتل فواسع أن يقول روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: من سبّ أصحابي فاقتلوه فيفعل كلّ هذا زجرًا للعامّة ومن قلّ دينه ومرؤته.
(الثّالثة عشرة) يجب على المفتي عند اجتماع الرّقاع بحضرته أن يقدّم الأسبق فالأسبق كما يفعله القاضي في الخصوم وهذا فيما يجب فيه الإفتاء فإن تساووا أو جهل السّابق قدّم بالقرعة والصّحيح أنّه يجوز تقديم المرأة والمسافر الّذي شدّ رحله وفي تأخيره ضررٌ بتخلّفه عن رفقته ونحو ذلك على من سبقهما إلّا إذا كثر المسافرون والنّساء بحيث يلحق غيرهم بتقديمهم ضررٌ كثيرٌ فيعود بالتّقديم بالسبق أو القرعة ثمّ لا يقدّم أحدًا إلّا في فتيا واحدة.
(الرّابعة عشرة) قال الصّيمريّ وأبو عمرٍو إذا سئل عن ميراثٍ فليست العادة أن يشترط في الورثة عدم الرّقّ والكفر والقتل وغيرها من مواضع الميراث بل المطلق محمولٌ على ذلك بخلاف ما إذا اطلق الاخوة والاخوات والاعمام وبينهم فلابدّ أن يقول في الجواب من أبٍ وأمٍّ، أو من أبٍ، أو من أمٍّ.
وإذا سئل عن مسألة عولٍ كالمنبريّة وهي زوجةٌ وأبوان وبنتان فلا يقل للزّوجة الثّمن ولا التّسع لأنّه لم يطلقه أحدٌ من السلف بل يقل لها الثّمن عائلًا، وهي ثلاثة أسهمٍ من سبعةٍ وعشرين أو لها ثلاثة أسهمٍ من سبعةٍ وعشرين أو يقول ما قاله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه صار ثمنها تسعًا.
وإذا كان في المذكورين في رقعة الاستفتاء من لا يرث أفصح بسقوطه فقال وسقط فلانٌ.
وإن كان سقوطه في حالٍ دون حالٍ قال وسقط فلانٌ في هذه الصّورة أو نحو ذلك لئلّا يتوهّم أنّه لا يرث بحالٍ.
وإذا سئل عن إخوةٍ وأخواتٍ أو بنين وبناتٍ فلا ينبغي أن يقول للذّكر مثل حظّ الأنثيين فإنّ ذلك قد يشكل على العامّيّ بل يقول يقتسمون التّركة على كذا وكذا سهمًا لكلّ ذكرٍ كذا وكذا سهمًا ولكلّ أنثى كذا وكذا سهمًا قال الصّيمريّ.
قال الشّيخ ونحن نجد في تعمّد العدول عنه حزازةً في النّفس لكونه لفظ القرآن العزيز وانه قل ما يخفى معناه على أحدٍ وينبغي أن يكون في جواب مسائل المناسخات شديد التّحرّز والتّحفّظ وليقل فيها لفلان كذا كذا ميراثه من ثمّ من أخيه.
قال الصّيمريّ وكان بعضهم يختار أن يقول لفلانٍ كذا وكذا سهمًا ميراثه عن أبيه كذا وعن أمّه كذا وعن أخيه كذا قال وكلّ هذا قريبٌ.
قال الصّيمريّ وغيره وحسنٌ أن يقول تقسم التّركة بعد إخراج ما يجب تقديمه من دينٍ أو وصية ان كانا.
(الخامسة عشرة) إذا رأى المفتي رقعة الاستفتاء وفيها خطّ غيره ممن هو أهل للفتوى وخطّه فيها موافقٌ لما عنده قال الخطيب وغيره كتب تحت خطّه هذا جوابٌ صحيحٌ وبه أقول أو كتب جوابي مثل هذا وإن شاء ذكر الحكم بعبارةٍ ألخص من عبارة الّذي كتب.
وأمّا إذا رأى فيها خطّ من ليس أهلًا للفتوى فقال الصّيمريّ لا يفتى معه لان في ذلك تقريرا منه لمنكربل يضرب على ذلك بأمر صاحب الرّقعة ولو لم يستأذنه في هذا القدر جاز لكن ليس له احتباس الرّقعة إلّا بإذن صاحبها قال وله انتهار السّائل وزجره وتعريفه قبح ما أتاه وأنّه كان واجبًا عليه البحث عن أهلٍ للفتوى وطلب من هو أهلٌ لذلك.
وإن رأى فيها اسم من لا يعرفه سأل عنه فإن لم يعرفه فواسعٌ أن يمتنع من الفتوى معه خوفًا ممّا قلناه.
قال وكان بعضهم في مثل هذا يكتب على ظهرها قال والأولى في هذا الموضع أن يشار على صاحبها بإبدالها فإن أبي ذلك أجابه شفاهًا: قال أبو عمرٍو وإذا خاف فتنةً من الضّرب على فتيا العادم للاهلية ولم تكن خطأً عدل إلى الامتناع من الفتيا معه فان غلبت فتاويه لتغلبه على منصبها بجاهٍ أو تلبيسٍ أو غير ذلك بحيث صار امتناع الاهل من الفتيا معه ضارًّا بالمستفتين فليفت معه فإنّ ذلك أهون الضّررين وليتلطّف مع ذلك في إظهار قصوره لمن يجهله أمّا إذا وجد فتيا من هو اهل وهى خطأ مطلقا بمخالفتها القاطع أو خطأٌ على مذهب من يفتى ذلك المخطئ على مذهبه قطعًا فلا يجوز له الامتناع من الافتاء تاركا للتنبيه على خطئها إذا لم يكفه ذلك غيره بل عليه الضرب عليها عند تيسره أو إلا بذال وتقطيع الرّقعة بإذن صاحبها أو نحو ذلك وإذا تعذر ذلك وما يقوم مقامه كتب صواب جوابه عند ذلك الخطأ ثمّ إن كان الخطئ اهلا للفتوى فحسن ان تعاد إليه بإذن صاحبها أمّا إذا وجد فيها فتيا أهلٍ للفتوى وهي على خلاف ما يراه هو غير أنّه لا يقطع بخطئها فليقتصر على كتب جواب نفسة ولا يتعرّض لفتيا غيره بتخطئةٍ ولا اعتراضٍ.
قال صاحب الحاوى لا يسوغ لمفت إذا استفتى ان يتعرض لجواب غيره ترد ولا تخطئة ويجيب بما عنده من موافقة أو مخالفة.
(السّادسة عشرة) إذا لم يفهم المفتي السّؤال أصلًا ولم يحضر صاحب الواقعة فقال الصّيمريّ يكتب يزاد في الشّرح ليجيب عنه أو لم أفهم ما فيها فأجيب قال وقال بعضهم لا يكتب شيئا أصلا قال ورأيت بعضهم كتب في هذا يحضر السّائل لنخاطبه شفاهًا وقال الخطيب ينبغي له إذا لم يفهم الجواب أن يرشد المستفتي إلى مفتٍ آخر ان كان وإلّا فليمسك حتّى يعلم الجواب.
قال الصيمري وإذا كان في رقعة الاستفتاء مسائل فهم بعضها دون بعضٍ أو فهمها كلّها ولم يرد الجواب في بعضها أو احتاج في بعضها إلى تأمّلٍ أو مطالعةٍ أجاب عمّا أراد وسكت عن الباقي وقال لنا في الباقي نظرٌ أو تأمّلٌ أو زيادة نظر.
(السّابعة عشرة) ليس بمنكرٍ أن يذكر المفتي في فتواه الحجّة إذا كانت نصًّا واضحًا مختصرًا قال الصّيمريّ لا يذكر الحجّة إن أفتى عامّيًّا ويذكرها إن أفتى فقيهًا كمن يسأل عن النّكاح بلا وليٍّ فحسنٌ أن يقول قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لا نكاح إلّا بوليٍّ.
أو عن رجعة المطلّقة بعد الدّخول فيقول له رجعتها قال الله تعالى {وبعولتهن أحق بردهن}.
قال ولم تجز العادة أن يذكر في فتواه طريق الاجتهاد ووجهة القياس والاستدلال إلّا أن تتعلّق الفتوى بقضاء قرض فيومئ فيها إلى طريق الاجتهاد ويلوح بالنّكتة وكذا إذا أفتى غيره فيها بغلطٍ فيفعل ذلك لينبّه على ما ذهب إليه ولو كان فيما يفتي به غموضٌ فحسنٌ أن يلوح بحجّته.
وقال صاحب الحاوي لا يذكر حجّةً ليفرّق بين الفتيا والتّصنيف قال ولو ساغ التّجاوز إلى قليلٍ لساغ إلى كثيرٍ ولصار المفتي مدرّسًا والتّفصيل الّذي ذكرناه أولى من إطلاق صاحب الحاوي المنع.
وقد يحتاج المفتي في بعض الوقائع إلى أن يشدّد ويبالغ فيقول وهذا إجماع المسلمين أو لا أعلم في هذا خلافًا أو فمن خالف هذا فقد خالف الواجب وعدل عن الصّواب أو فقد أثم وفسق أو وعلى وليّ الأمر أن يأخذ بهذا ولا يهمل الأمر وما أشبه هذه إلا لفاظ على حسب ما تقتضيه المصلحة وتوجبه الحال.
(الثّامنة عشرة) قال الشّيخ أبو عمرٍو رحمه الله ليس له إذا استفتى في شيء من المسائل الكلاميّة أن يفتي بالتّفصيل بل يمنع مستفتيه وسائر العامّة من الخوض في ذلك أو في شيء منه وان قل ويأمرهم بأن يقتصروا فيها على الإيمان جملةً من غير تفصيلٍ ويقولوا فيها وفي كلّ ما ورد من آيات الصّفات وأخبارها المتشابهة إنّ الثّابت فيها في نفس الأمر ما هو اللّائق فيها بجلال اللّه تبارك وتعالى وكماله وتقديسه المطلق فيقول ذلك معتقدنا فيها.
وليس علينا تفصيله وتعيينه وليس البحث عنه من شأننا بل نكل علم تفصيله إلى اللّه تبارك وتعالى ونصرف عن الخوض فيه قلوبنا وألسنتنا فهذا ونحوه هو الصّواب من أئمّة الفتوى في ذلك وهو سبيل سلف الأمّة وأئمّة المذاهب المعتبرة وأكابر العلماء والصّالحين وهو أصون وأسلم للعامّة وأشباههم.
ومن كان منهم اعتقد اعتقاد باطلًا تفصيلًا ففي هذا صرفٌ له عن ذلك الاعتقاد الباطل بما هو أهون وأيسر وأسلم.
وإذا عزّر وليّ الأمر من حاد منهم عن هذه الطّريقة فقد تأسّى بعمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه في تعزير صبيع بفتح الصّاد المهملة الّذي كان يسأل عن المتشابهات على ذلك.
قال والمتكلّمون من أصحابنا معترفون بصحّة هذه الطّريقة وبأنّها أسلم لمن سلمت له وكان الغزاليّ منهم في آخر أمره شديد المبالغة في الدّعاء إليها والبرهنة عليها وذكر شيخه إمام الحرمين في كتابه الغيائى أنّ الإمام يحرص ما أمكنه على جمع عامة الخلق على سلوك سبيل السّلف في ذلك.
واستفتي الغزاليّ في كلام اللّه تبارك وتعالى فكان من جوابه وأمّا الخوض في أنّ كلامه تعالى حرفٌ وصوتٌ أو ليس كذلك فهو بدعةٌ وكلّ من يدعو العوامّ إلى الخوض في هذا فليس من أئمّة الدّين وإنّما هو من المضلّين ومثاله من يدعو الصّبيان الّذين لا يحسنون السّباحة إلى خوض البحر، ومن يدعو الزّمن المقعد إلى السّفر في البراري من غير مركوب.
وقال في رسالةٍ له الصّواب للخلق كلّهم إلّا الشّاذّ النّادر الّذي لا تسمح الأعصار إلّا بواحدٍ منهم أو اثنين سلوك مسلك السّلف في الايمان المرسل والتصديق المجمل بكل ما أزله اللّه تعالى وأخبر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من غير بحثٍ وتفتيشٍ والاشتغال بالتّقوى ففيه شغلٌ شاغلٌ.
وقال الصّيمريّ في كتابه أدب المفتي والمستفتي إنّ ممّا أجمع عليه أهل التقوى أنّ من كان موسومًا بالفتوى في الفقه لم ينبغ وفي نسخةٍ لم يجز له أن يضع خطّه بفتوى في مسألةٍ من علم الكلام قال وكان بعضهم لا يستتمّ قراءة مثل هذه الرّقعة قال وكره بعضهم أن يكتب ليس هذا من علمنا أو ما جلسنا لهذا أو السؤال عن غير هذا أولى بل لا يتعرّض لشيء من ذلك.
وحكى الإمام الحافظ الفقيه أبو عمر بن عبد البرّ الامتناع من الكلام في كلّ ذلك عن الفقهاء والعلماء قديمًا وحديثًا من أهل الحديث والفتوى قال وإنّما خالف ذلك أهل البدع.
قال الشّيخ فإن كانت المسألة ممّا يؤمن في تفصيل جوابها من ضرر الخوض المذكور جاز الجواب تفصيلًا وذلك بأن يكون جوابها مختصرًا مفهومًا ليس لها أطراف يتجاذبها المتنازعون والسؤال عنه صدر عن مسترشدٍ خاصٍّ منقادٍ أو من عامّةٍ قليلة التّنازع والمماراة والمفتي ممّن ينقادون لفتواه ونحو هذا وعلى هذا ونحوه يحمل ما جاء عن بعض السّلف من بغض الفتوى في بعض المسائل الكلاميّة وذلك منهم قليلٌ نادر والله أعلم.
(التّاسعة عشرة) قال الصّيمريّ والخطيب رحمهما اللّه وإذا سئل فقيهٌ عن مسألةٍ من تفسير القرآن العزيز فان كانت تتعلّق بالأحكام أجاب عنها وكتب خطّه بذلك كمن سأل عن الصّلاة الوسطى والقرء ومن بيده عقدة النّكاح وإن كانت ليست من مسائل الأحكام كالسّؤال عن الرقيم والنقير والغسلين ردّه إلى أهله ووكله إلى من نصّب نفسه له من أهل التّفسير ولو أجابه شفاهًا لم يستقبح هذا كلام الصّيمريّ والخطيب ولو قيل إنّه يحسن كتابته للفقيه العارف به لكان حسنًا وأيّ فرقٍ بينه وبين مسائل الأحكام واللّه أعلم
فصلٌ في آداب المستفتي وصفته وأحكامه:
فيه مسائل: إحداها في صفة المستفتي كلّ من لم يبلغ درجة المفتى فهو فيما يسئل عنه من الأحكام الشّرعيّة مستفتٍ مقلّدٌ من يفتيه والمختار في التّقليد أنّه قبول قول من يجوز عليه الإصرار على الخطأ بغير حجّةٍ على عين ما قبل قوله فيه.
ويجب عليه الاستفتاء إذا نزلت به حادثةٌ يجب عليه علم حكمها.
فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرّحيل إلى من يفتيه وان بعدت دراه وقد رحل خلائق من السّلف في المسألة الواحدة الليالى والايام.
(الثّانية) يجب عليه قطعًا البحث الّذي يعرف به أهليّة من يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن عارفًا بأهليّته فلا يجوز له استفتاء من انتسب إلى العلم وانتصب للتّدريس والإقراء وغير ذلك من مناصب العلماء بمجرّد انتسابه وانتصابه لذلك ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلًا للفتوى.
وقال بعض أصحابنا المتأخّرين إنّما يعتمد قوله أنا أهلٌ للفتوى لا شهرته بذلك ولا يكتفى بالاستفاضة ولا بالتّواتر لأنّ الاستفاضة والشّهرة بين العامّة لا يوثق بها وقد يكون أصلها التّلبيس.
وأمّا التّواتر فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلومٍ محسوسٍ.
والصّحيح هو الأوّل لأنّ إقدامه عليها أخبار منه بأهليّته فإنّ الصّورة مفروضةٌ فيمن وثق بديانته.
ويجوز استفتاء من أخبر المشهور المذكور بأهليته.
قال الشيخ أبو إسحاق المنصف رحمه اللّه وغيره يقبل في أهليّته خبر العدل الواحد.
قال أبو عمرٍو وينبغي أن نشترط في المخبر أن يكون عنده من العلم والبصر ما يميّز به الملتبس من غيره ولا يعتمد في ذلك على خبر آحاد العامّة لكثرة ما يتطرّق إليهم من التّلبيس في ذلك.
وإذا اجتمع اثنان فأكثر ممّن يجوز استفتاؤهم فهل يجب عليه الاجتهاد في أعلمهم والبحث عن الاعلم والاورع الاوثق ليقلّده دون غيره فيه وجهان أحدهما لا يجب بل له استفتاء من شاء منهم لأنّ الجميع أهلٌ وقد أسقطنا الاجتهاد عن العامّيّ وهذا الوجه هو الصّحيح عند أصحابنا العراقيّين قالوا وهو قول أكثر أصحابنا.
والثّاني يجب ذلك لأنّه يمكّنه هذا القدر من الاجتهاد بالبحث والسّؤال وشواهد الأحوال وهذا
الوجه قول أبي العبّاس بن سريجٍ واختيار القفّال المروزيّ وهو الصّحيح عند القاضي حسينٍ والأوّل أظهر وهو الظّاهر من حال الأوّلين.
قال أبو عمرٍو رحمه اللّه لكن متى اطّلع على الأوثق فالأظهر أنّه يلزمه تقليده كما يجب تقديم أرجح الدّليلين وأوثق الرّوايتين فعلى هذا يلزمه تقليد الاورع من العالمين والأعلم من الورعين فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قلّد الأعلم على الأصحّ.
وفي جواز تقليد الميّت وجهان الصّحيح جوازه لأنّ المذاهب لا تموت بموت أصحابها ولهذا يعتدّ بها بعدهم في الإجماع والخلاف ولأنّ موت الشّاهد قبل الحكم لا يمنع الحكم بشهادته بخلاف فسقه والثّاني لا يجوز لفوات أهليّته كالفاسق وهذا ضعيفٌ لا سيّما في هذه الاعصار.
(الثّالثة) هل يجوز للعامّيّ أن يتخيّر ويقلّد أيّ مذهبٍ شاء قال الشّيخ ينظر إن كان منتسبًا إلى مذهبٍ بنيناه على وجهين حكاهما القاضي حسينٌ في أنّ العامّيّ هل له مذهبٌ أم لا.
أحدهما لا مذهب له لأنّ المذهب لعارف الأدلّة فعلى هذا له أن يستفتي من شاء من حنفيٍّ وشافعي غيرهما.
والثّاني وهو الأصحّ عند القفّال له مذهبٌ فلا يجوز له مخالفته وقد ذكرنا في المفتي المنتسب ما يجوز له أن يخالف إمامه فيه وإن لم يكن منتسبًا بني على وجهين حكاهما ابن برهانٍ في أنّ العامي هل يلزمه ان يتذهب بمذهب معين يأخذ بزخصه وعزائمه أحدهما لا يلزمه كما لم يلزمه في العصر الأوّل أن يخصّ بتقليده عالمًا بعينه.
فعلى هذا هل له أن يستفتي من شاء أم يجب عليه البحث عن أشدّ المذاهب وأصحّها أصلًا ليقلّد أهله فيه وجهان مذكور ان كالوجهين السّابقين في البحث عن الأعلم والأوثق من المفتيين والثّاني يلزمه وبه قطع أبو الحسن إلكيا وهو جارٍ في كلّ من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر العلوم.
ووجهه أنّه لو جاز اتّباع أيّ مذهبٍ شاء لا فضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متّبعًا هواه ويتخيّر بين التّحليل والتّحريم والوجوب والجواز وذلك يؤدّي إلى انحلال ربقة التّكليف بخلاف العصر الأوّل فإنّه لم تكن المذاهب الوافية بأحكام الحوادث مهذّبةً وعرفت.
فعلى هذا يلزمه أن يجتهد في اختيار مذهبٍ يقلّده على التّعيين ونحن نمهّد له طريقًا يسلكه في اجتهاده سهلًا فنقول أوّلًا ليس له أن يتّبع في ذلك مجرّد التّشهّي والميل إلى ما وجد عليه أباءه وليس له التذهب بمذهب أحدٍ من أئمّة الصّحابة رضي اللّه عنهم وغيرهم من الأوّلين وإن كانوا أعلم وأعلا درجةٍ ممّن بعدهم لأنّهم لم يتفرّغوا لتدوين العلم وضبط أصوله وفروعه.
فليس لأحدٍ منهم مذهبٌ مهذّبٌ محرّرٌ مقرّرٌ وإنّما قام بذلك من جاء بعدهم من الأئمّة النّاحلين لمذاهب الصّحابة والتّابعين القائمين بتمهيد أحكام الوقائع قبل وقوعها النّاهضين بإيضاح أصولها وفروعها كمالكٍ وأبي حنيفة وغيرهما.
ولمّا كان الشّافعيّ قد تأخّر عن هؤلاء الأئمّة في العصر ونظر في مذاهبهم نحو نظرهم في مذاهب من قبلهم فسبرها وخبرها وانتقدها واختار أرجحها ووجد من قبله قد كفاه مؤنة التّصوير والتّأصيل فتفرّغ للاختيار والترجيح والتكميل والتنقيح مع كمال معرفته وبراعته في العلوم وترجّحه في ذلك على من سبقه ثمّ لم يوجد بعده من بلغ محلّه في ذلك كان مذهبه أولى المذاهب بالاتّباع والتّقليد وهذا مع ما فيه من الإنصاف والسّلامة من القدح في أحد من الأئمّة جليٌّ واضحٌ إذا تأمّله العامّيّ قاده إلى اختيار مذهب الشافعي والتذهب به.
(الرّابعة) إذا اختلف عليه فتوى مفتيين ففيه خمسة أوجه للاصحاب: أحدها يأخذ أغلظهما.
والثاني وأخفهما.
والثّالث يجتهد في الأولى فيأخذ بفتوى الأعلم الأورع كما سبق إيضاحه واختاره السّمعانيّ الكبير ونصّ الشّافعيّ رضي اللّه عنه على مثله في القبلة.
والرّابع يسأل مفتيًا آخر فيأخذ بفتوى من وافقه.
والخامس يتخيّر فيأخذ بقول أيّهما شاء وهذا هو الأصحّ عند الشّيخ أبي إسحاق الشّيرازيّ المصنّف وعند الخطيب البغداديّ ونقله المحامليّ في أوّل المجموع عن أكثر أصحابنا واختاره صاحب الشّامل فيما إذا تساوى المفتيان في نفسه وقال الشّيخ أبو عمرٍو المختار إنّ عليه أن يبحث عن الأرجح فيعمل به فإنّه حكم التّعارض فيبحث عن الاوثق من المفتيين فيعمل بفتواه وإن لم يترجّح عنده أحدهما استفتى آخر وعمل بفتوى من وافقه.
فإن تعذّر ذلك وكان اختلافهما في التّحريم والإباحة وقبل العمل اختار التّحريم فإنّه أحوط وإن تساويا من كلّ وجهٍ خيّرناه بينهما وإن أبينا التّخيير في غيره لأنّه ضرورةٌ وفي صورةٍ نادرةٍ. قال الشّيخ ثمّ إنّما نخاطب بما ذكرناه المفتيين.
وأما العامي الذي وقع له ذلك فحكمه أن يسأل عن ذلك ذينك المفتيين أؤ مفتيًا آخر وقد أرشدنا المفتي إلى ما يجيبه به وهذا الّذي اختاره الشّيخ ليس بقويٍّ بل الأظهر أحد الأوجه الثّلاثة وهي الثّالث والرّابع والخامس.
والظّاهر أنّ الخامس أظهرها لأنّه ليس من أهل الاجتهاد وإنّما فرضه أن يقلّد عالمًا أهلًا لذلك وقد فعل ذلك بأخذه بقول من شاء منهما والفرق بينه وبين ما نصّ عليه في القبلة أنّ أمارتها حسّيّةٌ فإدراك صوابها أقرب فيظهر التّفاوت بين المجتهدين فيها والفتاوى أمارتها معنويّةٌ فلا يظهر كبير تفاوتٍ بين المجتهدين واللّه أعلم.
(الخامسة) قال الخطيب البغداديّ إذا لم يكن في الموضع الّذي هو فيه إلّا مفتٍ واحدٌ فأفتاه لزمه فتواه.
وقال أبو المظفّر السّمعانيّ رحمه اللّه إذا سمع المستفتي جواب المفتي لم يلزمه العمل به إلّا بالتزامه قال ويجوز أن يقال إنّه يلزمه إذا أخذ في العمل به وقيل يلزمه إذا وقع في نفسه صحّته قال السّمعانيّ وهذا أولى الأوجه.
قال الشّيخ أبو عمرٍو لم أجد هذا لغيره وقد حكى هو بعد ذلك عن بعض إلا صوليين أنّه إذا أفتاه بما هو مختلفٌ فيه خيّره بين أن يقبل منه أو من غيره ثمّ اختار هو أنّه يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين ويلزمه الأخذ بفتيا من اختاره باجتهاده.
قال الشيخ والذي تقضيه القواعد أن نفصّل فنقول إذا أفتاه المفتي نظر فإن لم يوجد مفتٍ آخر لزمه الأخذ بفتياه ولا يتوقّف ذلك على التزامه لا بالأخذ في العمل به ولا بغيره ولا يتوقّف أيضًا على سكون نفسه إلى صحّته.
وإن وجد مفتٍ آخر فإن استبان ان الذي أفتاه هو إلا علم إلا وثق لزمه ما أفتاه به بنإ على إلا صح في تعيّنه كما سبق وإن لم يستبن ذلك لم يلزمه ما أفتاه بمجرّد إفتائه إذ يجوز له استفتاء غيره وتقليده ولا يعلم اتّفاقهما في الفتوى فإن وجد الاتّفاق أو حكم به عليه حاكمٌ لزمه حينئذٍ.
(السّادسة) إذا استفتي فأفتى ثمّ حدثت تلك الواقعة له مرّةً أخرى فهل يلزمه تجديد السّؤال؟ فيه وجهان:
أحدهما يلزمه لاحتمال تغيّر رأى المفتى والثاني يلزمه وهو الأصحّ لأنّه قد عرف الحكم الأوّل والأصل استمرار المفتى عليه.
وخصّص صاحب الشّامل الخلاف بما إذا قلّد حيًّا وقطع فيما إذا كان ذلك خبرًا عن ميّتٍ بأنّه لا يلزمه والصّحيح أنّه لا يختصّ فإنّ المفتي على مذهب الميّت قد يتغيّر جوابه على مذهبه.
(السّابعة) أن يستفتي بنفسه وله أن يبعث ثقةً يعتمد خبره ليستفتي له وله الاعتماد على خطّ المفتي إذا أخبره من يثق بقوله أنّه خطّه أو كان يعرف خطّه ولم يتشكّك في كون ذلك الجواب بخطّه.
(الثّامنة) ينبغي للمستفتي أن يتأدّب مع المفتي ويبجّله في خطابه وجوابه ونحو ذلك ولا يومئ بيده في وجهه ولا يقل له ما تحفظ في كذا أو ما مذهب إمامك أو الشّافعيّ في كذا ولا يقل إذا أجابه هكذا قلت أنا أو كذا وقع لي ولا يقل أفتاني فلانٌ أو غيرك بكذا ولا يقل إن كان جوابك موافقًا لمن كتب فاكتب وإلّا فلا تكتب ولا يسأله وهو قائمٌ أو مستوفزٌ أو على حالة ضجرٍ أو همٍّ أو غير ذلك ممّا يشغل القلب.
وينبغي أن يبدأ بالأسنّ الأعلم من المفتين وبالأولى فالأولى إن أراد جمع الاجوبة في رقعة قان أراد إفراد الأجوبة في رقاعٍ بدأ بمن شاء وتكون رقعة الاستفتاء واسعةً ليتمكّن المفتي من استيفاء الجواب واضحًا لا مختصرًا مضرًّا بالمستفتي، ولا يدع الدّعاء في رقعةٍ لمن يستفتيه.
قال الصّيمريّ فإن اقتصر على فتوى واحدٍ قال ما تقول رحمك اللّه أو رضي اللّه عنك أو وفّقك اللّه وسدّدك ورضي عن والديك.
ولا يحسن أن يقول رحمنا اللّه وإيّاك وإن أراد جواب جماعةٍ قال ما تقولون رضي اللّه عنكم أو ما تقول الفقهاء سدّدهم اللّه تعالى ويدفع الرّقعة إلى المفتي منشورةً ويأخذها منشورةً فلا يحوجه إلى نشرها ولا إلى طيها.
(التّاسعة) ينبغي أن يكون كاتب الرّقعة ممّن يحسن السؤالى ويضعه على الغرض مع إبانة الخطّ واللّفظ وصيانتهما عمّا يتعرّض للتّصحيف.
قال الصّيمريّ يحرص أن يكون كاتبها من أهل العلم وكان بعض الفقهاء ممّن له رياسةٌ لا يفتي إلّا في رقعةٍ كتبها رجلٌ بعينه من أهل العلم ببلده.
وينبغي للعامّيّ أن لا يطالب المفتي بالدّليل ولا يقل لم قلت فان أحب ان تسكن نفسه بسماع الحجّة طلبها في مجلسٍ آخر أو في ذلك المجلس بعد قبول الفتوى مجرّدةً.
وقال السّمعانيّ لا يمنع من طلب الدّليل وأنّه يلزمه المفتي أن يذكر له الدّليل إن كان مقطوعًا به ولا يلزمه إن لم يكن مقطوعا به لا فتقاره إلى اجتهادٍ يقصر فهم العامّيّ عنه والصّواب الاول.
(العاشرة) إذا لم يجد صاحب الواقعة مفتيًا ولا أحدًا ينقل له حكم واقعته لا في بلده ولا في غيره قال الشّيخ هذه مسألة فترة الشّريعة الأصوليّة وحكمها حكم ما قبل ورود الشّرع والصّحيح في كلّ ذلك القول بانتفاء التّكليف عن العبد وأنّه لا يثبت في حقّه حكمٌ لا إيجابٌ ولا تحريمٌ ولا غير ذلك فلا يؤآخذ إذا صاحب الواقعة بأي شيء صنعه فيها واللّه أعلم). [المجموع شرح المهذب: 1/40-58]