فضل الاشتغال بالعلم
قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (بابٌ في فضيلة الاشتغال بالعلم وتصنيفه وتعلّمه وتعليمه والحثّ عليه والإرشاد إلى طرقه
قد تكاثرت الآيات والأخبار والآثار وتواترت.
وتطابقت الدّلائل الصّريحة وتوافقت على فضيلة العلم والحثّ على تحصيله والاجتهاد في اقتباسه وتعليمه.
وأنا أذكر طرفًا من ذلك تنبيهًا على ما هنالك.
قال اللّه تعالى {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}.
وقال تعالى {وقل رب زدني علما}.
وقال تعالى {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء}.
وقال تعالى {يرفع اللّه الّذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}.
والآيات كثيرةٌ معلومةٌ.
وروينا عن معاوية رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « من يرد اللّه به خيرًا يفقّهه في الدّين » رواه البخاريّ ومسلمٌ.
وعن أبي موسى عبد اللّه بن قيسٍ الأشعريّ رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « إنّ مثل ما بعثني اللّه به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضًا فكانت منها طائفةٌ طيّبةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع اللّه بها النّاس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب طائفةً منها أخرى إنّما هي قيعانٌ لا تمسك الماء ولا تنبت كلأً فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني اللّه به فعلم وعلّم ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى اللّه الّذي أرسلت به » رواه البخاريّ ومسلمٌ.
وعن ابن مسعودٍ رضي اللّه عنه قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: « لا حسد إلا في اثنين رجلٌ آتاه اللّه مالًا فسلّطه على هلكته في الحق ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها » روياه.
والمراد بالحسد الغبطة وهي أن يتمنّى مثله.
ومعناه ينبغي أن لا يغبط أحدًا إلّا في هاتين الموصلتين إلى رضاء اللّه تعالى.
وعن سهل بن سعدٍ رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لعليٍّ رضي الله عنه: « فو الله لأن يهدي اللّه بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حمر النّعم » روياه.
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « من دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا ومن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الاتم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم » رواه مسلمٌ.
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاثٍ صدقةٌ جاريةٌ أو علمٌ ينتفع به أو ولدٌ صالحٌ يدعو له » رواه مسلمٌ وعن أنسٍ رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « من خرج في طلب العلم فهو في سبيل اللّه حتّى يرجع » رواه التّرمذيّ وقال حديثٌ حسنٌ.
وعن أبي أمامة الباهليّ رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم » ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « إنّ اللّه وملائكته وأهل السّموات والأرض حتى النملة في حجرها وحتّى الحوت ليصلّون على معلّمي النّاس الخير » رواه التّرمذيّ وقال حديثٌ حسنٌ
وعن أبي سعيدٍ الخدريّ رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: « لن يشبع مؤمنٌ من خيرٍ حتّى يكون منتهاه الجنّة » رواه التّرمذيّ وقال حديثٌ حسنٌ
وعن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم قال: « فقيهٌ واحدٌ أشدّ على الشّيطان من ألف عابدٍ » رواه التّرمذيّ
وعن أبي هريرة مثله وزاد لكل شيء عمادٌ وعماد هذا الدّين الفقه وما عبد اللّه بأفضل من فقهٍ في الدّين
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: « الدّنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها إلّا ذكر اللّه وما والاه وعالمًا ومتعلّمًا » رواه التّرمذيّ وقال حديثٌ حسنٌ
وعن أبي الدّرداء رضي اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: « من سلك طريقًا يبتغي فيه علمًا سهّل اللّه له طريقًا إلى الجنّة وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاءً وإنّ العالم ليستغفر له من في السّموات ومن في الأرض حتّى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وإنّ العلماء ورثة الانبياء ان الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا وإنّما ورّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ » رواه أبو داود والتّرمذيّ وغيرهما.
وفي الباب أحاديث كثيرةٌ وفيما أشرنا إليه كفايةٌ.
وأمّا الآثار عن السّلف فأكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر لكن نذكر منها أحرفًا متبرّكين مشيرين إلى غيرها ومنبّهين
عن عليٍّ رضي اللّه عنه: « كفى بالعلم شرفًا أن يدّعيه من لا يحسنه ويفرح إذا نسب إليه وكفى بالجهل ذمًّا أن يتبرّأ منه من هو فيه »
وعن معاذٍ رضي اللّه عنه: « تعلّموا العلم فإنّ تعلّمه للّه خشيةٌ وطلبه عبادةٌ ومذاكرته تسبيحٌ والبحث عنه جهادٌ وتعليمه من لا يعلمه صدقةٌ وبذله لاهله قربة »
وقال أبو مسلمٍ الخولانيّ: « مثل العلماء في الأرض مثل النّجوم في السّماء إذا بدت للنّاس اهتدوا بها واذا خفيت عليهم تحيّروا »
عن وهب بن منبّهٍ قال: « يتشعّب من العلم الشّرف وإن كان صاحبه دنيئًا، والعزّ وإن كان مهينًا والقرب وإن كان قصيًّا، والغنى وإن كان فقيرًا والنّبل وإن كان حقيرًا، والمهابة وإن كان وضيعًا، والسّلامة وإن كان سفيهًا »
وعن الفضيل قال: « عالمٌ عاملٌ بعلمه يدعى كبيرًا في ملكوت السّموات »
وقال غيره: « اليس يستغفر لطالب العلم كل شيء أفكهذا منزلةٌ وقيل العالم كالعين العذبة نفعها دائمٌ »
وقيل: « العالم كالسّراج من مرّ به اقتبس »
وقيل: « العلم يحرسك وأنت تحرس المال وهو يدفع عنك وأنت تدفع عن المال »
وقيل: « العلم حياة القلوب من الجهل ومصباح البصائر في الظّلم به تبلغ منازل الأبرار ودرجات الأخيار والتّفكّر فيه ومدارسته ترجّح على الصّلاة وصاحبه مبجّلٌ مكرّمٌ »
وقيل: « مثل العالم مثل الحمّة تأتيها البعداء ويتركها الأقرباء فبينا هي كذلك إذ غار ماؤها وقد انتفع بها وبقي قومٌ يتفكّنون أي يتندّمون »
قال أهل اللّغة الحمّة بفتح الحاء:« عين ماءٍ حارٍّ يستشفى بالاغتسال فيها »
وقال الشّافعيّ رحمه اللّه: « طلب العلم أفضل من صلاة النّافلة »
وقال: « ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم »
وقال: « من أراد الدّنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم »
وقال: « من لا يحبّ العلم فلا خير فيه فلا يكن بينك وبينه معرفةٌ ولا صداقةٌ »
وقال: « العلم مروءة من لا مروءة له »
وقال: « ان لم تكن الفقهاء العاملون أولياء اللّه فليس للّه وليٌّ »
وقال: « ما أحدٌ أورع لخالقه من الفقهاء »
وقال: « من تعلّم القرآن عظمت قيمته ومن نظر في الفقه نبل قدره، ومن نظر في اللّغة رقّ طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه ومن كتب الحديث قويت حجّته ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه »
) وقال البخاريّ رحمه اللّه في أوّل كتاب الفرائض من صحيحه: قال عقبة بن عامرٍ رضي اللّه عنه تعلّموا قبل الظّانّين قال البخاريّ يعني الّذين يتكلّمون بالظّنّ.
ومعناه تعلّموا العلم من أهله المحقّقين الورعين قبل ذهابهم ومجئ قومٍ يتكلّمون في العلم بمثل نفوسهم وظنونهم التي ليس لها مستند شرعي.
فصلٌ: في ترجيح الاشتغال بالعلم على الصّلاة والصّيام وغيرهما من العبادات القاصرة على فاعلها
قد تقدّمت الآيات الكريمات في هذا المعنى كقوله تعالى {هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون} وقوله تعالى {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء} وغير ذلك
ومن الأحاديث ما سبق كحديث ابن مسعودٍ« لا حسد إلّا في اثنتين » وحديث « من يرد اللّه به خيرًا يفقّهه في الدّين » وحديث « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاثٍ »
وحديث « فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم »
وحديث « فقيهٌ واحدٌ أشدّ على الشّيطان من ألف عابدٍ »
وحديث « من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا »
وحديث « من دعا إلى هدًى »
وحديث « لا ن يهدي اللّه بك رجلًا واحدًا وغير ذلك ممّا تقدّم »
وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فإذا في المسجد مجلسان مجلسٌ يتفقّهون ومجلسٌ يدعون اللّه ويسألونه فقال: « كلا المجلسين إلى خيرٍ أمّا هؤلاء فيدعون اللّه تعالى وأمّا هؤلاء فيتعلّمون ويفقّهون الجاهل ».
هؤلاء أفضل: بالتّعليم أرسلت ثمّ قعد معهم.
رواه أبو عبد اللّه بن ماجه
وروى الخطيب الحافظ أبو بكرٍ أحمد بن عليّ ابن ثابتٍ البغداديّ في كتابه كتاب الفقيه والمتفقّه أحاديث وآثارًا كثيرةً بأسانيدها المطرّقة منها عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « إذا مررتم برياض الجنّة فارتعوا، قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: خلق الذّكر فإنّ للّه سيّاراتٌ من الملائكة يطلبون حلق الذّكر فإذا أتوا عليهم حفّوا بهم »
وعن عطاء قال: « مجالس الذكر هي مجال الخلال والحرام كيف تشترى وتبيع وتصلى وتصوم تنكح وتطلّق وتحجّ وأشباه هذا »
وعن ابن عمر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: « مجلس فقهٍ خيرٌ من عبادة ستّين سنةً »
وعن عبد الرّحمن بن عوفٍ رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: « يسير الفقه خيرٌ من كثير العبادة »
وعن أنسٍ رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « فقيه أفضل عند اللّه من ألف عابدٍ »
وعن ابن عمر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: « أفضل العبادة الفقه »
وعن أبي الدّرداء: « ما نحن لولا كلمات الفقهاء ».
وعن عليٍّ رضي اللّه عنه: « العالم أعظم أجرًا من الصّائم القائم الغازي في سبيل اللّه »
وعن أبي ذرٍّ وأبي هريرة رضي اللّه عنهما قالا: « بابٌ من العلم نتعلّمه أحبّ إلينا من ألف ركعة تطوّعٍ، وبابٌ من العلم نعلمه عمل به أو لم يعمل أحبّ إلينا من مائة ركعةٍ تطوّعًا »
وقالا سمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: « إذا جاء الموت طالب العلم وهو على هذه الحال مات وهو شهيدٌ »
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه: « لأن أعلم بابًا من العلم في أمرٍ ونهيٍ أحبّ إليّ من سبعين غزوةٍ في سبيل اللّه »
وعن أبي الدّرداء: « مذاكرة العلم ساعةً خيرٌ من قيام ليلةٍ »
وعن الحسن البصري قال: « لأن أتعلّم بابًا من العلم فأعلّمه مسلمًا أحبّ إليّ من أن تكون لي الدّنيا كلّها في سبيل اللّه تعالى »
وعن يحيى بن أبي كثيرٍ:« دراسة العلم صلاةٌ »
وعن سفيان الثوري والشافعي: « ليس شيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم »
وعن احمد بن حنبل وقيل له أي شيء أحبّ إليك؟« أجلس باللّيل أنسخ أو أصلّي تطوّعًا ».
قال: « فنسخك تعلم بها أمر دينك فهو أحبّ »
وعن مكحولٍ: « ما عبد اللّه بأفضل من الفقه »
وعن الزّهريّ: « ما عبد اللّه بمثل الفقه »
وعن سعيد بن المسيّب قال: « ليست عبادة بالصّوم والصّلاة ولكن بالفقه في دينه يعني ليس أعظمها وأفضلها الصّوم بل الفقه »
وعن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي فروة: « أقرب النّاس من درجة النّبوّة أهل العلم وأهل الجهاد فالعلماء دلّوا النّاس على ما جاءت به الرّسل وأهل الجهاد جاهدوا على ما جاءت به الرّسل »
وعن سفيان بن عيينة: « أرفع النّاس عند اللّه تعالى منزلةً من كان بين اللّه وعباده وهم الرّسل والعلماء »
وعن سهلٍ التّستريّ: « من أراد النّظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء فاعرفوا لهم ذلك فهذه أحرفٌ من أطراف ما جاء في ترجيح الاشتغال بالعلم على العبادة ».
وجاء عن جماعاتٍ من السّلف ممّن لم أذكره نحو ما ذكرته.
والحاصل أنّهم متّفقون على أنّ الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال بنوافل الصّوم والصّلاة والتّسبيح ونحو ذلك من نوافل عبادات البدن.
ومن دلائله سوى ما سبق أنّ نفع العلم يعمّ صاحبه والمسلمين والنّوافل المذكورة مختصّةٌ به ولأنّ العلم مصحّحٌ فغيره من العبادات مفتقرٌ إليه ولا ينعكس.
ولأنّ العلماء ورثة الأنبياء ولا يوصف المتعبّدون بذلك.
ولأنّ العابد تابعٌ للعالم مقتدٍ به مقلد له في عبادته وغيرها واجبٌ عليه طاعته ولا ينعكس.
ولأنّ العلم تبقى فائدته وأثره بعد صاحبه والنّوافل تنقطع بموت صاحبها.
ولأنّ العلم صفةٌ للّه تعالى.
ولأنّ العلم فرض كفايةٍ أعني العلم الذي كلا منا فيه فكان أفضل من النّافلة.
وقد قال إمام الحرمين رحمه اللّه في كتابه الغياثيّ فرض الكفاية أفضل من فرض العين من حيث إنّ فاعله يسدّ مسدّ الأمّة ويسقط الحرج عن الأمّة وفرض العين قاصرٌ عليه وباللّه التّوفيق.
فصلٌ: فيما أنشدوه في فضل طلب العلم
هذا واسعٌ جدًّا ولكن من عيونه ما جاء عن أبي الأسود الدّؤليّ ظالم بن عمرٍو التّابعيّ رحمه اللّه العلم زينٌ وتشريفٌ لصاحبه
................................ فاطلب هديت فنون العلم والأدبا
لا خير فيمن له أصلٌ بلا أدبٍ ... حتّى يكون على ما زانه حدبا
كم من كريمٍ أخي عيٍّ وطمطمةٍ ... فدمٌ لدى القوم معروفٌ إذا انتسبا
في بيت مكرمةٍ آباؤه نجب ... كانوا الرؤوس فأمسى بعدهم ذنبا
وخاملٍ مقرف الآباء ذي أدبٍ ... نال المعاليَ بالآداب والرّتبا
أمسى عزيزًا عظيم الشّأن مشتهرا ... في خدّه صعرٌ قد ظلّ محتجبا
العلم كنز ذخر لا نفاد له له ... نعم القرين إذا ما صاحبٌ صحبا
قد يجمع المرء مالاً ثمّ يحرمه ... عمّا قليلٍ فيلقى الذّلّ والحربا
وجامع العلم مغبوطٌ به أبدا ... ولا يحاذر منه الفوت والسّلبا
يا جامع العلم نعم الذّخر تجمعه ... لا تعدلنّ به درًّا ولا ذهبا
غيره:
تعلّم فليس المرء يولد عالما ... وليس أخو علمٍ كمن هو جاهل
وإنّ كبير القوم لا علم عنده ... صغيرٌ إذا التفّت عليه المحافل
ولآخر:
علّم العلم من أتاك لعلمٍ ... واغتنم ما حييت منه الدّعاء
وليكن عندك الغنيّ إذا ما ... طلب العلم والفقير سواء
ولآخر:
ما الفخر إلّا لأهل العلم انهموا ... على الهدى لمن استهدى أدلّاء
وقدر كلّ امرئ ما كان يحسنه ... والجاهلون لا هل العلم أعداء
ولآخر:
صدر المجالس حيث حلّ لبيبها ... فكن اللّبيب وأنت صدر المجلس
ولآخر:
عاب التّفقّه قومٌ لا عقول لهم ... وما عليه إذا عابوه من ضرر
ما ضرّ شمس الضّحى والشّمس طالعةٌ ... أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر
فصلٌ في ذمّ من أراد بفعله غير اللّه تعالى
اعلم أنّ ما ذكرناه من الفضل في طلب انما هو في من طلبه مريدًا به وجه اللّه تعالى لا لغرضٍ من الدّنيا ومن أراده لغرضٍ دنيويٍّ كمالٍ أو رياسةٍ أو منصبٍ أو وجاهةٍ أو شهرةٍ أو استمالة النّاس إليه أو قهر المناظرين أو نحو ذلك فهو مذمومٌ
قال اللّه تعالى {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب}
.
وقال تعالى {من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثمّ جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا} الآية: وقال تعالى {ان ربك لبالمرصاد} وقال تعالى {وما أمروا إلا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين حنفاء}.
والآيات فيه كثيرةٌ
وروينا في صحيح مسلمٍ عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: « إنّ أوّل النّاس يقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استشهد فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتّى استشهدت قال كذبت ولكنّك قاتلت ليقال جرئ فقد قيل ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتّى ألقي في النّار ورجلٌ تعلّم العلم وعلّمه وقرأ القرآن فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها. قال تعلّمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنّك تعلّمت ليقال عالمٌ، وقرأت القرآن ليقال قارئٌ فقد قيل ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتّى ألقي في النّار »
وروينا عن أبي هريرة أيضًا قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « من تعلّم علمًا ممّا يبتغى به وجه اللّه عزّ وجلّ لا يتعلّمه إلّا ليصيب به عرضًا من الدّنيا لم يجد عرف الجنّة يوم القيامة يعني ريحها » رواه أبو داود وغيره بإسنادٍ صحيحٍ
وروينا عن عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: « من تعلّم علمًا ينتفع به في الآخرة يريد به عرضًا من الدّنيا لم يرح رائحة الجنّة »
روي بفتح الياء مع فتح الرّاء وكسرها وروي بضمّ الياء مع كسر الرّاء وهي ثلاث لغاتٍ مشهورةٍ: ومعناه لم يجد ريحها
وعن أنسٍ وحذيفة قالا: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:« من طلب العلم ليماري به السّفهاء ويكاثر به العلماء أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوء مقعده من النّار » ورواه التّرمذيّ من رواية كعب بن مالكٍ وقال فيه: أدخله اللّه النّار
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول الله صلى االله عليه وسلّم قال:« أشدّ النّاس عذابًا يوم القيامة عالمٌ لا ينتفع به »
وعنه صلّى اللّه عليه وسلّم: « شرار النّاس شرار العلماء »
وروينا في مسند الدّارميّ عن عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه تعالى عنه قال: « يا حملة اعملوا به فإنّما العالم من عمل بما علم ووافق علمه عمله وسيكون أقوامٌ يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم يخالف عملهم علمهم ويخالف سريرتهم علانيتهم يجلسون حلقًا يباهي بعضهم بعضًا حتّى إنّ الرّجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى اللّه تعالى »
وعن سفيان: « ما ازداد عبدٌ علمًا فازداد في الدّنيا رغبةً إلّا ازداد من اللّه بعدًا »
وعن حمّاد بن سلمة: « من طلب الحديث لغير اللّه مكر به والآثار به كثيرةٌ ».
فصلٌ في النّهي الأكيد والوعيد الشّديد لمن يؤذي أو ينتقص الفقهاء والمتفقّهين والحثّ على إكرامهم وتعظيم حرماتهم قال اللّه تعالى {ومن يعظّم شعائر اللّه فانها من تقوى القلوب} وقال تعالى {ومن يعظّم حرمات اللّه فهو خير له عند ربه} وقال تعالى {واخفض جناحك للمؤمنين} وقال تعالى {والّذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإنما مبينا}
وثبت في صحيح البخاريّ عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « أنّ اللّه عزّ وجلّ قال من آذى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب »
وروى الخطيب البغداديّ عن الشّافعيّ وأبي حنيفة رضي اللّه عنهما قالا: « إن لم تكن الفقهاء أولياء اللّه فليس للّه وليٌّ »
وفي كلام الشّافعيّ الفقهاء العاملون
وعن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما: « من آذى فقيهًا فقد آذى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومن آذى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقد آذى اللّه تعالى عزّ وجلّ »
وفي الصّحيح عنه صلّى اللّه عليه وسلّم: « من صلّى الصّبح فهو في ذمّة الله فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته »
وفي رواية فلا تخفروا الله في ذمّته
وقال الإمام الحافظ أبو القاسم بن عساكرٍ رحمه اللّه: « اعلم يا أخي وفّقني اللّه وإيّاك لمرضاته وجعلنا ممّن يخشاه ويتّقيه حقّ تقاته أنّ لحوم العلماء مسمومةٌ، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومةٌ، وأنّ من أطلق لسانه في العلماء بالثّلب، بلاه اللّه قبل موته بموت القلب (فليحذر الّذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ») ). [المجموع شرح المهذب: 1/18-24]