تفاسير القرن السادس الهجري
تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله: {وإذا لم تأتهم بآيةٍ}؛ سببها فيما روي أن الوحي كان يتأخر على النبي -صلى الله عليه وسلم- أحيانا، فكان الكفار يقولون هلا اجتبيتها، ومعنى اللفظة في كلام العرب تخيرتها واصطفيتها، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن زيد وغيرهم: المراد بهذه اللفظة هلا اخترتها واختلقتها من قبلك ومن عند نفسك. والمعنى إذ كلامك كله كذلك على ما كانت قريش تزعمه، وقال ابن عباس أيضا والضحاك: المراد هلا تلقيتها من الله وتخيرتها عليه، إذ تزعم أنك نبي وأن منزلتك عنده منزلة الرسالة، فأمره الله عز وجل أن يجيب بالتسليم لله تعالى وأن الأمر في الوحي إليه ينزله متى شاء لا معقب لحكمه في ذلك فقال قل إنّما أتّبع ما يوحى إليّ من ربّي ثم أشار بقوله هذا إلى القرآن، ثم وصفه بأنه بصائر أي علامات هدى وأنوار تضيء القلوب، وقالت فرقة: المعنى هذا ذو بصائر، ويصح الكلام دون أن يقدر حذف مضاف لأن المشار إليه بهذا إنما هو سور وآيات وحكم، وجازت الإشارة إليه بهذا من حيث اسمه مذكر، وجاز وصفه ب بصائر من حيث هو سور وآيات، وهدىً ورحمةٌ لقومٍ يؤمنون أي لهؤلاء خاصة، قال الطبري: وأما من لا يؤمن فهو عليه عمى عقوبة من الله تعالى). [المحرر الوجيز: 4/ 122-123]
تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلّكم ترحمون (204) واذكر ربّك في نفسك تضرّعاً وخيفةً ودون الجهر من القول بالغدوّ والآصال ولا تكن من الغافلين (205) إنّ الّذين عند ربّك لا يستكبرون عن عبادته ويسبّحونه وله يسجدون (206)}
ذكر الطبري وغيره أن سبب هذه الآية هو أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا بمكة يتكلمون في المكتوبة بحوائجهم ويصيحون عند آيات الرحمة والعذاب ويقول أحدهم إذا أتاهم صليتم؟
وكم بقي؟ فيخبرونه ونحو هذا، فنزلت الآية أمرا لهم بالاستماع والإنصات في الصلاة، وأما قول من قال إنها في الخطبة فضعيف، لأن الآية مكية، والخطبة لم تكن إلا بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، وكذلك ما ذكر الزهراوي من أنها نزلت بسبب فتى من الأنصار كان يقرأ في الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ، فأما الاستماع والإنصات عن الكلام في الصلاة فإجماع، وأما الإمساك والإنصات عن القراءة فقالت فرقة: يمسك المأموم عن القراءة جملة قرأ الإمام جهرا أو سرا، وقالت فرقة: يقرأ المأموم إذا أسر الإمام ويمسك إذا جهر، وقالت فرقة: يسمك المأموم في جهر الإمام عن قراءة السورة ويقرأ فاتحة الكتاب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومع هذا القول أحاديث صحاح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهذه الآية واجبة الحكم في الصلاة أن ينصت عن الحديث وما عدا القراءة واجبة الحكم أيضا في الخطبة من السنة، لا من هذه الآية، ويجب من الآية الإنصات إذا قرأ الخطيب القرآن أثناء الخطبة وحكم هذه الآية في غير الصلاة على الندب أعني في نفس الإنصات والاستماع إذا سمع الإنسان قراءة كتاب الله عز وجل، وأما ما تتضمنه الألفاظ وتعطيه من توقير القرآن وتعظيمه فواجب في كل حالة، والإنصات السكوت، ولعلّكم على ترجي البشر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولم نستوعب اختلاف العلماء في القراءة خلف الإمام، إذ ألفاظ الآية لا تعرض لذلك، لكن لما عن ذلك في ذكر السبب ذكرنا منه نبذة، وذكر الطبري عن سعيد بن جبير أنه قال في قوله عز وجل: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}؛ قال الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام من الصلاة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول جمع فيه ما أوجبته هذه الآية وغيرها من السنة في الإنصات، قال الزجّاج: ويجوز أن يكون فاستمعوا له وأنصتوا اعملوا بما فيه ولا تجاوزوه). [المحرر الوجيز: 4/ 123-124]
تفسير قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {واذكر ربّك في نفسك ... الآية}، مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم تعم جميع أمته وهو أمر من الله عز وجل بذكره وتسبيحه وتقديسه والثناء عليه بمحامده، والجمهور على أن الذكر لا يكون في النفس ولا يراعى إلا بحركة اللسان، ويدل على ذلك من هذه الآية قوله: ودون الجهر من القول.
فهذه مرتبة السر والمخافتة باللفظ، وتضرّعاً معناه تذللا وخضوعا، وخيفةً أصلها خوفة بدلت الواو ياء لأجل الكسرة التي تقدمتها، وقوله بالغدوّ والآصال معناه دأبا وفي كل يوم وفي أطراف النهار، وقالت فرقة هذه الآية كانت في صلاة المسلمين قبل فرض الصلوات الخمس، وقال قتادة: «الغدو» صلاة الصبح والآصال صلاة العصر، والآصال جمع أصل والأصل جمع أصيل وهو العشيّ وقيل الآصال جمع أصيل دون توسط كإيمان جمع يمين و «آصال» أيضا جمع أصاييل فهو جمع جمع الجمع، وقرأ أبو مجلز «والإيصال» مصدر كالإصباح والإمساء، ومعناه إذا دخلت في الأصيل وفي الطبري قال أبو وائل لغلامه هل آصلنا بعد؟ ولا تكن من الغافلين تنبيه.
ولما قال الله عز وجل ولا تكن من الغافلين جعل بعد ذلك مثالا من اجتهاد الملائكة ليبعث على الجد في طاعة الله عز وجل، وقوله الّذين يريد الملائكة، وقوله: عند إنما يريد في المنزلة والتشريف والقرب في المكانة لا في المكان، فهم بذلك عنده، ثم وصف تعالى حالهم من تواضعهم وإدمانهم للعبادة والتسبيح والسجود، وفي الحديث: أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد وهذا موضع سجدة، قال النخعي في كتاب النقاش: إن شئت ركعت وإن شئت سجدت). [المحرر الوجيز: 4/ 124-125]