تفسير قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {قل من كان عدوًّا لجبريل} الآية، نزل على سبب لم يتقدم له ذكر فيما مضى من الآيات، ولكن أجمع أهل التفسير أن اليهود قالت: جبريل عدونا، واختلف في كيفية ذلك؛
- فقيل: إن يهود فدك قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نسألك عن أربعة أشياء فإن عرفتها اتبعناك، فسألوه عما حرم إسرائيل على نفسه، فقال: «لحوم الإبل وألبانها»، وسألوه عن الشبه في الولد، فقال: «أي ماء علا كان الشبه له»، وسألوه عن نومه، فقال:«تنام عيني ولا ينام قلبي»، وسألوه عمن يجيئه من الملائكة، فقال: «جبريل»، فلما ذكره قالوا: ذاك عدونا، لأنه ملك الحرب والشدائد والجدب، ولو كان الذي يجيئك ميكائيل ملك الرحمة والخصب والأمطار لاتبعناك،
- وقيل: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتكرر على بيت المدارس، فاستحلفهم يوما بالذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء أتعلمون أن محمدا نبي؟، قالوا: نعم، قال: «فلم تهلكون في تكذيبه؟»، قالوا: صاحبه جبريل وهو عدونا،
وذكر أنهم قالوا سبب عداوتهم له أنه حمى بختنصر حين بعثوا إليه قبل أن يملك من يقتله، فنزلت هذه الآية لقولهم.
وفي جبريل لغات:
- «جبريل» بكسر الجيم والراء من غير همز، وبها قرأ نافع،
- و«جبريل» بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، وبها قرأ ابن كثير، وروي عنه أنه قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقرأ جبريل وميكال فلا أزال أقرؤهما أبدا كذلك»،
- وجبريل بفتح الجيم والراء وهمزة بين الراء واللام وبها قرأ عاصم،
- و«جبرءيل» بفتح الجيم والراء وهمزة بعد الراء وياء بين الهمزة واللام، وبها قرأ حمزة والكسائي وحكاها الكسائي عن عاصم،
- «وجبرائل» بألف بعد الراء ثم همزة وبها قرأ عكرمة،
- و«جبرائيل» بزيادة ياء بعد الهمزة، و«جبراييل» بياءين وبها قرأ الأعمش،
- و«جبرئل» بفتح الجيم والراء وهمزة ولام مشددة، وبها قرأ يحيى بن يعمر، و«جبرال» لغة فيه،
- و«جبرين» بكسر الجيم والراء وياء ونون، قال الطبري: «هي لغة بني أسد» ولم يقرأ بها،
و«جبريل» اسم أعجمي عربته العرب فلها فيه هذه اللغات، فبعضها هي موجودة في أبنية العرب، وتلك أدخل في التعريب كجبريل الذي هو كقنديل، وبعضها خارجة عن أبنية العرب فذلك كمثل ما عربته العرب ولم تدخله في بناء كإبريسم وفرند وآجر ونحوه.
وذكر ابن عباس رضي الله عنه وغيره أن «جبر» و«ميك» و«سراف» هي كلها بالأعجمية بمعنى عبد ومملوك، وإيل: اسم الله تعالى، ويقال فيه إلّ، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع سجع مسيلمة: «هذا كلام لم يخرج من إلّ».
وقوله تعالى: {فإنّه نزّله على قلبك} الضمير في {فإنّه} عائد على الله عز وجل، والضمير في {نزّله} عائد على جبريل صلى الله عليه وسلم، والمعنى: بالقرآن وسائر الوحي،
- وقيل: الضمير في {إنه} عائد على جبريل، وفي {نزّله} على القرآن،
وخص القلب بالذكر لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف،
وجاءت المخاطبة بالكاف في {قلبك} اتساعا في العبارة إذ ليس ثم من يخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكاف، وإنما يجيء قوله: فإنه نزله على قلبي، لكن حسن هذا إذ يحسن في كلام العرب أن تحرز اللفظ الذي يقوله المأمور بالقول ويحسن أن تقصد المعنى الذي يقوله فتسرده مخاطبة له، كما تقول لرجل: قل لقومك لا يهينوك، فكذلك هي الآية، ونحو من هذا قول الفرزدق:
ألم تر أنّي يوم جو سويقة ....... بكيت فنادتني هنيدة ما ليا
فأحرز المعنى ونكب عن نداء هنيدة «مالك»،
و{بإذن اللّه} معناه: بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة، و{مصدّقاً} حال من ضمير القرآن في {نزّله}، و«ما بين يديه»: ما تقدمه من كتب الله تعالى، هدىً إرشاد، والبشرى: أكثر استعمالها في الخير، ولا تجيء في الشر إلا مقيدة به،
ومقصد هذه الآية: تشريف جبريل صلى الله عليه وسلم وذم معاديه). [المحرر الوجيز: 1/ 291-294]
تفسير قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {من كان عدوًّا للّه} الآية، وعيد وذم لمعادي جبريل عليه السلام، وإعلام أن عداوة البعض تقتضي عداوة الله لهم، وعداوة العبد لله هي معصيته واجتناب طاعته ومعاداة أوليائه، وعداوة الله للعبد تعذيبه وإظهار أثر العداوة عليه،
وذكر جبريل وميكائيل وقد كان ذكر الملائكة عمهما تشريفا لهما، وقيل: خصا لأن اليهود ذكروهما ونزلت الآية بسببهما، فذكرهما واجب لئلا تقول اليهود إنا لم نعاد الله وجميع ملائكته،
- وقرأ نافع «ميكائل» بهمزة دون ياء، وقرأ بها ابن كثير فيما روي عنه،
- وقرأ ابن عامر وابن كثير أيضا وحمزة والكسائي «ميكائيل» بياء بعد الهمزة،
- وقرأ أبو عمرو وعاصم «ميكال»، ورويت عن ابن كثير منذ رآها في النوم كما ذكرنا،
- وقرأ ابن محيصن «ميكئل» بهمزة دون ألف،
- وقرأ الأعمش «ميكاييل» بياءين،
وظهر الاسم في قوله: {فإنّ اللّه} لئلا يشكل عود الضمير، وجاءت العبارة بعموم الكافرين لأن عود الضمير على من يشكل سواء أفردته أو جمعته، ولو لم نبال بالاشكال وقلنا المعنى يدل السامع على المقصد للزم تعيين قوم بعداوة الله لهم،
- ويحتمل أن الله تعالى قد علم أن بعضهم يؤمن فلا ينبغي أن تطلق عليه عداوة الله للمآل.
وروي أن رجلا من اليهود لقي عمر بن الخطاب فقال له: أرأيت جبريل الذي يزعم صاحبك أنه يجيئه ذلك عدونا، فقال له عمر رضي الله عنه: {من كان عدوًّا للّه} إلى آخر الآية، فنزلت على لسان عمر رضي الله عنه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا الخبر يضعف من جهة معناه). [المحرر الوجيز: 1/ 295-294]
تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ولقد أنزلنا إليك آياتٍ بيّناتٍ}، ذكر الطبري أن ابن صوريا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد ما جئت بآية بينة؟ فنزلت هذه الآية.
والفاسقون هنا: الخارجون عن الإيمان، فهو فسق الكفر، والتقدير: ما يكفر بها أحد إلّا الفاسقون، لأن الإيجاب لا يأتي إلا بعد تمام جملة النفي). [المحرر الوجيز: 1/ 295]
تفسير قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {أوكلّما عاهدوا عهداً نبذه فريقٌ منهم بل أكثرهم لا يؤمنون (100) ولمّا جاءهم رسولٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم نبذ فريقٌ من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون (101) واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت}
- قال سيبويه: الواو واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام،
- وقال الأخفش: هي زائدة،
- وقال الكسائي: هي «أو» وفتحت تسهيلا،
وقرأها قوم «أو» ساكنة الواو فتجيء بمعنى بل، وكما يقول القائل: لأضربنك فيقول المجيب: أو يكفي الله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله متكلف، واو في هذا المثل متمكنة في التقسيم، والصحيح قول سيبويه.
وقرئ «عهدوا عهدا»، وقرأ الحسن وأبو رجاء «عوهدوا».
و«عهداً» مصدر، وقيل: مفعول بمعنى أعطوا عهدا،
والنبذ: الطرح والإلقاء، ومنه النبيذ والمنبوذ،
والفريق: اسم جمع لا واحد له من لفظه، ويقع على اليسير والكثير من الجمع، ولذلك فسرت كثرة النابذين بقوله: {بل أكثرهم} لما احتمل الفريق أن يكون الأقل، و{لا يؤمنون} في هذا التأويل حال من الضمير في {أكثرهم}،
- ويحتمل الضمير العود على الفريق،
- ويحتمل العود على جميع بني إسرائيل وهو أذم لهم،
والعهد الذي نبذوه هو ما أخذ عليهم في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم،
وفي مصحف ابن مسعود «نقضه فريق»). [المحرر الوجيز: 1/ 296]