مراتب الحسد
قالَ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بْنِ جُزَيءٍ الكَلْبِيُّ (ت: 741هـ):(ثم إنَّ الحسَدَ على دَرجاتٍ:
الأُولَى: أن يُحِبَّ الإنسانُ زوالَ النعمةِ عن أخيه المُسلِمِ، وإن كانت لا تَنْتَقِلُ إليه، بل يَكْرَهُ إنعامَ اللهِ على غيرِه ويَتألَّمُ به.
الثانيةُ: أن يُحِبَّ زَوالَ تلك النِّعمةِ لرغْبَتِه فيها رَجاءَ انتقالِها إليه.
الثالثةُ: أن يَتَمَنَّى لنفسِه مِثلَ تلك النِّعمةِ من غيرِ أن يُحِبَّ زوالَها عن غيرِه، وهذا جائزٌ، وليس بحَسَدٍ، وإنما هو غِبْطَةٌ). [التسهيل: 226]
قالَ ابْنُ القَيِّمِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الزُّرَعِيُّ الدِّمَشْقِيُّ (ت: 751 هـ): (فصلٌ: وتَأَمَّلْ تَقيِيدَه سُبحانَه شَرَّ الحاسِدِ بقولِه:{إِذَا حَسَدَ (5)}[الفلق: 5] لأنَّ الرجُلَ قد يكونُ عندَه حَسَدٌ ولكن يُخْفِيه، ولا يُرَتَّبُ عليه أَذًى بوجْهٍ ما، لا بقَلْبِه، ولا بلسانِه، ولا بيدِه، بل يَجِدُ في قلبِه شيئًا من ذلك ولا يُعاجِلُ أخاه إلا بما يُحِبُّ اللهُ، فهذا لا يَكادُ يَخلُو منه أحَدٌ إلا مَن عَصَمَه اللهُ.
وقِيلَ للحَسَنِ البَصريِّ: أَيَحْسُدُ المؤمنُ؟ قالَ: ما أَنساكَ إِخوةَ يُوسُفَ؟!
لكنَّ الفرْقَ بينَ القوَّةِ التي في قَلْبِه من ذلك وهو لا يُطيعُها ولا يَأْتَمِرُ لها، بل يَعصيها طاعةً للهِ وخَوْفًا وحَياءً منه وإجلالاً له، أن يَكرَهَ نِعَمَه على عِبادِه، فَيَرَى ذلك مُخالَفَةً للهِ وبُغضًا لِمَا يُحِبُّه اللهُ ومَحبَّةً لِمَا يُبْغِضُه، فهو يُجاهِدُ نفسَه على دفْعِ ذلك، ويُلزِمُها بالدعاءِ للمَحسودِ وتَمَنِّي زيادةِ الخيرِ له، بِخِلافِ ما إذا حَقَّقَ ذلك وحَسَدَ ورُتِّبَ على حَسَدِه مُقتضاهُ من الأَذَى بالقلْبِ واللسانِ والجوارِحِ، فهذا الحَسَدُ المذمومُ، هذا كلُّه حَسَدُ تَمَنِّي الزوالِ.
وللحَسَدِ ثلاثُ مَراتِبَ، أَحَدُها هذه.
الثانيةُ: تَمَنِّي استصحابِ عَدَمِ النِّعمةِ، فهو يَكْرَهُ أن يُحْدِثَ اللهُ لعَبْدِه نِعمةً، بل يُحِبُّ أن يَبْقَى على حالِه من جَهْلِه أو فَقْرِه أو ضَعْفِه، أو شَتاتِ قَلْبِه عن اللهِ، أو قِلَّةِ دينِه، فهو يَتَمَنَّى دَوامَ ما هو فيه من نَقْصٍ وعَيْبٍ، فهذا حَسَدٌ على شيءٍ مُقَدَّرٍ، والأوَّلُ حَسَدٌ على شيءٍ مُحَقَّقٍ، وكلاهما حاسِدٌ عدوُّ نِعْمَةِ اللهِ وعدوُّ عِبادِه، ومَمْقوتٌ عندَ اللهِ تعالى وعندَ الناسِ، ولا يَسُودُ أبدًا ولا يُواسَى؛ فإنَّ الناسَ لا يُسَوِّدُون عليهم إلا مَن يُريدُ الإحسانَ إليهم، فأمَّا عدوُّ نِعمةِ اللهِ عليهم فلا يُسَوِّدُونَه باختيارِهم أبدًا، إلا قَهْرًا يَعُدُّونه من البلاءِ والمصائبِ التي ابْتَلاهُمُ اللهُ بها، فهم يُبْغِضُونه وهو يُبْغِضُهم.
والحَسَدُ الثالثُ: حَسَدُ الغِبْطَةِ، وهو تَمَنِّي أن يكونَ له مثلُ حالِ المحسودِ من غيرِ أن تَزولَ النِّعمةُ عنه، فهذا لا بأسَ به ولا يُعابُ صاحبُه، بل هذا قريبٌ من المُنافَسَةِ، وقد قالَ تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ (26)}[المطففين: 26]، وفي الصحيحِ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: ((لا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً وَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا النَّاسَ)).
فهذا حَسَدُ غِبْطَةٍ، الحامِلُ لصاحِبِه عليه كِبَرُ نفسِه، وحُبُّ خِصالِ الخيرِ، والتَّشَبُّهُ بأهلِها، والدخولُ في جُمْلَتِهم، وأن يكونَ من سُبَّاقِهِم وعِلْيَتِهِم ومُصَليهم لا من فَسَاكِلِهم، فتَحْدُثُ له من هذه الهِمَّةِ المُنافَسَةُ والمُسابَقَةُ والمُسارَعَةُ، مع مَحَبَّتِه لِمَن يَغْبِطُه، وتَمَنِّي دَوامِ نِعمةِ اللهِ عليه، فهذا لا يَدْخُلُ في الآيةِ بوَجْهٍ ما). [بدائع الفوائد: 2/236-237]