فِيمَ سحر النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأين وضع السحر؟
قالَ مُحْيِي الدِّينِ يَحْيَى بنُ شَرَفٍ النَّوَوِيُّ (ت:676هـ): (قَوْلُه: (فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُبِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ)
أَمَّا (المُشَاطَةُ) فَبِضَمِّ المِيمِ، وَهِيَ الشَّعْرُ الَّذِي يَسْقُطُ مِنَ الرَّأْسِ أَوِ اللِّحْيَةِ عِنْدَ تَسْرِيحِه.
وَأَمَّا (المُشْطُ) فَفِيهِ لُغَاتٌ: مُشْطٌ وَمُشُطٌ بِضَمِّ المِيم فِيهِمَا وَإِسْكَان الشِّين وَضَمِّهَا، وَمِشْطٌ بِكَسْرِ المِيم وَإِسْكَان الشِّينِ، وَمِمْشَطٌ، وَيُقَالُ لَهُ: (مَشْطَأٌ) بِالهَمْزِ وَتَرْكِه، وَمَشْطَاءُ مَمْدُودٌ، وممكد، وَمُرَجِّلٌ، وَقَيلَمٌ بِفَتْحِ القَافِ، حَكَاهُنَّ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ.
وَأَمَّا قَوْلُه: (وجُبّ) هَكَذَا فِي أَكْثَرِ نُسَخِ بِلادِنَا (جُبّ) بِالجِيمِ وَبِالبَاءِ المُوَحَّدَةِ، وَفِي بَعْضِهَا (جُفّ) بِالجِيمِ وَالفَاءِ، وَهُمَا بِمَعْنًى، وَهُوَ وِعَاءُ طَلْعِ النَّخْلِ، وَهُوَ الغِشَاءُ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالأُنْثَى، فَلِهَذَا قَيَّدَهُ فِي الحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: (طَلْعَةِ ذَكَرٍ) وَهُوَ بِإِضَافَةِ طَلْعَة إِلَى ذَكَر. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَوَقَعَ فِي البُخَارِيّ مِنْ رِوَايَة ابْن عُيَيْنَةَ: (وَمُشَاقَةٍ) بِالقَافِ بَدَلَ مُشَاطَةٍ، وَهِيَ المُشَاطَةُ أَيْضًا، وَقِيلَ: مُشَاقَةُالكَتَّانِ.
قَوْلُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فِي بِئْر ذِي أَرْوَانَ)) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ: (ذِي أَرْوَانَ) وَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِالبُخَارِيِّ. وَفِي مُعْظَمِهَا: (ذَرْوَانَ) وَكِلاهُمَا صَحِيحٌ، وَالأوَّلُ أَجْوَدُ وَأَصَحُّ. وَادَّعَى ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَهُوَ قَوْلُ الأصْمَعِيِّ، وَهُوَ بِئْرٌ بِالمَدِينَةِ فِي بُسْتَانِ بَنِي زُرَيْقٍ.
قَوْلُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُالحِنَّاءِ)
النُّقَاعَةُ بِضَمِّ النُّونِالمَاءُ الَّذِي يُنْقَعُ فِيهِ الحِنَّاءُ، وَالحِنَّاءُ مَمْدُودٌ). [شرح صحيح مسلم: 14/398]
قَالَ ابْنُ المُلَقِّنِ عُمَرُ بنُ عَلِيِّ بنِ أَحْمَدَ الأَنْصَارِيُّ (ت: 804هـ): (كانَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قدْ سَحَرَه لَبِيدُ بنُ الأعْصَمِ في إحدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً؛ فنَزَلَتِ المُعَوِّذَتانِ إِحْدَى عَشْرَةَ آيةً، فقَرَأها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فشُفِيَ من السِّحْرِ). [تفسير غريب القرآن: 603] (م)
قال أحمدُ بنُ عليٍّ ابنُ حَجَرٍ العَسْقَلانِيُّ (ت:852هـ): (قَوْلُه: (فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ تَحْتَ رَعُوفَةٍ)
فِي رِوَايَةِالكُشْمِيهَنِيِّ " رَاعُوفَةٍ " بِزِيَادَةِ أَلِفٍ بَعْدَ الرَّاءِ، وَهُوَ كَذَلِكَ لأكْثَرِ الرُّوَاةِ، عَكَسَ ابْنِ التِّينِ، وَزَعَمَ أَنَّ رَاعُوفَةٍ لِلأَصِيلِيِّ فَقَطْ، وَهُوَ المَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ، وَفِي لُغَةٍ أُخْرَى " أرْعُوفَة "، وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي مُرْسَلِ عُمَرَ بْنِالحَكَمِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عِنْد أَحْمَدَ: " تَحْتَ رَعُوثَة " بِمُثَلَّثَةٍ بَدَل الفَاء/ وَهِيَ لُغَة أُخْرَى مَعْرُوفَةٌ، وَوَقَعَ فِي النِّهَايَةِلابْنِ الأثِيرِ أَنَّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى " زَعُوبَة " بِزَايٍ وَمُوَحَّدَةٍ وَقَالَ: هِيَ بِمَعْنَى رَاعُوفَة ا ه. وَالرَّاعُوفَةُ حَجَرٌ يُوضَعُ عَلَى رَأْسِالبِئْرِلا يُسْتَطَاعُ قَلْعُه، يَقُومُ عَلَيْهِ المُسْتَقِي. وَقَدْ يَكُونُ فِي أَسْفَلِالبِئْرِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هِيَ صَخْرَةٌ تُنْزَلُ فِي أَسْفَلِالبِئْرِ إِذَا حُفِرَتْ يَجْلِسُ عَلَيْهَا الَّذِي يُنَظِّفُالبِئْرَ، وَهُوَ حَجَرٌ يُوجَدُ صُلْبًا لا يُسْتَطَاعُ نَزْعُه فَيُتْرَكُ، وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهَا فَقِيلَ: لِتَقَدُّمِهَا وَبُرُوزِهَا، يُقَالُ: جَاءَ فُلانٌ يَرْعُفُالخَيْلَ، أَيْ يَتَقَدَّمُهَا؛ وَذَكَرَ الأزْهَرِيُّ فِي تَهْذِيبِه عَنْ شِمْرٍ قَالَ: رَاعُوفَةُالبِئْرِ: النَّظافَةُ، هِيَ مِثْلُ عَيْنٍ عَلَى قَدْرِ حَجَرِالعَقْرَبِ فِي أَعْلَى الرَّكِيَّةِ فَيُجَاوِزُ فِي الحَفْرِ خَمْسَ قِيَمٍ وَأَكْثَرَ، فَرُبَّمَا وَجَدُوا مَاءً كَثِيرًا، قَالَ شِمْرٌ: فَمَنْ ذَهَبَ بِالرَّاعُوفَةِ إِلَى النَّظَافَةِ فَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ رُعَافِ الأنْفِ، وَمَنْ ذَهَبَ بِالرَّاعُوفَةِ إِلَى الحَجَرِ الَّذِي يَتَقَدَّمُ طَيَّالبِئْرِ فَهُوَ مِنْ رَعَفَ الرَّجُل إِذَا سَبَقَ. قُلْتُ: وَتَنْزِيلُ الرَّاعُوفَةِ عَلَى الأخِيرِ وَاضِحٌ بِخِلافِ الأوَّل، وَاللَّهُ أَعْلَمُ). [فتح الباري:10/245]
قال أحمدُ بنُ عليٍّ ابنُ حَجَرٍ العسْقَلانِيُّ (ت:852هـ): (قَوْلُه: (فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ)
أَمَّا المُشْطُ فَهُوَ بِضَمِّ المِيمِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، أَثْبَتَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَنْكَرَهُ أَبُو زَيْدٍ، وَبِالسُّكُونِ فِيهِمَا، وَقَدْ يُضَمُّ ثَانِيه مَعَ ضَمِّ أَوَّلِه فَقَطْ، وَهُوَ الآلَةُالمَعْرُوفَةُ الَّتِي يُسَرَّحُ بِهَا شَعْرُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ؛ وَهَذَا هُوَ المَشْهُورُ.
وَيُطْلَق المُشْطُ بِالاشْتِرَاكِ عَلَى أَشْيَاءَ أُخْرَى: مِنْهَا العَظْمُالعَرِيضُ فِي الكَتِفِ، وَسُلامِيَّاتُ ظَهْرِالقَدَمِ، وَنَبْتٌ صَغِيرٌ يُقَالُ لَهُ: مُشْطُ الذِّئْبِ.
قَالَ القُرْطُبِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي سُحِرَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدُ هَذِهِ الأرْبَعِ.
قُلْتُ: وَفَاتَهُ آلَةٌ لَهَا أَسْنَانٌ وَفِيهَا هِرَاوَةٌ يُقْبَضُ عَلَيْهَا وَيُغَطَّى بِهَا الإِنَاء.
قَالَ ابْنُ سِيدَهْ فِي (المُحْكَمِ): (إِنَّهَا تُسَمَّى المُشْطَ). وَالمُشْطُ أَيْضًا سِمَةٌ مِنْ سِمَاتِالبَعِيرِ تَكُونُ فِي العَيْنِ وَالفَخِذِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالمُرَادُ بِالمُشْطِ هُنَا هُوَ الأوَّلُ، فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ: (فَإِذَا فِيهَا مُشْطُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ مُرَاطَةِ رَأْسِه) وَفِي حَدِيثِابْنِ عَبَّاسٍ:(مِنْ شَعْرِ رَأْسِه وَمِنْ أَسْنَانِ مُشْطِه) وَفِي مُرْسَلِ عُمَرَ بْنِالحَكَمِ: (فَعَمَدَ إِلَى مُشْطٍ وَمَا مُشِطَ مِنَ الرَّأْسِ مِنْ شَعْرٍ فَعَقَدَ بِذَلِكَ عُقَدًا).
قَوْلُه: (وَمُشَاطَةٍ) سَيَأْتِي بَيَانُ الاخْتِلافِ هَلْ هِيَ بِالطَّاءِ أَوِالقَافِ فِي آخِرِالكَلامِ عَلَى هَذَا الحَدِيثِ حَيْثُ بَيَّنَهُ المُصَنِّفُ.
قَوْلُه: (وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ)
قَالَ عِيَاضٌ: وَقَعَ لِلْجُرْجَانِيِّ - يَعْنِي فِي البُخَارِيِّ - وَالعُذْرِيِّ - يَعْنِي فِي مُسْلِمٍ - بِالفَاءِ. وَلِغَيْرِهِمَا بِالمُوَحَّدَةِ. قُلْتُ: أَمَّا رِوَايَةُ عِيسَى بْنِ يُونُسَ هُنَا فَوَقَعَ لِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالفَاءِ وَلِغَيْرِهِ بِالمُوَحَّدَةِ، وَأَمَّا رِوَايَتُهُ فِي بَدْءِالخَلْقِ فَالجَمِيعُ بِالفَاءِ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِابْنِ عُيَيْنَةَ لِلْجَمِيعِ، وَلِلْمُسْتَمْلِي فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ بِالمُوَحَّدَةِ، ولِلكُشْمِيهَنِيِّ بِالفَاءِ، قَالَ القُرْطُبِيُّ: رِوَايَتُنَا - يَعْنِي فِي مُسْلِمٍ - بِالفَاءِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِي أَكْثَرِ نُسَخِ بِلادِنَا بِالبَاءِ، يَعْنِي فِي مُسْلِمٍ، وَفِي بَعْضِهَا بِالفَاءِ، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الغِشَاءُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الطَّلْعِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالأُنْثَى، فَلِهَذَا قَيَّدَهُ بِالذَّكَرِ فِي قَوْلِه: " طَلْعَةِ ذَكَرٍ " وَهُوَ بِالإِضَافَةِ انْتَهَى. وَوَقَعَ فِي رِوَايَتِنَا هُنَا بِالتَّنْوِينِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّ لَفْظَ " ذَكَرٍ " صِفَةٌ لِجُفٍّ، وَذَكَرَ القُرْطُبِيُّ أَنَّ الَّذِي بِالفَاءِ هُوَ وِعَاءُ الطَّلْعِ، وَهُوَ لِلْغِشَاءِ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ، وَبِالمُوَحَّدَةِ دَاخِلُ الطَّلْعَةِ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا الكُفُرَّى؛ قَالَهُ شِمْرٌ. قَالَ: وَيُقَالُ أَيْضًا لِدَاخِلِ الرَّكِيَّةِ مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى أَعْلاهَا: جُفٌّ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَالقَطْعِ، يَعْنِي مَا قُطِعَ مِنْ قُشُورِهَا. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَُّيْبَانِيُّ: الجُفُّ بِالفَاءِ شَيْءٌ يُنْقَرُ مِنْ جُذُوعِ النَّخْلِ.
قَوْلُه: (قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: هُوَ فِي بِئْر ذَرْوَانَ)
زَادَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُه: " تَحْتَ رَاعُوفَة " وَسَيَأْتِي شَرْحُهَا بَعْدَبَابٍ، وَذَرْوَانُ بِفَتْحِ المُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَحَكَى ابْنُ التِّينِ فَتْحَهَا، وَأَنَّهُ قَرَأَهُ كَذَلِكَ. قَالَ: وَلَكِنَّهُ بِالسُّكُونِ أَشْبَهُ، وَفِي رِوَايَةِابْنِ نُمَيْرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: " فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ "، وَيَأْتِي فِي رِوَايَةِ أَبِي ضَمْرَةَ فِي الدَّعَوَاتِ مِثْلُه، وَفِي نُسْخَةِ الصَّغَانِيِّ لَكِنْ بِغَيْرِ لَفْظِ بِئْرٍ، وَلِغَيْرِهِ: " فِي ذَرْوَانَ "، وَذَرْوَانُ بِئْرٌ فِي بَنِي زُرَيْقٍ، فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُه: (بِئْر ذَرْوَان) مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ لِنَفْسِهِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهمَا وَبَيْنَ رِوَايَةِابْنِ نُمَيْرٍ بِأَنَّ الأصْلَ (بِئْر ذِي أَرْوَان) ثُمَّ لِكَثْرَةِ الاسْتِعْمَالِ سُهِّلَتِ الهَمْزَةُ فَصَارَتْ (ذَرْوَان) وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍالبَكْرِيَّ صَوَّبَ أَنَّ اسْمَالبِئْرِ(أَرْوَان) بِالهَمْزِ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ: (ذَرْوَان) أَخْطَأَ.
وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَأٍ عَلَى مَا وَجَّهْتُه، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ وُهَيْبٍ، وَكَذَا فِي رِوَايَتِه عَنِابْنِ نُمَيْرٍ: " بِئْر أَرْوَان " كَمَا قَالَ البَكْرِيُّ، فَكَأَنَّ رِوَايَةَ الأَصِيلِيِّ كَانَتْ مِثْلَهَا، فَسَقَطَتْ مِنْهَا الرَّاءُ، وَوَقَعَ عِنْدَ الأَصِيلِيِّ فِيمَا حَكَاهُ عِيَاضٌ: (فِي بِئْرِ ذِي أَوَان) بِغَيْرِ رَاءٍ. قَالَ عِيَاضٌ: هُوَ وَهْمٌ؛ فَإِنَّ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ عَلَى سَاعَةٍ مِنَالمَدِينَةِ، وَهُوَ الَّذِي بُنِيَ فِيهِ مَسْجِدُ الضِّرَارِ.
قَوْلُه: (فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِه)
وَقَعَ فِي حَدِيثِابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَابْنِ سَعْدٍ:(فَبَعَثَ إِلَى عَلِيٍّ وَعَمَّارٍ فَأَمَرَهُمَا أَنْ يَأْتِيَا البِئْرَ) وَعِنْدَهُ فِي مُرْسَلِ عُمَرَ بْنِالحَكَمِ:(فَدَعَا جُبَيْرَ بْنَ إِيَاسٍ الزُّرَقِيَّ وَهُوَ مِمَّنْ شَهِدَ عَلَى مَوْضِعه فِي بِئْر ذَرْوَانَ فَاسْتَخْرَجَهُ)
قَالَ: وَيُقَالُ: الَّذِي اسْتَخْرَجَهُ قَيْسُ بْنُ مِحْصَنٍ الزُّرَقِيُّ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ أَعَانَ جُبَيْرًا عَلَى ذَلِكَ، وَبَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ فَنُسِبَ إِلَيْهِ، وَعِنْدَابْنِ سَعْدٍ أَيْضًا أَنَّ الحَارِثَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا يَهُوَّرُالبِئْرُ.
فَيُمْكِنُ تَفْسِيرُ مَنْ أُبْهِمَ بِهَؤُلاءِ أَوْ بَعْضِهمْ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَّهَهُمْ أَوَّلاً ثُمَّ تَوَجَّهَ فَشَاهَدَهَا بِنَفْسِهِ.
قَوْلُه: (فَجَاءَ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ)
فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ: " فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: يَا عَائِشَةُ "، وَنَحْوُه فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ وَلَفْظُه " فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى البِئْرِ فَنَظَرَ إِلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ "، وَفِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ: " فَنَزَلَ رَجُلٌ فَاسْتَخْرَجَهُ "، وَفِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ " وَجَدَ فِي الطَّلْعَةِ تِمْثَالاً مِنْ شَمْعٍ، تِمْثَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا فِيهِ إِبَرٌ مَغْرُوزَةٌ، وَإِذَا وَتَرٌ فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِالمُعَوِّذَتَيْنِ، فَكُلَّمَا قَرَأَ آيَةًانْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَكُلَّمَا نَزَعَ إِبْرَةً وَجَدَ لَهَا أَلَمًا، ثُمَّ يَجِدُ بَعْدَهَا رَاحَةً "، وَفِي حَدِيثِابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُه كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ الَّذِي أَشَرْتُإِلَيْهِ عِنْدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَغَيْرِه: " فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَنَزَلَ عَلَيْهِ بِالمُعَوِّذَتَيْنِ "، وَفِيهِ: " فَأَمَرَهُ أَنْ يَحُلَّالعُقَدَ وَيَقْرَأَ آيَةً، فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَيَحُلُّ حَتَّى قَامَ كَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ ". وَعِنْدَابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ مُعْضَلاً: " فَاسْتَخْرَجَ السِّحْرَ مِنَالجُفِّ مِنْ تَحْتِالبِئْرِ ثُمَّ نَزَعَهُ فَحَلَّهُ فَكُشِفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
قَوْلُه: (كَأَنَّ مَاءَهَا) فِي رِوَايَةِابْنِ نُمَيْرٍ: " وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا " أَيِالبِئْرَ(نُقَاعَةُالحِنَّاءِ) بِضَمِّ النُّونِ وَتَخْفِيفِالقَافِ، وَالحِنَّاءُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ بِالمَدِّ، أَيْ أَنَّ لَوْنَ مَاءِالبِئْرِ لَوْنُالمَاءِ الَّذِي يُنْقَعُ فِيهِ الحِنَّاءُ.
قَالَ ابْنُ التِّينِ: يَعْنِي أَحْمَرَ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: المُرَادُالمَاءُ الَّذِي يَكُونُ مِنْ غُسَالَةِالإِنَاءِ الَّذِي تُعْجَنُ فِيهِ الحِنَّاءُ.
قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي حَدِيث زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عِنْدَابْنِ سَعْدٍ وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ: " فَوَجَدَ المَاءَ وَقَدِاخْضَرَّ "، وَهَذَا يُقَوِّي قَوْلَ الدَّاوُدِيِّ. قَالَ القُرْطُبِيُّ: كَأَنَّ مَاءَالبِئْرِ قَدْ تَغَيَّرَ إِمَّا لِرَدَاءَتِهِ بِطُولِ إِقَامَتِه، وَإِمَّا لِمَا خَالَطَهُ مِنَ الأشْيَاءِ الَّتِي أُلْقِيَتْ فِي البِئْرِ.
قُلْتُ: وَيَرُدُّ الأوَّلَ أَنَّ عِنْدَابْنِ سَعْدٍ فِي مُرْسَلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ الحَارِثَ بْنَ قَيْسٍ هَوَّرَ البِئْرَالمَذْكُورَةَ، وَكَانَ يَسْتَعْذِبُ مِنْهَا، وَحَفَرَ بِئْرًا أُخْرَى، فَأَعَانَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَفْرِهَا.
قَوْلُه: (وَكَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ)
كَذَا هُنَا، وَفِي الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي بَدْءِالخَلْقِ " نَخْلُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ "، وَفِي رِوَايَةِابْنِ عُيَيْنَةَ وَأَكْثَرِ الرُّوَاةِ عَنْ هِشَامٍ: " كَأَنَّ نَخْلَهَا " بِغَيْرِ ذِكْرِ " رُءُوس " أَوَّلاً، وَالتَّشْبِيهُ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ، فَلِذَلِكَ أَفْصَحَ بِهِ فِي رِوَايَةِالبَابِ، وَهُوَ مُقَدَّرٌ فِي غَيْرِهَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ: " فَإِذَا نَخْلُهَا الَّذِي يَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا قَدِ الْتَوَى سَعَفُه كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ "، وَقَدْ وَقَعَ تَشْبِيهُ طَلْعِ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ فِي القُرْآنِ بِرُءُوسِ الشَّيَاطِينِ، قَالَ الفَرَّاءُ وَغَيْرُه: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شَبَّهَ طَلْعَهَا فِي قُبْحِه بِرُءُوسِ الشَّيَاطِينِلأنَّهَا مَوْصُوفَةٌ بِالقُبْحِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي اللِّسَانِ أَنَّ مَنْ قَالَ. فُلانٌ شَيْطَانٌ أَرَادَ أَنَّهُ خَبِيثٌ أَوْ قَبِيحٌ، وَإِذَا قَبَّحُوا مُذَكَّرًا قَالُوا: شَيْطَانٌ، أَوْ مُؤَنَّثًا قَالُوا: غُولٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَالمُرَادُ بِالشَّيَاطِينِ الحَيَّاتِ، وَالعَرَبُ تُسَمِّي بَعْضَالحَيَّاتِ شَيْطَانًا وَهُوَ ثُعْبَانٌ قَبِيحُالوَجْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَالمُرَادُ: نَبَاتٌ قَبِيحٌ، قِيلَ: إِنَّهُ يُوجَدُ بِاليَمَنِ). [فتح الباري: 10/239-241 ]
قالَ أحمدُ بنُ عَلِيٍّ ابنُ حَجَرٍ العَسْقَلانِيُّ (ت:852هـ): ( تَنْبِيهٌ: ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ: أَنَّ عُقَدَ السِّحْرِ كَانَتْ إحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً، فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ المُعَوِّذَتَيْنِ إحْدَى عَشْرَةَ آيَةً، فَانْحَلَّتْ بِكُلِّ آيَةٍ عُقْدَةٌ.
قُلْتُ: أَخْرَجَ البَيْهَقِيُّ فِي الدَّلائِلِ مَعْنَى ذَلِكَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ فِي القِصَّةِ الَّتِي ذَكَرَ فيها أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ، وَفِي آخِرِ الحَدِيثِ: (أَنَّهُمْ وَجَدُوا وَتَرًا فِيهِ إحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً، وَأُنْزِلَتْ سُورَةُ الفَلَقِ وَالنَّاسِ، فَجَعَلَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ).
وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَلِيًّا وَعَمَّارًا فَوَجَدَا طَلْعَةً فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً"، فَذَكَرَ نَحْوَهُ). [التلخيص الحبير:4/110]
قَالَ المُؤَذِّنُ عَبْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ سَلامَةَ الإِدْكَاوِيُّ (ت: 1184هـ): (والإِشَارَةُ بالنَّفَّاثَاتِ في العُقَدِ: إلى بَنَاتِ لَبِيدِ بْنِ الأَعْصَمِ اليَهُودِيِّ، وهُنَّ اللَّوَاتِي سَحَرْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَعَقَدْنَ لَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالى إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً، وهِيَ المُعَوِّذَتَانِ، فَشُفِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ). [ترويح أولي الدماثة: 2/278]