عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 22 ذو الحجة 1434هـ/26-10-2013م, 06:23 PM
أم أسماء باقيس أم أسماء باقيس غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
المشاركات: 529
افتراضي

أجوبة العلماء عما روي عن ابن مسعود في المعوذتين

قلتُ: (سبق ذكر بعض أقوال العلماء قريبًا فراجعها).
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الكَرَجِيُّ القَصَّابُ (ت: 360هـ): (وهما من القرآنِ، ومَن قالَ: لَيْسَتَا من القرآنِ فقد أعْظَمَ القولَ، وما ذُكِرَ عن ابنِ مسعودٍ فهو عنه غَيْرُ صحيحٍ، ولو صَحَّ عنه أنها غيرُ مَكْتُوبةٍ في مُصْحَفِه، ما دلَّ على أنهما لم تكونا عندَه من القرآنِ، لأنه كانَ يَحْفَظُهما، ومَن حَفِظَ شَيْئًا فليسَ بحَتْمٍ عليهِ أنْ يَكْتُبَه ولو أنَّ حَافِظًا للقرآنِ كُلِّه لم يَكْتُبْهُ، واقْتَصَرَ على تلاوتِه آناءَ الليلِ والنهارِ في الصلاةِ وغيرِ الصلاةِ ما ضَرَّهُ، وإنما كُتِبَ إِشْفَاقًا على مَن لا يَقْدِرُ أن يَحْفَظَهُ، فكُتِبَ ليَسْتَوِيَ فيه الحَافِظُ وغيرُ الحافظِ، ولِيَرْجِعَ إليه الناسي إذا نَسِيَ منه الشيءَ، أو اشْتَبَهَ عليه الحَرْفُ، وَلِيَنْظُرَ فيه الناظِرُ فيَصِيرَ نَظَرُه فيه عبادةً، وَلِيَقْرَأَ فيه الحَافِظُ أيضًا فيَجْمَعَ الثوابيْنِ؛ ثوابَ التلاوةِ، وثَوَابَ النَّظَرِ). [نكت القرآن: 4/ 568-570]
قالَ أَبُو اللَّيْثِ نَصْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ (ت:375هـ): (ورَوَى أبو مُعاوِيَةَ، عن عُثمانَ بنِ واقِدٍ قالَ: أَرْسَلَنِي أبي إلى مُحمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ أَسألُه عَنِ المُعَوِّذَتَيْنِ: أَهُمَا مِن كتاب اللهِ تعالى؟

قالَ: مَن لم يَزْعُمْ أنهما مِن كتاب اللهِ تعالى فعَلَيْهِ لَعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أَجمعينَ).[بحر العلوم: 3/529]
قالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبيبٍ المَاوَرْدِيُّ (ت: 450هـ): (وزَعَمَ ابنُ مسعودٍ أنَّهما دُعَاءٌ تَعَوَّذَ بهِ ولَيْسَتَا مِن القرآنِ، وهذا قولٌ خالَفَ به الإجماعَ مِن الصحابةِ وأهلِ البيتِ). [النكت والعيون: 6/ 373]
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بْنِ مُطَرِّفٍ الكِنَانِيُّ (ت: 454هـ): (قالَ أبُو مُحمَّدٍ في المُشْكِلِ فِي آخِرِ باب القرَاءَاتِ: أَمَّا نُقْصَانُ مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بحَذْفِهِ المُعَوِّذَتَيْنِ وَأُمَّ الكِتَاب، وَزِيَادَةُ مُصْحَفِ أُبَيٍّ سورَةَ القُنُوتِ، فَإِنَّا لا نقولُ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَأُبَيًّا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا أصابَا، وَأَخْطَأَ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ولكنَّ عَبْدَ اللَّهِ ذَهَبَ فِيمَا يَرَى أَهْلُ النَّظَرِ إِلَى أنَّ المُعَوِّذَتَيْنِ كانتَا كَالعُوْذَةِ والرُّقْيَةِ لِلْعَيْنِ وَغَيْرِهَا، وكانَ يرَى رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يُعَوِّذُ بهِمَا الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ وَغَيْرَهُمَا، كما كانَ يُعَوِّذُ بـ((أَعُوذُ بكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ)) وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَظَنَّ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا منَ القُرْآنِ، وَأَقَامَ عَلَى ظَنِّهِ وَمُخَالَفَةِ الصَّحَابَةِ جَمِيعًا كما أقامَ عَلَى التَّطْبيقِ، وأقامَ غيْرُهُ عَلَى الفُتْيَا بالمُتْعَةِ وَالصَّرْفِ، ورأى آخرُ أكْلَ البُرِّ وهو صائمٌ، ورأَى آخرُ السُّحُورَ بعْدَ طلوعِ الفجرِ الثانِي، في أشباهٍ لهذَا كَثِيرَةٍ، وإلى هذا ذهَبَ أُبَيٌّ رَحِمَهُ اللَّهُ في دُعَاءِ القُنُوتِ؛ لأنه رأَى رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يَدْعُو به في الصلاةِ دعاءً دائمًا فظَنَّ أنه منَ القرآنِ، وأقامَ على ظنِّهِ ومخالفَةِ الصحابَةِ.

وأمَّا فاتحَةُ الكتَاب فإنِّي أَشُكُّ فيما رُوِيَ عنْ عبدِ اللَّهِ منْ تَرْكِهِ إثباتَهَا في مصحفِهِ، فإنْ كان هذا محفوظًا فليْسَ يجوزُ لمسلمٍ أنْ يَظُنَّ به الجهْلَ بأنَّهَا منَ القُرْآنِ، وكيفَ يُظَنُّ به ذلك وهوَ منْ أشَدِّ الصحابَةِ عنايةً بالقرآنِ وأحَدُ السِّتَّةِ الذين انْتَهَى إليهِمُ العِلْمُ؟ والنَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ فيه: ((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ القُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْ قِرَاءَةَ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ)).
وَعُمَرُ رضِيَ اللَّهُ عنه يقولُ: كُنَيْفٌ مُلِئَ عِلْمًا، وهو مع هذا مُتقَدِّمُ الإسلامِ بَدْرِيٌّ لم يَزَلْ يَسْمَعُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤُمُّ بها، وقال: ((لا صَلاةَ إِلا بسُورَةِ الحَمْدُ)) وَهِيَ السَّبْعُ المَثَانِي وَأُمُّ الكِتَاب، أَيْ: أَعْظَمُهُ وَأَقْدَمُ مَا نزلَ منه، كما سُمِّيَتْ مكَّةُ أُمَّ القُرَى؛ لأَنَّهَا أقْدَمُهَا، قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران: 96]. ولكنَّهُ ذهَبَ فيما يَظُنُّ أَهْلُ النَّظَرِ إلى أن القُرْآنَ قدْ جُمِعَ بيْنَ اللَّوْحَيْنِ مخافَةَ الشَّكِّ والنِّسْيَانِ والزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، ورأَى ذلك لا يَجوزُ في سورَةِ (الحَمْدُ) لِقِصَرِهَا، وَأَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ صلاةٍ وكلِّ رَكْعَةٍ، ولأنَّهُ لا يَجوزُ لأحدٍ منَ المُسْلِمِينَ ترْكُ تَعَلُّمِهَا كما يَجوزُ تَرْكُ تَعَلُّمِ غَيْرِهَا وحِفْظِهِ إذْ كانتْ لا صَلاةَ إلا بهَا، فلَمَّا أَمِنَ عليْهَا العلَّةَ الَّتِي منْ أَجْلِهَا كُتِبَ المُصْحَفُ تَرَكَ كِتَابَتَهَا وهو يعلَمُ أَنَّهَا منَ المُصْحَفِ، ولوْ أَنَّ رَجُلاً كتبَ منَ القُرْآنِ سُوَرًا وترَكَ سُوَرًا لمْ يَكْتُبْهَا لمْ نَرَ عليه في ذلك وَكَفًا إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَباللَّهِ التَّوْفِيقُ). [القرطين: 223]
قالَ أَبُو المُظَفَّرِ مَنْصُورُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمْعَانِيُّ (ت: 489هـ): (فإن قالَ قائلٌ: لِمَ لم يَكتب ابنُ مسعودٍ هاتين السورتينِ في مُصْحَفِه؟ وهل يَجوزُ أن يَشْتَبهَ على أَحَدٍ أنهما مِن القرآنِ أو لَيْسَتَا مِن القرآنِ؟
والجوابُ عنه: أنَّ حَمَّادَ بنَ سَلَمَةَ رَوَى عن عاصمِ بنِ بَهدلةَ، عن زِرِّ بنِ حُبيشٍ قالَ: قلتُ لأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ: إنَّ ابنَ مَسعودٍ لم يَكْتُبْ في مُصحَفِه المُعَوِّذَتَيْنِ! فقالَ أُبَيٌّ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قالَ جِبريلُ ـ عليه السلامُ ـ: {قُلْ أَعُوذُ برَب الفَلَقِ} فقُلْتُها، وقالَ: {قُلْ أَعُوذُ برَب النَّاسِ} فقُلْتُهَا)) فنحْنُ نقولُ بقَوْلِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كأنَّ أُبَيًّا وافَقَ ابنَ مسعودٍ.
قالَ رَضِيَ اللهُ عنه: أَخْبَرَنَا بهذا الحديثِ أبو الحُسَيْنِ بنُ النقورِ، أَخْبَرَنَا أبو القاسمِ بنُ حَبابةَ، أَخْبَرَنَا البَغَوِيُّ، أَخْبَرَنَا هُدبةُ، عن حَمَّادِ بنِ سَلمةَ. الحديثَ، خَرَّجَه مسلمٌ في الصحيحِ، فيَجوزُ أنَّ ابنَ مسعودٍ وأُبَيًّا مِن كثرةِ ما سَمِعَا النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقرأُ هاتينِ السورتينِ ويَتَعَوَّذُ بهما ظَنَّا أنهما عُوْذَةٌ، فلم يُثْبتَاهُمَا في المُصْحَفِ.
وقد قيلَ: إنهما مَكتوبتانِ في مُصْحَفِ أُبَيٍّ وذَكَرَ بعضُهم أنَّ عبدَ اللهِ بنَ مَسعودٍ لم يَشْتَبهْ عليه أنهما مِن القرآنِ، ولكن لم يَكْتُبْهُما لشُهرَتِهما، كما تَرَكَ كتابةَ سورةِ الفاتحةِ لشُهْرَتِها.
واللهُ أَعلَمُ وأَحكَمُ بالصواب، وإليه المَرْجِعُ والمَآبُ). [تفسير القرآن: 6/3090-310]
قالَ علمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ): (وَهَاتَانِ السُّورَتانِ منَ القُرآنِ بإجْمَاعِ الأمَّةِ، وَيُرْوَى عنِ ابنِ مَسْعودٍ أنَّه كانَ يَحُكُّهُمَا مِنَ المصَاحِفِ وَيقُول: (لا تزيدوا في كِتَابِ اللهِ ما ليسَ منه) ، فإنْ كانَ هذَا صَحِيحًا عنهُ فَسَبَبُهُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلَّى الله عليهِ وسلَّم يُعَوِّذُ بهمَا سِبْطَيهِ فَظَنَّ أنهما عُوذَتانِ.
والمسلمون كلهم على خلاف ذلك). [جمال القراء:1/203-204] (م)

قالَ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ القُرْطُبيُّ (ت: 671هـ): (وزَعَمَ ابنُ مسعودٍ أنَّهما دُعَاءٌ تُعُوِّذَ بهِ، ولَيْسَتَا مَن القرآنِ؛ خالَفَ به الإِجماعَ مِن الصحَابَةِ وأهلِ البيْتِ.
قالَ ابنُ قُتَيْبَةَ: لَم يَكْتُبْ عبدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ في مُصْحَفِه المُعَوِّذَتَيْنِ؛ لأنه كانَ يَسْمَعُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ الحَسَنَ والحُسَيْنَ - رَضِيَ اللهُ عنهما - بهِمَا، فقَدَّرَ أَنَّهُما بمَنْزِلَةِ: أُعيذُكُمَا بكَلِمَاتِ اللهِ التامَّةِ، مِن كلِّ شَيْطَانٍ وهَامَّةٍ، ومِن كلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ.
قالَ أبو بكرٍ الأنْبَارِيُّ: وهذا مَرْدُودٌ على ابنِ قُتَيْبَةَ؛ لأنَّ المُعَوِّذَتَيْنِ مِن كلامِ ربِّ العالَمِينَ، المُعْجِزِ لجميعِ المخلوقِينَ، و(أُعيذُكُمَا بكلماتِ اللهِ التامَّةِ) مِن قوْلِ البشَرِ بَيِّنٌ. وكلامُ الخالِقِ الذي هو آيَةٌ لمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتَمِ النبيِّينَ، وحُجَّةٌ له باقِيَةٌ على جَمِيعِ الكافِرِينَ، لا يَلْتَبسُ بكلامِ الآدمِيِّينَ، على مثلِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ الفصيحِ اللِّسانِ، العالِمِ باللُّغَةِ، العارِفِ بأجناسِ الكلامِ، وأفانِينِ القوْلِ.
وقالَ بعضُ الناسِ: لم يَكْتُبْ عبدُ اللهِ المُعَوِّذَتَيْنِ؛ لأنه أَمِنَ عَلَيْهِمَا مِن النِّسيانِ، فأَسْقَطَهُمَا وهو يَحْفَظُهُما؛ كما أَسْقَطَ فاتِحَةَ الكِتاب مِنْ مُصْحَفِهِ، وما يُشَكُّ في حِفْظِه وإِتْقَانِهِ لَهَا. فرُدَّ هذا القوْلُ على قائِلِه، واحْتُجَّ عليه بأنه قد كَتَبَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ}، و{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}، و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وهُنَّ يَجْرِينَ مَجْرَى المُعَوِّذَتَيْنِ في أنهنَّ غيرُ طِوَالٍ، والحِفْظُ إليهنَّ أسْرَعُ، ونِسْيَانُهُنَّ مأمونٌ، وكلُّهنَّ يُخَالِفُ فاتِحَةَ الكِتاب؛ إذ الصلاةُ لا تَتِمُّ إِلاَّ بقِرَاءَتِهَا. وسَبيلُ كلِّ رَكْعَةٍ أنْ تكونَ المُقَدَّمَةَ فيها قَبْلَ ما يُقْرَأُ مِنْ بَعْدِهَا، فإسقاطُ فاتحةِ الكتاب مِن المُصْحَفِ، على معنَى الثقةِ ببقاءِ حِفْظِها، والأَمْنِ مِن نِسيانِها، صحيحٌ، وليسَ مِن السُّوَرِ ما يَجْرِي في هذا المعنَى مَجْرَاها، ولاَ يَسْلُكُ به طَرِيقَها. وقد مضَى هذا المعنى في سورةِ (الفاتِحَةِ). والحمدُ للهِ). [الجامع لأحكام القرآن: 20/251]
قالَ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدٍ الخَازِنُ (ت: 725هـ): ( (م) وعنْ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: ((أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ: {قُلْ أَعُوذُ برَب الفَلَقِ}، وَ{قُلْ أَعُوذُ برَب النَّاسِ})). فيهِ بيانُ عظيمِ فضلِ هاتَيْنِ السورتَيْنِ، وفيهِ دليلٌ واضِحٌ على كَوْنِهما مِن القرآنِ، وفيهِ رَدٌّ على مَنْ نَسَبَ إلى ابنِ مَسْعُودٍ خِلافَ هذا، وفيهِ بَيَانُ أنَّ لَفْظَةَ {قُلْ} مِن القرآنِ أيضًا، وأنَّهُ مِنْ أوَّلِ السُّورتيْنِ بعدَ البَسْمَلَةِ، وقد اجتمَعَتِ الأُمَّةُ على هذا كُلِّهِ بعدَ خِلافٍ ذُكِرَ فيهِ). [لباب التأويل: 4/499]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ): (قالَ الإمامُ أحمدُ: حدَّثنَا عَفَّانُ، حدَّثنَا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنا عَاصِمُ بنُ بَهْدَلَةَ، عن زِرِّ بنِ حُبَيشٍ قالَ: قُلْتُ لأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ: إِنَّ ابنَ مَسْعُودٍ لا يَكْتُبُ المُعَوِّذَتَيْنِ في مُصْحَفِه؟ فقالَ: أَشْهَدُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسلَّمَ أَخْبَرَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ عليهِ السلامُ قالَ له: (({قُلْ أَعُوذُ برَب الفَلَقِ}. فقُلْتُها، قالَ: {قُلْ أَعُوذُ برَب النَّاسِ}. فقُلْتُها)). فنحنُ نقولُ ما قالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسلَّمَ.
ورواهُ أبو بكرٍ الحُمَيدِيُّ في مُسندِه، عن سُفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ، حدَّثنَا عَبْدَةُ بنُ أبي لُبابَةَ وعَاصِمُ بنُ بَهْدَلَةَ، أنَّهما سَمِعا زِرَّ بنَ حُبَيشٍ قالَ: سألتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ عن المُعوِّذَتَيْنِ فقلتُ: يا أبا المُنذرِ، إنَّ أخاكَ ابنَ مَسْعُودٍ يَحُكُّهُمَا مِن المُصحفِ؟ فقالَ: إِنِّي سَالتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسلَّمَ فقالَ: ((قِيلَ لِي: (قُلْ) فقُلْتُ)). فنحن نقولُ كما قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسلَّمَ.
وقالَ أحمدُ: حدَّثنَا وَكِيعٌ، حدَّثنَا سُفيانُ، عن عاصِمٍ، عن زِرٍّ قالَ: سَالتُ ابنَ مَسْعُودٍ عن المُعَوِّذَتَيْنِ، فقالَ: سألتُ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسلَّمَ عنهما فقالَ: ((قِيلَ لي، فقُلْتُ لَكُمْ؛ فقُولُوا)). قالَ أُبَيٌّ: فقالَ لنا النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسلَّمَ؛ فنحنُ نقولُ.
وقالَ البخاريُّ: حدَّثنَا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدَّثنَا سُفيانُ، حدَّثنَا عَبْدَةُ بنُ أبي لُبابَةَ، عن زِرِّ بنِ حُبَيشٍ، وحدَّثنَا عاصِمٌ، عن زِرٍّ قالَ: سألتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ فقُلْتُ: أبا المُنْذِرِ، إنَّ أخاكَ ابنَ مَسْعُودٍ يقولُ كذا وكذا؟ فقالَ: إِنِّي سألتُ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسلَّمَ فقالَ: ((قِيلَ لي فقُلْتُ)). فنحنُ نقولُ كما قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسلَّمَ.
ورواهُ البخاريُّ أيضًا والنَّسائِيُّ، عن قُتَيْبَةَ، عن سُفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ، عن عَبْدَةَ وعاصِمِ بنِ أبي النَّجُودِ، عن زِرِّ بنِ حُبَيْشٍ، عن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ بهِ.
وقالَ الحافِظُ أبو يَعْلَى: حدَّثنَا الأَزْرَقُ بنُ عَلِيٍّ، حدَّثنَا حَسَّانُ بنُ إِبْرَاهِيمَ، حدَّثنَا الصَّلْتُ بنُ بَهْرَامَ، عن إِبْرَاهِيمَ، عن عَلْقَمَةَ قالَ: كانَ عَبْدُ اللَّهِ يَحُكُّ المُعَوِّذَتَيْنِ مِن المُصحفِ ويَقولُ: إِنَّمَا أُمِرَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسلَّمَ أنْ يَتَعَوَّذَ بهما. ولمْ يَكُنْ عَبْدُ اللَّهِ يقرَأُ بهما.
ورواهُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أحمدَ مِن حديثِ الأَعْمَشِ، عن أبي إِسْحاقَ، عن عَبْدِ الرحمنِ بنِ يَزِيدَ قالَ: كانَ عَبْدُ اللَّهِ يَحُكُّ المُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ مَصاحِفِه ويَقُولُ: إِنَّهُما لَيْسَتَا مِنْ كِتَاب اللَّهِ.
قالَ الأعمشُ: وحدَّثنَا عاصِمٌ، عن زِرِّ بنِ حُبَيْشٍ، عن أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ قالَ: سَالنَا عنهما رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسلَّمَ قالَ: ((قِيلَ لِي؛ فقُلْتُ)).
وهذا مَشْهورٌ عندَ كثيرٍ مِن القُرَّاءِ والفُقهاءِ، أنَّ ابنَ مَسْعُودٍ كانَ لا يَكْتُبُ المُعَوِّذَتَيْنِ في مُصْحفِه، فلعَلَّه لمْ يَسْمَعْهُما مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيْهِ وسلَّمَ، ولم يَتَواتَرْ عندَه، ثم لعلَّه قدْ رَجَعَ عن قولِه ذلك إلى قولِ الجماعةِ؛ فإنَّ الصحابةَ رضِيَ اللَّهُ عنهُم كَتَبوهما في المَصاحفِ الأَئِمَّةِ، ونَفَّذُوها إلى سائِرِ الآفاقِ كذلك، وللَّهِ الحمدُ والمِنَّةُ). [تفسير القرآن العظيم: 8/3902-3903]

قالَ مُحَمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ بَهَادرَ الزَّرْكَشِيُّ (ت: 794هـ): ( وأما ما روي عن ابن مسعود، قال القاضي أبو بكر: فلم يصح عنه أنهما ليسا بقرآن، ولا حفظ عنه أنه حكهما وأسقطهما من مصحفه لعلل وتأويلات.
قال القاضي: ولا يجوز أن يضاف إلى عبد الله أو إلى أبي بن كعب أو زيد أو عثمان أو علي أو واحد من ولده أو عترته جحد آية أو حرف من كتاب الله وتغييره أو قراءته على خلاف الوجه المرسوم في مصحف الجماعة بأخبار الآحاد، وأن ذلك لا يحل ولا يسمع بل لا تصلح إضافته إلى أدنى المؤمنين في عصرنا، فضلا عن إضافته إلى رجل من الصحابة، وإن كلام القنوت المروي عن أبي بن كعب أثبته في مصحفه لم تقم حجة بأنه قرآن منزل بل هو ضرب من الدعاء، وأنه لو كان قرآنا لنقل نقل القرآن وحصل العلم بصحته، وأنه يمكن أن يكون منه كلام كان قرآنا منزلا ثم نسخ وأبيح الدعاء به وخلط بكلام ليس بقرآن ولم يصح ذلك عنه وإنما روي عنه أنه أثبته في مصحفه، وقد ثبت في مصحفه ما ليس بقرآن من دعاء وتأويل.
وقال النووي في شرح المهذب: أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن وأن من جحد منها شيئا كفر وما نقل عن ابن مسعود باطل وليس بصحيح.
وقال ابن حزم في أول كتابه المحلى: هذا كذب على ابن مسعود وموضوع وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عنه، وفيها المعوذتان والفاتحة
وقال القاضي أبو بكر بن الطيب في كتاب التقريب: لم ينكر عبد الله بن مسعود كون المعوذتين والفاتحة من القرآن وإنما أنكر إثباتهما في المصحف وإثبات الحمد؛ لأنه كانت السنة عنده ألا يثبت إلا ما أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإثباته، وكتبه، ولم نجده كتب ذلك ولا سمع أمره به وهذا تأويل منه، وليس جحدا لكونهما قرآنا.
وفي صحيح ابن حبان عن زر قلنا لأبي بن كعب: إن ابن مسعود لا يكتب في مصحفه المعوذتين فقال: قال لي رسول الله صلى عليه وسلم: قال لي جبريل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} فقلتها وقال لي: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فقلتها. فنحن نقول ما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ) [البرهان في علوم القرآن:2/125-128] (م)
قالَ عُمَرُ بنُ عَلِيِّ بْنِ عَادِلٍ الدِّمَشْقِيُّ الحَنْبَلِيُّ (ت: 880هـ): (وَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا دُعَاءٌ، ولَيْسَتا مِنَ القُرْآنِ، وخَالَفَ بهِ الإِجْمَاعَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَهْلِ البَيْتِ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَمْ يَكْتُبْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ في مُصْحَفِهِ المُعَوِّذَتَيْنِ؛ لأَنَّه كَانَ يَسْمَعُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ الحَسَنَ والحُسَيْنَ بهِمَا، فَقَدَّرَ أَنَّهُمَا بمَنْزِلَةِ: "أَعُوذُ بكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ".
قَالَ ابنُ الأَنْبَارِيِّ: وهَذَا مَرْدُودٌ عَلَى ابْنِ قُتَيْبَةَ؛ لأَنَّ المُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ كلامِ ربِّ العالَمِينَ المُعْجِزِ لِجَمِيعِ المَخْلُوقِينَ و"أُعِيذُكُمَا بكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ" مِنْ قولِ البَشَرِ، وكلامُ الخالِقِ الَّذِي هُوَ آيَةٌ وَحُجَّةٌ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمِيعِ الكافِرِينَ لا يَلْتَبسُ بكلامِ الآدَمِيِّينَ عَلَى مِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، الفَصِيحِ اللِّسَانِ، العَالِمِ باللُّغَةِ العَارِفِ بأَجْنَاسِ الكلامِ.
وقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَمْ يَكْتُبْ عَبْدُ اللَّهِ المُعَوِّذَتَيْنِ؛ لأَنَّه أَمِنَ عَلَيْهِمَا مِنَ النِّسْيَانِ فأَسْقَطَهُمَا وهُوَ يَحْفَظُهُمَا كَمَا أَسْقَطَ فَاتِحَةَ الكِتَاب مِنْ مُصْحَفِهِ، ومَا يُشَكُّ في إِتْقَانِهِ وحِفْظِهِ لهمَا، وَرُدَّ هَذَا القَوْلُ عَلَى قائله، واحْتُجَّ عَلَيْهِ بأَنَّهُ قَدْ كَتَبَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ}، و{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}، و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وهُنَّ يَجْرِينَ مَجْرَى المُعَوِّذَتَيْنِ في أَنَّهُنَّ غَيْرُ طِوَالٍ، والحِفْظُ إِلَيْهِنَّ أسْرَعُ والنِّسْيَانُ مَأْمُونٌ، وكُلُّهن يُخَالِفُ فَاتَحةَ الكتاب؛ إِذِ الصلاةُ لا تَتِمُّ إلا بقِرَاءَتِهَا، وسَبيلُ كُلِّ رَكْعَةٍ أَنْ تَكُونَ المُقَدَّمَةَ فِيهَا قَبْلَ مَا يُقْرَأُ مِنْ بَعْدِهَا، فَإِسْقَاطُ فاتِحَةِ الكِتَاب مِنَ المُصْحَفِ عَلَى مَعْنَى الثِّقَةِ ببَقَاءِ حِفْظِهَا والأَمْنِ مِنْ نِسْيَانِهَا صَحِيحٌ، ولَيْسَ مِنَ السُّوَرِ في هَذَا المَعْنَى مَجْرَاهَا، ولا يَسْلُكُ به طَرِيقَهَا). [اللباب: 20/568-569]
قالَ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيٍّ الشَّوْكانِيُّ (ت: 1250هـ): (وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ لا يُثْبتُ هاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي مُصْحَفِهِ، كَمَا رَوى عَبْدُ اللَّهِ بنُ أَحْمَدَ في المُسْنَدِ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ يَزيدَ يَعْنِي النَّخَعِيَّ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعودٍ يَحُكُّ المُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ مَصاحِفِهِ وَيَقولُ: إِنَّهُما لَيْسَتَا مِنْ كِتاب اللَّهِ تَعالَى.
وَرِجالُ إِسْنادِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَحْمَدَ رِجالُ الصَّحيحِ، وَرِجالُ إِسْنادِ الطَّبَرَانِيِّ ثِقاتٌ، وَهَكذا أَخْرَجَ البَزَّارُ في مُسْنَدِهِ: أَنَّ ابنَ مَسْعودٍ كانَ يَحُكُّ المُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ المُصْحَفِ وَيَقولُ: إِنَّمَا أَمَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَعَوَّذَ بهِمَا.
وَكانَ عَبْدُ اللَّهِ لا يَقْرَأُ بهِما، وَرِجالُ إِسْنادِه ثِقاتٌ، وَهَكذا أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بإِسْنادٍ رِجالُهُ ثِقاتٌ، قالَ البَزَّارُ: لَمْ يُتابعْ عَبْدَ اللَّهِ بنَ مَسْعُودٍ أَحَدٌ مِنْ الصَّحابَةِ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ بهِمَا في الصَّلاةِ وَأُثْبتَتَا في المُصْحَفِ، انْتَهى.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ فيهِما: (إِنَّهُمَا خَيْرُ سُورَتَيْنِ قُرِئَتَا)، وَتَقَدَّمَ أَمْرُهُ بالقِراءَةِ بهِمَا، وَهَذِهِ خاصِّيَّةٌ مِنْ خَواصِّ القُرْآنِ، وَتَقَدَّمَ أيضًا: أَنَّ مَنْ قَرَأَهُمَا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ جَمِيعَ ما أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَجَميعُ أَهْلِ الإِسْلامِ طَبَقَةٌ بَعْدَ طَبَقَةٍ، والصَّحابيُّ بَشرٌ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً في مِثْلِ هَذا، عَلَى فَرْضِ عَدَمِ مُخالَفَتِهِ لِما ثَبَتَ عَنِ الشّارِعِ، فَكَيْفَ وَقَدْ خالَفَ ها هُنا السُّنَّةَ الثَّابتةَ والإِجْماعَ المَعْلومَ). [تُحْفَةُ الذّاكِرينَ: 330-332]
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الشَّوْكَانِيُّ (ت: 1250هـ): (وَأَخْرَجَ أحمدُ وَالبَزَّارُ وَالطبرانيُّ وَابنُ مَرْدُويَه مِنْ طُرُقٍ -قَالَ السيوطيُّ: صَحِيحَةٌ-، عَنِ ابنِ مسعودٍ أَنَّهُ كانَ يَحُكُّ المُعَوِّذتَيْنِ في المصحفِ يَقُولُ: لا تَخْلِطُوا القرآنَ بما ليسَ منهُ، إِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ كتاب اللَّهِ، إِنَّمَا أُمِرَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يَتَعَوَّذَ بهِمَا، وَكانَ ابنُ مسعودٍ لا يَقْرَأُ بهِمَا، قَالَ البَزَّارُ: لمْ يُتَابعِ ابنَ مسعودٍ أَحَدٌ مِنَ الصحابةِ، وَقدْ صَحَّ عَنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ بهِمَا في الصلاةِ، وَأُثْبتَتَا في المصحفِ). [فتح القدير: 5/755]
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الشَّوْكَانِيُّ (ت: 1250هـ): (وَأَخْرَجَ أحمدُ وَالبخاريُّ وَالنسائيُّ وَغيرُهُم عَنْ زِرِّ بنِ حُبَيْشٍ قَالَ: أَتَيْتُ المدينةَ فَلَقِيتُ أُبَيَّ بنَ كعبٍ، فَقُلْتُ لهُ: أَبَا المُنْذِرِ، إِنِّي رَأَيْتُ ابنَ مسعودٍ لا يَكْتُبُ المعوذتَيْنِ في مصحفِهِ. فَقَالَ: أَمَا وَالذي بَعَثَ مُحَمَّدًا بالحقِّ لقدْ سَالتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا وَمَا سَأَلَنِي عَنْهُمَا أَحَدٌ منذُ سألتُهُ غَيْرُكَ. قَالَ: ((قِيلَ لِي: قُلْ فَقُلْتُ فَقُولُوا)). فنحنُ نَقُولُ كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). [فتح القدير: 5/755]
قالَ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيٍّ الشَّوْكانِيُّ (ت: 1250هـ): (وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُ لا يُثْبتُ هاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي مُصْحَفِهِ، كَمَا رَوى عَبْدُ اللَّهِ بنُ أَحْمَدَ في المُسْنَدِ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ يَزيدَ يَعْنِي النَّخَعِيَّ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعودٍ يَحُكُّ المُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ مَصاحِفِهِ وَيَقولُ: إِنَّهُما لَيْسَتَا مِنْ كِتاب اللَّهِ تَعالَى.
وَرِجالُ إِسْنادِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَحْمَدَ رِجالُ الصَّحيحِ، وَرِجالُ إِسْنادِ الطَّبَرَانِيِّ ثِقاتٌ، وَهَكذا أَخْرَجَ البَزَّارُ في مُسْنَدِهِ: أَنَّ ابنَ مَسْعودٍ كانَ يَحُكُّ المُعَوِّذَتَيْنِ مِنْ المُصْحَفِ وَيَقولُ: إِنَّمَا أَمَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَعَوَّذَ بهِمَا.
وَكانَ عَبْدُ اللَّهِ لا يَقْرَأُ بهِما، وَرِجالُ إِسْنادِه ثِقاتٌ، وَهَكذا أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بإِسْنادٍ رِجالُهُ ثِقاتٌ، قالَ البَزَّارُ: لَمْ يُتابعْ عَبْدَ اللَّهِ بنَ مَسْعُودٍ أَحَدٌ مِنْ الصَّحابَةِ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ بهِمَا في الصَّلاةِ وَأُثْبتَتَا في المُصْحَفِ، انْتَهى.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ فيهِما: (إِنَّهُمَا خَيْرُ سُورَتَيْنِ قُرِئَتَا)، وَتَقَدَّمَ أَمْرُهُ بالقِراءَةِ بهِمَا، وَهَذِهِ خاصِّيَّةٌ مِنْ خَواصِّ القُرْآنِ، وَتَقَدَّمَ أيضًا: أَنَّ مَنْ قَرَأَهُمَا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ جَمِيعَ ما أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَجَميعُ أَهْلِ الإِسْلامِ طَبَقَةٌ بَعْدَ طَبَقَةٍ، والصَّحابيُّ بَشرٌ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً في مِثْلِ هَذا، عَلَى فَرْضِ عَدَمِ مُخالَفَتِهِ لِما ثَبَتَ عَنِ الشّارِعِ، فَكَيْفَ وَقَدْ خالَفَ ها هُنا السُّنَّةَ الثَّابتةَ والإِجْماعَ المَعْلومَ). [تُحْفَةُ الذّاكِرينَ: 330-332]
قالَ أَبو الثَّناءِ مَحْمُودُ بنُ عبدِ اللهِ الآلُوسِيُّ (ت: 1270هـ): (وعن ابنِ مسعودٍ أنه أَنْكَر قُرآنِيَّتَهما، أَخْرَجَ الإمامُ أحمدُ والبزَّارُ والطبرانيُّ وابنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طُرُقٍ صحيحةٍ عنه أنه كان يَحُكُّ المُعَوِّذَتَيْنِ مِن المصْحَفِ ويقولُ: لا تَخْلِطوا القرآنَ بما ليس منه، إنهما لَيْسَتَا مِن كتاب اللهِ تعالى، إنما أَمَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ تعالى عليه وسَلَّمَ أن يُتَعَوَّذَ بهما. وكان ابنُ مسعودٍ لا يَقرأُ بهما، قالَ البَزَّارُ: لم يُتابع ابنَ مسعودٍ أحدٌ مِن الصحابةِ، وقد صَحَّ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ تعالى عليه وسَلَّمَ أنه قَرَأَ بهما في الصلاةِ وأُثْبتَتَا في المصحَفِ.
وأَخْرَجَ الإمامُ أحمدُ والبخاريُّ والنَّسائيُّ وابنُ حِبَّانَ وغيرُهم عن زِرِّ بنِ حُبيشٍ قالَ: أَتَيْتُ المدينةَ فلَقِيتُ أُبَيَّ ابنَ كَعبٍ فقُلتُ له: يا أبا المنذِرِ، إني رأيتُ ابنَ مسعودٍ لا يَكتبُ المُعَوِّذَتَيْنِ في مُصحَفِه. فقالَ: أما والذي بَعَثَ محمَّدًا صَلَّى اللهُ تعالى عليه وسَلَّمَ بالحقِّ لقد سألتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ عنهما وما سألني عنهما أحدٌ منذُ سألتُ غيرَك، فقالَ: ((قِيلَ لِي قُلْ فَقُلْتُ فَقُولُوا)) فنحن نَقولُ كما قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ تعالى عليه وسَلَّمَ.
وبهذا الاختلافِ قَدَحَ بعضُ المُلْحِدِينَ في إعجازِ القرآنِ قالَ: لو كانتْ بلاغةُ ذلك بَلَغَتْ حدَّ الإعجازِ لتَمَيَّزَ به عن القرآنِ فلم يُختلَفْ في كونِه منه، وأنتَ تَعلمُ أنه وَقَعَ الإجماعُ على قُرآنِيَّتِهما وقالوا: إنَّ إنكارَ ذلك اليومِ كُفْرٌ، ولَعَلَّ ابنَ مسعودٍ رَجَعَ عن ذلك، وفى شَرْحِ المواقِفِ أنَّ اختلافَ الصحابةِ في بعضِ سُوَرِ القرآنِ مرْوِيٌّ بالآحادِ المفيدةِ للظَّنِّ، ومجموعُ القرآنِ مَنقولٌ بالتواترِ المفيدِ لليقينِ الذي يَضْمَحِلُّ الظنُّ في مقابَلتِه فتلك الآحادُ مما لا يُلْتَفَتُ إليه ثم إن سَلَّمْنَا اختلافَهم فيما ذُكِرَ قلنا: إنهم لم يَخْتَلِفُوا في نزولِه على النبيِّ صَلَّى اللهُ تعالى عليه وسَلَّمَ ولا في بُلوغِه في البلاغةِ حَدَّ الإعجازِ بل في مُجَرَّدِ كونِه مِن القرآنِ، وذلك لا يَضُرُّ فيما نحنُ بصَدَدِه. انتهى.
وعَكْسُ هذا القولِ في السورتينِ المذكورتينِ قيلَ في سُورَتَي الخَلْعِ والحَفْدِ، وفى ألفاظِهما رواياتٌ منها ما يَقْنُتُ به الحنفيَّةُ، فقد رُوِيَ أنهما في مصحَفِ أُبَيِّ بنِ كعبٍ، وفى مصحَفِ ابنِ عبَّاس وفى مُصْحَفِ ابنِ مسعودٍ، فهما إن صَحَّ أنهما كلامُ اللهِ تعالى مَنسوخَا التلاوةِ وليسا مِن القرآنِ كما لا يَخْفَى). [روح المعاني: 29/279]
قالَ صِدِّيقُ بنُ حَسَن خَان الحُسَيْنِيُّ القنوجِيُّ (ت: 1307هـ): (عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قال: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ: ((أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ هذهِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ؟ {قُلْ أَعُوذُ برَب الفَلَقِ}، وَ{قُلْ أَعُوذُ برَب النَّاسِ})).
قالَ النَّوَوِيُّ: فيه بيانُ عِظَمِ فَضْلِ هَاتَيْنِ السُّورتَيْنِ، وقد سَبَقَ قريبًا الخلافُ في إطلاقِ تَفضيلِ بَعْضِ القُرآنِ على بَعْضٍ.
وفيه: دليلٌ واضحٌ على كَوْنِهِمَا مِنَ القرآنِ، ورَدٌّ على مَن نَسَبَ إلى ابنِ مَسْعُودٍ خِلافَ هذا.
وفيه: أَنَّ لَفْظَةَ "قُلْ" مِنَ القرآنِ ثَابتَةٌ مِن أَوَّلِ السُّورَتَيْنِ بَعْدَ البَسْمَلَةِ، وقد أَجْمَعتِ الأُمَّةُ على هذا كُلِّهِ، انتَهَى.
وقد وَرَدَ في فَضْلِ هاتَيْنِ السُّورَتَيٍنِ أَحَادِيثُ، ذَكَرَها في تُحْفَةِ الذَّاكِرِينَ.
وفي بَعْضِهَا عَنْ عُقْبَةَ عندَ أبي دَاوُدَ والنَّسَائِيِّ بلَفْظِ: ((أَلاَ أُعَلِّمُكَ خَيْرَ سُورَتَيْنِ؟))
قالَ الشَّوْكانِيُّ: فيه دليلٌ على مَزِيدِ فَضْلِهِمَا، ولا تَعَارُضَ بَيْنَ هذا، وبَيْنَ ما وَرَدَ فيهِ مِثلُ ذلك مِن السُّوَرِ والآياتِ، بل يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ما وَرَدَ تَفْضيلُهُ على أَنَّهُ فَاضلٌ على ما عَدا ما قدْ وَقَعَ تَفْضِيلُهُ بدَلِيلٍ آخَرَ، فالتَّفْضيلُ مِن هذه الحَيْثِيَّةِ إضافِيٌّ لا حَقِيقيٌّ. وهذا شيءٌ حَسَنٌ، فإن مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ، فالمَرْجِعُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الأَدِلَّةِ القَاضِيَةِ بالتَّفْضِيلِ.
قال: وقَدْ كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ لا يُثْبتُ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي مُصْحَفِهِ، كما رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ في المُسْنَدِ والطَّبَرانِيُّ عَنْ عَبْدِ الرحمنِ بْنِ يَزِيدَ النَّخَعِيِّ، قالَ: كَانَ عبدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ يَحُكُّ المُعَوِّذَتَيْنِ من مَصَاحِفِهِ، ويقولُ: إنهما لَيْسَتَا مِنْ كِتَاب اللهِ تعالى. ورِجَالُ إسنادِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَحْمَدَ رِجَالُ الصَّحِيحِ، ورجالُ إِسْنَادِ الطَّبَرَانِيِّ ثِقاتٌ، وهكذا أَخْرَجَ البَزَّارُ في مُسْنَدِهِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَحُكُّ المُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ المُصْحَفِ ويقولُ: إِنَّمَا أُمِرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ أن يَتَعَوَّذَ بهِمَا، وكانَ عَبْدُ اللهِ لا يَقْرَأُ بهِمَا، ورجالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ، وهكذا أَخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ بإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
قال البَزَّارُ: لم يُتَابعْ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ أحدٌ مِنَ الصحابةِ، وقد صَحَّ عَنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ: أنه قَرَأَهُما في الصلاةِ، وأُثْبتَتا في المُصْحَفِ. انتهى.
قالَ: قُلْتُ: وقد تَقَدَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ، قالَ فيهِما: إِنَّهُمَا خَيْرُ سُورَتَيْنِ، وقد تَقَدَّمَ أَمْرُهُ بالقِرَاءَةِ بهِمَا، وهذا خاصَّةٌ مِنْ خَوَاصِّ القرآنِ، وتَقَدَّمَ أيضًا: أنَّ مَنْ قَرَأَ بهِمَا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ جَمِيعَ مَا أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
وأَجْمَعَ على ذلك الصحابَةُ وجَمِيعُ أَهْلِ الإسلامِ، طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، والصَّحَابيُّ بَشَرٌ ولَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً، في مِثْلِ هذا على فَرْضِ عَدَمِ مُخَالَفَتِهِ لِمَا ثَبَتَ عَنِ الشَّارِعِ، فَكَيْفَ وقَد خَالَفَ هاهنا السُّنَّةَ الثابتةَ، والإجماعَ المَعْلُومَ؟! انْتَهَى كلامُ الشَّوْكَانِيِّ.
وقد عَرَفْتَ بهذا أنَّ قولَ النَّوَوِيِّ المُتَقَدِّمَ بلَفْظِ: وفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ نَسَبَ إلى ابنِ مَسْعُودٍ خِلافَ هذا. انتهى ليس كما يَنْبَغِي، فإنَّ الخلافَ عنه رَضِيَ اللهُ عنه ثَابتٌ بما حَكَاهُ الشوكانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ قَرِيبًا، والجوابُ عَنْ هَذا الخلافِ الجَوَابُ المُتَقَدِّمُ). [السِّرَاجُ الوَهَّاجُ: 1/580-584]
قالَ مُحَمَّد صِدِّيق حَسَن خَان القِنَّوْجِيُّ (ت: 1307هـ): (وَعن ابنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كانَ يَحُكُّ المعوذتَيْنِ مِنَ المُصْحَفِ يَقُولُ: لا تَخْلِطُوا القرآنَ بما ليسَ منهُ إِنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ كتاب اللَّهِ إِنَّمَا أُمِرَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنْ يَتَعَوَّذَ بهِمَا، وَكانَ ابنُ مسعودٍ لا يَقْرَأُ بهِمَا. أَخْرَجَهُ أحمدُ والطبرانيُّ وَابنُ مَرْدُويَهْ مِنْ طُرُقٍ، قَالَ السيوطيُّ: صَحِيحَةٌ، قَالَ البزَّارُ: لم يُتَابعِ ابنَ مسعودٍ أَحَدٌ مِنَ الصحابةِ، وَقدْ صَحَّ عَنِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ بهما في الصلاةِ، وَأُثْبتَتَا في المصحفِ.
وأَخْرَجَ أحمدُ وَالبخاريُّ وَالنسائيُّ وَغيرُهُم عَنْ زَرِّ بنِ حُبَيْشٍ قَالَ: أَتَيْتُ المدينةَ فَلَقِيتُ أُبَيَّ بنَ كعبٍ فَقُلْتُ لهُ: أَبَا المُنْذِرِ، إِنِّي رَأَيْتُ ابنَ مسعودٍ لا يَكْتُبُ المعوذَتَيْنِ في مصحفِهِ. فَقَالَ: أَمَا وَالذي بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بالحقِّ لقدْ سَالتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا وَما سَأَلَنِي عَنْهُمَا أَحَدٌ منذُ سَالتُهُ غَيْرُكَ.
قَالَ: ((قيلَ لي: قلْ. فَقُلْتُ فَقُولُوا)). فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
قالَ القرطبيُّ: زَعَمَ ابنُ مسعودٍ أنَّ هَاتَيْنِ السورتَيْنِ دُعَاءٌ يُتَعَوَّذُ بهِ وَلَيْسَتَا مِنَ القرآنِ، وَقدْ خَالَفَ الإِجماعَ مِنَ الصحابةِ وَأهلِ البيتِ.
وَقَالَ ابنُ قتيبةَ: لمْ يَكْتُب ابنُ مسعودٍ المعوذتَيْنِ في مصحفِهِ؛ لأنَّهُ كانَ يَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ الحسنَ وَالحسينَ بهِمَا، فَقَدَّرَ أنَّهُمَا بمَنْزِلَةِ: أُعِيذُكُمَا بكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كلِّ شيطانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ.
قال أَبُو بَكْرِ بْنُ الأنباريِّ: وَهذا مَرْدُودٌ على ابنِ قتيبةَ؛ لأنَّ المَعُوذَتَيْنِ مِنْ كلامِ ربِّ العالمينَ المُعْجِزِ لجميعِ المخلوقِينَ، وَأُعِيذُكُمَا إِلخ مِنْ كلامِ البشرِ.
وَكلامُ الخالقِ الذي هوَ آيةٌ لمحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَحُجَّةٌ لهُ باقِيَةٌ على جماعةِ الكافِرِينَ لا يَلْتَبسُ بكلامِ الآدَميِّينَ، فَضْلاً عَنْ مثلِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ الفصيحِ اللسانِ العالمِ باللغةِ العارفِ بأجناسِ الكلامِ وَأَفَانِينِ القولِ.
وَقَالَ بعضُ الناسِ: لمْ يَكْتُبْ عَبْدُ اللَّهِ المعوذتَيْنِ؛ لأنَّهُ أَمِنَ عَلَيْهِمَا مِنَ النسيانِ فَأَسْقَطَهُمَا وَهوَ يَحْفَظُهُمَا، كما أَسْقَطَ فاتحةَ الكتاب مِنْ مُصْحَفِهِ). [فتح البيان: 15/453-454]
قالَ مُحَمَّد أَنْوَر الكَشمِيرِيُّ (ت: 1352هـ): (قولُهُ: فقالَ: ((قيلَ لِي: قُلْ))، واعَلْمَ أَنَّهُ نُسِبَ إلى ابنِ مَسْعُودٍ أَنَّ المُعَوِّذَتَيْنِ لَمْ تَكُونَا عِنْدَهُ مِنَ القُرْآنِ، وكانَ يَقُولُ: إِنَّهُمَا نَزَلَتَا لِلْحَوَائِجِ الوَقْتِيَّةِ، كَالتَّعَوُّذِ، فَهُمَا وَظِيفَتَانِ وَقْتِيَّتَانِ، عَلَى شَاكِلَةِ سَائِرِ الوَظَائِفِ والأَدْعِيَةِ، فلا يَجُوزُ إِدْخَالُهُمَا في القرآنِ، وكانَ يَتَمَسَّكُ لَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {قُلْ}. فَإِنَّهُ يَدُلُّ علَى تَعْلِيمِهِ إِيَّاهُ، علَى طَرِيقِ سَائِرِ الأَدْعِيَةِ، فأَجَابَ عَنْهُ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، وهُوَ تِلْمِيذُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وحَاصِلُهُ أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ قَالَ لَهُ جَبْرَائِيلُ عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ: {قُلْ} فَقَالَ كَمَا أَمَرَهُ، فنَحْنُ أَيْضًا نَقُولُ كما قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، على أنَّ {قُلْ} في سورةِ الإخلاصِ أَيْضًا، وبالجملةِ كَانَ الخلافُ بَيْنَهُمَا كالخلافِ فِي الرَّمَلِ فِي الحَجِّ، زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ سُنَّةً وَقْتِيَّةً، والجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ مُسْتَمِرَّةٌ، فهكذا كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَرَاهُمَا وَظِيفَةً وَقْتِيَّةً، لا أَنَّهُ كانَ يُنْكِرُ كَوْنَهُمَا مُنَزَّلَتَيْنِ مِنَ السَّمَاءِ، وبَحَثَ فيه الحافظُ، وآلَ إلى أَنَّهُ لم يَكُنْ يُنْكِرُ قُرْآنِيَّتَهُ، ولَكِنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ كِتَابَتَهُ في المُصْحَفِ، ومَرَّ عَلَيْهِ بَحْرُ العلُومِ في شَرْحِ مُسَلَّمِ الثَّبُوتِ، تَحْتَ تَعْرِيفِ القُرْآنِ، وقالَ: إِنَّ سِلْسِلَةَ القِرَاءَةِ الَّتِي تَبْلُغُ اليَوْمَ إلى ابْنِ مَسْعُودٍ نَجِدُ فِيهَا المُعَوِّذَتَيْنِ بالاتفاقِ وحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يَؤُولَ في النَّقْلِ المَذْكُورِ). [فَيْضُ البَارِي: 4/261-262]
قالَ مُحَمَّد الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ (ت: 1393هـ): (واشتَهَرَ عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ في الصحيحِ أنَّه كانَ يُنكِرُ أنْ تكونَ المُعَوِّذَتَانِ مِنَ القُرآنِ، ويَقولُ: إنما أُمِرَ رسولُ اللهِ أنْ يَتَعَوَّذَ بهما، أيْ: ولم يُؤمَرْ بأنهما مِنَ القُرآنِ.
وقد أَجْمَعَ أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على القِراءةِ بهما في الصَّلاةِ، وكُتِبَا في مَصَاحِفِهم، وصَحَّ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ قَرَأَ بهما في صَلاَتِه). [التحرير والتنوير: 30/624-625]
قالَ عَطِيَّة مُحَمَّد سَالِم (ت: 1420هـ): (يَذْكُرُ المُفَسِّرُونَ، عن ابنِ مسعودٍ أنَّه كانَ يَرَاهُما مُعَوِّذَتَيْنِ مِن غيرِ القرآنِ، ولكنَّ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ قالَ: أَشْهَدُ أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ أخْبَرَنِي: ((أنَّ جِبريلَ عليه السلامُ قالَ له: {قُلْ أَعُوذُ برَب الفَلَقِ}. فقُلْتُها، وقالَ: {قُلْ أَعُوذُ برَب النَّاسِ} فقُلْتُها)). فنَحنُ نقولُ ما قالَه النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ. ذَكَرَه ابنُ كَثِيرٍ عن الإمامِ أحمدَ.
وذَكَرَ نحوَه عن البُخَارِيِّ ثُمَّ قالَ: ثُمَّ قد رَجَعَ عن قولِه إلى قولِ الجماعةِ؛ فإنَّ الصحابةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهم أثْبَتُوهُما في المَصاحِفِ الأَئِمَّةِ، ونَفَذُوهَا إلى سائرِ الآفاقِ.
ورُوِيَ عن الإمامِ أحمدَ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ قَرَأَ بهما في الصلاةِ، وساقَ عِدَّةَ طُرُقٍ في إثباتِ أنَّهما قُرآنٌ؛ ممَّا يَنْفِي أيَّ خِلافٍ بعدَ ذلك في إثباتِهما.
وقد اعْتَذَرَ القُرْطُبيُّ عن ابنِ مَسعودٍ بأنَّه لم يَسْمَعْهُما مِن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ على أنَّهما قُرآنٌ، وسَمِعَهما فظَنَّهُما أنَّهما دُعاءٌ مِن الأَدْعِيَةِ؛ كقولِه صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ: ((أَعُوذُ بكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)).
ولَمَّا بَلَغَه إثباتُهما عن رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّمَ رجَعَ إلى قولِ الجُمهورِ). [تتمة أضواء البيان: 9/337]


رد مع اقتباس