عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 22 ذو الحجة 1434هـ/26-10-2013م, 06:19 PM
أم أسماء باقيس أم أسماء باقيس غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Aug 2011
المشاركات: 529
افتراضي

مناظرة الإمام أحمد بن حنبلٍ لابن أبي دؤادٍ وأصحابه بحضرة المعتصم

قال صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيبانيّ (ت: 265هـ) : (- ذكر محنة أبي إسحاق المعتصم لأبي رحمة الله
سمعت أبا الفضل يقول: قال أبي رحمة الله: لما كان في شهر رمضان ليلة تسع عشرة خلت منه حولت من السجن إلى دار إسحاق بن إبراهيم وأنا مقيّد بقيد واحد يوجه إليّ كل يوم رجلين سماهما أبي.
قال أبو الفضل: وهما أحمد بن رباح وأبو شعيب الحجام يكلماني ويناظراني فإذا أرادا الانصراف دعي بقيد فقيدت فمكثت على هذه الحال ثلاثة أيّام وصار في رجلي أربعة أقياد.
فقال لي أحدهما في بعض الأيّام في كلام دار وسألته عن علم الله، فقال: علم الله مخلوق.
قلت: يا كافر كفرت.
فقال لي الرّسول الّذي كان يحضر معهم من قبل إسحاق: هذا رسول أمير المؤمنين.
قال: فقلت إن هذا قد كفر وكان صاحبه الّذي يجيء معه خارج فلمّا دخل قلت إن هذا زعم أن علم الله مخلوق فنظر إليه كالمنكر عليه قال ثمّ انصرف
قال أبي: وأسماء الله في القرآن والقرآن من علم الله فمن زعم أن القران مخلوق فهو كافر ومن زعم أن أسماء الله مخلوقة فقد كفر.
قال أبي: فلمّا كان ليلة الرّابعة بعد عشاء الأخرة وجه يعني المعتصم ببغا إلى إسحاق يأمره بحملي فأدخلت على إسحاق فقال لي: يا أحمد أنّها والله نفسك إنه قد حلف أن لا يقتلك بالسّيف وأن يضربك ضربا بعد ضرب وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشّمس أليس قال الله تعالى {إنّا جعلناه قرآنًا عربيا} أفيكون مجعولا إلّا مخلوقا.
قال أبي: فقلت فقد قال الله تعالى: {فجعلهم كعصف مأكول} أفخلقهم، قال فقال اذهبوا به.
قال أبي: فأنزلت إلى شاطئ دجلة فاحدرت إلى الموضع المعروف بباب البستان ومعي بغا الكبير ورسول من قبل إسحاق
فقال بغا لمحمد الحارس بالفارسيّة: ما تريدون من هذا، قال: يريدون منه أن يقول القرآن مخلوق.
فقال: ما أعرف شيئا من هذا إلّا قول لا إله إلّا الله وأن محمّدًا رسول الله وقرابة أمير المؤمنين من النّبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبي: فلمّا صرنا إلى الشط أخرجت من الزورق وحملت على دابّة والأقياد عليّ وما معي أحد يمسكني فجعلت أكاد أخر على وجهي حتّى انتهى بي إلى الدّار فأدخلت ثمّ خرج بي إلى حجرة فصيرت في بيت منها وأغلق عليّ الباب، واقعد عليه رجل وذلك في جوف اللّيل وليس في البيت سراج فاحتجت إلى الضّوء فمددت يدي أطلب شيئا فإذا بإناء فيه ماء وطشت فتهيأت للصّلاة وقمت أصلي، فلمّا أصبحت جاءني الرّسول فأخذ بيدي فأدخلني الدّار وإذا هو جالس وابن أبي دؤاد حاضر وقد جمع أصحابه والدّار غاصة بأهلها فلمّا دنوت منه سلمت: فقال أدنه أدنه فلم يزل يدنيني حتّى قربت منه ثمّ قال لي اجلس فجلست وقد أثقلتني الأقياد فلمّا مكثت هنيهة قلت: تأذن في الكلام.
قال: تكلم، قلت: إلى ما دعا إليه رسوله
قال: إلى شهادة أن لا اله إلّا الله
قال: ثمّ قلت إن جدك ابن عبّاس حكى أن وفد عبد القيس لما قدموا على النّبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان باللّه تعالى فقال: أتدرون ما الإيمان، قالوا: الله ورسوله أعلم
قال: شهادة أن لا اله إلّا الله وأن محمّدًا رسول الله واقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم
حدثنا أبو الفضل قال: حدثني أبي قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة قال: حدثني أبو حمزة قال: سمعت بن عبّاس رضي الله عنه قال: إن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان فذكر مثل ذلك
قال أبو الفضل قال أبي: فقال لي عند ذلك لولا أنّي وجدتك في يد من كان قبلي ما عرضت لك، ثمّ التفت إلى عبد الرّحمن بن إسحاق فقال له: يا عبد الرّحمن ألم آمرك أن ترفع المحنة.
قال أبي: فقلت في نفسي الله أكبر إن في هذا لفرجا للمسلمين، قال: ثمّ قال ناظروه وكلموه، ثمّ قال: يا عبد الرّحمن كلمه، فقال لي عبد الرّحمن: ما تقول في القرآن؟
قلت: ما تقول في علم الله. قال: فسكت.
قال أبي: فجعل يكلمني هذا وهذا فأرد على هذا ثمّ أقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله أقول به ذلك
فيقول لي بن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلّا كما في كتاب الله أو سنة رسوله
قال: فقلت له تأولت تأويلا فأنت أعلم وما تأولت ما يحبس عليه ويقيد عليه
قال فقال ابن أبي دؤاد: فهو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع يا أمير المؤمنين وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسلهم
قال فيقول لهم: ما تقولون
فيقولون: يا أمير المؤمنون هو ضال مضل مبتدع
قال: فلا يزالون يكلموني
وقال: وجعل صوتي يعلو على أصواتهم، فقال لي إنسان منهم: قال الله تعالى {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} فيكون محدثا إلّا مخلوقا.
قلت له: قال الله تعالى {ص والقرآن ذي الذّكر} فالذكر هو القرآن ويلك أو ليس فيها لا ألف ولا لام
قال فجعل بن سمّاعة لا يفهم ما أقول.
قال فجعل يقول لهم ما يقول، قال فقالوا إنه يقول كذا وكذا، قال فقال لي إنسان منهم: حديث خباب: (يا هنتاه تقرب إلى الله بما استطعت فانك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه)
قال: فقلت نعم هكذا هو
قال: فجعل بن أبي دؤاد ينظر إليه ويلحظه متغيظا عليه
قال أبي: فقال بعضهم: أليس قال خالق كل شيء
قال: قلت قد قال تدمر كل شيء فدمرت ألا ما أراد الله.
وقال: فقال لي بعضهم فيما يقول وذكر حديث عمران بن حصين: أن الله تبارك وتعالى كتب الذّكر، فقال: إن الله خلق الذّكر
قال: فقلت هذا خطأ حدثنا غير واحد كتب الذّكر
قال أبي: فكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد يتكلّم فلمّا قارب الزّوال قال لهم قوموا ثمّ حبس عبد الرّحمن بن إسحاق فخلا بي وبعبد الرّحمن فجعل يقول لي أما كنت تعرف صالح الرّشيديّ كان مؤدبي وكان في هذا الموضع جالس وأشار إلى ناحية من الدّار قال فتكلم وذكر القرآن فخالفني فأمرت به فسحب ووطئ، قال أبي ثمّ جعل يقول لي ما أعرفك ألم تكن تأتينا _
فقال له عبد الرّحمن: يا أمير المؤمنين أعرفه منذ ثلاثين سنة يرى طاعتك والحج والجهاد معك وهو ملازم لمنزله
قال: فجعل يقول والله إنه لفقيه وإنه لعالم وممّا يسرني أن يكون مثله معي يرد عني أهل الملل ولئن أجابني إلى شيء له فيه أدنى فرج لأطلقن عنه بيدي ولا وطأن عقبة ولا ركبن إليه بجندي
قال: ثمّ التفت إليّ فيقول ويحك يا أحمد ما ما تقول؟
قال: فأقول يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة ورسوله، فلمّا طال بنا المجلس ضجر فقام فرددت إلى الموضع الّذي كنت فيه ثمّ وجه إليّ برجلين سماهما وهما صاحب الشّافعي وغسان من أصحاب ابن أبي دؤاد يناظراني فيقيمان معي حتّى إذا حضر الإفطار وجه إلينا بمائدة عليها طعام فجعلا يأكلان وجعلت أتعلل حتّى رفع المائدة وأقاما إلى غد وفي خلال ذلك يجيء ابن أبي دؤاد فيقول لي يا أحمد يقول لك أمير المؤمنين ما تقول _
فأقول له: أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله حتّى أقول به، فقال لي بن أبي دؤاد: والله لقد كتب اسمك في الشّيعة فمحوته ولقد ساءني أخذهم إياك وإنه والله ليس هو السّيف إنه ضرب بعد ضرب ثمّ يقول لي ما تقول فأرد عليه نحوا ثمّ يأتي رسوله فيقول أين أحمد بن عمار _ أجب للرجل الّذي أنزلت في حجرته فيذهب ثمّ يعود فيقول يقول لك أمير المؤمنين ما تقول _ فأرد عليه نحوا ممّا رددت على ابن أبي دؤاد فلا يزال رسله تأتي قال أحمد بن عمار وهو يختلف فيما بيني وبينه ويقول يقول أمير المؤمنين أجبني حتّى اجيء فأطلق عنك بيدي
قال فلمّا كان في اليوم الثّاني أدخلت عليه.
فقال: ناظروه كلموه
قال: فجعلوا يتكلّمون هذا من ها هنا وهذا من ها هنا فأرد على هذا وهذا فإذا جاؤوا بشيء من الكلام ممّا ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا فيه خبر ولا أثر قلت ما أدري ما هذا _
فيقولون: يا أمير المؤمنين إذا توجّهت عليه الحجّة علينا وثب وإذا كلمناه بشيء يقول لا أدري ما هذا _
قال: فيقول ناظروه
قال: ثمّ يقول يا أحمد إنّي عليك شفيق
فقال رجل منهم: أراك تذكر الحديث وتنتحله
قال: فقلت له ما تقول في قول الله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذّكر مثل حظّ الأنثيين}
فقال: خص الله بها المؤمنين
قال: فقلت له ما تقول إن كان قاتل أو كان قاتلا عبدا يهوديّ أو نصرانيّ
قال: فسكت
قال أبي: وإنما احتججت عليه بهذا لأنهم كانوا يحتجون عليّ بظاهر القرآن وبقوله أراك تنتحل الحديث
وكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي داود فيقول يا أمير أمير المؤمنين والله لئن أجابك لهو أحب إليّ من مائة ألف دينار ومائة ألف دينار فيعيد ما شاء الله من ذلك ثمّ أمرهم بعد ذلك بالقيام وخلى بي وبعبد الرّحمن فيدور بيننا كلام كثير وفي خلال ذلك يقول لي تدعو حمد بن أبي دؤاد فأقول ذلك إليك فيوجه إليه فيجيء فيتكلم فلمّا طال بنا المجلس قام ورددت إلى الموضع الّذي كنت فيه وجاءني الرّجلان اللّذان كانا عندي بالأمس فجعلا يتكلمان فدار بيننا كلام كثير فلمّا كان وقت الإفطار جيء بطعام على نحو ممّا أتى به في أول ليلة فافطر وتعللت وجعلت رسله تأتي أحمد بن عمار فيمضي إليه ويأتيني برسالته على نحو ممّا كان أول ليلة وجاءني ابن أبي دؤاد فقال إنه قد حلف أن يضربك ضربا بعد ضرب وأن يحبسك في موضع لا ترى فيه الشّمس.
فقلت له: فما أصنع
حتّى إذا كدت أن اصبح قلت لخليق أن يحدث من أمري في هذا اليوم شيء وقد كنت أخرجت تكتي من سراويلي فشددت بها الأقياد احملها بها إذا توجّهت إليه فقلت لبعض من كان مع الموكلين ارتدّ لي خيطا فجاءني بخيط فشددت الأقياد وأعدت التكة في السّراويل ولبسته كراهية أن يحدث شيئا من أمري فاتعرى فلمّا كان في اليوم الثّالث أدخلت عليه والقوم حضور فجعلت أدخل من دار إلى دار وقوم معهم السيوف وقوم معهم السّياط وغير ذلك من الزي والسّلاح وقد حشرت الدّار الجند ولم يكن في اليومين الماضيين كثير أحد من هؤلاء
حتّى إذا صرت إليه قال: ناظروه كلموه، فعادوا بمثل مناظرتهم ودار بيننا كلام كثير حتّى إذا كان في الوقت الّذي يخلو فيه فجاءني ثمّ اجتمعوا فشاورهم ومن ثمّ نحاهم ودعاني فخلا بي وبعبد الرّحمن فقال لي: ويحل يا أحمد أنا عليك والله شفيق وإني لأشفق عليك مثل شفقتي على هارون ابني فأجبني،
فقلت: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلمّا ضجر وطال المجلس قال لي: عليك لعنة الله لقد كنت طمعت فيك خذوه فاسحبوه
قال: فأخذت وسحبت ثمّ خلعت ثمّ قال العقابين والسياط فجيء بالعقابين والسياط
قال أبي: وقد كان صار إلى شعرة أو شعرتان من شعر النّبي صلى الله عليه وسلم فصررتهما كم قميصي فنظر إسحاق بن إبراهيم إلى الصرة في كم قميصي فوجه إليّ ما هذا مصر ورنى كمك
فقلت: شعر من شعر النّبي صلى الله عليه وسلم وسعى بعض القوم إلى القميص ليحرقه في وقت ما أقمت بين العقابين
فقال لهم: يعني المعتصم - لا تحرقوه انزعوه عنه
قال: إنّي ظننت أنه درئ عن القميص الحرق بسبب الشّعر الّذي كان فيه ثمّ صيرت بين العقابين وشددت يدي وجيء بكرسي فجلس عليه وابن أبي دؤاد قام على رأسه والنّاس أجمعون قيام ممّن حضر، فقال له إنسان ممّن شدني: خذ بأيّ الخشبتين بيدك وشد عليهما فلم أفهم ما قال فتخالفت يداي لما شدت ولم أمسك الخشبتين.
قال أبو الفضل ولم يزل أبي رحمة الله عليه يتوجع منهما إلى أن توفّي.
ثمّ قال للجلادين: تقدموا فنظر إلى السّياط، فقال ائتوا بغيرها ثمّ قال لهم تقدموا
فقال لأحدهم: أدنه اوجع قطع الله يدك
فتقدم فضربني سوطين ثمّ تنحى ثمّ قال لآخر أدنه أوجع شدّ قطع الله يدك ثمّ تقدم فضربني سوطين ثمّ تنحى
فلم يزل يدعو واحدًا بعد واحد يضربني سوطين ويتنحى ثمّ قام حتّى جاءني وهم محدقون به
فقال: ويحك يا أحمد تقتل نفسك
ويحك أجبني حتّى أطلق عنك بيدي
فجعل بعضهم يقول لي ويلك أمامك على رأسك قائم
قال لي عجيف فنخسني بقائم سيفه ويقول: تريد أن تغلب هؤلاء كلهم، وجعل إسحاق ابن إبراهيم يقول ويحك الخليفة على رأسك قائم
قال ثمّ يقول بعضهم يا أمير المؤمنين دمه في عنقي قال ثمّ رجع فجلس على الكرسيّ ثمّ قال للجلاد أدنه شدّ قطع الله يدك.
ثمّ لم يزل يدعو بجلاد بعد جلاد فيضربني بسوطين ويتنحى وهو يقول شدّ قطع الله يدك
ثمّ قام إلى الثّانية فجعل يقول: يا أحمد أجبني ،فجعل عبد الرّحمن بن إسحاق يقول من صنع بنفسه من أصحابك في هذا الأمر ما صنعت هذا يحيى بن معين وهذا أبو خيثمة وابن أبي إسرائيل وجعل يعد على من أجاب
قال وجعل وهو يقول ويحك أجبني
قال: فجعلت أقول نحو ما كنت أقول لهم
قال فرجع فجلس ثمّ جعل يقول للجلاد شدّ قطع الله يدك
قال أبي فذهب عقلي فما عقلت إلّا وأنا في حجرة مطلق عني الأقياد وقال لي إنسان ممّن حضر أنا اكببناك على وجهك وطرحنا على ظهرك بارية ودسناك
قال أبي: فقلت ما شعرت بذاك
قال: فجاؤني بسويق فقالوا اشرب فقلت لا أفطر فجيء به إلى دار إسحاق بن إبراهيم
قال أبي: فنودي بصلاة الظّهر فصلينا الظّهر
وقال ابن سمّاعة: صليت والدّم يسيل من ضربك
فقلت: به صلى عمر وجرحه يثغب دمًا فسكت.
ثمّ خلى عنة فصار إلى المنزل ووجه إليه الرجل من السجن ممّن يبصر الضّرب والجراحات يعالج منه فنظر إليه فقال: قال لنا والله لقد رأيت منه ضرب السيوط ما رأيت ضربا أشد من هذا لقد جر عليه من خلفه ومن قدامه ثمّ أدخل ميلًا في بعض تلك الجراحات
فقال: لم ينفل فجعل يأتيه فيعالجه وقد كان أصاب وجهه غير ضربة ثمّ مكث يعالجه ما شاء الله، ثمّ قال له: إن هذا شيء أريد أن أقطعه فجاء بحديدة فجعل يعلق اللّحم بها ويقطعه بسكين معه وهو صابر يحمد الله لذلك فبرأ منه ولم يزل يتوجع من مواضع منه وكان أثر الضّرب بين في ظهره إلى أن توفّي رحمة الله علية.
سمعت أبي يقول والله لقد أعطيت المجهود من نفسي ولوددت أن أنجو من هذا الأمر كفافا لا عليّ ولا لي
قال أبو الفضل أخبرني أحد الرجلين اللّذين كانا معه وقد كان هذا الرجل صاحب حديث قد سمع ونظر ثمّ جاءني بعد فقال: يا ابن أخي رحمة الله على أبي عبد الله والله ما رأيت أحدا - يعني - يشبهه
لقد جعلت أقول له في وقت ما يوجه إلينا الطّعام: يا أبا عبد الله أنت صائم وأنت في موضع تقية ولقد عطش فقال لصاحب الشّراب ناولني فناوله قدحا فيه ماء ثلج فأخذه فنظر إليه هنيهة ثمّ رده عليه
قال فجعلت أعجب من صبره على الجوع والعطش وما هو فيه من الهول.
قال أبو الفضل قد كنت التمس وأحتال أن أوصل إليه طعاما أو رغيفا أو رغيفين في هذه الأيّام فلم أقدر على ذلك
وأخبرني رجل حضره قال: فقدته في هذه الأيّام الثّلاثة وهم يناظرونه ويكلمونه فما لحن ولا ظننت أن يكون أحد في مثل شجاعته وشدّة قلبه. قال أبو الفضل دخلت على أبي - رحمة الله عليه - يومًا وقلت له بلغني أن رجلا جاء إلى فضل الأنماطي
فقال اجعلني في حل إذ لم أقم بنصرتك فقال فضل لا جعلت أحدا في حل، فتبسّم أبي وسكت فلمّا كان بعد أيّام مررت بهذه الآية: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} فنظرت في تفسيرها فإذا هو ما حدثني به هاشم بن القاسم قال: حدثنا المبارك قال: حدثني من سمع الحسن يقول: إذا جثت الأمم بين يدي الله تبارك وتعالى يوم القيامة نودوا ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلّا من عفا في الدّنيا
قال أبي: فجعلت الميّت في حل من ضربه إيّاي ثمّ جعل يقول وما على رجل إلّا يعذب الله بسببه أحدا.). [سيرة الإمام أحمد: 52- 65] (م)
قال أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي (ت: 387هـ): (باب ذكر شيءٍ من محنة أبي عبد اللّه أحمد بن محمّد بن حنبلٍ رحمه اللّه وحجاجه لابن أبي دؤادٍ وأصحابه بحضرة المعتصم

- حدّثنا أبو حفصٍ عمر بن محمّد بن رجاءٍ، قال: حدّثنا أبو نصرٍ عصمة بن أبي عصمة، قال: حدّثنا أبو العبّاس الفضل بن زيادٍ، قال: حدّثنا أبو طالبٍ أحمد بن حميدٍ، قال: قال لي أحمد بن حنبلٍ: يا أبا طالبٍ " ليس شيءٌ أشدّ عليهم ممّا أدخلت عليهم حين ناظروني، قلت لهم: علم اللّه مخلوقٌ؟ قالوا: لا.
قلت: فإنّ علم اللّه هو القرآن. قال اللّه عزّ وجلّ: {فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم}[آل عمران: 61] وقال: {ولئن اتّبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنّك إذًا لمن الظّالمين} [البقرة: 145] هذا في القرآن في غير موضعٍ من العلم "
- وحدّثني أبي رحمه اللّه، قال: حدّثنا أبو جعفرٍ محمّد بن الحسن بن بدينا، قال: حدّثنا صالح بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال:
قال لهم يعني: المعتصم: كلّموه، فقال لي عبد الرّحمن: «ما تقول في القرآن»، فقلت: ما تقول في علم اللّه، فسكت.
قال:فقال لي بعضهم: قال اللّه عزّ وجلّ {اللّه خالق كلّ شيءٍ} [الرعد: 16] فالقرآن أليس هو شيئًا؟
فقلت: قال اللّه عزّ وجلّ {تدمّر كلّ شيءٍ} [الأحقاف: 25]، فهل دمّرت إلّا ما أنت عليه.
فقال لي بعضهم: {ما يأتيهم من ذكرٍ من ربّهم محدثٍ} [الأنبياء: 2] أفيكون محدثٌ إلّا مخلوقًا؟
قال: فقلت لهم: قال اللّه عزّ وجلّ {ص والقرآن ذي الذّكر} [ص: 1]، فالذّكر هو القرآن، وتلك ليس فيها ألفٌ ولا لامٌ "
- حدّثنا أبو عمرٍو حمزة بن القاسم قال: حدّثنا حنبلٌ، قال: حدّثنا أبو عبد اللّه، بنحو هذه القصّة قال: فقلت لهم: هذا نكرةٌ، «فقد يكون على جميع الذّكر، والذّكر معرفةٌ وهو القرآن»
- وأخبرني أبو عمر عثمان بن عمر الدّرّاج، قال: حدّثنا أبو بكرٍ أحمد بن محمّد بن هارون الخلّال، قال: كتب إليّ أحمد بن الحسين الورّاق من الموصل، قال: حدّثنا بكر بن محمّد بن الحكم، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه، قال: سألته عمّا احتجّ به حين دخل على هؤلاء، فقال: " احتجّوا عليّ بهذه الآية {ما يأتيهم من ذكرٍ من ربّهم محدثٍ} [الأنبياء: 2]، أي: أنّ القرآن محدثٌ، فاحتججت عليهم بهذه الآية {ص والقرآن ذي الذّكر} [ص: 1]، قلت: فهو سمّاه الذّكر، وقلت: {ما يأتيهم من ذكرٍ من ربّهم محدثٍ} [الأنبياء: 2]، فهذا يمكن أن يكون غير القرآن محدثًا، ولكن {ص والقرآن ذي الذّكر} [ص: 1]، فهو القرآن، ليس هو محدثًاقال: فبهذا احتججت عليهم.
واحتجّوا عليّ: ما خلق اللّه من سماءٍ ولا أرضٍ ولا كذا أعظم من آية الكرسيّ، قال: " فقلت له: إنّه لم يجعل آية الكرسيّ مخلوقةً، إنّما هذا مثلٌ ضربه، أي: هي أعظم من أن تخلق، ولو كانت مخلوقةً لكانت السّماء أعظم منها، أي: فليست بمخلوقةٍ.
قال: واحتجّوا عليّ بقوله: {اللّه خالق كلّ شيءٍ} [الرعد: 16]، فقلت: {ومن كلّ شيءٍ خلقنا زوجين} [الذاريات: 49]، فخلق من القرآن زوجين {وأوتيت من كلّ شيءٍ} [النمل: 23] فأوتيت القرآن؟ فأوتيت النّبوّة أوتيت كذا وكذا؟ وقال اللّه تعالى {تدمّر كلّ شيءٍ} [الأحقاف: 25]، فدمّرت كلّ شيءٍ، إنّما دمّرت ما أراد اللّه من شيءٍ
" قال: وقال لي ابن أبي دؤادٍ: أين تجد أنّ القرآن كلام اللّه؟ قلت: " {اتل ما أوحي إليك من كتاب ربّك لا مبدّل لكلماته} [الكهف: 27] " فسكت. وقلت له: «بين يدي الرّئيس»، وجرى كلامٌ بيني وبينه، فقلت له: " اجتمعت أنا وأنت أنّه كلامٌ، وقلت: إنّه مخلوقٌ، فهاتوا الحجّة من كتاب اللّه أو من السّنّة "، فما أنكر ابن أبي دؤادٍ ولا أصحابه أنّه كلامٌ. قال: وكانوا يكرهون أن يظهروا أنّه ليس بكلامٍ فيشنّع عليهم.
- حدّثنا حمزة بن القاسم، قال: حدّثنا حنبلٌ، قال: قال أبو عبد اللّه: وكان إذا كلّمني ابن أبي دؤادٍ لم أجبه ولم ألتفت إلى كلامه، فإذا كلّمني أبو إسحاق، ألنت له القول والكلام، قال: " فقال لي أبو إسحاق، لئن أجبتني لآتينّك في حشمي ومواليّ، ولأطأنّ بساطك، ولا نوهن باسمك يا أحمد اتّق اللّه في نفسك، يا أحمد اللّه اللّه، قال أبو عبد اللّه: «وكان لا يعلم ولا يعرف، ويظنّ أنّ القول قولهم»، فيقول: يا أحمد إنّي عليك شفيقٌ، فقلت: «يا أمير المؤمنين هذا القرآن وأحاديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأخباره، فما وضح من حجّةٍ صرت إليها» .
قال: فيتكلّم هذا وهذا. قال: فقال ابن أبي دؤادٍ لمّا انقطع وانقطع أصحابه: والّذي لا إله إلّا هو، لئن أجابك لهو أحبّ من مائة ألفٍ ومائة ألفٍ عددًا مرارًا كثيرةً.
قال أبو عبد اللّه: " وكان فيما احتججت عليهم يومئذٍ، قلت لهم: قال اللّه عزّ وجلّ: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54]، وذلك أنّهم قالوا لي: أليس كلّ ما دون اللّه مخلوقٌ؟
فقلت لهم: فرّق بين الخلق والأمر، فما دون اللّه مخلوقٌ، فأمّا القرآن فكلامه ليس بمخلوقٍ. " فقالوا: قال اللّه عزّ وجلّ {إنّما قولنا لشيءٍ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40]،
فقلت لهم: " قال اللّه تعالى {أتى أمر اللّه} [النحل: 1]، فأمره كلامه واستطاعته ليس بمخلوقٍ، فلا تضربوا كتاب اللّه بعضه ببعضٍ، فقد نهينا عن ذلك ".
- قال حنبلٌ: وقال أبو عبد اللّه: " واحتججت عليهم فقلت: زعمتم أنّ الأخبار تردّونها باختلاف أسانيدها، وما يدخلها من الوهم والضّعف، فهذا القرآن نحن وأنتم مجمعون عليه وليس بين أهل القبلة فيه خلافٌ، وهو الإجماع. قال اللّه عزّ وجلّ في كتابه تصديقًا منه لقول إبراهيم غير دافعٍ لمقالته ولا لما حكى عنه فقال: {إذ قال إبراهيم لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئًا}، فذمّ إبراهيم أباه أن عبد ما لا يسمع ولا يبصر، فهذا منكرٌ عندكم ". فقالوا: شبهٌ شبهٌ يا أمير المؤمنين.
فقلت: " أليس هذا القرآن؟ هذا منكرٌ عندكم مدفوعٌ، وهذه قصّة موسى، قال اللّه عزّ وجلّ لموسى في كتابه حكايةً عن نفسه {وكلّم اللّه موسى} [النساء: 164]، فأثبت اللّه الكلام لموسى كرامةً منه لموسى، ثمّ قال: يا موسى {إنّني أنا اللّه لا إله إلّا أنا فاعبدني} [طه: 14]، فتنكرون هذا، فيجوز أن يكون هذا الياء راجعةً تردّ على غير اللّه، أو يكون مخلوقٌ يدّعي الرّبوبيّة؟ وهل يجوز أن يقول هذا غير اللّه؟ وقال له {يا موسى لا تخف} [النمل: 10]، {إنّي أنا ربّك فاخلع نعليك} [طه: 12] " فهذا كتاب اللّه يا أمير المؤمنين، فيجوز أن يقول لموسى: أنا ربّك مخلوقٌ، وموسى كان يعبد مخلوقًا، ومضى إلى فرعون برسالة مخلوقٍ يا أمير المؤمنين؟
قال: فأمسكوا، وأداروا بينهم كلامًا لم أفهمه. قال أبو عبد اللّه: «والقوم يدفعون هذا وينكرونه، ما رأيت أحدًا طلب الكلام واشتهاه إلّا أخرجه إلى أمرٍ عظيمٍ، لقد تكلّموا بكلامٍ، واحتجّوا بشيءٍ ما يقوى قلبي ولا ينطق لساني أن أحكيه، والقوم يرجعون إلى التّعطيل في أقاويلهم، وينكرون الرّؤية والآثار كلّها، ما ظننت أنّه هكذا حتّى سمعت مقالاتهم»
قال أبو عبد اللّه: " قيل لي يومئذٍ: كان اللّه ولا قرآن. فقلت له: كان اللّه ولا علم؟ فأمسك، ولو زعم غير ذلك أنّ اللّه كان ولا علم، لكفر باللّه "
قال أبو عبد اللّه: " وقلت له يعني: لابن الحجّام: يا ويلك، لا يعلم حتّى يكون فعلمه وعلمك واحدٌ، كفرت باللّه عالم السّرّ وأخفى، عالم الغيب والشّهادة، علّام الغيوب، ويلك، يكون علمه مثل علمك، تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور "
قال أبو عبد اللّه: «فهذه أليست مقالته؟» قال أبو عبد اللّه: " وهذا هو الكفر باللّه، ما ظننت أنّ القوم هكذا. لقد جعل برغوثٌ يقول يومئذٍ: الجسم وكذا وكلامٌ لا أفهمه، فقلت: لا أعرف ولا أدري ما هذا، إلّا أنّني أعلم أنّه أحدٌ صمدٌ، لا شبه له ولا عدل، وهو كما وصف نفسه، فيسكت عنّي "
قال: فقال لي شعيبٌ: قال اللّه {إنّا جعلناه قرآنًا عربيًّا} [الزخرف: 3]، أفليس كلّ مجعولٍ مخلوقًا؟ قلت: " فقد قال اللّه {فجعلهم جذاذًا} [الأنبياء: 58] أفخلقهم؟ {فجعلهم كعصفٍ مأكولٍ} [الفيل: 5]، أفخلقهم؟ أفكلّ مجعولٍ مخلوقٌ؟ كيف يكون مخلوقًا وقد كان قبل أن يخلق الجعل، قال: فأمسك.
- وأخبرني أبو عمرٍو عثمان بن عمر قال: حدّثنا أبو بكرٍ أحمد بن محمّد بن هارون، قال: أخبرني عليّ بن أحمد أبو غالبٍ، قال: حدّثني محمّد بن يوسف المروزيّ المعروف بابن سريّة، قال: دخلت على أبي عبد اللّه والجبائر على ظهره، قال لي: يا أبا جعفرٍ أشاط القوم بدمي، فقالوا له يعني المعتصم: يا أمير المؤمنين سله عن القرآن، أشيءٌ هو أو غير شيءٍ؟ قال: فقال لي المعتصم: يا أحمد أجبهم.
قال: فقلت له: " يا أمير المؤمنين إنّ هؤلاء لا علم لهم بالقرآن، ولا بالنّاسخ والمنسوخ، ولا بالعامّ والخاصّ، قد قال اللّه عزّ وجلّ في قصّة موسى {وكتبنا له في الألواح من كلّ شيءٍ} [الأعراف: 145]، فما كتب له القرآنوقال في قصّة سبأٍ {وأوتيت من كلّ شيءٍ} [النمل: 23] وما أوتيت القرآن، فأخرسوا.
- حدّثني أبي رحمه اللّه، قال: حدّثنا أبو جعفرٍ محمّد بن الحسن بن بدينا قال: حدّثنا صالح بن أحمد، أنّ أباه، قال: قال لي رجلٌ منهم: أراك تذكر الحديث وتنتحله.
قال: فقلت له: ما تقول في قول اللّه عزّ وجلّ {يوصيكم اللّه في أولادكم للذّكر مثل حظّ الأنثيين} [النساء: 11]، فقال: " خصّ اللّه بها المؤمنين. قال: قلت: فما تقول إن كان قاتلًا أو عبدًا أو يهوديًّا أو نصرانيًّا؟ فسكت "
- وأخبرني أبو عمرٍو عثمان بن عمر، قال: حدّثنا أبو بكرٍ أحمد بن محمّد بن هارون الخلّال، قال: أخبرنا محمّد بن جعفرٍ، قال: سمعت هرثمة بن خالدٍ، قرابة إسحاق بن داود وكنّا جميعًا أنا وإسحاق، قال: قال أحمد بن حنبلٍ: قال لي ابن أبي دؤادٍ، وهم يناظروني، وقد كنت قلت لهم: أوجدوني ما تقولون في كتاب اللّه أو في سنّة رسول اللّه: أوجدني أنت يا ابن حنبلٍ في علمك أنّ هذا البساط الّذي نحن عليه مخلوقٌ؟ قال: قلت: نعم، قال اللّه عزّ وجلّ {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حينٍ} [النحل: 80] قال: فكأنّي ألقمته حجرًا "
- حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الشّيرجيّ الخصيب، قال: حدّثنا أبو بكرٍ محمّد بن الحجّاج المرّوذيّ، قال: قال لي أبو عبد اللّه: «مكثت ثلاثة أيّامٍ يناظرونني» .
قلت: فكان يدخل إليك بالطّعام؟
قال: «لا» .
قلت: فكنت تأكل شيئًا؟
قال: «مكثت يومين لا أطعم، ومكثت يومين لا أشرب، ومكثت ثلاثة أيّامٍ يناظرونني بين يديه، يعني الرّأس أبا إسحاق، وقد جمعوا عليّ نحوًا من خمسين بصريًّا وغير ذلك يعني من المناظرين، وفيهم الشّافعيّ الأعمى»،
فقلت له: كلّهم يناظرونك باللّيل؟
قال: " نعم كلّ ليلةٍ، وكان فيهم الغلام غسّان، يعني قاضي الكوفة، وقال: إنّما كان الأمر أمر ابن أبي دؤادٍ "،
قلت له: كانوا كلّهم يكلّمونك؟
قال: " نعم، هذا يتكلّم من هاهنا، وهذا يحتجّ من هاهنا، وهذا يتأوّل على آيةٍ وعجيفٌ عن يمينه، وإسحاق عن يساره قائمٌ، ونحن بين يديه، يعني أبا إسحاق، فسألني غير مرّةٍ، فقلت: أوجدني في كتابٍ أو سنّةٍ، فقال لي إسحاق وعجيفٌ: وأنت لا تقول إلّا ما كان في كتابٍ أو سنّةٍ؟، قلت لهم: ناظروني في الفقه أو في العلم، فقال عجيفٌ: أنت وحدك تريد أن تغلب هؤلاء الخلق كلّهم، ولزّني بقائمة سيفه، وأشار أبو عبد اللّه إلى عنقه يريني بيده هكذا، ثمّ قال إسحاق بن إبراهيم: وأنت لا تقول إلّا ما كان في كتابٍ أو سنّةٍ، ولكزني بقائمة سيفه، وأومأ أبو عبد اللّه إلى حلقه "
قلت: فكان أبو إسحاق يتكلّم؟
قال: " لا، إلّا ساكتٌ، إنّما كان الأمر أمر ابن أبي دؤادٍ، ثمّ قال أبو عبد اللّه: «لم يكن فيهم أحدٌ أرقّ عليّ من أبي إسحاق مع أنّه لم يكن فيهم رشيدٌ»
قال: وسمعت أبا عبد اللّه يقول: " لمّا قلت: لا أتكلّم إلّا ما كان في كتابٍ أو سنّةٍ احتجّ الأعمى الشّافعيّ بحديث عمران بن حصينٍ «خلق اللّه الذّكر» . قال: فقلت له: هذا خطأٌ رواه الثّوريّ وأبو معاوية، وإنّما وهم فيه محمّد بن عبيدٍ، وقد نهيته أن يحدّث به.
قال: فقال أبو إسحاق: أراه فقيهًا.
- وأخبرني أبو عمرٍو عثمان بن عمر، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن هارون، قال: وكتب إليّ أحمد بن الحسين الورّاق من الموصل قال: حدّثنا بكر بن محمّدٍ، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه، قال: " واجتمع عليّ خلقٌ من الخلق، وأنا بينهم مثل الأسير، وتلك القيود قد أثقلتني، قال: وكان يلغطون ويضحكون، وكلّ واحدٍ منهم ينزع آيةً، وآخر يجئ بحديثٍ قال: والرّئيس يسكتهم، قال: فكان هذا يقول شيئًا، وهذا يقول شيئًا، وهذا يقول شيئًا، فقال لي واحدٌ منهم: أليس يروى عن أبي السّليل، عن عبد اللّه بن رباحٍ، عن أبي كعبٍ؟
فقلت: «وأنت ما يدريك من أبو السّليل؟ ومن عبد اللّه بن رباحٍ؟ وما لك ولهذا؟» قال: فسكت وقال لي آخر: ما خلق اللّه من سماءٍ ولا أرضٍ أعظم من آية الكرسيّ.
فقلت: إنّما هذا مثلٌ فسكت. واحتجّ عليّ آخر بحديث الطّنافسيّ، عن الأعمش، عن جامع حديث عمران بن حصينٍ أنّ اللّه خلق الذّكر.
فقلت: هذا وهم فيه يعني الطّنافسيّ، وأبو معاوية يقول: كتب اللّه الذّكر. قال: وكنت أصيح عليهم، وأرفع صوتي، وكان أهون عليّ من كذا وكذا، ذهب اللّه بالرّعب من قلبي، حتّى لم أكن أبالي بهم ولا أهابهم، فلمّا يئسوا منّي واجتمعوا عليّ، قال لي عبد الرّحمن: ما رأيت مثلك قطّ، من صنع ما صنعت؟
قلت له: القرآن، قد اجتمعت أنا وأنتم على أنّه كلام اللّه، وزعمتم أنّه مخلوقٌ، فهاتوه من كتابٍ أو سنّةٍ، فقال لي ابن أبي دؤادٍ: وأنت تجد في كلّ شيءٍ كتابًا وسنّةً؟ فلمّا يئس منّي قال: خذوه، وأدخل الأتراك أيديهم في أقيادي فجرّوني إلى موضعٍ بعيدٍ، وذكر قصّة الضّرب.
- وأخبرني أبو عمرٍو عثمان بن عمر قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن هارون، قال: وأخبرنا أحمد بن محمّد بن عبد الحميد الكوفيّ، قال: سمعت عبيد بن محمّدٍ القصير، قال: سمعت من حضر مجلس أبي إسحاق يوم ضرب أحمد بن حنبلٍ، فقال له أبو إسحاق: يا أحمد إن كنت تخشى من هؤلاء النّابتة جئتك أنا في جيشي إلى بيتك حتّى أسمع منك الحديث؟ قال: فقال له: «يا أمير المؤمنين خذ في غير هذا واسأل عن العلم واسأل عن الفقه، أيّ شيءٍ تسأل عن هذا؟»
قال عبيد بن محمّدٍ: وسمعت من حضر مجلس أبي إسحاق يوم ضرب أحمد بن حنبلٍ قال: " التفت إليه المعتصم، فقال: تعرف هذا؟ قال: لا. قال تعرف هذا؟ قال: لا. فالتفت أحمد فوقعت عينه على ابن أبي دؤادٍ فحوّل وجهه، فكأنّما وقعت عينه على قردٍ، قال: تعرف هذا يعني: عبد الرّحمن؟ قال: نعم. قال: قل: اللّه ربّ القرآن؟ قال: القرآن كلام اللّه. قال: فشهد ابن سماعة وقتلته، فقالوا: قد كفر، اقتله ودمه في أعناقنا "
- وحدّثني أبي قال: حدّثنا أبو جعفر بن بدينا، أنّ صالح بن أحمد، حدّثهم قال: أخبرني رجلٌ حضره قال: «تفقّدته في هذه الأيّام الثّلاثة وهم يناظرونه ويكلّمونه، فما لحن في كلمةٍ، وما ظننت أنّ أحدًا يكون في شجاعته وشدّة قلبه»
- وحدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الشّيرجيّ، قال: حدّثنا أبو بكرٍ المرّوذيّ، قال: كان أبو عبد اللّه لا يلحن في الكلام، قال: " وأخبرت أنّه لمّا نوظر بين يدي الخليفة لم يتعلّق عليه بلحنٍ، حتّى حكي أنّه جعل يقول: فكيف أقول ما لم يقل؟ "
- قال أبو بكرٍ المرّوذيّ: وقال لي ابن أبي حسّان الورّاق: «طلب منّي أبو عبد اللّه وهو في السّجن كتاب حمزة في العربيّة، فدفعته إليه، فنظر فيه قبل أن يمتحن»
- أخبرني أبو عمرٍو عثمان بن عمر قال: حدّثنا أبو بكرٍ أحمد بن محمّد بن هارون، وأخبرنا محمّد بن عليٍّ السّمسار قال: " رأيت شيخًا قد جاء إلى أبي عبد اللّه وهو مريضٌ، فجعل يبكي وقال إنّه ممّن حضر ضربه، فلمّا خرج سمعته يقول: واللّه، لقد كلّمت ثلاثةً من الخلفاء ووطئت بسطهم ما هبتهم وما دخلني من الرّعب ما دخلني منه وهو مسجًّى، واللّه لقد رأيته يناظر وهو عالٍ عليهم قويّ القلب، والمعتصم يكلّمه ويقول: أجبني إلى ما أسألك، أو شيءٌ منه، فيقول: لا أقول إلّا ما في كتاب اللّه أو سنّة رسول اللّه، فيقول له: لا تقول: القرآن مخلوقٌ؟ فيقول له: وكيف أقول ما لم يقل؟ . "
قال الرّجل: فقلت لرجلٍ كان إلى جانبي: ما تراه ما يرهب ما هو فيه، ولا يلحن في مثل هذا الوقت، والسّياط والعقابين بين يديه، وليس في يده منه شيءٌ.
- حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الشّيرجيّ، قال: حدّثنا المرّوذيّ، قال: سمعت أبا عبد اللّه، يقول: «لمّا ضربت كانا جلّادين يضرب كلّ واحدٍ منهما سوطًا ويتنحّى ويضرب الآخر سوطًا ويتنحّى» . قلت: قام إليك أبو إسحاق مرّتين؟ قال: " أمّا مرّةً، فأحفظ أنّه خرج إلى الرّواق، وقال: خذوه، فأخذوا بضبعيّ وجرّوني نحوًا من مائة ذراعٍ إلى العقابين فخلّعوني، وأنا أجد ذلك في كتفيّ إلى السّاعة، وكان عليّ شعرٌ كثيرٌ، وانقطعت تكّتي، فقلت: الآن تسود، يعني: وهو بينهم، قلت: من ناولك خيطًا في ذلك الموضع؟ قال: لا أدري، فشددت سراويلي، وأخبرت أنّهم خلعوا القميص ولم يخرقوه، وكان في كمّه شعر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم "
- قال المرّوذيّ: وبلغني عن يعقوب الفرس، قال: سمعت عيسى الفتّاح، يقول: قال لي أبو عبد اللّه: «يا أبا موسى ما رأيت هؤلاء قطّ، كان أشدّ عليّ من تلفّت الجلّاد، ثمّ يثب عليّ»
- قال: وسمعت الفلّاس، يقول: سمعت عيسى الفتّاح، قال: قال لي أبو عبد اللّه: قال أبو إسحاق: «ما رأيت ابن أنثى أشجع من هذا الرّجل»
- قال المرّوذيّ: وسمعت عيسى الجلّاء، يقول: رأى رجلٌ في النّوم قائلًا يقول، وإذا جماعةٌ ناحيةٌ فجعل يقول: {فإن يكفر بها هؤلاء} [الأنعام: 89] وأشار بيده إلى ابن أبي دؤادٍ وأصحابه {فقد وكّلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين} [الأنعام: 89] أحمد بن حنبلٍ وأصحابه "
- قال المرّوذيّ: وأخبرت عن زياد بن أبي بادويه القصريّ، قال: سمعت الحمّانيّ، يقول: " رأيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في المنام قد جاء فأخذ بعضادتيّ، فقال: نجا النّاجون، وهلك الهالكون، فقلت: يا رسول اللّه بأبي أنت وأمّي، من النّاجون؟ قال: «أحمد بن حنبلٍ وأصحابه»
- قال المرّوذيّ: وبلغني عن امرأةٍ رأوها في النّوم وقد شاب صدغها، فقيل لها: ما هذا الشّيب؟ فقالت: «لمّا ضرب أحمد بن حنبلٍ زفرت
جهنّم زفرةً لم يبق منّا أحدٌ إلّا شاب»
- وحدّثنا أبو إسحاق الشّيرجيّ، قال: حدّثنا المرّوذيّ، قال: حدّثنا أبو عمر المخرّميّ، قال: كنت مع سعيد بن منصورٍ ونحن في الطّواف، قال: فسمعت هاتفًا يقول: ضرب أحمد بن حنبلٍ اليوم بالسّياط؟ قال: فقال لي سعيدٌ: أوما سمعت أوسمعت؟ قلت: بلى. قال: يعني: سعيد بن منصورٍ: هذا من صالحي الجنّ أو من الملائكة، إن كان هذا حقًّا، فإنّ اليوم قد ضرب أحمد بن حنبلٍ، فقال: فنظرنا فإذا قد ضرب في ذلك اليوم "
قال أبو عبد اللّه: " لمّا ضربت امتلأت ثيابي بالدّماء، وكنت صائمًا، فجاءوا بسويقٍ فلم أشرب، وأتممت صومي، وكان بعض الجيران ثمّ حاضرًا، فأيّ شيءٍ نزل به - يعني: لمّا امتنع أبو عبد اللّه من شرب السّويق - لا أدري إسحاق بن إبراهيم أو غيره قال: وبلغني أنّه لم يدخل على أبي عبد اللّه طعامٌ في قصر إسحاق، وقد كان منع أن يدخل إليه، وقال: تأكل من طعامنا. قال أبو عبد اللّه: فمكثت يومين لا أطعم "
قال المرّوذيّ: فقال لي النّيسابوريّ صاحب إسحاق بن إبراهيم: قال لي الأمير: إذا جاؤوا بإفطاره فأرونيه قال: فجاءوا برغيفين وخبّازةٍ، قال: فأروه الأمير، فقال: هذا لا يجيبنا إذا كان هذا يقنعه.
- وأخبرني أبو عمرٍو عثمان بن عمر قال: حدّثنا أبو بكرٍ أحمد بن محمّد بن هارون، قال: أخبرنا عبد اللّه بن أحمد، عن أبي عبد اللّه، وذكر قصّةً طويلةً قال: «وجعل أولئك يلقون المسائل» قال: قلت: " هذا ممّا لا أتكلّم فيه، لأنّه ليس في كتاب اللّه ولا سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فقلت لهم: «أيّ شيءٍ تقولون إذا دخلتم المسجد؟ وأيّ شيءٍ تقولون إذا خرجتم من المسجد؟» فسكتوا، قال: قلت: " يا أمير المؤمنين هؤلاء لا يدرون أيّ شيءٍ يقولون إذا دخلوا المسجد وإذا خرجوا، يسألون عن القرآن؟ أمر القرآن أعظم، وذكر كلامًا كثيرًا.). [الإبانة الكبرى: 6/ 249-268]
قال محمدُ بنُ أحمدَ بنِ عثمانَ الذَّهَبيُّ (ت: 748هـ): (قال صالحٌ: وصار أبي إلى بغداد مقيّداً، فمكث بالياسريّة أيّاماً، ثمّ حبس في دارٍ اكتريت عند دار عمارة، ثمّ حوّل إلى حبس العامّة في درب الموصليّة.
فقال: كنت أصلّي بأهل السجن، وأنا مقيّدٌ.
فلمّا كان في رمضان سنة تسع عشر - قلت: وذلك بعد موت المأمون بأربعة عشر شهراً - حوّلت إلى دار إسحاق بن إبراهيم -يعني: نائب بغداد-.
وأمّا حنبلٌ، فقال: حبس أبو عبد الله في دار عمارة ببغداد، في إصطبل الأمير محمّد بن إبراهيم؛ أخي إسحاق بن إبراهيم، وكان في حبسٍ ضيّقٍ، ومرض في رمضان.
ثمّ حوّل بعد قليلٍ إلى سجن العامّة، فمكث في السّجن نحواً من ثلاثين شهراً.
وكنّا نأتيه، فقرأ عليّ كتاب (الإرجاء) وغيره في الحبس، ورأيته يصلّي بهم في القيد، فكان يخرج رجله من حلقة القيد وقت الصّلاة والنّوم.
قال صالح بن أحمد: قال أبي: كان يوجّه إليّ كلّ يومٍ برجلين، أحدهما يقال له: أحمد بن أحمد بن رباحٍ، والآخر أبو شعيبٍ الحجّام، فلا يزالان يناظراني، حتّى إذا قاما دعي بقيدٍ، فزيد في قيودي، فصار في رجليّ أربعة أقياد.
فلمّا كان في اليوم الثّالث، دخل عليّ، فناظرني، فقلت له: ما تقول في علم الله؟
قال: مخلوقٌ.
قلت: كفرت بالله .
فقال الرّسول الّذي كان يحضر من قبل إسحاق بن إبراهيم: إنّ هذا رسول أمير المؤمنين.
فقلت: إنّ هذا قد كفر.
فلمّا كان في اللّيلة الرّابعة، وجّه -يعني: المعتصم- ببغا الكبير إلى إسحاق، فأمره بحملي إليه، فأدخلت على إسحاق، فقال:
يا أحمد، إنّها -والله- نفسك، إنّه لا يقتلك بالسّيف، إنّه قد آلى - إن لم تجبه - أن يضربك ضرباً بعد ضربٍ، وأن يقتلك في موضعٍ لا يرى فيه شمسٌ ولا قمرٌ، أليس قد قال الله -تعالى-: {إنّا جعلناه قرآنا عربيّاً} [الزّخرف: 3]، أفيكون مجعولاً إلاّ مخلوقاً؟
فقلت: فقد قال -تعالى-: {فجعلهم كعصفٍ مأكولٍ} [الفيل:5] أفخلقهم؟
قال: فسكت.
فلمّا صرنا إلى الموضع المعروف بباب البستان، أخرجت، وجيء بدابّةٍ، فأركبت وعليّ الأقياد، ما معي من يمسكني، فكدت غير مرّةٍ أن أخرّ على وجهي لثقل القيود.
فجيء بي إلى دار المعتصم، فأدخلت حجرةً، ثمّ أدخلت بيتاً، وأقفل الباب عليّ في جوف اللّيل ولا سراج.
فأردت الوضوء، فمددت يدي، فإذا أنا بإناءٍ فيه ماءٌ، وطستٌ موضوعٌ، فتوضّأت وصلّيت.
فلمّا كان من الغد، أخرجت تكّتي، وشددت بها الأقياد أحملها، وعطفت سراويلي.
فجاء رسول المعتصم، فقال: أجب.
فأخذ بيدي، وأدخلني عليه، والتّكّة في يدي، أحمل بها الأقياد، وإذا هو جالسٌ، وأحمد بن أبي دواد حاضرٌ، وقد جمع خلقاً كثيراً من أصحابه.
فقال لي المعتصم: ادنه، ادنه.
فلم يزل يدنيني حتّى قربت منه، ثمّ قال: اجلس.
فجلست، وقد أثقلتني الأقياد، فمكثت قليلاً، ثمّ قلت: أتأذن في الكلام؟
قال: تكلّم.
فقلت: إلى ما دعا الله ورسوله؟
فسكت هنيّةً، ثمّ قال: إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله.
فقلت: فأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله.
ثمّ قلت: إنّ جدّك ابن عبّاسٍ يقول:
لمّا قدم وفد عبد القيس على رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- سألوه عن الإيمان، فقال: (أتدرون ما الإيمان؟).
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: (شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، وأنّ تعطوا الخمس من المغنم ).
قال أبي: فقال -يعني: المعتصم-: لولا أنّي وجدتك في يد من كان قبلي، ما عرضت لك.
ثمّ قال: يا عبد الرّحمن بن إسحاق، ألم آمرك برفع المحنة؟
فقلت: الله أكبر! إنّ في هذا لفرجاً للمسلمين.
ثمّ قال لهم: ناظروه، وكلّموه، يا عبد الرّحمن كلّمه.
فقال: ما تقول في القرآن؟
قلت: ما تقول أنت في علم الله؟
فسكت، فقال لي بعضهم: أليس قال الله -تعالى-: {الله خالق كلّ شيءٍ} [الرّعد: 16] والقرآن أليس شيئاً؟
فقلت: قال الله: {تدمّر كلّ شيءٍ} [الأحقاف: 25] فدمّرت إلاّ ما أراد الله؟
فقال بعضهم: {ما يأتيهم من ذكرٍ من ربّهم محدثٍ} [الأنبياء: 2] أفيكون محدثٌ إلاّ مخلوقاً؟
فقلت: قال الله: {ص، والقرآن ذي الذّكر} [ص: 1]، فالذّكر هو القرآن، وتلك ليس فيها ألفٌ ولامٌ.
وذكر بعضهم حديث عمران بن حصينٍ: (إنّ الله خلق الذّكر)،
فقلت: هذا خطأٌ، حدّثنا غير واحدٍ: (إنّ الله كتب الذّكر ).
واحتجوا بحديث ابن مسعودٍ: (ما خلق الله من جنّةٍ ولا نارٍ ولا سماءٍ ولا أرضٍ أعظم من آية الكرسيّ ).
فقلت: إنّما وقع الخلق على الجنّة والنّار والسّماء والأرض، ولم يقع على القرآن.
فقال بعضهم: حديث خبّابٍ: (يا هنتاه، تقرّب إلى الله بما استطعت، فإنّك لن تتقّرب إليه بشيءٍ أحبّ إليه من كلامه ).
فقلت: هكذا هو.
قال صالحٌ: وجعل ابن أبي دواد ينظر إلى أبي كالمغضب.
قال أبي: وكان يتكلّم هذا، فأردّ عليه، ويتكلّم هذا، فأردّ عليه، فإذا انقطع الرّجل منهم، اعترض ابن أبي دواد، فيقول: يا أمير المؤمنين، هو -والله- ضالٌّ مضلٌّ مبتدعٌ!
فيقول: كلّموه، ناظروه.
فيكلّمني هذا، فأردّ عليه، ويكلّمني هذا، فأردّ عليه، فإذا انقطعوا، يقول المعتصم: ويحك يا أحمد! ما تقول؟
فأقول: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنّة رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- حتّى أقول به.
فيقول أحمد بن أبي دواد: أنت لا تقول إلاّ ما في الكتاب أو السّنّة؟
فقلت له: تأوّلت تأويلاً، فأنت أعلم، وما تأوّلت ما يحبس عليه، ولا يقيّد عليه .
قال حنبلٌ: قال أبو عبد الله: لقد احتجّوا عليّ بشيءٍ ما يقوى قلبي، ولا ينطلق لساني أن أحكيه.
أنكروا الآثار، وما ظننتهم على هذا حتّى سمعته، وجعلوا يرغون، يقول الخصم كذا وكذا، فاحتججت عليهم بالقرآن بقوله: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } [مريم: 42]، أفهذا منكرٌ عندكم؟
فقالوا: شبّه، يا أمير المؤمنين، شبّه.
قال محمّد بن إبراهيم البوشنجيّ: حدّثني بعض أصحابنا:
أنّ أحمد بن أبي دواد أقبل على أحمد يكلّمه، فلم يلتفت إليه، حتّى قال المعتصم: يا أحمد، ألا تكلّم أبا عبد الله؟
فقلت: لست أعرفه من أهل العلم فأكلّمه!!
قال صالحٌ: وجعل ابن أبي دواد يقول:
يا أمير المؤمنين، والله لئن أجابك، لهو أحبّ إليّ من ألف دينارٍ، ومائة ألف دينارٍ، فيعدّ من ذلك ما شاء الله أن يعدّ.
فقال: لئن أجابني لأطلقكنّ عنه بيدي، ولأركبنّ إليه بجندي، ولأطأنّ عقبه.
ثمّ قال: يا أحمد، والله إنّي عليك لشفيقٍ، وإنّي لأشفق عليك كشفقتي على ابني هارون، ما تقول؟
فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنّة رسوله.
فلمّا طال المجلس، ضجر، وقال: قوموا، وحبسني -يعني عنده - وعبد الرّحمن بن إسحاق يكلّمني، وقال: ويحك! أجبني .
وقال: ويحك! ألم تكن تأتينا؟

فقال له عبد الرّحمن: يا أمير المؤمنين، أعرفه منذ ثلاثين سنةً، يرى طاعتك والحجّ والجهاد معك.
فيقول: والله إنّه لعالمٌ، وإنّه لفقيهٌ، وما يسوءني أن يكون معي يردّ عنّي أهل الملل.
ثمّ قال: ما كنت تعرف صالحاً الرّشيديّ؟
قلت: قد سمعت به .
قال: كان مؤدّبي، وكان في ذلك الموضع جالساً - وأشار إلى ناحيةٍ من الدّار - فسألني عن القرآن، فخالفني، فأمرت به، فوطئ وسحب! يا أحمد، أجبني إلى شيءٍ لك فيه أدنى فرجٍ حتّى أطلق عنك بيدي.
قلت: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنّة رسوله.
فطال المجلس، وقام، ورددت إلى الموضع.
فلمّا كان بعد المغرب، وجّه إليّ رجلين من أصحاب ابن أبي داود، يبيتان عندي ويناظراني ويقيمان معي، حتّى إذا كان وقت الإفطار، جيء بالطّعام، ويجتهدان بي أن أفطر فلا أفعل - قلت: وكانت ليالي رمضان -.
قال: ووجّه المعتصم إليّ ابن أبي دواد في اللّيل، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: ما تقول؟
فأردّ عليه نحواً ممّا كنت أردّ.
فقال ابن أبي دواد: والله لقد كتب اسمك في السّبعة: يحيى بن معينٍ وغيره، فمحوته، ولقد ساءني أخذهم إيّاك.
ثمّ يقول: إنّ أمير المؤمنين قد حلف أن يضربك ضرباً بعد ضربٍ، وأن يلقيك في موضعٍ لا ترى فيه الشّمس.
ويقول: إن أجابني، جئت إليه حتّى أطلق عنه بيدي، ثمّ انصرف.
فلمّا أصبحنا، جاء رسوله، فأخذ بيدي حتّى ذهب بي إليه، فقال لهم: ناظروه، وكلّموه.
فجعلوا يناظروني، فأردّ عليهم، فإذا جاؤوا بشيءٍ من الكلام ممّا ليس في الكتاب والسّنّة، قلت: ما أدري ما هذا.
قال: فيقولون: يا أمير المؤمنين، إذا توجّهت له الحجّة علينا، ثبت، وإذا كلّمناه بشيءٍ، يقول: لا أدري ما هذا.
فقال: ناظروه.
فقال رجلٌ: يا أحمد، أراك تذكر الحديث وتنتحله.
فقلت: ما تقول في قوله: {يوصيكم الله في أولادكم للذّكر مثل حظّ الأنثيين} [النّساء: 11]؟
قال: خصّ الله بها المؤمنين.
قلت: ما تقول: إن كان قاتلاً أو عبداً؟
فسكت، وإنّما احتججت عليهم بهذا، لأنّهم كانوا يحتجّون بظاهر القرآن.
فحيث قال لي: أراك تنتحل الحديث، احتججت بالقرآن -يعني: وإنّ السّنّة خصّصت القاتل والعبد، فأخرجتهما من العموم-.
قال: فلم يزالوا كذلك إلى قرب الزّوال.
فلمّا ضجر، قال: قوموا.
ثمّ خلا بي، وبعبد الرّحمن بن إسحاق، فلم يزل يكلمني، ثمّ قام ودخل، ورددت إلى الموضع.
قال: فلمّا كانت اللّيلة الثّالثة، قلت: خليقٌ أن يحدث غداً من أمري شيءٌ، فقلت للموكّل بي: أريد خيطاً.
فجاءني بخيطٍ، فشددت به الأقياد، ورددت التّكّة إلى سراويلي مخافة أن يحدث من أمري شيءٌ، فأتعرّى.
فلمّا كان من الغد، أدخلت إلى الدّار، فإذا هي غاصّةٌ، فجعلت أدخل من موضعٍ إلى موضعٍ، وقومٌ معهم السّيوف، وقومٌ معهم السّياط، وغير ذلك.
ولم يكن في اليومين الماضيين كبير أحدٍ من هؤلاء، فلمّا انتهيت إليه، قال: اقعد.
ثمّ قال: ناظروه، كلّموه.
فجعلوا يناظروني، يتكلّم هذا، فأردّ عليه، ويتكلّم هذا، فأردّ عليه، وجعل صوتي يعلو أصواتهم.
فجعل بعض من هو قائمٌ على رأسي يومئ إليّ بيده، فلمّا طال المجلس، نحّاني، ثمّ خلا بهم، ثمّ نحّاهم، وردّني إلى عنده، وقال: ويحك يا أحمد! أجبني حتّى أطلق عنك بيدي.
فرددت عليه نحو ردّي، فقال: عليك.. - وذكر اللّعن - خذوه، اسحبوه، خلّعوه.
فسحبت، وخلعت.
قال: وقد كان صار إليّ شعرٌ من شعر النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- في كمّ قميصي، فوجّه إليّ إسحاق بن إبراهيم يقول: ما هذا المصرور؟
قلت: شعرٌ من شعر رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- وسعى بعضهم ليخرق القميص عنّي.
فقال المعتصم: لا تخرقوه.
فنزع، فظننت أنّه إنّما درئ عن القميص الخرق بالشّعر.
قال: وجلس المعتصم على كرسيٍّ، ثمّ قال: العقابين والسّياط.
فجيء بالعقابين، فمدّت يداي، فقال بعض من حضر خلفي: خذ ناتئ الخشبتين بيديك، وشدّ عليهما.
فلم أفهم ما قال، فتخلّعت يداي.

- قال محمّد بن إبراهيم البوشنجيّ: ذكروا أنّ المعتصم ألان في أمر أحمد لمّا علّق في العقابين، ورأى ثباته وتصميمه وصلابته، حتّى أغراه أحمد بن أبي دواد، وقال: يا أمير المؤمنين، إن تركته، قيل: قد ترك مذهب المأمون، وسخط قوله.
فهاجه ذلك على ضربه.
وقال صالحٌ: قال أبي: ولمّا جيء بالسياط، نظر إليها المعتصم، فقال: ائتوني بغيرها.
ثمّ قال للجلاّدين: تقدّموا.
فجعل يتقدم إليّ الرّجل منهم، فيضربني سوطين، فيقول له: شدّ، قطع الله يدك!
ثمّ يتنحّى ويتقدم آخر، فيضربني سوطين، وهو يقول في كلّ ذلك: شدّ، قطع الله يدك!
فلمّا ضربت سبعة عشر سوطاً، قام إليّ -يعني: المعتصم- فقال: يا أحمد، علام تقتل نفسك؟ إنّي -والله- عليك لشفيقٌ.
وجعل عجيفٌ ينخسني بقائمة سيفه، وقال: أتريد أن تغلب هؤلاء كلّهم؟
وجعل بعضهم يقول: ويلك! إمامك على رأسك قائمٌ.
وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين، دمه في عنقي، اقتله.
وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين، أنت صائمٌ، وأنت في الشّمس قائمٌ!
فقال لي: ويحك يا أحمد، ما تقول؟
فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنّة رسول الله أقول به.
فرجع، وجلس، وقال للجلاّد: تقدم، وأوجع، قطع الله يدك.
ثمّ قام الثّانية، وجعل يقول: ويحك يا أحمد! أجبني.
فجعلوا يقبلون عليّ، ويقولون: يا أحمد، إمامك على رأسك قائمٌ!
وجعل عبد الرّحمن يقول: من صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟
والمعتصم يقول: أجبني إلى شيءٍ لك فيه أدنى فرجٍ حتّى أطلق عنك بيدي.
ثمّ رجع، وقال للجلاّد: تقدّم.
فجعل يضربني سوطين، ويتنحّى، وهو في خلال ذلك يقول: شدّ، قطع الله يدك.
فذهب عقلي، ثمّ أفقت بعد، فإذا الأقياد قد أطلقت عنّي.
فقال لي رجلٌ ممّن حضر: كببناك على وجهك، وطرحنا على ظهرك باريّةً ودسناك!
قال أبي : فما شعرت بذلك، وأتوني بسويقٍ، وقالوا: اشرب وتقيّأ.
فقلت: لا أفطر.
ثمّ جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم، فحضرت الظّهر، فتقدّم ابن سماعة، فصلّى، فلمّا انفتل من صلاته، وقال لي: صلّيت، والدّم يسيل في ثوبك؟
قلت: قد صلّى عمر وجرحه يثعب دماً .
قال صالحٌ: ثمّ خلّي عنه، فصار إلى منزله.
وكان مكثه في السجن منذ أخذ إلى أن ضرب وخلّي عنه، ثمانيةً وعشرين شهراً.). [سير أعلام النبلاء: 11/ 242- 252] (م)


رد مع اقتباس