معنى التقييد بالظرف في قوله تعالى: {إذا حسد}
والحسد أصله صفة كامنة في كثير من النفوس، وإذا بقي الحسد كامنا فإنه لا يضر، لكن {إذا حسد} أي: إذا فَعل هذا الفعل وهو الحسد؛ فإنه يضر بإذن الله تعالى.
ولذلك أمرنا بالاستعاذة من شر الحاسد إذا حسد.
وهذا كما يقال في المرأة: هي مرضع؛ أي إذا كان لها ولد في سِنّ الرَّضاع ، ولها ما ترضعه.
ويقال: هي مرضعة، إذا كانت تُرضِع بالفعل، فالصفة الأولى للقدرة على الفعل وقابلية الاتصاف به، والصفة الثانية للفعل نفسه.
ولذلك تسمّى المرأة مرضعاً وإن لم تكن مرضعة في الحال.
قال الله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها}
فالمرضعة هي التي ترضع ولدها بالفعل فهو يلتقم ثديها، إذا رأت الساعة ذهلت عن رضيعها.
وهكذا الحاسد، حسده كامن في نفسه، فإذا رأى النعمة على غيره ظهر هذا الحسد، وخرج من نفسه وعينه سهام مسمومة على المحسود فتؤثر فيه بإذن الله، ومنهم من يحمله الحسد على الكيد والبغي.
وأما من يكون في نفسه وطبعه حسد كامن وإذا رأى ما يعجبه من النعمة على غيره دعا للمنعم عليه بالبركة واستعاذ بالله من شر نفسه، فإن حسده لا يضره ولا يضر صاحب النعمة، ومن كان كذلك في معاملة نفسه بكفّها عن الحسد، بالدعاء بالبركة وسؤال الله من فضله فإن صفة الحسد تضعف عنده حتى تضمحلّ ويحلّ محلها إرادة الخير للناس ومحبة نفعهم ، فيكون سليم الصدر طيب القلب ، لا يحسد ولا يحقد.
ويثاب على ذلك بأنواع من الفضل العظيم؛ والله تعالى يحبّ من عبده أن لا يحسد أحداً على فضل آتاه الله إياه؛ ولذلك فإن العبد قد يُبتلى بما يرى على غيره من النعم، فإن حسدهم فقد كره قسمة الله تعالى وتصريفه الرزق بين عباده. (ق)
وبذلك تعلم أن الحسد من أعظم الذنوب ، وأنه مما يقدح في التوحيد.
والمؤمن الصالح إذا رأى نعمة على غيره وهو يحب مثلها لنفسه دعا لأخيه بالبركة وسأل الله من فضله، فكان حريّاً بأن يستجاب له.
وقد قال الله تعالى: {واسألوا الله من فضله}.
وأما من أطلق لنفسه العنان في الحسد، وإذا رأى ما يعجبه من النعم حسد أصحابها، فإن هذه القوة الحاسدة تنمو لديه وتعظم ويعظم أثرها حتى يكون حسوداً كثير الحسد شديد الأذى.
وبهذا تعلم أن الحاسدين على درجات، وأن من أهل الحسد من يكون حسده كثيراً شديداً، ومنهم من يكون حسده دون ذلك، ومنهم من يحسد أحياناً.
فقد يكون الحسد في طبع المرء، ويعرف من نفسه الحسد، لكنه لا يحسد كثيراً من الناس وإنما يقع حسده على فئة بعينها أو شخص بعينه.
فأظهر الأقوال في معنى التقييد بالظرف في الآية في قوله تعالى: {إذا حسد} هو ما تقدم من العمل بالحسد سواء أكان العمل قلبياً أم بالجوارح.
وقد عبّر عنه ابن القيم تعبيراً حسناً فقال: (قد يكون الرجل في طبعه الحسد، وهو غافل عن المحسود لاهٍ عنه، فإذا خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه إليه، ووَجّهت إليه سهامَ الحسد من قِبَله، فيتأذى المحسود بمجرّد ذلك) ا.هـ.
وبنحو هذا القول قال جماعة من المفسرين.
وبما تقدم نعرف جواب السؤال الذي أثاره بعض المفسرين عن معنى التقييد بالظرف في قوله تعالى: {ومن شر غاسق إذا وقب} وقوله: {ومن شر حاسد إذا حسد} دون أن يكون هذا التقييد في النفاثات.
وقد اختلفت أجوبة المفسرين على هذا السؤال ، وأقرب الأقوال أن الغاسق يكون شره عند وقوبه فإذا كفي العبد شرّه عند وقوبه فقد سلم منه.
وكذلك الحاسد فإن حسده كامن في نفسه لا يضر أحداً إلا {إذا حسد}، ولذلك قد يَرى الحاسد صاحب نعمة ولا يحسده ، إما لأن نفسه لا تتعلق بتلك النعمة أو لأنه لا عداوة بينه وبين ذلك المنعم عليه، فلا يضره.
وأما النفاثات في العقد فإن النفث في العقد هو نفسه هو فعل للسحر فيضر ، فهو نظير فعل الحسد ووقوب الليل.