تفسير قوله تعالى: {إذا وقب}
تقدم تفسير الحسن وقتادة لهذا اللفظ ، وأن الحسن فسَّر الوقوب بالدخول، وأن قتادة فسَّره بالذهاب.
وقال بقول الحسن عامة المفسرين، وأما قول قتادة فمن أهل العلم من نص على أنه لا يُعرف كما ذكر ذلك ابن جرير والنحاس.
وقتادة هو ابن دعامة السدوسي من التابعين ، يروي عن أنس بن مالك ، ولد سنة ستين للهجرة تقريباً ، فهو من أهل عصر الاحتجاج ولا يدفع قوله بمثل هذا النفي العام.
ولقوله شواهد تشهد له؛ فإن العرب تقول: وقبت الشمس إذا غابت؛ بل روي فيه حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو عبيد في غريب الحديث عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الشمس قد وقبت قال: (هذا حينُ حلِّها)، أي: صلاة المغرب.
قال أبو عبيد: (وقوله: (وقبت) يعني غابت ودخلت في موضعها) ا.هـ.
وتقول العرب: وقبت العينان؛ إذا غارتا.
معنى الوقوب في اللغة
والوقوب في اللغة : هو الدخول في الوقبة.
وأصل هذا اللفظ (الوقبة) يطلق على : النقرة التي تكون في الحَجَر أو الجَبَل يجتمع فيها الماء.
قال الراعي النميري: وعينٍ كَمَاء الوَقْبِ أشرفَ فوقَها ..... حِجاجٌ كأرجاءِ الرَّكِيَّةِ غائِرُ
قال الأصمعي: (الوقب: النقرة في الجبل).
فهذا أشهر استعمالات هذا اللفظ عند العرب، ويطلقونه على غيرها ، بل كل نقرة تكون في حَجَرٍ أو عظم أو غيرهما يسمونها وقبة.
فالنقرة التي في كتف الإنسان تسمَّى وقبة، ووقب العين هو تجويف عظامها لأنه كالنقرة؛
وفي خبر سرية أبي عبيدةَ عامر بن الجراح في صحيح مسلم وغيره أنه أجلس ثلاثة عشر رجلاً من الصحابة في وَقْبِ عين الحوت، وقال جابر: (ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه القلالَ من الدهن).
والكُوَّة التي تكون في الجدار ونحوه تُسمَّى وقباً ، وجمعها أوقاب وهي النافذة في استعمالنا.
والمقصود أن الخرق المتسع الذي يكون في الجدار يسمَّى وقباً عند العرب.
وقال أبو فيد مؤرج السدوسي (ت:195هـ) وهو تلميذ الخليل بن أحمد الفراهيدي، في كتاب الأمثال له: ("الوقبة " و " الوقب ": النقرة في الحجر وفي الجبل، فأولى بالوقب والوقبة من الحجر الشيخ الخرف؛ يقولون للشيخ الذي كَبَر وانفتح دُبُره، وربما كان لغير الكِبَر، إذا انفتح دبره؛ لخلقة أو لداء، إلا أنه أكثرُ ما يصيب الدالفَ من الهَرَم.
وقال الأسود بن يعفر، يهجو بني نُجيح:
أبَـنِــي نُـجَـيْـحٍ إنَّ أُمَّـكُــمُ ..... بشِمَتْ وإنَّ أباكُمُ وَقْبُ
قال أبو فيد: فلم أسأل أحداً من عشيرته، إلا قال ما وصفت. ويقولون: " استه مثلُ الوَقْبِ في الحجَر" ) ا.هـ.
وذلك لأنه صار فيه مثل النقرة، وهذا إنما نذكره لمعرفة المعنى اللغوي لهذه اللفظة ومواضع استعمالها في لسان العرب، ولذلك فوائد كثيرة منها أن طالب العلم يعرف مناسبة اختيار هذا اللفظ على ما سواه من الألفاظ المترادفة والمتقاربة.
فالوَقْبَةُ والوَقْبُ: اسمان ، وَوَقَبَ - فِعْلٌ - أي: دخل في الوقبة.
والوقوب مصدر؛ فهو وصف جامع لحال دخول الغاسق في وقبته.
وهذا يدلك على أن للغاسق محلاً يقب من خلاله أو يقب فيه ويكون هو وقبه.
فالوَقْبُ قد يكون مصمتاً غير نافذ مثل النقرة التي تكون في الجبل أو في العظم تسمَّى وقباً وهي غير نافذة لكنها تجويف قد يقب فيه ما يقب.
وقد يكون الوقب نافذا كالكوَّة التي في الجدار وغيره؛ فيكون الوقوب فيه الدخول من خلاله.
وعلى هذا ؛ فالليل له وَقْبٌ يدخل فيه قال الله تعالى: {يولج الليل في النهار} ، فهذا الولوج هو وقوب الليل، أي: دخوله في وقبته، أي: الموضع الذي يتغشاه الليل .
قال عنترة العبسي:
فسَرَيْتُ في وَقْبِ الظَّلامِ أقودُهمْ ..... حتَّى رأيتُ الشَّمسَ زالَ ضحاها