ما قيل في تفسير الغاسق بالقمر
وأما تفسير الغاسق بالقمر؛ فقد ورد فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أحمد والنسائي في السنن الكبرى وغيرهما من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: قالت عائشة: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدِي فأرانيَ القمر حين طلع ؛ فقال: ((تعوَّذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب)) ).
والحديث أخرجه أيضاً الترمذي والحاكم وأبو يعلى وغيرهم لكن هذا اللفظ (فأراني القمر حين طلع) تفرد به أبو داوود الحفري عن ابن أبي ذئب عند أحمد والنسائي وفيه فائدة لغوية لم أجدها في الطرق الأخرى وهي معنى الوقوب في هذا الحديث.
والحديث حسنه الحافظ ابن حجر في الفتح.
وقد أشكل هذا الحديث على بعض أهل العلم حتى أورده الطحاوي في شرح مشكل الآثار ولهم أجوبة عنه .
وقد ذهب إبراهيم الحربي في غريب الحديث والطحاوي وشيخ الإسلام ابن تيمية ومن وافقهم إلى أن مناسبة ذكر القمر في الحديث للآية أنه آية الليل واستدلوا بقوله تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} .
وفي هذا التوجيه نظر.
وقال بعضهم: {ومن شر غاسق إذا وقب} أي: القمر إذا خَسَف، وهؤلاء أرادوا أن القمر إذا خَسَف اسودَّ فيكون ذلك غسوقه لأنهم فهموا من معنى الغسوق الإظلام، والقمر إذا كسف أظلم، وهذا التعليل ذكره ابن قتيبة في غريب القرآن والبغوي في معالم التزيل، وهو خطأ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أشار إلى القمر لم يكن منكسفاً.
وقد ضعَّف هذا القولَ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وأحسنا في ذلك.
وأغرب منه قول ابن خالويه في توجيه هذا القول بأن الغاسق إذا وقب: القمر إذا ذهب ضوءه، قال: (وإنما يكون ذهابُ ضوئه أمارة لقيام الساعة).
والصواب أن يقال: إن القمر غاسق من جملة ما يغسق، ودلَّ الحديث على أن لغسوقه شرّا عظيماً لا نعلمه ولا ندركه بحواسنا؛ كما أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من الشر في الليل والخلوة فيه ما لو علمناه ما سار راكب بليل وحده أبداً.
فهذا يدل على أن الشرور التي يغيب عنَّا علمها وإدراكها كثيرة، وهي قد تصيب بعض الخلق بأمر الله تعالى .
وهذا نظير ما صحَّ أن الشمس تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان كما في صحيح مسلم وسنن أبي داوود من حديث عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه.
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بين قرني شيطان)).
والشيطان يقارن الشمس عند طلوعها ، فإذا ارتفعت فارقها ، فإذا استوت في كبد السماء قارنها ، فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها ، فإذا غربت فارقها .
وهذا الاقتران يكون معه شر وفتنة لبعض الخلق، ويعصم الله منه من اتبع هداه، وهذا يكون كلَّ يوم حتى يأتي اليومُ الموعود الذي تطلع فيه الشمسُ من مغربها، إلا ما ذكر في صبيحة ليلة القدر إن صحَّ فيه ما رواه ابن أبي شيبة وغيره من حديث سماك عن عكرمة عن ابن عباس موقوفاً: (إن الشيطان يطلع مع الشمس كل ليلة إلا ليلة القدر، وذلك أنها تطلع يومئذ بيضاء لا شعاع لها).
فطلوع الشمس وغروبُها بين قرني شيطان دليل على اقتران شرٍّ بطلوعها وغروبها لا ندركه، وإنما نعلم منه ما دلَّ عليه الدليل.
فكذلك اقتران طلوع القمر بشرّ لا نعلمه يكون له أثر على الخلق هو أمر من أمور الغيب نؤمن به ولا نتكلم في تعيينه ولا وصفه إلا بما دل عليه الدليل، وما ظهر لنا علمه.
وقد حذّر الله تعالى من الافتتان بالشمس والقمر وجمع بينهما في قوله تعالى: {ومن آياته الليل النهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون}.
فدل هذا على أن من الناس من يسجد للشمس ومنهم من يسجد للقمر، وهذا من الفتنة بهما.
وبعض الفتن تقع في الناس على التدريج؛ ومن ذلك ما حذر منه العلماء مما يعرف بالرياضات الروحية كاليوجا وغيرها، فإن من أصحابها من يتحرّى في بعض التمرينات طلوع الشمس وغروبها ويتجهون إليها ويؤدّون حركات مصحوبة بخضوع وتأمل وصمت، ويزعمون بذلك أنهم يستلهمون الطاقة، وهم إنما يتقربون للشياطين بذلك في حقيقة الأمر.
وقد ذكر الرازي في تفسيره قولاً له حظ من النظر في معنى وصف القمر بأنه غاسق، وهو أن القمر غاسق بطَبعه لأنه جسم مظلم غير مُنيرٍ بنفسه كما يقول أهل العلم بالفلك وإنما تكون إنارته التي تظهر للناس بسبب عكسه لإضاءة الشمس، وهذا ظاهر لأن القمر لو كانت إنارته من قِبَلِ نفسه لما كان هلالاً أوَّل الشهر وآخره، ولأضاءَ جميعُ ما يرى منه .
لكن الرازي قال إن الوقوب هو انمحاء نور القمر في آخر الشهر. وهذا التفسير لا تدل عليه اللغة.
وقد ذكر الرازي من الفوائد أن السحرة يتحينون لعمل سحر التمريض آخر الشهر لأجل ازدياد ظلمة القمر، والرازي له معرفة بالسحر وقد ألف فيه كتاباً ثم تاب من ذلك، فإن صح ما ذكره فهذا نوع من أنواع السحر يتحينون فيه هذا الوقت، وقد يكون لأنواع أخرى منه أوقاتاً أخرى يتحينها السحرة وغيرهم من أصحاب الشرور.
بل إن المنجّم أبا معشر جعفر بن محمد البلخي (ت:272هـ) وكان رئيس المنجمين زمن الخليفة العباسي المعتز بالله، وهو من المؤلفين في التنجيم والسحر وطرقه وأوقاته، ألَّفَ كتاباً سمَّاه (مصحف القمر) قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: (ذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه).
والمقصود أن القمر غاسق، وفي وقوبه شر عظيم الله أعلم به؛ فما يجعله السحرة من مواقيت أعمالهم لها تعلُّق بمنازل القمر، وما يكون من الآفات والشرور التي تُبث في الفضاء والتي تخرج من الأرض في مواقيتَ مقدرَّةٍ لها تعلق بمنازل القمر، وما تتحينه الشياطين وبعض الحيوانات من أوقاتٍ مقدرة تنتشر فيها أو تخرج من بياتها لها تعلق أيضاً بمنازل القمر ووقوبه من منزلة إلى منزلة.